شريف محمد جابر
في سياق الصورة الإعلامية المركَّزة الآن حول تعاطف بعض الأوروبيين “الإنسانيين” مع اللاجئين السوريين، واستقبالهم بالدباديب والورود في المطارات، يطرح بعض الملحدين شبهة فيقولون: لماذا يكون هؤلاء من أصحاب الأعمال الإنسانية الصالحة في النار، ويكون المسلم – حتى لو انضم لداعش – في الجنة لمجرّد كونه مسلما؟ أليس الأحرى أن يكون معيار الحكم بناء على الأعمال – خيرا كانت أو شرا – وليس على معتقد الإنسان؟
وهذه من أكثر المغالطات التي يستخدمها الملحدون المعاصرون؛ وهي ادعاؤهم أنّ الأصل هو أن نحكم على أفعال البشر بناء على معيار أخلاقي يقيّم العمل من حيث صلاحه بذاته، ولا ينبغي الحكم على البشر بناء على إيمانهم أو كفرهم بدين معيّن أو بالله.
وفي هذه الشبهة عدّة مغالطات:
أولا: الدباديب ليست منهج حياة الملحد
إنّ تقديم الورود والدباديب للّاجئين ليست المهمة الوحيدة للملحد في الحياة، أي إنّه في الغالب لديه حياة أخرى تستحوذ على سلوكه مع ما فيها من اتباع للهوى وارتكاب للفواحش وربما الكثير من المظالم والأعمال التي تتفق الفطر السليمة على كونها شرّا محضًا، فلماذا نأخذ صورة إعلامية واحدة له وهو يقدّم الدباديب مع ابتسامة للأطفال ونحصره فيها؟ ثم حين نذهب إلى الداعشي نحصره بالإجرام الذي قد يمارسه من خلال وجوده في تنظيمه، رغم أن مساحات حياته الأخرى – في غير القيام بالجرائم – قد تكون مليئة بالخير والعطاء والإحسان!
ثانيا: افتقاد المرجعية القيميّة
على أي أساس يعتبر الملحد – الذي ينفي أي مرجعية للقيم ويعتقد بنسبية الحقائق – أنّ عملا ما هو من “الخير” وعملا آخر هو من “الشرّ”؟ كيف يمكن له أن يقرّر مثلا بأنّ ممارسات عضو داعش هي من الشرّ أو على الأقل “عمل فاسد” دون أن يكون لديه مرجعية – كما لدينا نحن المسلمون – يمكنه من خلالها الحكم بالفساد أو الصلاح؟! إنّ فكرة وجود ملحد يصف الأعمال بالصلاح والفساد أو الخير والشر، هي فكرة مضحكة وسخيفة وغير موضوعية، تحديدا حين يكون الموضوع كقضية اللاجئين التي يختلط فيها السياسي بالاقتصادي بالاجتماعي، وتختلف دوافع الناس في التعاطف معها أو “إظهار التعاطف”، بحيث لا يمكن الحكم بالخير المحض الذي يجب أن يُدخل الإنسانَ الجنة على أي فعل في هذا السياق، فما بالك لو خرج هذا الحكم من ملحد لا يؤمن بإله ولا مرجعية للقيم أساسا!
ثالثا: لا يمكن الفصل بين الأخلاق والإيمان في الإسلام
من مغالطات هذه الشبهة أيضًا الفصل بين “الأخلاق” و”الإيمان”؛ فمن قال إنّ من الأخلاق الحسنة مثلا أن ينفي الإنسان وجود خالقه ومصوّره ورازقه وأن يتنكّر له ولا يطيعه؟ ربما سيقول أحد الملاحدة هنا: وهل هناك اتفاق على وجود هذا الإله أو هل يؤمن الملحد بالإله؟ أقول: وهل يكون هناك اتفاق على معيار تقويم الأعمال ووصفها بالصالحة والفاسدة أو الخير والشر ثم لا يكون هناك اتفاق على حقيقة أبسط وهي وجود خالق لهذا الكون ينبغي الاعتراف بعظمته؟!
رغم أن الأمر هنا غير متعلق بمعتقد الملحد، بل بمنطق المسلم؛ إذ يدعي الملحد أنّ حكم الإسلام على المرء من خلال عقيدته واعتناقه لدين معيّن ليس حكما منصفا، وإنه يجب الحكم على أعمال الشخص وأخلاقه بغض النظر عن دينه ومعتقداته.
