مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب
2017/03/13 18:15
هوية أطفالنا

مروة محمد عبدالله
في زحمة التحديات والأزمات المختلفة التي تمر بها الأمة العربية على مختلف الأصعدة، يكمن الخطر الذي لا نكاد نراه أو نتغافل عنه، وهو خطر موت لغتنا العربية وتحولنا إلى شعوب بلا لغة أي بلا هوية، وأن تصبح تبعيتنا الثقافية واللغوية للبلد الأقوى اقتصادا وتأثيرا في العالم كالولايات المتحدة الأمريكية، فنصبح جزءا منها خاضيعن لها، وهذا نوع من الاحتلال الثقافي أقوى وأشد خطرا من أي احتلال عسكري ممكن، تكمن خطورته في عدم إدراكنا لوجوده، وتصورنا أن تقليدنا للغرب في لغتهم وملبسهم ونمط حياتهم إنما هو أمر طبيعي نتيجة للعولمة ولحاجتنا للحاق بركب التقدم والحضارة.

فقد بدأنا نلاحظ في كثير من البيوت العربية أن الطفل منذ ولادته وقبل تعلمه الكلام، تبدأ أسرته بالحديث معه بكلمات أجنبية، فلا تكاد تخلو جملة عربية من كلمة أجنبية، هذا بخلاف الأسر التي تترك أبنائها لمربية أجنبية تتحدث معهم بالانجليزية طوال الوقت، فما أن يبدأ الطفل بالكلام حتى يتعود على استخدام هذه الكلمات دون أن يعرف ما يقابلها في العربية.

ثم يدخل الطفل الحضانة، فيجد المربيات يتحدثن معه بنفس الطريقة، جملة عربية يتخللها كلمات أجنبية، ثم يدخل المدرسة فيتطور الأمر أكثر ليصبح الحديث باللغة الانجليزية هو الأساس طوال اليوم الدراسي، فيما عدا حصة اللغة العربية، وقد انتشر ذلك في دول عربية مختلفة، وفي مصر خصوصا.

وهذا على عكس ما كان يحدث سابقا، عندما كان الحديث طوال اليوم الدراسي باللغة العربية في ماعدا حصة اللغة الانجليزية، فهل حاجتنا إلى تعلم اللغات الأجنبية تتطلب هذا الانقلاب في أسلوب التعليم؟ وهل نحن في حاجة فعلا لإتقان اللغة الانجليزية مثل الأجانب تماما بحيث لا يعرف المستمع لنا إن كنا عربا أم أجانب؟ أم أننا بحاجة فقط إلى تعلم ما يكفي من اللغة لنتمكن من التواصل مع العالم واكتساب العلوم المتقدمة واستخدام التكنولوجيا؟

وهل يحتاج أطفالنا لتعلم اللغات وهم مازالوا في المهد؟ ومن ثم متى وكيف سيتعلمون العربية ويتقنونها؟ وكيف سيفهمون أصلا أنها لغتهم الأم ويحبونها وهم يجدونها دائما تأتي في المرتبة الثانية من الأهمية في كل مراحل تعليمهم المختلفة؟

يرى البعض أنهم سيعوضون ذلك بتحفيظ القرآن الكريم للأطفال لاحقا، حسنا وهل يكفي حفظ القرآن فقط بعد أن تصبح الانجليزية هي لغة الطفل الأساسية لفهم اللغة العربية وإتقانها أو حتى لفهم القرآن نفسه؟ بل هل يكفي لزرع الانتماء والهوية في قلب وعقل الطفل؟ فالكثير من حفظة القرآن أمدهم الحفظ بحصيلة لغوية هائلة ولكن لم يؤهلهم لفهم التراث والأدب والعلوم العربية كي ينتموا إليها أو يضيفوا إليها جديدا، لأنهم لم يدرسوا معاني القرآن وتفسيره وقواعد اللغة العربية.

فقد يعزف الطفل عن قراءة الكتب العربية لضعف قدرته على فهمها وبالتالي سيبتعد عن ثقافته ودينه. وسيتجه للقراءة باللغة الأجنبية التي يتقنها أكثر، فيتشرب الثقافة الأجنبية ويصبح مشوش الهوية والفكر، لا هو عربي ولا هو أجنبي.

