ناصر دمج
يمكن القول بأن هناك ثلاثة روايات لغاية الآن تصف كيفية استشهاد القائد الوطني الكبير "عبد القادر الحسيني" قائد جيش الجهاد المقدس، وجميعها تجمع على أن القائد المذكور لم يقتل خلال الاشتباك الجماعي بين العصابات الصهيونية وكتائب جيش الجهاد المقدس في المعارك التي وقعت بينهما في شهر نيسان 1948م.
بعد أن قرر "دافيد بن جوريون" شن هجوم موحد للعصابات اليهودية على قرى غرب القدس، عرف بعملية (النحشون) بهدف فكّ الحصارِ عن مستعمراتِ القدسِ، وبوشرَ به مطلع نيسان 1948م، انطلاقا من سهل عمواس ومدخل باب الواد، بمشاركة آلاف الجنود من أفرادِ منظمات الهاغاناه والبالماخ والأرغون وشتيرن، المسُلِّحَين بأسلحةٍ حديثةٍ وصلت لليهود من تشيكوسلوفاكيا، الأمر الذي مكّنها من الاستيلاءِ على بلدة "القسطل" وطردِ كلِّ سكانها منها، وكانت القسطل تشكل بداية لخطة يهودية لاحتلال الجزء الأكبر من فلسطين قبل انتهاء الانتداب البريطاني في أيار 1948م.
على الرغم من وجود فوارق كبيرة في سرد الوقائع من قبل الروايات الثلاثة التي تحاول عرض الحقيقة المتخيلة لاستشهاد "عبد القادر الحسيني" إلا إنها تفضي إلى النتيجة ذاتها وهي أن "عبد القادر الحسيني" تم اغتياله على مقربة من قرية القسطل، ولم يسقط خلال الاشتباك الجماعي بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
ومن تلك الروايات ما نطقت به وثيقة بريطانية مكونة من سطر واحد، تم تسريبها من الارشيف البريطاني في شهر أيار 2013م تفيد [بأن عبد القادر الحسيني لم يقتل خلال المعركة بين القوات اليهودية المهاجمة لقرى غرب القدس والفلسطينيين، بل تم قتله عن قرب].
أما الرواية الثانية فهي التي ذكرها المؤرخ الإسرائيلي البروفيسور "أوري ملشتاين" عبر مقال له تم نشره في جريدة معاريف بتاريخ 13 أيار 2016م، وتفيد بأن "عبد القادر الحسيني" تعرض للاغتيال فوق تلة قريبة من بلدة القسطل، بعد إصابته بطلقة في الرأس.
أما الراوية التي يمكن اعتبارها رواية فلسطينية يتيمة، لكنها تتقاطع مع الروايتين البريطانية والإسرائيلية حول أن "عبد القادر الحسيني" اغتيل اغتيالاً، وتختلف معهما في سرد التفاصيل التي أدت إلى وقوع الاغتيال، وهي مبنية على العديد من الشهادات الفلسطينية لشهود عاصروا تلك الفترة من الكفاح الوطني الفلسطيني، ومنها رواية المناضل الفلسطيني "عبد الله البياع- أبو إياس" وهي مبرزة ضمن الفصل الثاني من كتاب (معضلات استراتيجية) للكاتب "ناصر دمج" وهو بعنوان "معضلة الأمن القومي الفلسطيني"، حيث تم سرد الرواية الفلسطينية تحت عنوان جانبي داخل الفصل حمل اسم (الاختراق الأمنيّ كمتلازمةٍ مزمنةٍ في جدار الأمن القومي الفلسطيني) وهي مُعضلةٌ من المُعضلاتِ المبكرةِ في ملازمتها لأداء القيادات الفلسطينية منذ بدايةِ الكفاحِ الوطني ضد المحتل الانجليزي إلى الآن، وساهمتْ في تقديمِ نتائجَ مأساويةٍ لنهايةِ الوطنيين الفلسطينيين، ومنح نهايات المراحل الفلسطينية الكفاحية نتيجة صفرية دائمة.
