أ.د. الشيخ عبدالرزاق عبدالرحمن السعدي
E-mail: [email protected]
أستاذ الدراسات العليا في أكاديمية بلغار الإسلامية
في جمهورية تتارستان – في روسيا الاتحادية
إلى: المؤتمر الدولي (الفتوى والقضايا المعاصرة)
المنعقد في أندونيسيا بتاريخ : 20- 22 /7/ 2018
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين
وبعد فإنه مما هو معلوم أن الفتوى الشرعية هي توقيعٌ عن ربِّ العالمين، وإخبارٌ عن دين الإسلام، وتوجيهٌ وتعليمٌ للسائلين، فهي تشكل عنصرا هاما في تكوين الفرد والمجتمع فكرا وتطبيقا، ولأهمية الفتوى وردت نصوصٌ شرعية تحذر من التسرع في الإفتاء، وجعلت إفتاءَ الجُهال كارثة تؤدي إلى الظلال، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: (أجرؤكم على الفُتيا أجرؤكم على النار)([1])، ورغم ما قيل في هذا الحديث من ضَعف فإنَّ معناه صحيحٌ، ومما ورد في ذلك أيضا ما رواه البخاري أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن الله لا يقبضُ العلمَ انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبضُ العلمَ بقبضِ العلماء حتى إذا لم يُبقِ عالماً اتَّخذَ الناسُ رُؤُساً جُهَّالا فَسُئِلُوا فأفتوا بغير علم فَضَلوا وأضلوا)، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم متعففين عن الفتوى، مع أنهم عاصروا الوحي والتنزيل، يقول عبدالرحمن بن أبي ليلى: أدركتُ عشرين ومئةً من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسْألُ أحدُهم عن المسألة فيرُدُّها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول.
ومعلومٌ أن الفتوى الشرعيةَ وليدةُ الفقه الإسلامي العتيد، الذي قام على أصولٍ تشريعيةٍ ثابتةٍ رصينةٍ، ويأتي في مقدم’ تلك الأصولِ كتابُ الله المجيدُ، ثمَّ سنةُ رسوله محمد عليه الصلاة والسلام، أما نصوص القرآن فقطعيةُ الثبوت والورود، لكنَّ دلالاتِها ومفاهيمَها منها ما هو قطعيُّ الدلالةِ وهذا لا اجتهاد فيه قطعا كآيات العقيدة وآيات التكليف وآيات الأخبار، ومنها ما هو ظنيُّ الدلالة حمَّالُ وجوهٍ ومعانٍ فهذا هو مَحطُّ أنظار الفقهاء، وعنايةُ المجتهدين، فقد قام الاجتهادُ في تفسير النص القرآني تيسرا وتوسيعا على الأمة، وهذا هو سرُّ صلاحيةِ الإسلامِ لكل زمانٍ ومكانٍ، وكذلك نصوصُ السنة النبوية منها ما هو قطعي الورود والدلالة، ومنها ما هو قطعي الورود وظنيُّ الدلالة، ومنها ما هو ظنيُّ الورود والدلالة.
وبناءً على ما تقدم فإنَّ الفتوى المعتدةَ على ما هو ظنيُّ الدلالةِ قد تتغير بتغير الأحوال والأزمنة والأمكنة بما يحقق خيرا ومنفعة للفرد والمجتمع، شريطة أن لا يَخضع ذلك للأهواء وتجاذب المصالح الشخصية التي لا تندرج تحت ضوابط الاجتهاد، ولا تحت قواعد التشريع العامة، وبما أن موضوعنا في هذا البحث هو (الفتوى الشرعية ومتغيرات السياسة) فإن حديثنا سيقتصر على مدى جواز تغير الفتوى في الأمور السياسية، متجاوزا تعريفَ الفتوى وبحوثَها الطويلةَ، وذلك من خلال العنوانات الآتية:
-
الفتوى الشرعية كما تحدث عنها القرآن الكريم.
-
الفتوى الشرعيةكما تحدثت عنها السنة النبوية.
-
تغير الفتوى الشرعية بتغير الأحوال والأزمنة والأمكنة.
-
اخضاع الفتوى الشرعية للسياسة وأسبابها.
-
نماذج من مواقف السلف في الفتوى الشرعية من السياسة.
-
نماذج معاصرة من موقف الفتوى الشرعية من السياسة.
أولا – الفتوى الشرعية كما تحدث عنها القرآن الكريم:
ذُكرت الفتوى في آيات الذكر الحكيم بصيغٍ متنوعةٍ وفي سُوَرٍ قُرآنيةٍ متعددةٍ، وفي كلِّ ذلك دلالةٌ على أن الفتوى تعني إظهارَ الحكم الصحيح في القضية المعروضة التي يُراد معرفةُ حكمها، مع تنوع مصادر الفتوى، على التفصيل الآتي:
أ – الفتوى بصيغة الفعل المضارع، ومصدرها هو الله تعالى، ومُبَلِّغُ الفتوى رسولُ الله محمدٌ عليه الصلاة والسلام، وذلك في قوله تعالى: ﴿ويستنفتونك في النساء قل اللهُ يفتيكم فيهن﴾([2])، وقولِه تعالى: ﴿يستفتونك قل اللهُ يُفتيكم في الكلالة﴾([3])، كما أنَّ نبيَّ الله يوسفَ عليه السلام كان مُبلغا الفتوى حين أجاب على رؤيا السجينين الذَين كانا معه في السجن وذلك في قوله تعالى: ﴿قضي الأمر الذي فيه تستفتيان﴾([4]).