إذا فكيف نوازن بين الحفاظ على الهوية وتعلم اللغات؟

الثراء الفكري والإبداعي واللغوي للأطفال

تقول الدكتورة سهير السكري المتخصصة في اللغويات نقلا عن كتاب "Militant Islam"  للكاتب جودفري جانسون، أن في عهد الدولة العثمانية وقبل الاحتلال الانجليزي والفرنسي للبلاد العربية، كان الأطفال المسلمون يتميزون بالثراء الفكري واللغوي، مما يجعل منهم قادة ومبدعين في الكبر، وذلك مما أمد المسلمين بالقوة التي استطاعوا بها التقدم وخوض الفتوحات في ذلك الوقت، ويرجع السبب في ذلك إلى ذهاب الأطفال للكتاتيب منذ بلوغهم سن الثالثة. فما سر تلك الكتاتيب؟

كان الطفل يحفظ القرآن كاملا في الكتّاب من سن الثالثة حتى السادسة فيمده القرآن بما يزيد عن 50 ألف كلمة، ثم يحفظ حتى السابعة ألفية ابن مالك، وهي ألف بيت من الشعر تحتوي على جميع قواعد اللغة العربية الفصحى. فيتمكن الطفل من الفصحى جيدا ولا يتشوش بينها وبين العامية، كما يصبح عنده ثراء لغوي هائل وتمكن من لغته. فيصبح أكثر قوة وصلابة وذكاء يمكنه من التقدم وصنع الحضارة بالإضافة طبعا إلى تمسكه بالدين. حتى جاء الاحتلال وأدرك الدور الذي تلعبه الكتاتيب فألغى الفرنسيون الكتاتيب في شمال إفريقيا، وأما في مصر فقام الانجليز بإنشاء مدارس أجنبية يكون تعليم اللغة العربية فيها ضعيفا وتبدأ الدراسة فيها من سن السادسة مع زراعة ثقافة مفادها أن من حق الطفل في سن الثالثة أن يلعب ولا يثقل كاهله بالدراسة حتى اختفت الكتاتيب تدريجيا.

وأصبحت حصيلة الطفل العربي اللغوية قبل دخول المدرسة في سن الرابعة هي كلمات اللهجة العامية فقط أي ما يقرب من3 آلاف كلمة! أما الطفل الغربي فتكون حصيلته 16 ألف كلمة عند دخوله المدرسة في سن الثالثة. وبهذا يتفوق الطفل الغربي.

فالحصيلة اللغوية تمد الطفل بالذكاء اللغوي والثراء الفكري وتفتح له آفاق العلم والتقدم، هذا ونحن نتحدث عن طفل لم يدخل المدرسة بعد. ومن هنا ندرك أهمية عودة الكتاتيب أو على الأقل تحفيظ القرآن للأطفال ومن ثم تعليمهم قواعد اللغة العربية في سن مبكرة حتى تصبح الفصحى جزءا من ثقافته قبل أن نقدم على تعليمه أي لغة أخرى.

الوقت الأنسب لتعليم الطفل لغة أجنبية

هناك نظرية تقول بأن السن الأنسب لبدء تعليم لغة أخرى هو سن الرابعة، "أي أن التلميذ يجب أن يصل إلى درجة معينة من إتقان لغته الأم، قبل أن يستطيع أن يجني فوائد من تعلم اللغة الثانية."1، حيث أن تعليم اللغة الأجنبية في سن مبكرة بجانب اللغة الأم يؤثر سلبا على مهارات الطفل اللغوية فيجعله ضعيفا في لغته الأم، كما يشوش تفكيره نظرا للحيرة التي يقع فيها عقله ليقرر هل يستخدم المرادف العربي أم الأجنبي لكلمة ما عند حديثه، ففي السن الصغيرة لا يكون الطفل مدركا لفكرة أن العربية هي لغته الأم خصوصا عندما يقوم بدراسة اللغتين في وقت واحد. “والطفل عادة ما تكتمل قدرته في السيطرة التامة على تراكيب اللغة الأم مع بلوغه العام الرابع، ومع نهاية العام الخامس تكون قدراته المعجمية مكتملة.”1

صحيح أن قدرة الطفل على التعلم والإتقان للغات تكون أكبر في صغره لكن تلك الفترة   ممتدة إلى البلوغ، وهذا لا يمنعه من البدء في تعلم لغة جديدة في شبابه، كما يتعلم طلبة كليات الألسن عدة لغات مثلا، أو كما يتعلم الكثير من الناس اللغة الانجليزية بعد تخرجهم عند احتياجهم لها. ولا ندعو هنا للتخلي عن تعليم الأطفال اللغات ولكن على الأقل ليس قبل أن نتأكد من إتقانهم للغتهم الأم، وأن تظل لغة ثانية لا لغة تخاطب في حياتهم اليومية.

وإذا نظرنا إلى الدول الغربية التي تعتبر اللغة الانجليزية لغة أجنبية بالنسبة لهم، سنجد أن كثيرا منهم يبدأون في تدريس الانجليزية في الصفوف الابتدائية وليس من الروضة، ففي ألمانيا وإيطاليا والصين يبدأ تعلم الانجليزية في سن الثامنة أي من الصف الثالث الابتدائي، وفي تركيا وسويسرا من الصف الرابع الابتدائي، وهو سن متقدم مقارنة بمصر مثلا.

