مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب
2016/06/25 06:22
لا بديل عن خطاب التحرر الوطني

سعود قبيلات
قدم القيادي الشيوعي الأردني، سعود قبيلات، هذه الورقة في ملتقى بعنوان " تجديد الخطاب الثقافي العربي،" عقد بالقاهرة.

أثار العنوان الرئيس لهذا الملتقى («تجديد الخطاب الثقافيّ»)، في ذهن صاحب هذه الورقة، العديد من الأسئلة الضروريَّة، كما أنَّه فتح أمامه باب التأمّل لعددٍ من القضايا الأساسيَّة.

الأسئلة، هنا، بمجملها، تتعلَّق بالمفاهيم والمصطلحات. وذلك لأنَّ أكثر هذه المفاهيم هي مفاهيم متعدّدة الدلالات والمعاني.. يفهمها كلّ إنسان (وكلّ فئة اجتماعيّة) بحسب اختلاف زاوية النظر، واختلاف الميول والمصالح.

أسئلة الثقافة والخطاب والتجديد

أوّلاً، ما المقصود بـ«الثقافة»؟ هل هو المفهوم الشائع والضيّق لهذه الكلمة الذي يشير إلى بعض عناصر (ومظاهر) الثقافة؛ كالفنّ، والأدب، مثلاً، دون سواها؟ أم أنَّه المفهوم الأشمل الذي يتناول مختلف جوانب الحياة الإنسانيَّة لمجتمعٍ ما؛ كالعادات والتقاليد والقوانين والأفكار الشائعة والفنون والآداب والمعتقدات الدينيَّة (وسواها) وما يأكله الناس في ذلك المجتمع وما يشربونه والأساليب التي يتَّبعونها في ذلك وأنماط لبسهم وطقوسهم.. الخ؟

ولا يقتصر عدم الدقّة في المفاهيم المتداولة للثقافة على هذا البعد وحده؛ فعلى سبيل المثال، هناك، خلط بين مفهوميْ الحضارة والثقافة. وعلى أرضيَّة هذه المغالطة الكبيرة المفتعلة بُنِيَتْ مزاعم صراع الحضارات ابتداء مِنْ أوائل تسعينيَّات القرن الماضي؛ مع أنَّ العالم كلّه، في ظلّ النظام الرأسماليّ الدوليّ العولميّ، خاضع لحضارة واحدة هي الحضارة الرأسماليَّة، بتجلّياتها المختلفة بين هوامش النظام وأطرافه!

ومِنْ هذه المغالطات، أيضاً، أنَّ البعض يتحدَّث عن «الثقافة» كمعطى سكونيَّ لا تاريخيَّ، فيتعامل معها كما لو أنَّها وُلِدَتْ هكذا دفعةً واحدة، ومرَّت عليها أزمانٌ طويلة وهي هكذا وستبقى على هذا النحو إلى الأبد. وإلى هذه الفكرة المغلوطة يستند «الإسلاميّون» عندما يتحدَّثون عن ما يسمّونه «ثقافة الأمّة»، وهم يعنون بذلك ما يتصوّرون أنَّه كان موجوداً في الماضي ويجب أنْ يتواصل وجوده في الحاضر.

الثقافة، برأي كاتب هذه السطور، هي معطى تاريخيّ، نشأ في ظرفٍ تاريخيٍّ معيّن، وترعرع ونما في ظروف تاريخيَّة أخرى مختلفة إلى أنْ وصل إلينا بصورته هذه. إنَّها، بالأحرى، كائن حيّ ينمو ويتطوّر ويتفاعل ويمرّ بكلّ العمليّات الحيويَّة المعروفة.

ثانياً، ما الذي نقصده بـ«الخطاب»؟ هل نقصد المستوى اللغويّ أم المضامين؛ خصوصاً وأنَّ هناك اختلافات وتباينات كثيرة في تعريف مفهوم الخطاب؟ في حال كان المقصود هو اللغة فقط، فمعنى ذلك أنَّنا نريد أنْ نتحرّك ضمن دائرة تزييف الوعي؛ أي أنَّنا لا ننوي أنْ نفعل شيئاً سوى البحث عن صيغ لغويَّة جديدة نعتقد أنَّها يمكن أنْ تكون مقنعة (نوع من البلاغة) لندافع بها عن الواقع القائم، مع بقائه على حاله.

