إن الأساس الأول والأعمق لكل بناء لأي شعب من الشعوب هو وحدته الوطنية ، والوحدة الوطنية هي القاعدة الراسخة ، وهي البذور الضاربة في الأعماق التي يعلو منها البناء صلبًا متماسكًا قويًا ، بناء لا تهزه العواصف ولا تنال منه الأعاصير ، فيبقى شامخًا على مر العصور والأجيال وينمو صامدًا قويًا يحمي كل أبناء الوطن ويحميه كل الأبناء ، فالوحدة الوطنية هي الحصن الحصين أو الدرع الكبرى الواقية التي تحطم كل السهام الغادرة مهما كانت قادرة ، بالوحدة الوطنية يتحقق النماء والاستقرار ، وترتفع راية النهوض والرقي والتقدم والعمران ...
والإسلام الحنيف دين الحب والأمن والأمان والتسامح والتنمية والبناء جعل لغير المسلمين من الحقوق مثل ما للمسلمين ، وجعل عليهم من الواجبات مثل التي عليهم ، فالكل في حق الحياة سواء ، فكلنا من آدم وآدم من تراب ، لا فرق بين واحد وآخر إلا بالتقوى والعمل الصالح وما يقدمه لخير الناس ونفعهم ، يضاف إلى ذلك أن الإسلام أعطى غير المسلمين الحق الكامل والتام في ممارسة شعائرهم ، وصون معابدهم ، ومزاولة كل شئون حياتهم ، وفق تعاليم دينهم ، ليعيشوا في المجتمع الإسلامي أحرارًا آمنين ، متمتعين بالسلام والأمان مثل مواطنيهم المسلمين ...
إن المجتمع الإنساني المعاصر يواجه معضلات و مشكلات كبرى ، وفتنًا وحوادث نالت من صلابة وحدته الوطنية ، ونلاحظ ذلك في عدد من دول العالم ، ولا سيما في عالمنا العربي والإسلامي ، وظهرت جراء ذلك مفاسد عظيمة ، وأزهقت أرواح بريئة ، ودمرت البنى التحتية لتلك الدول مما أثر بالسلب على مسيرتها التنموية ، وزاد الأمر سوءًا أن تداخلت الفتن الداخلية مع أطماع خارجية في حالات كثيرة ، بالقدر الذي يهدد مستقبل وأمن تلك الدول ، ويضع هويتها ومقدراتها وسيادتها الوطنية في مهب الريح ..
نقرأ عن بعض الدول التي تثور فيها الفتن الطائفية من حين إلى آخر ، ويجمع أهل الفكر والرأي على أن القضاء على هذه الفتن في مهدها وعدم تكرارها ، لا يتأتى إلا بوضع إستراتيجية مدروسة تحدد أسباب المشكلة ، وتسعى لعلاجها من كافة جوانبها الثقافية والتربوية والاجتماعية والتعليمية والاقتصادية والإعلامية ، وذلك وفق منهج علمي ملتزم بعيدًا عن الخطب الإنشائية ، والأقوال المرسلة ، والثرثرة الإعلامية غير المجدية ، ومن الأهمية بمكان أن يتصدى لذلك أهل الخبرة والاختصاص بعيدًا عن إتاحة المجال لكل من هب ودب ...
إننا لو فهمنا الإسلام دين الحب والعدل والمساواة فهمًا جادًا واعيًا ، وعرفنا موقفه الفريد من التعددية في المجتمع الإسلامي ، لبدأنا بحق أولى خطوات العلاج لتلك المشكلة ...
أول وثيقة مكتوبة في تاريخ الإسلام :
إن أول وثيقة مكتوبة في تاريخ الإسلام الحنيف ، هي الوثيقة التي حررها النبي الكريم محمد (عليه الصلاة والسلام ) ، وهو يرسي أسس المجتمع الإسلامي في المدينة المنورة (يثرب) ، والتي عرفت باسم الصحيفة (أول وثيقة تتضمن مبادئ الدولة المدنية والمواطنة ) ، وقد تضمنت نصًا اعتبر اليهود مع المسلمين أمة واحدة ، بحيث عوملوا كمواطنين في الدولة الإسلامية الوليدة ، ولم يعاملوا كأجانب أو رعايا من الدرجة الثانية .