ب – الفتوى بصيغة الفعل الأمر والالتماس، ومصدرُها نبيُّ الله تعالى يوسفُ عليه السلام، وذلك في قوله تعالى : ﴿يوسفُ أيُّها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان﴾([5])، وقد يكونُ الناسُ مصدَرَها، كما أمر الله تعالى نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام بأن يطلب الفتوى من الكفار الذين أنكروا وجود الله تعالى واعتقدوا أن الملائكة بناتُ الله، وذلك بصيغة الاستفهام الاستنكاري في قوله تعالى: ﴿فاستفتهم أهم أشدُّ خلقا أم مَنْ خلقنا﴾([6])، وفي قوله تعالى: ﴿فاستفتهم ألربكَ البنات ولهم البنون﴾([7])، وكما طلب الملك من جلسائه أن يُفتوه في رؤياه وذلك في قوله تعالى: ﴿يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون﴾([8])، وكما طلبت بلقيسُ ملكةُ اليمن من مستشاريها أن يُفتوها في أمرها مع نبي الله سليمان عليه السلام وذلك في قوله تعالى: ﴿قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري﴾([9]).
ج – الفتوى بصيغة النهي عن طلب الفتوى من الناس، فقد نهى الله تعالى نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام عن طلب الفتوى في تحديد عدد أصحاب الكهف الذي تخبط فيه الناسُ، وذلك في قوله تعالى: ﴿ولا تستفتِ فيهم منهم أحدا﴾([10]).
ثانيا – الفتوى الشرعية كما تحدثت عنها السنة النبوية:
أ - إنَّ رسولَ الله محمداً صلى الله عليه وسلم هو إمامُ المفتين؛ لأنه المُبلِّغُ عن ربِّ العالمين، فكان عليه الصلاة والسلام يُفتي المسلمين الذين يتوجهون إليه بأسئلتهم، ويُعلنُ الفتوى بعد أن يأتيَه الوحيُ من الله عز وجل، وفتواه عليه الصلاة والسلامُ تعدُّ قطعيةً في صحتها وسلامتها من الخطأ؛ فإنه عليه الصلاة والسلام نبيٌّ معصومٌ من الخطأ والزلل، وصدق الله تعالى القائل: ﴿وما ينطق عن الهوى، إنْ هو إلا وحيٌ يوحى﴾([11]).
ب – إنَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد بين أهمية الفتوى وخطرها وأثرها في سلوك الفرد والمجتمع، وحذر من التهاون فيها، مبينا أن قبول الفتوى من الجُهَّال الذين لا يعلمون شيئاً عن طُرق استنباط الحكم من النصوص الشرعية يشكلُ خطرا كبيرا في سلوك الفرد والمجتمع، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما حديثَ عبدالله بن عَمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ اللهَ لا يقبضُ العلمَ انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبضُ العلمَ بقبضِ العلماءِ، حتى إذا لم يُبْقِ عالماً، اتخذ الناسُ رؤساءَ جُهالاً، فَسُئِلُوا فأفتَوا بغير علمٍ، فضلوا وأضلوا)([12])، وقد بين عليه الصلاة والسلام عقوبةَ الذين يتجرَّؤون على الفتوى بغير تحقيق علمي بأنَّ مصيره سيكون نار جهنم، فقال: (أجرؤكم على الفُتيا أجرؤكم على النار)([13]).
ج – حذر النبيُّ صلى الله عليه وسلم العلماءَ القادرين على الفتوى علما واستنباطا من عقوبة كتمانها حين تقومُ الحاجةُ إليها، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ عَلِمَهُ ثُمَّ كَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ)([14])، لذلك تولى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إفتاء المسلمين الذين كانوا يسألونه عن أمور الدين كافة، فيجيبهم مخبرا عن الله تعالى من خلال الوحي الذي يوحى إليه، وقد كان السلفُ يكرهون الجَرأة على الفتوى ولا يحبون المسارعة إليها ولا يحرصون عليها ولا على الإكثار منها، قال عبدالرحمن بن أبي ليلى: (أدركت مائةً وعشرين من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يُسألُ أحدُهم عن المسألة، ما منهم من أحدٍ إلا وَدَّ أنَّ أخاه كفاه)، وفي رواية: (فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى يرجع إلى الأول)([15])، وكان الإمام مالك إذا سُئل عن مسألة كأنه واقفٌ بين الجنة والنار، وجاءه رجل مسافر فسأله عن أربعين مسألة، فأجابه عن خمسِ مسائلَ، وقال عن البقية: (لا أدري)، فقال الرجل: جئتك من كذا وكذا، وتقول: (لا أدري)، قال: نعم، اركب راحلتك، وقل للناس: سألتُ مالكًا؟ وقال: (لا أدري)([16]).
ثالثا - تغير الفتوى الشرعية بتغير الأحوال والأزمنة والأمكنة:
شاعت بين علماء الفقه وأصوله قاعدةٌ تقول: (لا يُنكَرُ تغيُّرُ الأحكام بتغيُّر الأزمان)، وهي قاعدةٌ هامةٌ في الفقه الإسلامي؛ لما لها من أثرٍ كبير في إرساء مفهوم صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان إلى أن يرث اللهُ الأرضَ ومن عليها، غيرَ أنَّ هذه القاعدةَ لا يمكن إسقاطُها على الواقع الفقهي بصورة مطلقة، بل لا بدَّ من وضع قيودٍ واضحةٍ لفهم هذه القاعدة فهما صحيحا عند تفسيرها، ومن ثَمَّ تقديمُها للتطبيق العملي في الحياة البشرية، وفيما يأتي أهمُّ تلك الضوابط:
أ – الأحكامُ الفقهية الصريحة التي تثبت بنصوص شرعيةٍ قطعية الثبوت والدلالة لا تدخل في إطار هذه القاعدة، ولا يجري عليها تغييرٌ ولا تبديلٌ، كأركان الإسلام الخمسة، وحرمة الربا، وتقسيم الميراث وغيرها مما ثبت بالكتاب والسنة.
ب – أن ترتبط الفتوى بالأصول الشرعية والمقاصد العامة للشريعة الإسلامية، حتى لا تدور الفتوى مع رغبات الناس وشهواتهم في كل زمان ومكان، بل تدور مع النظر الدقيق في النصوص الشرعية والاستنباط منها.
ج - لا يصح جعل تغير الزمان وحده سببا ومسوغا وحيدا لتغير الفتوى على حساب الانحراف في تفسير النصوص الشرعية، ولا بدَّ من أن تستند الفتوى إلى دليل شرعي يثبت جواز تغير الحكم بتغير الزمن.