مع نهاية ثلاثينيات القرن العشرين الذي شهد نشأة جيش الجهاد المقدس الفلسطيني 1938- 1947م ضد المحتل الانجليزي والعصابات اليهودية المسلحة حاول غلوب باشا 1897- 1986م، المعروف بلقب (أبو حنيك) وهو ضابط بريطاني عُرفَ بقيادته للجيش العربي الأردني بين العامين 1939- 1956م، من خلال التفاوض مع قادة الجهاد المقدس في فلسطين نزع سلاحه ومساعدته في التحول إلى حزب سياسي بمساعدة بريطانيا العظمى، حدثَ ذلك بالتوازي مع تمهيدِ الساحةِ في فلسطين لتعاظمِ القوةِ العسكريةِ للتنظيمات اليهودية؛ لضمان غلبتها عندما تحين اللحظة المناسبة لذلك.
إلا أنَّ رفضَ عبد القادر الحسيني ومعه قادة الجهاد المقدس، مثل: كامل عريقات والشيخ حسن سلامة، قائد الجهاد المقدس في يافا، وإبراهيم أبو دية، ورشيد عريقات، وعبد الحليم الجيلاني، وبهجت أبو غربية، وخليل منون، وفوزي القطب، وقاسم الريماوي، وغيرهم للطلب البريطاني دفعَ بريطانيا إلى اعتناقِ فكرةٍ أخرى لحل مشكلة الجهادِ المقدسِ وهي التصفية من خلال الاختراق.
مع حلول الأيام الأولى من عام 1948م هرب جنديان بريطانيان من معسكرِ الجيشِ الإنجليزي في القدسِ بسيارتهما المصفحة عبر رام الله قاصدين بلدة بيرزيت، وكان فيها مقر قيادة الجهاد المقدس في منطقةِ رام الله، وبعد مقابلتهما القائد عبد القادر الحسيني أبلغاه بأنهما قررا الهرب من الجيش الانجليزي، والعمل مع الجهاد المقدس؛ تعاطفاً مع الشعب الفلسطيني بسبب الظلمِ الذي يلاقيه من بريطانيا واليهود، لم تمضِ أيامٌ كثيرةٌ على وجودهما بين مقاتلي الجهاد المقدس حتى حظيا بمهمة مرافقة عبد القادر الحسيني؛ بسبب إعجابِه بخبراتهما العسكرية والاستخبارية، ومعرفتهما بالإنجليز واليهود.
وهنا يمكن ملاحظة ما يمكن اعتباره خيط سميك واصل بين الروايتين الفلسطينية والإسرائيلية حول اعتقاد (الحسيني) بأن الجنديين من البلماخ لربما كانا جنديين بريطانيين فارين، وهو ما اعتقده (الحسيني) بخصوص الجنديين البريطانيين اللذان فرا من معسكر الجيش البريطاني في القدس، واصبحا من مرافقيه المقربين، وهذا يؤشر إلى ظاهرة عرفت في ذلك الوقت من الصراع، قوامها دفع جيش الاحتلال البريطاني ومخابراته بالعديد من الجنود المحترفين للادعاء بفرارهم من جيش الاحتلال البريطاني بسبب تعاطفهم مع الثوار، لجمع أخبارهم وتزويد مشغليهم البريطانيين ولربما العصابات الصهيونية بها.