هذه الوثيقة جعلت غير المسلمين المقيمين في دولة المدينة ، مواطنين فيها ، لهم من الحقوق مثل ما للمسلمين ، وعليهم من الواجبات مثل ما على المسلمين ، إنها تعد بحق مفخرة من مفاخر الإسلام ، لأنها سبقت المواثيق والعهود العالمية والدساتير الوطنية بقرون عدة في مجال تطبيق مبدأ الحرية الدينية في ظل ظرف الأمن والسلام الاجتماعي القائم على مبدأ الوحدة الوطنية بين ذوي العقائد الدينية المختلفة . [1]
ويتضح البعد التقدمي والحضاري لصحيفة المدينة إذا لا حظنا أن المبدأ الذي كان سائدًا في العالم في تلك الآونة ، هو إكراه الرعايا على اعتناق دين ملوكهم ، فالصحيفة رفضت الأخذ بهذا المبدأ الذي كان سائدًا في دولتي الروم والفرس ، وقررت أنه من حق الشعوب الخاضعة لسلطات الدولة الإسلامية الوليدة أن تحافظ على معتقداتها ، وتقاليدها، وعاداتها ، وأعرافها ، وطراز حياتها .
وكان هذا العهد (صحيفة المدينة ) دستورًا لأهل المدينة جميعًا مسلمين وغير مسلمين ، لم يترك صغيرة ولا كبيرة تؤدي إلى الألفة والمحبة والتعاون إلا ونص عليها وقررها ...
وبهذا يكون النبي (عليه الصلاة والسلام) قد أقام وحدة وطنية حقيقية داخل المدينة ، يعمل الجميع في إطارها ، ويلتزمون بكل بنودها ، متمتعين بعدل الإسلام وسماحته التي تشعر كل مواطن بالأمن والأمان...
وإذا كان اليهود أقلية في مجتمع المدينة ، فإن الإسلام جعل لهذه الأقلية حقوقًا ، وجعل عليها واجبات ، وهذا شأن الحكم العادل الذي لا يعتدي على ضعيف ولا يظلمه ، ولا ينكر حقًا من حقوقه ، ما داما يؤدي ما عليه من واجبات ، فالكل سواسية كأسنان المشط أمام القانون ، ومن يأثم على القانون فإنما إثمه على نفسه . [2]
إن اعتراف هذه الصحيفة بجماعة المختلفين ، ثم وصفهم بالأمة الواحدة ، تؤكد أن الألفة بين الجماعات على أرض واحدة ، هي حجر الأساس في بناء الوطن ، ومصباح الطريق إلى مستقبل قوي عزيز لهذا الوطن ...
وعلينا أن نضرب الأمثال من تراثنا التاريخي وميراثنا الوطني ، وأول هذه الأمثال (صحيفة المدينة) لعل العالم يفتح عينيه من جديد ، على ما يحمل الإسلام من فكر متقدم في حقوق الإنسان ، وحقوق المواطنة ، وحرية التدين ، وإنكار التصفيات العرقية بمختلف أنواعها ...
إن لكل إنسان الحق في حياة حرة كريمة،حياة يؤدي فيها واجباته ويأخذ حقوقه وهذا هو ما أقره الإسلام وأعلنه بوضوح ، فالإسلام هو صاحب مبدأ الوحدة الوطنية بين الأكثرية والأقلية ، وبين المختلفين في العقائد على السواء ... [3]
وفي هذا الصدد نطالب جميع مؤسساتنا الدينية والثقافية والتربوية والإعلامية والاجتماعية ومؤسسات المجتمع المدني أن تعمل على إذاعة ونشر صحيفة المدينة بين الناس ، وما تتضمنه من مبادئ نحن في حاجة ماسة إلى أن نعيها ونفهمها ونستوعبها في وقتنا الرهن ، كما نطالب بتقديم شروح وافية لها من أساتذة التاريخ وعلماء الحضارة والاجتماع وأهل الرأي والفكر ، مع تقديمها للناس في طبعات شعبية بأسعار زهيدة تكون في متناول الجميع ...