وفي ذلك يقول الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى: (فاعلم أنّ ما جرى ذكره هنا من اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد؛ فليس في الحقيقة باختلافٍ في أصل الخطاب؛ لأنّ الشّرعَ موضوعٌ على أنّه دائمٌ أبديٌّ لو فُرض بقاءُ الدّنيا من غير نهاية، والتّكليفُ كذلك؛ لم يحتج في الشّرع على مزيد، وإنّما معنى الاختلاف أنّ العوائدَ إذا اختلفت رَجَعَت كلُّ عادةٍ إلى أصلٍ شرعيٍّ يُحكَمُ به عليها؛ كما في البلوغ مثلاً، فإنَّ الخطاب التّكليفيَّ مرتفعٌ عن الصبي ما كان قبل البلوغ، فإذا بلغ وقع عليه التكليف. فسقوط التّكليف قبل البلوغ، ثمّ ثبوته بعده ليس باختلاف في الخطاب، وإنّما وقع الاختلاف في العوائد والشّواهد).
وقد عَقَدَ الإمامُ ابن القيم رحمه الله تعالى لهذه القاعدة فصلاً مهمّاً؛ فقال: (فصلٌ في تغيّر الفتوى واختلافِها بحسب تغيّر الأزمنة والأمكنة والأحوال والنّيّات والعوائد). ثمّ قال مبيّناً أهميّتَها: (هذا فصل عظيمُ النّفع جداً، وقع - بسبب الجهل به - غلطٌ عظيمٌ على الشّريعة؛ أوجب من الحرج، والمشقة، وتكليف ما لا سبيل إليه؛ ما يُعلَمُ أنّ الشريعة الباهرة الّتي في أعلى رُتَبِ المصالح لا تأتي به، فإنّ الشّريعة مبناها وأساسُها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدلٌ كلُّها، ورحمةٌ كلُّها، ومصالحُ كلُّها، وحِكمةٌ كلُّها، فكلُّ مسألة خرجت عن العدل إلى الجَوْر، وعن الرّحمة إلى ضدِّها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبَث؛ فليست من الشّريعة، وإن أُدخلت فيها بالتّأويل، فالشّريعةُ عدلُ الله بين عباده، ورحمتُه بين خلقه، وظلُّه في أرضه، وحكمتُه الدالّة عليه وعلى صدق رسوله).
د – إنّ العمل بقاعدةِ (تغيّر الفتوى بتغيّر الزّمان) ينبغي أن يكون مقرونا بوجوب الاعتقاد بأنّ الذي يجب أن يتغيّر هو الفتوى المتعلقة بتغيّر الزمان والمكان والعوائد والأحوال، وأمّا الأحكام الشّرعية المستندة إلى النّصوص فإنّها ثابتة لا تتغيّر، فيكون مستندُ تغيّر الفتوى: الأصولَ الشّرعيّة، والمصالحَ المرعيّة في الدِّين.
ه - ألاّ يكون التّغيّر في الفتوى ناتجًا عن داعيةِ الهوى والتّشهِّي، واستحسان العبادِ، وإنّما الواجبُ جعْلُ التّغيّر المتعلّق بالزّمان والمكان سببًا يدعو المجتهدَ للنَّظر في أصول الشّرع ومقاصدِه.
و - ألاّ ينازِع في أمر الفتوى وتغييرها غيرُ أهلها، وأهلُها هم علماءُ الشّريعة، والمجتهدون من هذه الأمّة بالمواصفات المعلومة في علم أصول الفقه.
رابعا – اخضاع الفتوى الشرعية للسياسة وأسبابُها:
إذا ثبت أن الفتوى الشرعيةَ إخبارٌ عن حكم الله تعالى في مسألة من المسائل تحليلا أو تحريما، وجوبا أونفلا فإن المفتي مخبرٌ عن الله تعالى، والمخبرُ ينبغي أن يكون صادقا أمينا في نقل الخبر بصورة عامة، فكيف إذا كان مخبرا عن رب العالمين؟ لذلك كانت الصفاتُ الأولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وبعدها أنه [الصادق الأمين] واشتهر بهاتين الصفتين عند الناس جميعا واعترف بهما له المنكرون عليه والمؤمنون به.
وعلى هذا فإنَّ إخضاع الفتوى الشرعية للرغبات والشهوات من غير مستند شرعي يعدُّ خيانة لله ولرسوله وافتراء عليهما بغير وجهِ حقٍّ، ومن ذلك إخضاع الفتوى الشرعية للسياسة أو للفكر السياسي الذي يقوم على أسس غير شرعية تساهلا في الحكم الشرعي واستخفافا به لإرضاء هذا الحاكم أو ذاك، وأسباب هذا التساهل في الفتوى الشرعية كثيرةٌ من أبرزها ما يأتي:
أ - حب الظهور وبريق الشهرة، فصاحب الفتاوى المتساهلة تزداد شعبيته، وتكثر جماهيره، ويُثنَى عليه بأنه معتدل، وأنه يمثل المنهج الوسطي... وغير ذلك من العبارات البراقة، بينما صاحبُ الورع، وفتواهُ المستندةُ إلى الأدلة الشرعية يوصف بأنه متشدد، وأنه لا يعرف إلا لغة التحريم، وأنه يشق على الناس ويثقل عليهم.
ب - الجهل وعدم دراسة الأحكام الشرعية دراسة منهجية مؤصلة: وإنما الاعتماد على الثقافة العامة، والدراسة السطحية للمسائل وربما اعتمد ما ينشر في وسائل التواصل التي كثيرا ما تقع في الخطأ.
ج - عدم استشعار مسؤولية الفتوى وما يترتب عليها، فيُسألُ بعضُهم عن مسألة معينةفي وسائل الإعلام ويشاهده الملايين من البشر، ومع ذلك يجيب مباشرةً من غير رويَّةٍ، ولو عرضت مسألتُه على عمر رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر. فالعجلة وعدم التأني والنظر والتأمل يوقع المفتي بالمحظور، فبعض المفتين في القنوات الفضائية يُسأَلُ عن أربع، أو خمس مسائل دفعة واحدة، ثم يجيب إجابة سريعة.