آنذاك اعتقد كرميول أن الحسيني وزميليه قصاصو أثر من “البلماح”، ارتدى الزي العسكري البريطاني ووضع الخوذة، وقال لهم بالعربية: “اطلعوا يا جماعة”، فيما ظن الحسيني أن كرميول جندي بريطاني هارب فقال له: “هالو بويز”. أما سلمان وغازيت فقد ظنا أول الأمر أن الرفاق الثلاثة من جماعة “تبنكين”، لكن عندما سمع سلمان الأصوات صرخ: “مئير هؤلاء عرب”، فأطلق كرميول الرصاص عليهم. (من مقالة أوري ملشتاين المنشورة في جريدة معاريف)
مع حلول الأيام الأولى من عام 1948م هرب جنديان بريطانيان من معسكرِ الجيشِ الإنجليزي في القدسِ بسيارتهما المصفحة عبر رام الله قاصدين بلدة بيرزيت، وكان فيها مقر قيادة الجهاد المقدس في منطقةِ رام الله، وبعد مقابلتهما القائد عبد القادر الحسيني أبلغاه بأنهما قررا الهرب من الجيش الانجليزي، والعمل مع الجهاد المقدس؛ تعاطفاً مع الشعب الفلسطيني بسبب الظلمِ الذي يلاقيه من بريطانيا واليهود، لم تمضِ أيامٌ كثيرةٌ على وجودهما بين مقاتلي الجهاد المقدس حتى حظيها بمهمة مرافقة عبد القادر الحسيني؛ بسبب إعجابِه بخبراتهما العسكرية والاستخبارية، ومعرفتهما بالأنجليز واليهود. (من شهادة المناضل عبد الله البياع - أبو إياس، حول التحاق الجنديين البريطانيين بصفوف جيش الجهاد المقدس)
ومن الجدير ذكره هنا أنَّ الموقفَ العسكري الميداني حتى بداية آذار 1948م كان يميلُ لصالحِ الفلسطينيين الذين حققوا انتصاراً ساحقاً على اليهودِ في معركتين كبيرتين في منطقة القدس خلال آذار، الأولى: معركة شعفاط، والثانية: معركة الدهيشة، واللتين تسببتا بتشديد الحصار على المستعمرات اليهودية حول القدس، وانقطع اتصالها تماماً مع تل أبيب بعد سيطرة المجاهدين على طرق القدس كافة، مما دفع بنجوريون للإعداد لعملية (النحشون) بعد قوله: "يجب أن تتحوّل حرب الاستقلال من الدفاع إلى الهجوم".
وكان هدف عملية نحشون فكّ الحصارِ عن مستعمراتِ القدسِ، كما ذكرنا في البداية،
وفي يوم 8 نيسان 1948م، أي بعدَ يومٍ واحدٍ من عودةِ عبد القادر الحسيني من دمشق، تحرَّكت مجموعةٌ من جيش الجهاد المقدس المتمركزة في قرية بيرزيت قاصدة منطقة القسطل لمساعدة الثوار الذين بدؤوا قتالهم ضد العصابات اليهودية لطردها منها، وما أنْ دخلت قوات الجهاد المقدس مدينة رام الله من الجهةِ الشمالية من عند (قصر الحمرا) حتى اصطفَّ أفرادها على جانبي الطريق على شكل عرض عسكري، وقدر عددهم ﺑ200 مجاهد أو أكثر من ذلك بقليل، وكان في مقدمتهم عبد القادر الحسيني، فشاهد الناس جنديين غريبين بملامح أوروبية بجوار عبد القادر الحسيني، فأثار هذا المشهد حفيظة بعض المتواجدين، وكان من بينهم (عبد الله البياع- أبو إياس) فاقترب من أحد مرافقي الحسيني فسأله:
ماذا يفعل هؤلاء الإنجليز مع القائد؟
قال له المرافق بتلعثم واضح: هؤلاء ليسوا إنجليز إنهم تشيكيون قرروا العمل مع الجهاد المقدس.
لم يكن الجواب مقنعاً، وبدا المرافق كأنَّه يحاولُ إخفاءَ هويتهما الحقيقية، ومضى المقاتلون في طريقهم إلى القسطل، وشاركوا في القتال ضد العصابات اليهودية.
بعد انتهاء القتال لم يتم العثور على جثة عبد القادر الحسيني بين جثث المقاتلين داخل بلدة القسطل، بل عثر عليها داخل بيت مبني من حجر يقع في سفح وادٍ قريب منها، من دون أن يتم العثور على جثث مرافقيه المريبين، السؤال هنا: أين اختفى المرافقان الإنجليزيان؟ بعد مرور أربعة وستين عاماً على هذه الواقعة أفصحت صحيفة معاريف الإسرائيلية في يوم 30 نيسان 2013م عن شيء ما يشبه الإجابة على السؤال القديم ومفاده الآتي: "إن عبد القادر الحسيني لم يقتل خلال معركة القسطل بل تم اغتياله اغتيالاً"، وانتهى التصريح ذو المصادر الإنجليزية، علماً أن تحليل ما حصل مع عبد القادر الحسيني لم يكن بحاجة لهذا الانتظار لمعرفة حقيقة ما حصل معه للاستدلال على الكيفية التي قتل بها.