إذاً، فنحن، قبل كلِّ شيء، يجب أنْ نحدّد ما هي الغاية من هذا الخطاب الجديد الذي نسعى إلى إيجاده، وما هي الأسباب التي تدفعنا إلى العمل مِنْ أجل تغيير الخطاب الحاليّ؟

ثالثاً، ما المقصود بـ«التجديد»؟ وهل مفهوم التجديد، بذاته، يمكن أنْ يضمر قيمةً ما، سلبيّةً كانت أم إيجابيّة؟ التجديد، إذا نظرنا إليه مجرّداً مِنْ خلفيَّته الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة والفكريَّة، إنَّما هو مفهوم غامض، بل لا معنى له أكثر مِنْ كونه ترتيب زمنيّ للحدث المعنيّ، ويمكن أنْ نجد أنفسنا، في مثل هذه الحالة، إزاء نوعٍ من المفارقات الطريفة؛ نذكِّر، هنا، – على سبيل المثال – بأنَّ «الليبراليَّة المتوحِّشة»، التي تنتمي أفكارها الرئيسة إلى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، أعادتْ تقديم نفسها، مجدّداً، في أواخر القرن العشرين، بوساطة مزاعم زائفة تقول إنَّها «فكرٌ جديد»!

وثمَّة سؤال آخر، هنا، ألا وهو: ما هو الخطاب الجديد الذي نريده، وما هي المعايير والأسس التي نستند إليها في بنائه؟ وكيف نضمن أنْ يكون هذا الخطاب أصيلاً؛ أي ابن واقعه؟

ثمَّ هل يكفي تجديد الخطاب وحده لكي يحدث التغيير المنشود؟ وأكثر مِنْ ذلك، ما التغيير الذي نريده، ولصالح مَنْ؟ ثمَّ هل يوجد خطاب ثقافيّ واحد.. بحيث نفكِّر في تغييره أو الإبقاء عليه كما هو أو الانتقاء منه أو الارتقاء به؟ أم أنَّ لدينا خطابات متعدّدة ومختلفة؟ وفي هذه الحالة، أيّها هو الذي نريد أنْ نغيّره، وأيّها الذي نريد أنْ نحتفظ به؟ وبمعنى آخر، هل نحن بصدد طرح مشروع جديد للتغيير أو النهوض؟ أو هل يوجد بيننا مَنْ يزعم أنَّه سيضطلع بهذه المهمّة؟

ما دمنا والحال هذه، فإنَّه من الواضح أنَّ نقاشنا سيدور في إطار المدارس والمناهج (أو المشاريع) (أو التشكيلات الخطابيَّة) المعروفة حتَّى الآن والتي كان (ولا يزال) لها ممثّلوها في منطقتنا: المشروع الليبراليّ الرأسماليّ، المشروع الإسلاميّ الذي يقوم على توظيف الدين لأغراض سياسيَّة، والمشروع الاشتراكيّ بألوانه ومستوياته المختلفة، والذي يتَّخذ في هذه المرحلة طابع مشروعٍ للتحرّر الوطنيّ.

ولذلك، فإنَّ أوَّل شيء يجب أنْ نفعله، ونحن نخوض في البحث عن خطاب جديد، هو التسليم بأنَّ هناك أكثر مِنْ خطاب ثقافيّ لدينا، وأنَّ هذه التشكيلات الخطابيَّة المختلفة يجب أنْ تتفاعل مع بعضها البعض وتتحاور وتتصارح وتتبادل النقد بصدقيّة ووضوح، كي تجد المشتركات بينها، وتبني عليها. ولكن، المشتركات بين مَنْ ومَنْ؟ وما هي الخطوط الأساسيَّة التي يمكن أنْ تكون مشتركة؟ ولماذا؟ هذا ما سنأتي إليه لاحقاً.

والآن، أعتقد أنَّنا لكي نغادر منطقة التعميم والإبهام، هذه، ونعرف ما نريده وما لا نريده، ونتلمَّس ما هو مطروح موضوعيّاً على جدول أعمال التاريخ في هذه المرحلة التي نعيشها، يجب علينا أنْ نعرف طبيعة اللحظة التاريخيَّة الراهنة التي نعيش في ظلّها، ونتلمَّس إفرازاتها الثقافيَّة، ومعطياتها السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة. خصوصاً وأنَّ بلادنا العربيَّة تكتوي الآن بجمر صراع محتدم، لا نعرف متى ستكون نهايته، ولا نستطيع أنْ نجزم بما ستكون عليه نتائجه. ولذلك، أيضاً، فإنَّنا يجب أنْ نحدّد ما هي طبيعة هذا الصراع وعلى ماذا يدور.

طبيعة اللحظة التاريخيَّة الراهنة

حتَّى وقتٍ قريب، عندما كانت الرؤية واضحة وخطوط الصراع مرسومة بدقَّة، كان هنالك اتِّفاق على أنَّنا نعيش في مرحلة التحرّر الوطنيّ، وأنَّ قضيَّة التحرّر الوطنيّ هي العنوان الرئيس لأيّ برنامج وطنيّ أو قوميّ؛ فهل أنجزنا مهامّ هذه المرحلة وانتقلنا إلى سواها أم أنَّنا لا نزال نراوح في مكاننا؟

الواقع أنَّ الشعوب العربيَّة، منذ عهد محمَّد علي الكبير وحتَّى الآن، وهي تحاول، بطرق مختلفة ومستويات متفاوتة (ومتنوِّعة) من الصراع، إنجاز هذه المهمّة الأساسيَّة المطروحة على جدول أعمال تاريخها. وهي مهمّة ليست أساسيَّة فقط؛ بل هي، أيضاً، البوَّابة الوحيدة التي يمكن للأمّة أنْ تعبر مِنْ خلالها إلى ساحة التاريخ، لتصنع أحلامها وطموحاتها الأساسيَّة الأخرى: الحريَّة، والديمقراطيَّة، والتقدّم الاجتماعيّ، والوحدة.