د - إرضاء الحكام أو الكفار، والظلمة، وأهل الفسق والفجور، وذلك لأجل الحصول على شيء من متاع الدنيا وحطامها الفاني، إما إغراءٌ بمنصب، أو بمال، وإما غير ذلك، وهذا حال علماء السوء، قال تعالى: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِين﴾([17]).
خامسا - نماذج من مواقف السلف في الفتوى الشرعية من السياسة:
كان السلف الصالح من علماء الأمة الإسلامية وفقهائها على درجة رفيعة من قوة الإيمان والعلم والمعرفة، ومنزلة عالية في التقوى والصلاح، وحالة فريدة في الخشية من الله تعالى والخوف من عقابه والطمع في رحمته والرغبة في رضاه، مما حملهم على الصرامة في قول الحق والدقة في فتاواهم المنبثقة من نصوص الشريعة الإسلامية الصادقة الأمينة في الإخبار عن حكم الله تعالى، لذلك كانت لهم أقوالٌ في الفتوى تبرهن على تحسسهم خطورةَ الفتوى وأهميتها وعظم مسؤليتها وفيما يأتي بعضٌ من أقوالهم:
-
قال محمد بن المنكدر رحمه الله تعالى: (إنَّ العالِمَ بينَ الله تعالى وبينَ خَلْقِهِ، فلينظرْ كيفَ يدخلُ بينهما).
-
قال ابن مسعود رضي الله عنه: (إنَّ الذي يُفْتِي النّاس في كُلِّ ما يَسْتَفتونه لمجنونٌ).
-
وقال بشر الحافي رحمه الله تعالى: (مَن أحبَّ أن يُسْأَلَ، فَليسَ بِأَهْلٍ لِأَنْ يُسْألَ).
-
وسئل الشعبي مرة عن مسألة فقال: (لا عِلْمَ لي بها)، فقيل له: ألا تستحي، فقال: (ولم أستحي مما لم تستحِ الملائكة منه حين قالت: ﴿لَا عِلْمَ لَنَا إلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾([18]).
-
وقال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: (ويلٌ لمنْ يقولُ لما لا يَعْلَمُ: إني أَعْلَمُ).
-
قال العلماء: (كـان ابـن عمر رضي الله عنهما يُسْأَلُ عن عشر مسائل فَيُجِيبُ عن واحدةٍ ويَسْكُتُ عَن تِسْع).
-
قال عليٌّ رضي الله عنه: (إِنَّ الفَقِيْهَ كُلَّ الفِقيْهِ الَّذِي لَا يُقَنِّطُ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ الله، وَلَا يُؤَمِّنُهُم مِنْ عَذَابِ الله، وَلَا يُرَخِّصُ لَهُم فِي مَعَاصِي الله، وَلَا يَدَعُ القُرْآنَ رَغْبَةً عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَلَا خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لَا عِلْمَ فِيْهَا، وَلَا خَيْرَ فِي عِلْمٍ لَا فَهْمَ فِيْهِ، وَلَا خَيْرَ فِي قِرَاءَةٍ لَا تَدَبُّرَ فِيْهَا(.
-
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (لَا يَتَمَكَّنُ الْمُفْتِي وَلَا الْحَاكِمُ مِنْ الْفَتْوَى وَالْحُكْمِ بِالْحَقِّ إلَّا بِنَوْعَيْنِ مِنَ الفَهْمِ: أَحَدُهُمَا: فَهْمُ الْوَاقِعِ وَالْفِقْهِ فِيهِ وَاسْتِنْبَاطُ عِلْمِ حَقِيقَةِ مَا وَقَعَ بِالْقَرَائِنِ وَالْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ حَتَّى يُحِيطَ بِهِ عِلْمًا. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: فَهْمُ الْوَاجِبِ فِي الْوَاقِعِ، وَهُوَ فَهْمُ حُكْمِ الله الَّذِي حَكَمَ بِهِ فِي كِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ قَوْلِهِ فِي هَذَا الْوَاقِعِ، ثُمَّ يُطَبِّقُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ).
وقد شهد التاريخ الإسلامي نماذج من علماء السلف وفقهائهم من الذين تصدوا للفتوى الشرعية، أو طُلبت منهم الفتوى، وكانوا على درجة كبيرة من الرصانة العلمية وتحري الصواب والخشية من الله تعالى، وكان لكثير منهم مواقف صلبة في إصدار الفتوى وعدم التساهل فيها، ولم يبالوا برأي حاكم ولا رغبات ملك أو رئيس أو أمير، ولم يُذعنوا للتوجيه السياسي الذي يريد إخضاع الفتوى الشرعية لمسار العملية السياسية في هذا البلد أو ذاك، وكانوا مع الحق الذي أرسته النصوص الشرعية من دون التفاف أو تحايل للوي ذراع النص الشرعي حتى لو كلفهم هذا الموقف ثمنا باهضا قد يصل إلى فقدان حياتهم والأمثلة على ذلك كثيرة يطول الحديث بذكرها وحسبنا هنا أن نذكر مثالا واحدا فيما يأتي:
الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى الذي تعرض لمحنة القول بخلق القرآن، وكانت الدولة بأجهزتها ووزرائها وقوتها تدعم عقيدة خلق القرآن التي اعتنقها بعض أهل الاعتزال الذين استطاعوا اقناع ثلاثة من الخلفاء العباسيين بها وهم على التوالى: المأمون، ثم المعتصم، ثم الواثق.
إن هذه المحنة العاتية وقعت على كثير من العلماء لكن العبأَ الأكبر وقع على الإمام أحمد بن حنبل الذي صمد ولم يصدر فتوى بخلق القرآن حتى مات تحت تعذيب سلطة المأمون والمعتصم والواثق، أما غيره من العلماء فأغلبهم أجاب بما تريده السلطة خوفا أو كُرها، ومن هنا أصبحت الإمامة مقرونة بأحمد بن حنبل فلا يقال عنه إلا (الإمام أحمد) ولولا صموده وامتناعه عن الفتوى الباطلة لضلَّ خلقٌ كثير، ومن هنا قال المُزنيُّ رحمه الله: (عصم اللهُ الأمةَ بأبي بكر يوم الردَّة، وبأحمدَ بن حنبل يوم المحنة).