تعليم المواد العلمية باللغة الأم

تقوم الدول الغربية بتعليم معظم المواد كالعلوم والرياضيات للأطفال بلغتهم الأم وليس باللغة الانجليزية كما هو الحال في مصر، رغم اهتمامهم بتعليم الانجليزية كلغة ثانية في المرحلة الابتدائية، فقد أظهرت بعض الدراسات أن تدريس المواد العلمية بلغة أجنبية يقلل من فرص إبداع الطفل، لأن عقله يحتاج إلى ترجمة المسألة إلى لغته الأم أولا حتى يستطيع أن يفكر فيها، ثم يعود بعد ذلك إلى ترجمتها إلى اللغة الأجنبية التي يدرس بها، فيأخذ ذلك من عقله وقتا ويكون أكثر إرهاقا، وبذلك يكون من الأفضل تعريب مختلف العلوم في المدارس والجامعات.

طريقة تدريس اللغة العربية

قبل ظهور مدارس اللغات، كانت معظم المدارس تدرس اللغة الانجليزية في حصة واحدة في اليوم، ويدرس الطلبة باقي اليوم بالعربية سواءا الفصحى أو العامية، ومع ذلك لوحظ ضعف الفصحى لدى خريجي هذه المدراس، والسبب في ذلك هو رجعية وتخلف أسلوب تعليم الفصحى نفسه، والذي يجبر الطلاب على حفظ قواعد النحو دون فهم ثم يحاسبهم على نجاحهم في تطبيقها، مما أدى إلى كره الطلاب للغة لشعورهم بصعوبتها البالغة، وهذا ما لمسناه في مصر مقارنة ببعض الدول العربية القليلة التي تقدم قواعد اللغة بطريقة سلسة يفهمها الطلبة فلا ينفروا منها أو يشعروا بصعوبتها، وبالتالي يحققون تقدم أكبر في تعلم اللغة وارتباطهم بها.

ختاما

وتأكيدا على أهمية التمسك بالهوية وإحياء اللغة في قيام الحضارة والتقدم، لابد هنا أن نشير إلى التجربة اليهودية في هذا الشأن، فقد استطاع اليهود إعادة اللغة العبرية إلى الحياة بعد أن صارت لغة دينية ميتة تماما، حيث قال المفكر اليهودي إليعازر بن يهودا في نهاية القرن التاسع عشر وقبل قيام دولة إسرائيل مقولته الشهيرة "لا حياة لأمة دون لغة"، ثم تحولت هذه المقولة إلى شعار ومشروع امتد 50 عاما، عادت فيه اللغة العبرية إلى الحياة وأصبحت تستخدم في الكلام وتدرس، وقامت على أساسها حضارة الدولة الصهيونية الحالية بقوتها وعلمها وتقدمها. فلماذا لا نفعل مثلهم؟

لغتنا هي أصلنا، ومن الطبيعي أن يعتز الإنسان بأصوله ويفتخر بها، فمن لا أصل له لا جذوع ولا وجود له، فعظمة الأشجار بعظمة تمسكها بجذورها، وثقة الإنسان في نفسه لا تكتمل إلا بثقته في أصوله، وإذا كنا لا نكترث لاستخدام لغتنا ولا لإتقانها ولا نجد عيبا في أن نخطأ فيها أو في أن نكتب كلماتها بحروف أجنبية، ونظن أنها ستظل حية لمجرد أنها لغة القرآن الكريم، فنحن لا نحترمها وهذا يعني أننا فقدنا جزءا من احترامنا لأنفسنا.

المراجع

-       الدكتور أحمد سعيد بيبرس، الواقع اللغوي والهوية العربية، دار الفكر العربي، 1989

-       الدكتور خالد بن عبد العزيز الدامغ، السن الأنسب لتدريس اللغات الأجنبية، مدار الوطن للنشر، الرياض، 2011

-       كمال الإخناوي، "ما موقع اللغة العربية من الإعراب"؟!، دار صفصافة للنشر، 2016

-       الدكتورة سلوى حمادة، اللغة والهوية العربية في مواجهة عصر المعلومات والعولمة ، الشبكة العربية العالمية، 2012

-        Godfrey H. Jansen، Militant Islam، 1979


1    السن الأنسب لتدريس اللغات الأجنبية، د.خالد بن عبد العزيز الدامغ، ص40، مدار الوطن للنشر، 2011

من اعمال الباحث
أضافة تعليق