وفي هذا السياق، نفسه، يرى كاتب هذه الورقة أنَّ الصراع الدائر في منطقتنا (وعليها)، الآن، هو، في مستواه المحليّ، صراعٌ بين مشروع إنهاء التبعيَّة وقواه وأدواته، وبين مشروع تجديدها (وإطالة أمدها) وقواه وأدواته؛ أمَّا في مستواه الدوليّ، فهو صراع بين نظام القطبيَّة الأميركيَّة الأحاديَّة، الذي يتهاوى.. لكنَّه يدافع عن نفسه بشراسة، وبين النظام الدوليّ الجديد الذي يتقدَّم بثبات نحو القطبيَّة المتعدِّدة.

ولقد تراجع مفهوم التحرّر الوطنيّ كثيراً خلال العقود الثلاثة الماضية. حدث هذا في ظلّ هجمة الأمركة التي راحت، آنذاك، تتقنَّع بقناع «العولمة» الزائف، الذي قُصِد به التمويه على محاولة أمركة العالم.

ولمن نسي أو لا يعرف، نُعيد التذكير بأنَّ خطاب الأمركة ركَّز، في بداياته، على عدّة مفاهيم أساسيَّة، كان في مقدِّمتها التأكيد على انتهاء عصر الدولة الوطنيَّة والاستقلال الوطنيّ، وأنَّ العالم أصبح موحّداً ومتداخلاً ويتأثّر بعضه ببعض. وهذه كلمة حقّ أُريدَ بها باطل؛ فالعالم يمثِّل، فعلاً، في ظلّ النظام الرأسماليّ الدوليّ، العولميّ بطبيعته، كلّاً واحداً؛ إلى حدّ أنَّه لا يمكن دراسة أيّ جزءٍ منه وفهم خصائصه وظروفه، بشكلٍ صحيح، إلا بوضعه في إطاره الإقليميّ والدوليّ. لكنّ هذا العالم الواحد، مِنْ ناحية أخرى، ليس كتلةً صمَّاء مصمتة ومتجانسة؛ بل يشتمل على أحوال ومصالح كثيرة ومتباينة، تندرج، في النهاية، في إطار قسمين كبيرين متضادين.. وعلى الرغم مِنْ ذلك، فإنَّ وجود كلٍّ منهما شرط ضروريّ لوجود الآخر. هما مراكز النظام الرأسماليّ الدوليّ وأطرافه.

وبالتالي، فالحديث عن انتهاء صيغة الدولة الوطنيَّة وانهيار حدودها، لم يكن يعني أنَّ بديلها هو صيغة جديدة لنوعٍ من الأمميَّة ذات الطابع الإنسانيّ التضامنيّ؛ بل، فقط، خضوع الأطراف الكامل وغير المشروط لمصالح المراكز. وذلك عن طريق زيادة المراكز مركزةً، وتحصينها، في مقابل تفتيت الأطراف، وتحويلها إلى حالات هلاميَّة هشَّة؛ بحيث تصبح إمكانيَّة اختراقها، من المراكز، بلا أيّ حدود أو ضوابط. لقد كان هذا هجوماً شاملاً على خطاب التحرّر الوطنيّ ومشروعه، مستفيداً بانهيار الاتِّحاد السوفييتيّ، وبأحاديَّة القطبيَّة الأميركيَّة.

وفي ظلّ غياب (أو تغييب) مفهوم التحرّر الوطنيّ، انتقل العالم إلى طور جديد من الأزمات والمشاكل الخطيرة، وأصبح يعاني من الكثير مِنْ أنماط العنف والحروب، والفقر، والمجاعات، والكوارث البيئيَّة التي سبَّبها استغلال المراكز الرأسماليَّة الجشع لبيئة وموارد البلدان الفقيرة التابعة والمهمَّشة. وبالمقابل، ثبت أنَّه لا يمكن تحقيق التنمية، والديمقراطيَّة، والنهوض، لأيّ بلد من البلدان، مِنْ دون أنْ يتوفَّر له شرط التحرّر الوطنيّ.