ومما يُذكر أن الإمام أحمد بن حنبل حُملَ من بغداد إلى طرسوس لمقابلة المأمون الذي توعده بالقتل بنفسه إن لم يقل بخلق القرآن، وقابله رجلٌ من عامة الناس في بادية العراق ليقول له: (يا أحمد إنْ يقتلْك الحقُّ مُتَّ شهيدا، وإن عشتَ عشتَ حميدا، وما عليك أن تقتل هاهنا وتدخل الجنة) فقوي قلبُ الإمام أحمد بهذه الكلمات. ثم بعد فترة استراح الركب في خان بالطريق للمسافرين، وفي الخان قابل الإمام أحمد أحد أصدقائه القدامى، واسمه أبو جعفر الأنباري، والذي عبر الفرات للقاء الإمام أحمد قبل سفره إلى طرسوس، فلما رآه الإمام أحمد قال له: يا أبا جعفر تعنيت [ أي كلفت نفسك مشقة السفر، وعبور الفرات]؛ فقال له أبو جعفر: يا هذا أنت اليوم رأسٌ، والناس يقتدون بك، فوالله لئن أجبتَ إلى خلق القرآن ليُجيبن خلقٌ، وإن أنت لم تجب ليمتنعن خلق من الناس كثير، ومع هذا فإن الرجل إن لم يقتلك فإنك تموت، لابد من الموت، فاتق الله ولا تجب. فجعل الإمام أحمد يبكي ويقول: ما شاء الله، ثم قال: يا أبا جعفر أعد عليَّ، فأعاد عليه، وأحمد يبكي ويقول: ما شاء الله.
وفي طريق السفر كان الإمام أحمد يتهجد ويصلي في جوف الليل، ويدعو الله عز وجل أن لا يرى المأمون، وألا يجتمع معه أبدًا، ويلح في الدعاء، وفي رجب سنة 218هـ، وقبل أن يصل الإمام أحمد إلى طرسوس مات المأمون فجأة بلا مرض أو تعب؛ فراح ضحية سهم من سهام الليل، من قوس مظلوم، بوتر ملكوم: وهو دعاء الإمام أحمد عليه.
فتولى الخلافةَ أخوه المعتصمُ، ورغم أن الخليفة المعتصم لم يكن من أهل الفكرة، ولا يعتنقها في الأساس، ولكنه خاض في الفتنة، وانغمر فيها لأن أخاه المأمون قد أوصاه بذلك، فحمله حبه لأخيه المأمون على أن يعمل بوصيته، بل يزايد عليها؛ فكان أول قرار أخذه المعتصم هو رد الإمام أحمد إلى بغداد، وسجنه هناك في سجن ضيق مظلم، والقيود في يديه ورجليه، حتى أنه أصيب بمرض شديد في شهر رمضان، فنقلوه إلى سجن أوسع مع عموم الناس، ومكث في هذا السجن ثلاثين شهرًا.
وفي السجن أخذ رجال الاعتزال ورؤوس الفتنة يأتونه: واحدًا تلو الآخر ليناظروه في خلق القرآن، وزادوا في قيوده، وبعد عدة أيام - وكانوا في شهر رمضان - بدأت فصول المناظرة العلنية، بحضور الخليفة المعتصم نفسه.
ولنا أن نتخيل هذا المشهد المهول الذي حضره الإمام أحمد وحده، وكان في مجلس الخليفة المعتصم، وفيه كل رجال البدعة، والوزراء والقادة والحجَّاب والولاة والسيافون والجلادون، وكان الذي بدأ معه الكلام هو المعتصم نفسُه، وقد حاول استمالتَه وترغيبه في أول الأمر، ثم أمر علماء البدعة بمناظرته، فهزمهم الإمامُ كلَّهم، وهو يحتج عليهم بالآيات والأحاديث والآثار، وهم يحتجون بكلام الفلاسفة: مثل العرض والجوهر، والشيء والوجود والعدم؛ لذلك فلقد علت حجته حجتهم، والإمام يقول: أعطوني شيئًا من كتاب الله وسنة رسوله، وكان قائد الشرطة ممن يدافع عن الإمام أحمد، ويقول للخليفة المعتصم: يا أمير المؤمنين أعرفه منذ ثلاثين سنة، وإنه ليرى طاعتك، والحج والجهاد معك، وإنه لعالم، وإنه لفقيه، ولكن في المقابل كان أحمد بن أبي داود أشدَّ الناس عليه، ويحرض المعتصم عليه بشدة ليقتله، ويقسم له إنه ضال، وكافر ومبتدع.