وتواصل فعل وتأثير هذه المتلازمة المدمر للأداء الفلسطيني خلال نكبة عام 1948م وبعدها، وذلك بمواصلة الاستخبارات الصهيونية زرع المندسين والمستعربين اليهود في صفوف الأسرى الفلسطينيين الذين تم أسرهم خلال الحرب، وتم اختيار أولئك الجواسيس اليهود بعناية شديدة من حيث المظهر الخارجي ليكون متجانساً مع المظهرِ العربيِّ بشكلٍ عام، ومن حيث إتقان اللغة العربية بلهجات البلدان العربية المتعددة، ومكثَ أولئك الجواسيس أشهراً طويلةٍ داخل المعتقلات، وقد خرجَ قسمٌ غيَر محصورٍ منهم مع الأسرى العرب في عملياتِ تبادلِ الأسرى بين الدّول العربية وإسرائيل وقد تحدَّث عن هذه الجزئية الكاتب (غمليئيل كوهين) وهو أحد أولئك المستعربين في كتابه الذي حمل عنوان (المستعربون الأوائل) حيث يقول: "تدرب موشيه عداقي وإفرايم إفرايم ويعقوب بقاعي على استعمال شبكة الميرس والشبكة اللاسلكية وعلى طرق تخبئة السلاح والتصوير بالكاميرات الصغيرة. لقد حفظوا عن ظهر قلب قصة التغطية التي يظهرون من خلالها: كلاجئون فلسطينيون من يافا فروا من الاحتلال اليهودي. وبحسب الخطة تم تحضير عملية زرعهم وسط آلاف المعتقلين واللاجئين، الذين سيسلّمون للأردنيين في إطار اتفاقيات الهدنة".
"كانت فكرة غرس عميل تحت غطاء لاجئ قد طرحت في آذار 1949م في وثيقة بعنوان (اقتراح لاختراق المناطق العربية) وقد عُرضَتْ الفكرة على أنها طريقة عملية وسهلة نسبياً وأمنة وكثيرة الفوائد، لأنه لم يكن هناك خشية من أن يتم التحقيق مع العميل المزروع في أي جهة مدنية، أو عسكرية، وكذلك من منطلق الافتراض انه سيعترف به رسمياً كعربي كان معتقلاً لدى اليهود". (المصدر- د. مصطفى كبها و وديع عوواده، أسرى بلا حراب، صفحة رقم 37).
وكانَ مسؤولُ هؤلاءِ المستعربين ضابطِ الاستخبارات (يعقوب نمرودي) الذي أجاد اللغة العربية بلهجات متعددة، وعرف التراث العربي معرفة عميقة، وقد ساعدته معرفته الجيدة بالمجتمع الفلسطيني قبل عام 1948م في نسج قصص التغطية لكلّ عميلٍ.
لقد تمَّ تدريبُ هؤلاءِ المستعربين اليهود في الأشهر الأولى من عام 1949م وفي شهر نيسان من العامِ نفسه ادخلوا أول مرة في أوساط المعتقلين العرب، وعن هذا يقول غملئيل كوهين "في يوم الأربعاء 20 نيسان تم إدخال عداقي وإفرايم وبقاعي معصوبي العيون إلى معتقل الرملة الذي تم فيه تجميع المتسلّلين الذين أُلقي القبض عليهم في (الجبهة ج - وهي وسط إسرائيل) لقد ادخلوا تحت وابل من الصراخ والشتائم مع لاجئين وصلوا من يافا واللد والرملة والقدس. ولم يَعرفْ السّجّانون الهويةَ الحقيقيةِ للمستعربين، ولذا، تعرضوا أكثر من مرة للإهانات وضرب شأنهم في ذلك شان (إخوانهم العرب) وكان يتم أخذهم مرة كل أسبوع في ساعات المساء وتحت ستار تحقيق ليلي إلى (غفعات هشلوشا) للقاء شمعون سوميخ وبيرتس غوردون اللذين رغبا في سماع تفصيلات عن عملية تأقلمهم وفي يوم السبت الموافق 23 نيسان نقل الثلاثة مع مجموعة مكونة من 20 عربياً إلى معسكر المعتقلين الكبير في صرفند وهناك امضوا الشهرين الأخيرين قبل خروجهم إلى أداء المهمة، في منطقة المعسكر عملوا في عزق الأرض والتعشيب (لكنهم لم يبعثوا إلى العمل في مجال تنظيف وخدمات مختلفة في معسكرات الجيش خشية من أن يتعرف عليهم الجنود).