إن المسلمين في كل العصور عاشوا جنبًا إلى جنب مع غيرهم من أتباع الديانات الأخرى بسماحة مطلقة لا نظير لها ، وشعور تام بالعدل والمساواة والأمن ، لأن الدين لله وحده ، وقد سن الهادي البشير محمد (عليه الصلاة والسلام ) منهجًا بالغ السمو والرقي في هذا الشأن حين نص في أول عهد أبرمه مع أهل الذمة حين هاجر إلى المدينة المنورة ، وهو العهد الذي سمي بصحيفة المدينة ، والذي نص بصراحة ووضوح على أن لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ، كما حرص الرسول الكريم (عليه الصلاة والسلام ) على تأكيد هذه المعاني السامية الراقية في أحاديثه عندما علمنا أنه من آذى ذميًا فهو خصمه ، ومن كان خصمه خاصمه يوم القيامة ، ومن ظلم معاهدًا أو أنقصه حقه أو كلفه فوق طاقته ، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس ، فهو خصمه يوم القيامة .
بل أن الخالق جل شأنه لا يقصر الحماية على أهل الذمة فقط لا غير ، بل إنه قررها للمشركين ، وذلك حين قال في كتابه العزيز { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون } [سورة التوبة : 6 ] .
إن المواطنين جميعًا سواء أمام القانون ، والقانون يحمي المساواة بكل أنواعها ، ويضعها فوق كل اعتبار ، فالناس جميعًا سواسية كأسنان المشط ، لا فرق بين إنسان وآخر إلا بعمله الصالح الذي يفيد به مجتمعه ، والجد مع الإخلاص أساس الانتماء للوطن الذي نعيش على أرضه ونتمتع بخيره .
لقد كانت دولة المدينة هي البوتقة التي جمعت كل العناصر والأديان فتعايشت بأمن وسلام بمقتضى الدستور الذي وضعه النبي محمد (عليه الصلاة والسلام) ، ونص فيه نصًا صريحًا على حرية العقيدة للجميع ، بمن فيهم المشركون وغير المسلمين ، واعتبارهم من مواطني الدولة الإسلامية ، لهم حق المواطنة في المجتمع الجديد ، وحل الانتماء الوطني محل الانتماء القبلي . [4]
عمرو بن العاص ودرس الصحيفة :
الحقيقة التي سجلها التاريخ هي أن حكام المسلمين (باستثناء قلة قليلة منهم حكموا في عهود الضعف والتدهور) قد التزموا التزامًا تامًا وكاملاً بالمبادئ الرفيعة التي قررتها صحيفة المدينة المنورة ، بحيث عاش غير المسلمين جنبًا إلى جنب وفي محبة ووئام مع المسلمين ، لهم ما للمسلمين ، وعليهم ما على المسلمين .
وعلى سبيل المثال لا الحصر ، فعندما جاء الصحابي الجليل / عمرو بن العاص (رضي الله عنه ) فاتحًا لمصر ، وضع نصب عينيه المبدأ الذي أرسته صحيفة المدينة المنورة ، ولذلك بادر على الفور بإعادة البابا / بنيامين بطريرك الأقباط ، إلى كرسيه بعد أن كان هاربًا في الصحراء عدة سنين من ظلم واضطهاد الرومان المسيحيين بسبب الخلاف المذهبي الذي كان محتدمًا في ذلك الوقت حول طبيعة السيد / المسيح (عليه السلام) . [5]
وكتاب (الصادق الأمين في أخبار القديسين ) أو( السنكسار ) وهو الكتاب الذي يسجل يوميات القديسين ويقرأ أثناء الصلوات بالكنائس ، جاء فيه : أنه في اليوم التاسع من شهر طوبه (17 يناير) من كل عام ، تحتفل الكنيسة بذكرى البابا / بنيامين ، ويروي (السنكسار) أن العرب جاءوا إلى مصر ، وفتحوها بقيادة عمرو بن العاص ، ثم يقول : وقرب عمرو رؤساء القبط منه وأحسن معاملتهم ، فاتجه الأقباط إلى إصلاح شئون الكنيسة التي كان قد اختل نظامها ، وتفرق شملها ، فقدموا إلى ابن العاص ، وأعلموه بخبر اختفاء البابا / بنيامين ، طالين عودته إلى كرسيه ، فاستدعاه ومنحه الحرية الدينية ، وأعاد له الكنائس التي كان قد اغتصبها البطريرك الملكي (البيزنطي) ، وأمر أن يتصرف في أمورها كما يريد ، فاستطابت لذلك قلوب المسيحيين ، وشكروا حسن صنيع عمرو إليهم .[6]