استمرت هذه المناظرة العلنية ثلاثة أيام، وكانوا في شهر رمضان، والإمام ثابت لا يتزعزع، وخصومه من حوله تتساقط شبههم وبدعهم، حتى كان اليوم الرابع، وكان المعتصم قد ضجر من طول المناظرة، وأغراه قاضي المحنة أحمد بن أبي داود، حتى وصل الأمر إلى التهديد بالضرب والجلد، وأحضرت الخشبة والسياط، وشُدَّ أحمد على العقابَين [ وهما خشبتان يشق الرجل بينهما بالجلد] فخُلعت يداه وهو صامد، وعندها أخذت المعتصمَ شفقةٌ على الإمام، وأعجب بثباته وتصميمه وصلابته، ولكن أحمد بن أبي دؤاد أغراه، وقال له يا أمير المؤمنين تتركه فيقال غلب خليفتين؛ فعمي المعتصم لكلمته الشريرة، وأمر بالإمام فأخذ الجلادون في ضربه بالسياط، يتناوبون على ضربه: هذا يضرب سوطين، والآخر ثلاثة، وهكذا حتى إذا بلغ سبعة عشر سوطًا قام إليه المعتصم وقال له: يا أحمد علام تقتل نفسك؟ وإني والله عليك لشفيق، وجعل عُجَيْفٌ - أحد القادة العسكريين في جيش المعتصم - ينخسه بقائمة سيفه ويقول: أتريد أن تغلب هؤلاء كلَّهم؟ وجعل بعضهم يقول: ويلك إمامك الخليفة على رأسك قائم، وقال: بعضهم: يا أمير المؤمنين دمه في عنقي، اقتله، وجعلوا يقولون: يا أمير المؤمنين أنت صائم، وأنت في الشمس قائم، والمعتصم يقول: ويحك يا أحمد ما تقول؟ فيجيب الإمام بكل صمود وثبات: أعطوني شيئًا من كتاب الله، أو سنة رسول الله أقول به، فيأمر المعتصم بمواصلة الضرب، ثم قال له المعتصم مرة أخرى: أجبني إلى شيء فيه أدنى فرج حتى أطلق عنك بيدي، ومع ذلك الإمام صامد، فأخذوا في ضربه حتى أغمي عليه من شدة الضرب، وقد تمزق ظهره من لهيب السياط.بعد هذا الثبات العجيب التي تعجز عن مثله الجبال الراسيات، أمر المعتصم بإطلاق سراحه، ولكن بعد أن فعل شيئًا في منتهى العجب والغرابة، وهو قيامه بإحضار أقارب الإمام أحمد وأهله وجيرانه وأشهدهم على أنه سليم البدن، وذلك خوفًا من ثورة الناس عليه إن حصل للإمام مكروه، هذا على الرغم من قوة المعتصم وشجاعته وسلطته، ولكن قوة الحق، وسلطة الصمود، وشجاعة الثبات الذي عليه الإمام أحمد كانت أكبر من ذلك كله، وخرج الإمام أحمد وعاد إلى بيته بعد 28 شهرًا من الحبس والضرب من سنة 218هـ حتى سنة 221هـ. والمعتصم - وإن كان هو الذي أقدم على ضرب الإمام أحمد - إلا أنه لم يكن مثل المأمون مقتنعًا، أو معتنقًا لهذه البدعة، وكان يود لو أطلق سراح أحمد بلا ضرب، ولكن رءوس الضلال أوغروا صدره، وأشعلوه غضبه حتى أقدم على جناية ضرب الإمام، لذلك فلقد جعله الإمام أحمد في حلٍ من هذه الجناية؛ وذلك يوم أن جاءه خبر فتح عمورية سنة 223هـ.
ظل أحمد بعد خروجه من سجن المعتصم يعالج في بيته فترة طويلة من آثار الضرب والتعذيب حتى تماثل للشفاء، وأخذ يحضر الجمعة والجماعة، ويحدث الناس ويفتي، حتى مات المعتصم، وولي مكانه ابنه الواثق، وكان قد تربى في حجر قاضي المحنة أحمد بن أبي دؤاد؛ فشربه البدعة منذ صغره، فكان الواثق من أشد الناس في القول بالبدعة، حيث أظهرها بقوة، وأجبر الناس عليها، وأطلق يد أحمد بن أبي دؤاد فيها؛ فكان يفرق بين الرجل الذي لا يقول ببدعته وبين امرأته، ويأمر المعلمين بتعليم الصبيان في المكاتب هذه البدعة الخبيثة، وبلغ الأمر ذروته عندما كان أحمد بن أبي دؤاد يمتحن أسرى المسلمين عند الروم؛ فمن قال ببدعة خلق القرآن افتداه؛ ومن امتنع يتركه أسيرًا بيد الروم، حتى ضج الناس، وضاقت نفوسهم.
بلغ الأمر بالناس ذروته من فجاجة نشر البدعة، وتسلط المعتزلة على الناس، حتى أقدمت مجموعة من أهل بغداد بقيادة أحمد بن نصر الخزاعي على التحضير للخروج على حكم الخليفة الواثق العباسي، وخلعه من الخلافة، وذهب نفر منهم للإمام أحمد لاستفتائه في الخروج، وعدوا له مساوئ الواثق وجرائمه وبدعه، فلم يوافق الإمام أحمد على ذلك، ومنعهم، وناظرهم في القضية، وأمرهم بالصبر؛ وذلك من فقه وورع ودين الإمام أحمد، على الرغم من الأذى والاضطهاد والعذاب الشديد الذي ناله الإمام على يد هذه الحكومة الجائرة المبتدعة، والتي لو خرج عليها الإمام أحمد ما لامه أحد، إلا أنه قد أدرك أن المفاسد المترتبة على الخروج أعظم وأكبر من المصالح المتوقعة من وراء إسقاطهم، والذي توقعه الإمام قد وقع بالفعل، فلقد فشلت حركة الخزاعي، وراح فيها الكثيرون.
وعلى الرغم من الدور الذي لعبه الإمام أحمد في إقناع الكثيرين بعدم الخروج على الواثق إلا أن الواثق قد قابل ذلك بفعل شرير، بالغ السوء: حيث أمر بنفيه من بغداد، وأرسل إليه يقول: لا يجتمعن إليك أحد، ولا تساكني بأرض، ولا مدينة أنا فيها. فخرج الإمام من بيته، واختبأ بدار أحد تلاميذه عدة أيام، ثم انتقل إلى موضع آخر؛ فمكث فيه عدة شهور حتى هدأ الطلب عنه، ثم تحول إلى مكان آخر، وظل هكذا لا يستطيع أن يخرج إلى الصلاة، ولا إلى مجلس علم وتحديث، حتى هلك الواثق العباسي سنة231هـ، فخرج الإمام للناس، وجلس للتحديث، ذلك أن المتوكل الذي ولى بعد الواثق كان على مذهب أهل السنة، وقد أمر برفع البدعة، وإظهار السنة، وأيضًا لم يسلم الإمام من الفتنة أيام المتوكل، ولكنها كانت فتنة بالسراء، ليس بالضراء، ذلك أن المتوكل قد أفاض عليه بالأموال والعطايا الجزيلة، وحاول استمالته ليسكن مدينة سامراء، ويترك بغداد، وأن يتولى تعليم وتأديب ولده (الـمُعتز) ، ولكن الإمام رفض ذلك بشدة، وعانى بسبب هذا الرفض معاناة شديدة([19]).