وفي منطقتنا العربيَّة، أدَّى غياب مفهوم التحرّر الوطنيّ إلى ضياع البوصلة السليمة في النظر إلى الصراعات والأحداث؛ وأصبح الكثيرون ينظرون إلى وقائع الصراع الاجتماعيّ والسياسيّ الدائر في كلّ بلد عربيّ على حدة، وكلّ حدث بذاته، وبمعزل عن أبعاده الإقليميَّة والدوليَّة. كما أدَّى هذا، أيضاً، إلى بروز مفاهيم وتصوَّرات خاطئة، انبنت عليها اصطفافات غريبة لا يمكن تفسيرها وفق أسس منطقيَّة سليمة؛ ومِنْ تلك المفاهيم والتصوّرات، على سبيل المثال، الحديث الشائع، هذه الأيَّام، عن إمكانيَّة تحقيق الديمقراطيَّة مِنْ دون انهاء نظام التبعيَّة وتقويض أسسه، ومِنْ دون أخذ مصالح الفئات الشعبيَّة بعين الاعتبار! ويقفز أصحاب مثل هذا الحديث عن حقيقة أنَّه لا يمكن للديمقراطيَّة أنْ تتحقَّق في بلد من البلدان إذا ظلَّت الثروة والنفوذ فيه بيد الطغمة الكومبرادوريَّة الطُّفيليَّة، المرتبطة بدورها بالمصالح الانانيَّة الجشعة للشركات متعدِّدة (ومتعدِّية) الجنسيَّة؟

ولذلك، فإنَّ الحديث الليبراليّ عن الحريَّة والديمقراطيَّة مِنْ دون بعدهما الاجتماعيّ ومِنْ دون شرط التحرّر الوطنيّ، لا يضمر أكثر مِنْ محاولة بائسة لاستعادة نمط الأنظمة الليبراليَّة التابعة مِنْ شاكلة تلك التي كانت قائمة في العالم العربيّ في أربعينيَّات القرن الماضي وحتَّى أوائل خمسينيَّاته، والتي انهارتْ تباعاً تحت وطأة توق الشعوب العربيَّة للتخلّص من التبعيَّة، وتحقيق التنمية الوطنيَّة المستقلّة، والتوزيع العادل للثروة ومكاسب التنمية، وإنجاز الديمقراطيَّة القائمة على هذه الشروط.

فهل يظنَّن عاقلٌ أنَّ محاولة استعادة نمط الأنظمة الليبراليَّة التابعة، تلك، في البلاد العربيَّة، مرَّةً أخرى، ستقود إلى نتيجة أفضل مِنْ تلك التي قادت إليها في أربعينيَّات القرن الماضي وخمسينيَّاته؟

لذلك، نظر الغرب عموماً، ونظرت الولايات المتَّحدة خصوصاً، بعدائيَّة شديدة، إلى الخيارات الديمقراطيَّة لدول أميركا اللاتينيَّة وشعوبها؛ بينما نظرا إلى الخيارات التي طُرِحَتْ، في بعض البلدان العربيَّة، تحت مسمَّى الحريَّة والديمقراطيَّة، بتعاطف واضح، ودعماها بلا تحفّظ. ففي الحالة الأولى، ثمَّة ديمقراطيَّة حقيقيَّة، تقوم على الدمج بين تحرّر الأوطان وبين تحرّر شعوبها؛ بل تجعل كلاً منهما شرطاً للآخر، وهي لا تكتفي بالكلام في هذا المجال؛ بل تضع برنامجاً دقيقاً ومدروساً وتشرع بتنفيذه بلا تردّد؛ ما يعني خسارة فادحة للمصالح الإمبرياليَّة الدوليَّة. أمَّا في الحالة الثانية، فلا برامجَ مِنْ هذا القبيل ولا خِططَ ولا مشاريعَ، ولا تغييرَ حقيقيّاً إلا في أسماء الحكّام وأسماء أحزابهم؛ في حين تبقى السلطة في يد الطبقة الحاكمة نفسها؛ وبالتالي، تبقى السياسات السابقة هي نفسها، ويبقى البلد مكبّلاً بقيود التبعيَّة وشروطها.

مجموعتان خطابيّتان

بناء على الاستعراض السابق للمرحلة التاريخيَّة الحاليَّة التي نعيش في ظلّها، سأقوم – تالياً - بتصنيف مجمل تشكيلات الخطاب الموجودة لدينا إلى مجموعتين خطابيَّتين متضادَّتين، وذلك استناداً إلى الكيفيّة التي تتفاعل بها برامجهما مع الواقع القائم:

المجموعة الخطابيَّة الأولى تعبِّر عن سياسات وبرامج هدفها ابقاء الواقع القائم على حاله وتبريره؛ أعني واقع التبعيّة، وفشل التنمية المتمحورة على الحاجات الوطنيَّة، واستشراء الفساد والاستغلال والقهر والتفاوت الطبقيّ. وتضمّ هذه المجموعة: الخطاب الليبراليّ بألوانه المختلفة، والخطاب الإسلاميّ القائم على توظيف الدين لأغراض سياسيَّة، بألوانه المختلفة أيضاً. وسأبين لاحقاً لماذا جمعتُ بين تشكيلتيْ الخطاب هاتين اللتين تبدوان ظاهريّاً متناقضتين؛

المجموعة الخطابيَّة الثانية تسعى إلى طرح سياسات وبرامج هدفها تغيير هذا الواقع القائم، وبناء واقع جديد فعلاً بدلاً منه. وتضمّ هذه المجموعة خطاب التحرّر الوطنيّ بتشكيلاته المختلفة.