لقد قرب الصحابي / عمرو بن العاص (رضي الله عنه ) البطريك بنيامين إليه حتى لقد أصبح من أعز أصدقائه ، وأطمأن العرب الفاتحون في مصر ، وخطبهم أميرهم عمرو بن العاص في أول جمعة صلاها بجامع الفسطاط ، فقال : " استوصوا بمن جاوركم من القبط خيرًا ، فإن لكم فيهم ذمة وصهرًا ، فكفوا أيديكم ، وعفوا ، وغضوا أبصاركم ..." [7]
مسئولية كبرى :
إن أهل الرأي والفكر في بلادنا عليهم مسئولية كبرى ، ألا وهي الدعوة الدائمة لدعم الوحدة الوطنية ، والسعي إلى إحكام أواصر المحبة والاحترام والتسامح والتآخي التي تربط جميع أفراد الأمة بعضها ببعض ، وفي نفس الوقت فإن بلادنا في حاجة ماسة إلى جهود كل مواطن فيها ، من أجل أن نحقق حياة أفضل لنا جميعًا .
و بوعينا وفهمنا للدين الذي محوره الحب والتسامح نكون بذلك قد حققنا الحماية الأولى للبناء والتنمية والاستقرار والأمن والأمان ، تلك الحماية التي تتمثل في الوحدة الوطنية ، تلك الوحدة التي يجب أن تتوهج بالحوار الإيجابي البناء ، لا بالمهاترات الفارغة غير المجدية ، بآداب المعاملة والتعامل لا برذائل التطاول ، بالسماحة والبعد عن الكبرياء والغرور والتعصب والأنانية والاستئثار والشطط .
إن الهدف الذي يجب أن نسعى إليه هو أن نأتلف لا نختلف ، نتقارب ولا نتباعد ، نتحاور ولا نتقطع ، نعلو من قدر الكلمة الطيبة ونجتث الكلمة السيئة الضارة من جذورها والتي لا جذور لها في الأساس ، فعلينا أن نعمق القيم والمبادئ السامية والأخلاق الرفيعة ، لا أن نهدد قيمنا وتقاليدنا وأعرافنا الرائعة ، والتي هي سبيلنا للبقاء والاستمرار ..
بالوحدة الوطنية سنكون قادرين بإذن الله تعالى على استخدام أحدث وسائل العلم الحديث ، قادرين على التصدي لكل الصعاب والمشكلات بإذن الله تعالى .
[1] - إدوار غالي الذهبي ، النموذج المصري للوحدة الوطنية ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1998 ، ص 33
[2] - محمد متولي الشعراوي ، عن صحيفة المدينة ، زاوية يوميات الأخبار ، صحيفة الأخبار القاهرية ، عددها الصادر يوم 9 يوليو 1993
[3] - محمد متولي الشعراوي ، صحيفة المدينة والوحدة الوطنية ، زاوية يوميات الأخبار ، صحيفة الأخبار القاهرية ، عددها الصادر في 16 يوليو 1993
[4] - جمال بدوي ، وماذا بعد أعمال القتل والنسف ؟ ، مقالة منشورة في صحيفة الوفد القاهرية ، عددها الصادر في 10 مارس 1994
[5] - إدوار غالي الذهبي ، معاملة غير المسلمين في المجتمع الإسلامي ، القاهرة ، ص 133 وما بعدها
[6] - كتاب الصادق الأمين في أخبار القديسين (السنكسار) ، المستعمل بكنائس الكرازة المرقسية ، نشره الإيجو مانس فيلوئاؤس المقاري والقس ميخائيل المقاري ، الطبعة الأولى ، الجزء الأول ، 1629 ، ص 281
[7] - عبد الرحمن الشرقاوي ، الفاروق عمر بن الخطاب ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1987 ، ص 247