أن هذه المحنة التي وقعت عامة بأرض الإسلام لم يصمد فيها سوى الإمام أحمد، وقد تداول ثلاثة خلفاء يسلطون عليه من شرق الأرض إلى غربها، ومعهم من العلماء المتكلمين والقضاة والوزراء والأمراء والولاة والقادة العسكريين فبعضهم يسلط عليه بالحبس، وبعضهم بالتهديد والوعيد بالقتل، وبعضهم جلده وعذبه وألقاه في غياهب السجون، وبعضهم بالنفي والتشريد والمطاردة، ثم كانت فتنة السراء أيام المتوكل، وقد خذله في ذلك أهل الأرض، حتى أصحابه العلماء والصالحون، وهو مع ذلك لا يجيبهم إلى كلمة واحدة مما طلبوا منه، وما رجع عما جاء به الكتاب والسنة، ولا كتم العلم، ولا استعمل التقية، بل قد أظهر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثاره ما قمع به البدع، ورفض كل المحاولات التي بذلها معه قرناؤه العلماء في إقناعه بقبول التقية، ورأى أن التقية لا تجوز إلا للمستضعفين، الذين يخشون ألا يثبتوا على الحق، والذين هم ليسوا بموضع القدوة للناس، أما أولوا العزم من الأئمة الهداة فإنهم يأخذون بالعزيمة، ويحتملون الأذى ويثبتون، والإمام أحمد كان يرى نفسه - ولم يبق أحد سواه أمام البدعة - مسئولا عن إخمادها، والصمود أمامها مهما تكن العواقب، ولو أخذ بالتقية والرخصة لاستساغ الناس الرخصة، ولضلوا من ورائها؛ ولذلك كان الإمام أحمد هو إمامَ أهل السنة، وهو جبل الحق والسنة يوم أن حكمت البدعة، وثباته بإذن الله عز وجل كان ثباتًا للدين والسنة، وإنما تنال الإمامة بالصبر واليقين كما قال ربنا رب العالمين: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾([20]).
سادسا – نماذج معاصرة من موقف الفتوى الشرعية من السياسة:
في كل زمان ومكان قديما وحديثا كانت الفتوى الشرعية تنال خلافا بين الواقفين عند الحق والمتمسكين به، وبين المتساهلين المفرطين في الحق الشرعي، ولكل فريق دوافعه وأهدافه، وفي عصرنا الحاضر تعاني الفتوى من اضطراب ملموس وتناقض واضح من بعض العلماء بصفتهم الفردية أو من مؤسسات معنية بالإفتاء وكل جهة تصدر فتاواها مخالفة جهات أخرى في قضية واحدة متحدة بالزمان والمكان والظروف المحيطة بتلك القضية خاضعة للظروف السياسية وموافقة لإرادة الحاكم السياسي الذي يدير شؤون البلاد، أو مجاملة للآخرين، من دون مبالاة بما تقرره نصوص التشريع من الكتاب والسنة.
ومن صور التساهل في الفتوى:
-
أن بعض المفتين يرى إباحة الربا المنتشر لدى البنوك اليوم بكل صوره وأشكاله، ويبرر ما ذهب إليه بحجج واهية بعيدة عن النص الشرعي الذي حرم الربا تحريما قاطعا؛ وما ذاك إلا لإرضاء السياسة القائمة في محيطه.
-
ومفتون آخرون يرون جواز إمامة المرأة للرجال في الصلاة؛ لأن السياسة القائمة تريد ذلك تحت شعار حقوق المرأة.
-
ومنهم يذهب إلى أنه لا ينبغي إقامة حد الردة على المرتد في هذا الوقت لعدم مناسبته.
-
وآخرون يفتون بجواز نكاح المرأة نفسها بدون ولي ولا شهود مما يؤصل ويؤدي إلى انتشار الزنا.
-
وهناك من أفتى بجواز نكاح غير المسلم من المرأة المسلمة.
-
بل وصل الأمر بأحدهم إلى أن قال: ما المانع أن يُبنَى كنيسة، ومعبد، ومسجد في مكان واحد، وكل يعبد ربه بطريقته الخاصة؟! وصدق النبي صلى الله عليه وسلـم إذ يقول: (إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ)([21]).
وبناء على خضوع الفتوى الشرعية للسياسة فقد حصل تخبط واختلاف وتناقض في فتوى المسألة الواحدة إما لدى المفتي نفسه وإما مع المفتين الآخرين، ويبقى الإنسان المستفتي في حيرة من أمره بأي فتوى يأخذ ويعتمد ليعمل بها.
مثال الفتوى المتناقضة بين المفتين:
الأمثلة كثير نذكر منها هذا المثال: ففي بعض الدول الإسلامية تجري انتخابات لتشكيل مجالس تشريعية تحت أسماء متنوعة (برلمان)، أو (مجلس النواب)، أو (مجلس الشعب)، وغيرها وفي المرشحين شخصيات من الرجال والنساء متنوعة فكرا وثقافة وعقيدة وتوجها، وإذا قرب وقت الانتخابات يبدأ الناخبون بالبحث عن حكم شرعي حتى يقرر كل واحد موقفه من المشاركة والإدلاء بصوته أو عدم المشاركة. وهنا تبدأ الفتاوى الشرعية تنطلق من جهات عديدة وكل فتوى تحمل حكما يخالف غيرها، فهذا المفتي يوجب المشاركة في الانتخابات مطلقا ويحمل الممتنع عنها المسؤولية أمام الله تعالى، وذاك المفتي يحرم المشاركة تحريما قاطعا ويُجرمُ من يدلي بصوته، وذلك المفتي يجيز المشاركة بشروط وقيود قد يكون منها شروط تعجيزية ويحرم المشاركة عند انعدام الشروط التي وضعها في فتواه، ولم يجتمع المفتون على فتوى وكلمة سواء؛ لأن كل واحد من المفتين له دوافعه وأهدافه قد تكون شريفة وقد تكون خسيسة، ويبقى الناخب الذي ينشد حقيقة الحكم الشرعي في دوامة وحيرة من أمره هل يشارك أو يمتنع؟
مثال الفتوى المتناقضة عند المفتي نفسه:
والأمثلة أيضا على هذا كثيرة نكتفي بهذا المثال، ففي بعض الدول الإسلامية صدرت فتاوى بتحريم عدد من الأمور كقيادة المرأة للسيارة، ومثل فتح دورٍ للسينما، وإنشاء مراكز ترفيهية أو ثقافية يختلط فيها الرجال والنساء، وكمشاركة النساء في عدد من الأفعال الرياضية أو تشجيعها وأمور أخرى حرمتها الفتوى الشرعية تحريما قاطعا في ظل سياسة معينة قائمة، وبعد مدة من الزمن تغيرت السياسة فتغيرت الفتوى في كل هذه الأمور من تحريم إلى تحليل وتجويز من المفتين أنفسهم.