وسأفصّل رأيي، تالياً، في هاتين المجموعتين:

أوّلاً، مجموعة خطاب الواقع القائم:

1. الخطاب الليبراليّ

وُلِدَتْ الليبراليَّة – كما هو معروف – في أوروبَّا عصر النهضة، قبل قرون، كتيَّار ثوريّ تقدّميّ، يطرح شعارات الحريَّة والديمقراطيَّة والمساواة والتنوير والعلمانيَّة، في مواجهة الاقطاع وقيمه الأرستقراطيَّة المتخلِّفة. لكن ما إن اندحر الاقطاع، وأصبحت البرجوازيَّة في السلطة واستحوذتْ على الثروة ووسائل الإنتاج، حتَّى تبيَّن أنَّ الحريَّة التي ينشدها الليبراليون هي حريَّة الرأسماليين، فقط، في استغلال العمّال والفلّاحين، وحريَّة السوق التي هي أشبه ما تكون بشريعة الغاب؛ أمّا الديمقراطيَّة، فهي بالنسبة لهم، النظام السياسيّ الذي يرعى المنافسة بين مصالح الرأسمال الكبير ويحشد قواه للدفاع عن مصالحه.. وليست حكم الشعب، كما يتمّ الزعم.

ولذلك، فقد كان التمتّع بحقّ الاقتراع، في العديد من البلدان الأوروبيَّة المتقدِّمة، مقصوراً، على الأثرياء فقط، حتَّى أوائل القرن الماضي؛ كما كانت المرأة محرومة منه في مختلف أنحاء أوروبّا والغرب؛ والأمر نفسه كان ينطبق على الأقليَّات العرقيَّة في بعض تلك البلدان (الزنوج، في الولايات المتَّحدة، على سبيل المثال).

وفقط، تحت تأثير الأفكار الاشتراكيَّة، التي انتشرتْ في أوروبّا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كردّ جذريّ على الاستغلال الرأسماليّ البشع، وخصوصاً بعد انتصار ثورة تشرين أوَّل (أكتوبر) الاشتراكيَّة السوفييتيَّة التي بادرت بإعطاء المرأة حقوقاً غير مسبوقة، وأشركتها في أوَّل حكوماتها مِنْ خلال ألكسندرا كولنتاي التي أصبحتْ أوَّل وزيرة في التاريخ عام 1917 – اُضطُرَّت الدول الأوروبيَّة (والغربيَّة، عموماً) لجعل حقّ الاقتراع حقّاً عامّاً غير مشروط بامتلاك الثروة، كما أنَّها منحته للمرأة أيضاً؛ تمَّ ذلك في الولايات المتَّحدة، على سبيل المثال، عام 1918؛ وفي فرنسا عام 1945؛ وفي سويسرا عام 1971. وبعد ذلك، انتشر هذا الحقّ في مختلف أنحاء العالم.

وهذه العدوى «السوفييتيَّة» تكرَّرتْ، لاحقاً، في مختلف المجالات، بما فيها المجال الاقتصاديّ؛ حيث جاءت السياسة الاقتصاديَّة «الكنزيَّة»، في أميركا، والديمقراطيَّة الاشتراكيَّة، في أوروبّا، كردّ على تحدّي المنافسة السياسيَّة والأيديولوجيَّة مع الاتِّحاد السوفييتيّ.

وما إن انهار الاتِّحاد السوفييتيّ في مطلع تسعينيَّات القرن الماضي، حتَّى راحت المراكز الرأسماليَّة الدوليَّة تستعيد ما قدَّمته مِنْ تنازلاتٍ تحت ضغط المنافسة معه، وعادت إلى صيغتها السابقة الأكثر تعبيراً عن جوهرها الحقيقيّ (الليبراليَّة المتوحِّشة)، كما أنَّها عادت إلى اتِّباع سياسات «البوارج الحربيَّة»، والإملاءات المتغطرسة، والحروب العدوانيَّة، والاستعمار المباشر، والنهب والاستغلال، بلا حدود أو ضوابط؛ وهو ما قاد إلى الأزمة الاقتصاديَّة الطاحنة والمتفاقمة، التي تشهدها الآن، والتي لا سبيل إلى حلِّها.

وقد شهدنا، ابتداء مِنْ تسعينيَّات القرن الماضي، كيف تمَّ، على صعيد العالم كلّه، تعميم وصفة من القوانين والتنظيمات التي تحدّ من دور النقابات العمَّاليَّة والحقوق والمكتسبات والحريَّات العمَّاليَّة (والشعبيَّة)، وكيف كان – بالمقابل - يتمّ تثبيت حقوقٍ جديدة وإضافيَّة لصالح الشركات المتعدّية للجنسيّات. وهكذا، تبيّن أنَّ الحقوق والمكتسبات التي حصلت عليها الفئات الشعبيَّة والعمَّاليَّة سابقاً، لم تكن سوى تنازلات مؤقَّتة قُدِّمت في سياق الحرب الباردة.