أودّ أن أوضّح هنا أن المنطق الإسلامي في هذا الشأن سليم وواضح ومتّسق تمامًا بخلاف هذه النظرة الإلحادية القاصرة للأخلاق؛ فالأخلاق تشمل بل تنطلق من الإيمان بالله، الذي منه بدأ الأمر وإليه يعود، والإيمان بالله ليس مجرّد عقيدة نظرية جامدة لا أثر لها في الواقع، بل من صلب هذا الإيمان الالتزام بشرائعه – والتي تحتوي على جملة أساسية من الأخلاق – وموالاة المؤمنين ومحبّتهم، وعلى قدر صلاح المرء وبعده عن الفسق والفجور يزداد الولاء له وتزداد محبّته، هذا إلى جانب تقديم الشعائر والنسك لله عز وجل.
إنّ مشكلة الملحدين أنهم يتصورون بأنّ العلاقة بين المسلم والله مقصورة على اعتقاد غيبي نظري وشعائر محضة، ومن هذا المدخل يثيرون تلك الشبهة التي تقول: إنه لا علاقة بين الإيمان بالله والأخلاق. غير أن الدين بالمفهوم الإسلامي ليس كذلك، بل إنّ الموقف من دعوة الإسلام ابتداء هو موقف أخلاقي، وليراجع من شاء القرآن الكريم ليرى المنطلقات الأخلاقية في محاججة الكفار الذين رفضوا دين الله وكان كفرهم مقرونا بـ “الفسوق والعصيان” وبـ “الفساد”، بل كان الحديث عن كفر معظم الأقوام مقرونا بممارسات “فاسدة” بعيدة عن الصلاح، وكانت غاية الأنبياء – الداعين إلى عبادة الله وحده – إصلاح أمرهم ما استطاعوا. وتأمّلْ حال نبيّ الله شعيب عليه السلام مع قومه كما جاء في كتاب الله: “قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ” (هود: 87-88). فالصلاة – كشعائر تُقدّم لله عزّ وجلّ – لا تنفصل عن قضايا الفساد المالي عند الناس، وغاية النبي الذي يدعو إلى “الإيمان بالله” هي “الإصلاح”.
ونلفت النظر هنا إلى المساهمة السيّئة لعلم الكلام الذي تطوّر خلال التاريخ الإسلامي في تشويه صورة الإيمان وفصله عن الأخلاق، حيث سار هذا العلم المحدَث في طريق علم اللاهوت المسيحي، وعزل العقيدة الدينية شيئا فشيئا عن الواقع المعاش، وعن أخلاق الناس ومعايشهم، وباتت علاقة بعض الناس “الإيمانية” بربّهم علاقة نظرية وعبارة عن مجموعة من المعتقدات الصعبة والمحدّدة التي يجب اعتناقها، حتى لو لم يكن لها أثر في واقع الحياة. بينما لو نظرنا إلى “الإيمان” كما يعرضه القرآن نجد أنّه إيمان “فعّال” و”واقعي” و”أخلاقي”، بحيث يرتبط ارتباطا وثيقًا بمجريات الواقع، وقضايا الإفساد في الأرض أو إصلاحها وتعميرها، وقضايا الظلم والعدل، وكان الشرك بالله عزّ وجلّ “ظلمًا” في كتاب الله كما قال تعالى على لسان لقمان: “وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ” (لقمان: 13).
وهكذا يتّضح أن النظرة الإلحادية والعلمانية حول مفهوم الإيمان الإسلامي وفصله عن مفهوم الأخلاق هي نظرة قاصرة ومغلوطة، وأنه لا يمكن الحديث – في إطار الإسلام – عن إيمان خالٍ من القيم الأخلاقية، وإلا فهو إيمان لا يعرفه الإسلام ولا يقرّه، ومن شاء المزيد فليتدبّر كتاب الإسلام الأول – القرآن الكريم – ليرى استحالة الفصل بين الإيمان بالله عزّ وجلّ وسائر الغيبيّات وبين القيم الأخلاقية التي يدعو إليها الإسلام.