إن الفتوى الشرعية في زماننا هذا قد اعترتها أمراضٌ عديدة، فقد كثرت وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، وأصبح كثير من الناس يتابعونها في كل وقت، فكان أثر الفتوى على الناس عظيماً، حتى غدا بعض منهم يتلهف إلى سماع إجابات الفتاوى التي تعرض عليهم من أجل إرضاء أهوائهم وقلوبهم المريضة المحبة للشهوات، أو من أجل مجادلة أهل الحق الذين يلتزمون الدليل الشرعي الصحيح، من غير مراعاة للأمانة العلمية في التحليل والتحريم، ومعلوم أن الكذب على البشر في شريعة الإسلام من أكبر الكبائر، ومن أعظم الذنوب، فكيف حال من يكذب على الله تعالى؟ وإذا كان ضياع أمانة الناس وخيانتهم في أموالهم منهياً عنها، بل ويُعاقَبُ عليها من وقع فيها، فكيف بمن يضيع أمانة الله تعالى ويخونُ أمره ونهيه.
وإذا كان أثر الفتوى في الزمن الماضي محدود المكان، فكيف بمن يفتي الناس الآن على الملأ والملايين دون وازع أو خوف من رب الأرباب الذي يطلع عليه، ويسمع كلامه، ويحصي عليه كل ما يقول، وهذا الصنف الذي يفتي الناس بغير علم ويفتري على الله الكذب من أبغض الناس عند الله لأنه يتكلم عن الله تعالى، ويبلغ شرعته بصورة خاطئة.
وكم رأينا وسمعنا مفتين من أنصاف العلماء يخرجون على الناس بأقوال وآراء لم ينزل الله بها من سلطان إنما هو اتباع للهوى والسياسة والشيطان، وحباً للظهور أمام الناس بمظهر العالم الجليل، وهؤلاء النفر ربما يصدق فيهم قول النبي صلى الله عليه وسلم عن أول من تسعر بهم النار، وذكر منهم: (وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ...)([22]).
وصية ومقترح:
بعد هذا العرض السريع لقضية التخبط في الفتوى الشرعية وخضوعها لمؤثرات عديدة من بينها تأثير السياسة وتغير الفتوى بتغير السياسة أوصي بهذا المقترح:
أن تقوم مؤسسة إسلامية عالمية للفتوى الشرعية، تكون مرجعا لكل المسلمين، ويكون أعضاؤها من فقهاء العالم الإسلامي بمواصفات معينة يمثلون جميع البلدان الإسلامية ويمثلون المسلمين في البلدان غير الإسلامية، وتتخذ لها مقرا في إحدى الدول الإسلامية، على أن لا تخضع هذه المؤسسة لأي جهة سياسية ولا لأي منظمة أخرى إسلامية أو غير إسلامية؛ لأن كل منظمة تخضع لإرادة وسياسة البلد الـمُضَيِّف لها وهذا أمر واضح في كل المنظمات التي تحمل صفة عالمية.
إن قيام هذه المؤسسة لا يلغي مؤسسات الإفتاء في البلدان الإسلامية؛ لأن المسلمين في كل بلد بحاجة إلى من يفتيهم في شؤونهم العبادية والاجتماعية، ولكل بلد خصوصيته وأحكامه الخاصة، وإنما ينحصر عمل هذه المؤسسة في الإفتاء بقضايا الأمة الإسلامية المشتركة التي لا يتفاوت فيها المسلمون من بلد إلى آخر، سواء أكانت سياسية أم اقتصادية أم غيرهما.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل
أ.د. الشيخ عبدالرزاق السعدي
26/5/2018
([1]) أخرجه الدارمي في سننه: (1/69).
([2]) سورة النساء: 127.
([3]) سورة النساء: 176.
([4]) سورة يوسف: 41.
([5]) سورة يوسف: 46.
([6]) سورة الصافات: 11.
([7]) سورة الصافات: 149.
([8]) سورة يوسف:34.
([9]) سورة النمل: 32.
([10]) سورة الكهف: 22.
([11]) سورة النجم: 3 – 4.
([12]) صحيح البخاري برقم: 100، وصحيح مسلم برقم: 2673.
([13]) رواه الدارمي من حديث عبيد الله بن أبي جعفر مرسلا:1/57.
([14]) حديث صحيح رواه الترمذي: (5/29): برقم: .2649.
([15]) سنن الدارمي: 1/53، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله :2/163.
([16]) سير أعلام النبلاء :8/77.
([17]) سورة التوبة:62.
([18]) سورة البقرة: 32.
([19]) انظر تاريخ بغداد للخطيب البغدادي: 4 / 412.
([20]) سورة السجدة: 24.
([21]) سنن الترمذي: 2229.
([22]) رواه مسلم ـ كتاب الإمارة ـ باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار: 3527.
**هذا البحث كان ضمن بحوث مؤتمر الفتوى في جاكرتا2018.