على أيَّة حال، نحن نشهد الآن وقائع فشل مشروع الليبراليَّة الجديدة، بعدما خرَّب ودمَّر على نطاق واسع في الكرة الأرضيَّة كلِّها، وولَّد من الحروب والصراعات الدمويَّة ما لم يشهده عصر مِنْ قبل، وأفقر وجوَّع جموعاً هائلة من البشر؛ وفي مقدِّمة ضحاياه، الوعي والفكر؛ بل، أيضاً، الفنّ والأدب، وكذلك، السياسة، نظريَّةً وممارسة.

الخلط بين الديمقراطيَّة وبين الليبراليَّة

جرى (ويجري) الخلط دائماً، بخبثٍ شديد، بين مفهوم الديمقراطيَّة وبين مفهوم الليبراليَّة؛ مع أنَّه شتَّان بينهما، بل هما نقيضان؛ إذ أنَّ الليبراليَّة، في جوهرها، هي المبادئ التي تؤسِّس لهيمنة رأس المال الكبير، منفرداً، على السلطة، وحصر تداولها في شرائحه العليا، وإطلاق يده لاستغلال الطبقات الشعبيَّة الفقيرة والمتوسِّطة؛ في حين تقوم الديمقراطيَّة على خلق ظروف اجتماعيَّة اقتصاديَّة ملائمة لجعل الأغلبيَّة الشعبيَّة تحكم نفسها بنفسها، فعلاً، ولتكون الدولة معبِّراً حقيقيّاً عن حقوقها ومصالحها.

ولذلك، فقد رأينا هذا الغرب، نفسه، الذي يتغنَّى كذباً باسم الحريَّة والديمقراطيَّة، يُنصِّب حكوماتٍ عسكريَّة فاشيَّة في دول أميركا اللاتينيَّة طوال عقود. ورأيناه، بالمقابل، في خمسينيَّات القرن الماضي، يتآمر على حكومة محمَّد مصدِّق الديمقراطيَّة المنتخبة في إيران، فيطيح بها، ويأتي بالشاه الفاسد والمستبد محمَّد رضا بهلويّ، ليحكم بالسافاك الرهيب طوال عقود بدلاً منها؛ كما رأيناه، يطيح، في الفترة نفسها، بحكومة سليمان النابلسيّ (الحكومة الوحيدة المنتخبة انتخاباً ديمقراطيّاً نزيهاً في تاريخ الأردن)، ويدعم نظام الأحكام العرفيَّة القمعيّ بدلاً منها طوال عقود أيضاً.

وفي أوائل سبعينيَّات القرن الماضي، رأيناه يطيح بالرئيس التشيليّ المنتخب سلفادور ألّندي، بانقلاب عسكريّ فاشي دمويّ، راح ضحيَّته ألوف المواطنين التشيليين المسالمين، وتمَّ وضع شعب التشيليّ لسنين طويلة بعدها تحت حكم سلطة عسكريَّة إرهابيَّة.

تبع ذلك عام 1976 انقلاب عسكريّ دمويّ آخر في الأرجنتين، مدعوم مِنْ وكالة المخابرات المركزيَّة الأميركيَّة.

ولا ننسى أيضاً عمليَّة كوندور الإجراميَّة الشهيرة التي نسَّقتها المخابرات المركزيَّة الأميركيَّة مع الأنظمة العسكريَّة في «جمهوريَّات الموز» السابقة، في سبعينيَّات القرن الماضي وثمانينيَّاته، وقد راح ضحيَّتها عشرات الألوف من المواطنين اللاتينيين المطالبين بالحريَّة، بل إنَّ الكثير مِنْ ضحاياها لم يُعرف مصيره حتَّى الآن.

ثمَّ هناك، في ثمانينيَّات القرن الماضي، عصابات الكونترا في نيكارغوا، و«فِرَق الموت» في السلفادور وهندوراس التي هندسها (وأدارها) رجل المخابرات الأميركيَّة الشهير جون نيغروبونتي، وقد عُرِفَ هذا الأسلوب الإجراميّ الوحشيّ بـ«سيناريو السلفادور».

وهكذا، فالديمقراطيَّة ليست كلمة محايدة – كما يحاول الغرب وأنصاره أنْ يوحوا – بل هي تتحدَّد بمضامينها الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة؛ وبالتالي، بمَنْ هو المستفيد بها ومَنْ هو الخاسر أو الذي يدفع الثمن.

الديمقراطيَّة مِنْ دون محتواها الاجتماعي الاقتصاديّ المنحاز لمصالح الطبقات الشعبيَّة الواسعة وطموحاتها، تتحوّل إلى نمط من الديكتاتوريَّة المقنَّعة للطغم الماليَّة الجشعة وللشركات الكبرى العابرة للجنسيَّة. إنَّها بالأحرى، الصيغة التي يَقنَع بوساطتها الحمل بأنَّ دوره في الحياة هو أنْ يكون لقمة سائغة للذئب.

الطبقات الحاكمة في الغرب تعرف هذا، وتتعامل على هذا الأساس؛ فتضع مصالحها الخاصَّة كمعيار عامّ زائف للحريَّة والديمقراطيَّة بشكلٍ عامّ وفي كلِّ مكان؛ وبناء على ذلك، مثلاً، تؤيِّد نتائج الاقتراع بحماس في بلد وترفضها بشدّة في بلد آخر.. بغضّ النظر عن مدى انسجام إجراءات الانتخاب مع المعايير الديمقراطيَّة التي يزعم الغرب أنَّه يلتزم بها.

ما تبقَّى مِنْ مشروع الليبراليين العرب النهضويّ

كان الليبراليّون العرب، في بداية القرن الماضي، تقدّميين تنويريين؛ ينادون بالعلمانيَّة والتنوير والحريّات العامّة والشخصيَّة، ويحثّون على استخدام الأساليب العلميَّة لفهم الظواهر الطبيعيَّة والاجتماعيَّة والإنسانيَّة بشكلٍ صحيح.. الخ. فقد كانوا، آنذاك، يمثِّلون ردّاً طبيعيّاً للبرجوازيَّة العربيَّة الجنينيَّة على قيود الاستبداد والتخلّف العثمانيّ. لكنَّ تلك الحالات الجنينيَّة لنشوء بورجوازيَّة وطنيَّة عربيَّة أُجهِضَتْ سريعاً بسبب تفاقم الخاصيَّة الاستقطابيَّة للنظام الرأسماليّ الدوليّ ما بين مراكز ثريَّة متحكِّمة وبين أطرافٍ وهوامش فقيرة مستَغَلَّة ومتخلِّفة. كما أنَّ موقع بلادنا العربيَّة الجغرافيّ الحسَّاس دوليّاً، وقربها مِن المراكز الرأسماليَّة الأوروبيَّة المهيمنة، لعبا آنذاك دوراً مهمّاً في إجهاض مشروع النهضة العربيَّة البورجوازيّ، وترتَّب على ذلك أنَّه أصبح من المستحيل تحقيق مشروع النهوض بالاستناد إلى الخيار البورجوازيّ الليبراليّ؛ بل بتجاوزه وبالتصادم الاضطراريّ مع المراكز الرأسماليَّة الدوليَّة وتوابعها في المنطقة. وهذا ما حدث مع عبد الناصر، في النصف الثاني من القرن العشرين، عندما اختار طريق التحرّر الوطنيّ وتبنَّى نوعاً من الخطاب الاشتراكيّ. والأمر نفسه ينطبق على التجارب العربيَّة الأخرى المماثلة في سورية والعراق والجزائر.

وعندما تمكَّن الاستعمار الأوروبّيّ من احتواء العالم العربيّ في إطار هوامش النظام الرأسماليّ الدوليّ، وكرَّس وجوده كدولٍ مجزأة وتابعة، وصل مشروع نشوء بورجوازيَّة وطنيَّة عربيَّة إلى طريقٍ مسدود، وهيمنتْ، بدلاً منها، البورجوازيَّة الطفيليَّة (الكمبرادوريَّة، خصوصاً).

وبالاستناد إلى هذا التحوّل الطبقيّ والسياسيّ العميق، أصبحت قيم العلمانيَّة والتنوير والحرّيَّة والنهضة الوطنيَّة (والقوميَّة) مجرَّد كلمات في الهواء بالنسبة لليبراليَّة العربيَّة، وأصبح دورها الحقيقيّ ينحصر في التناغم مع مقتضيات مصالح (وأطماع) المراكز الرأسماليَّة الدوليَّة. ولذلك، ينظر الليبراليّون العرب إلى كلّ خطاب يتحدَّث عن استقلال الدول وسيادتها والتحرّر الوطنيّ والاعتماد على الذات والتنمية المتحورة على المصالح الوطنيَّة، وإلى الحديث عن مصالح الفئات الشعبيَّة وحقوقها، على أنَّه خطاب «خشبيّ» عفا عليه الزمن!

وفي السياق نفسه، رأينا الليبراليين العرب، قبل عقود، يصطفّون مع الغرب الإمبرياليّ وإسرائيل و«الإخوان المسلمين» ضدَّ عبد الناصر ومشروعه النهضويّ؛ ثمَّ رأيناهم، بعد ذلك، يحتشدون، بحماس لافت، إلى جانب «مجاهدي الحريَّة» (كما وصفهم الرئيس الأميركيّ اليمينيّ المتطرِّف رونالد ريغان)، في أفغانستان، للإطاحة بدولتها التي كانت تمثِّل مشروعاً تحرّريّاً وطنيّاً وعلمانيّاً مستنيراً، بحجّة المطالبة بالحريَّة، وحين انتصرتْ «ثورتهم»، تلك، كان مِنْ ثمارها منع الفتيات من الذهاب إلى المدارس والجامعات، وإخضاع الناس لسلطة ثيوقراطيَّة متجبِّرة، وتحويل أفغانستان منذ ذاك إلى دولة فاشلة. فهل تتحمَّل الحركات التكفيريَّة وحدها مسؤوليَّة الكارثة التي حلَّتْ بأفغانستان منذ ذلك الوقت وحتَّى الآن؟ كلا، الليبراليّون شركاء لها في تلك المسؤوليَّة؛ إنْ لم تكن مسؤوليَّتهم أكبر.. بحكم شعاراتهم الزائفة عن الحريَّة والديمقراطيَّة.

والأمر، نفسه، فعلوه، بعد ذلك، هم والحركات التكفيريَّة، في يوغسلافيا؛ حيث ساندوا حلف الأطلسيّ على ضربها وتقسيمها وانهاء وجودها كدولة أوروبيَّة كبيرة مستقلّة عن الغرب.

والآن، ها هم يقومون بالدور المشترك نفسه ضدّ سوريَّة.

وهذا، طبعاً، عدا عن ما هو معروف مِنْ أنَّ السياسات الاقتصاديَّة الليبراليَّة هي التي تخلق الأجواء المواتية لإنبات الفكر التكفيريّ وتوالد التكفيريين.

2. الخطاب الدينيّ:

الخطاب الذي يقدّمه الإسلاميّون في الاقتصاد والسياسة هو نفسه تقريباً خطاب الليبراليين؛ فهم، مثلهم، يتبنّون الرأسماليَّة بأكثر أنماطها توحّشاً وفظاظة؛ لكن مع تسميتها نظاماً اقتصاديّاً إسلاميّاً وإعطائها طابعاً قدسيّاً زائفاً، كما أنَّهم يصطفّون غالباً – بقصدٍ وإدراك، أو موضوعيّاً.. على الأقلّ – إلى جانب الإمبرياليَّة الأميركيَّة وحلف الأطلسيّ. لقد فعلوا ذلك في العديد من المحطَّات الأساسيَّة طوال ما يقارب ثلثي قرن. وإذا كان الليبراليون يمثِّلون احتياطيّاً ثقافيّاً وإعلاميّاً وسياسيّاً غبّ الطلب للإمبرياليَّة؛ فإنَّ الإسلاميين التكفيريين قد أثبتوا، مراراً وتكراراً، أنَّهم احتياطيّ الإمبرياليّة الأكبر.. ليس ثقافيّاً وإعلاميّاً وسياسيّاً حسب، وإنَّما عسكريّاً أيضاً، وقد خاضوا معاركها الأساسيَّة.. ليس في البلاد العربيَّة وحدها، بل أيضاً في أنحاء مختلفة من العالم.

وأمَّا مشروعهم للتغيير، فيمثِّل النمط الأكثر تشوّهاً للحياة والفكر في هوامش النظام الرأسماليّ الدوليّ. لأنَّه يقوم على تغييب العقل وتدمير الثقافة؛ ما يضمن بقاء الناس وبلدانهم أسرى للحياة في هوامش النظام الرأسماليّ الدوليّ، وزيادة مراكز النظام مركزةً.. إلى ما لا نهاية.

توظيف الدين لخدمة السياسة

مثلما يقدِّم الغرب نفسه باعتباره مالك مفاتيح الحريَّة الحصريّ والمسؤول الأوَّل عن تحديد مواصفاتها ومقاييسها وتوزيع صكوك الغفران (والكفران) المتعلِّقة بها، تُقدِّم كلّ واحدة من الجماعات التكفيريَّة نفسها باعتبارها «الفرقة الناجية»، وباعتبارها المالكة الحصريَّة لوكالة تفسير النصوص الدينيَّة وكلّ تفسير عدا تفسيرها، هو كفر صريح، وكلّ مَنْ يرى غير رأيها هو مرتدّ وآثم. وهذا مع قولهم بأنَّه لا كهنوت في الإسلام. ما يعني في الواقع العمليّ أنَّه ليس مِنْ حقّ أحد أنْ يمتلك سلطة الكهنوت في الإسلام سواهم. إنَّ مَنْ يمنح نفسه حقّ احتكار تفسير النصوص الدينيَّة فإنَّما يضع نفسه بمرتبة النبيّ ويزعم ضمناً أنَّه يتلقَّى الوحي مثله.

ويجب الانتباه، هنا، إلى أنَّ الخلط بين الدين والسياسة، يُستَخدَم، دائماً، لمصلحة الانتهازيَّة السياسيَّة. فكلّما غيَّر الطرف (أو الشخص)، الذي يستخدم مثل هذا الأسلوب غير النزيه، مواقفه، انسجاماً مع مصلحةٍ آنيَّة خاصَّة به.
 

من اعمال الباحث
أضافة تعليق
آخر مقالات