أحمد صلاح البهنسي
شهدت الأوساط العربية في الداخل الإسرائيلي خلال الأونة الأخيرة حملة شرسة وغير مسبوقة من محاولات "التهويد" لكل ما يتعلق بالهوية والتراث والتاريخ العربي والإسلامي في إسرائيل. فبدءا من محاولات تهويد اللغة من خلال عبرنة الأسماء وحذف المصلطحات، مروروا بعملية تهويد الذاكرة من خلال منع ومحو احتفالات تذكارية تتعلق بإحياء أحداث قومية الفلسطينية للعرب في إسرائيل، وانتهاءا بمحاولات تهويد الهوية الأصلية للمكان.
فعملية التهويد الثقافي التي تمارس بشكل ممنهج من جانب إسرائيل، تنحصر في محاولة تفريغ الشيء المراد تهويده من مضمونه وهويته الأصلية وإضفاء أو فرض مفاهيم ومضامين ترتبط باليهودية وما يتعلق بها على أشكال راقية من الإبداع الإنساني مثل الأدب والفن والآثار والتاريخ واللغة والتراث[1].
إسرائيليا، تم اعتماد أكثر من آلية لتنفيذ هذه المخططات الممنهجة، فتارة عن طريق سن قوانين أو طرح مشاريع قوانين تحرم بشكل قانوني العرب من التمسك بهويتهم الثقافية الأصلية، بما يضفي على هذه العملية نوعا من أنواع الشرعية في الداخل الإسرائيلي، أو عن طريق الإجراءات الرسمية التي تتخذها الوزارات التي يتصل مجال عملها بابعاد ثقافية مثال وزراتي التربية والتعليم والمواصلات، أو من خلال تدشين المشاريع الثقافية والاستيطانية المختلفة الهادفة لنزع الأماكن العربية المختلفة (القدس، عكا) من هويتها الأصلية وفرض الهوية اليهودية عليها.
تهويد الهوية
تركزت المحاولات الإسرائيلية على تهويد هوية المكان، ليس فقط من خلال تغيير اسمه العربي وفرض اسم عبراني عليه، لكن من خلال تشويه ملامحه التاريخية الأصلية وما يرتبط بذلك من فصله عن التراث الحضاري الذي يربطه بالسكان الأصليين للمكان.
كانت آخر المحاولات التهويدية في هذا الصد ما عكسته تلك الأزمة التي شهدتها مدينة عكا مؤخرا التي تعد من أهم وأبرز المدن التراثية العربية في الداخل الإسرائيلي، حيث نشب خلاف شديد بين السكان الأصليين للمدينة من العرب المسلمين والمسيحيين وبين السلطات الإسرائيلية البلدية حول تسمية ميناء المدينة البحري[2].
فالسكان العرب يرغبون في تسميته باسم ميناء القائد "عيسى العوام البحري"، وهو أحد قادة القائد العربي الشهير صلاح الدين الذي تمكن من مقاومة الاحتلال الصليبي للمنطقة خلال القرن الـ12 الميلادي، في حين ترغب السلطات البلدية للمدينة في تسميته باسم ميناء "زئيف بريد" البحري، وهو قائد بحري صهيوني بارز ويعد من مؤسسي الأسطول الإسرائيلي[3].
تأتي هذه الأزمة امتدادا لمجهودات إسرائيلية سابقة لنزع المدينة عن طابعها العربي الأصيل، فقد دشنت الحكومة الإسرائيلية مؤخرا مشروعا يحمل اسم "الماركة" وتديره بلدية المدينة، ويهدف إلى تغيير طابع المدينة وصورتها وتسويقها كمدينة "متوسطية"، مغيّرة الرواية (الانتقائية) التي صاغتها خلال السنوات الماضية وسوقتها للسائحين حتى هذا اليوم كمدينة صليبية، متجاهلة هوية المدينة وتاريخها العربي والفلسطيني والعثماني[4].
فوزارة السياحة الإسرائيلية تعمل على انكار الحقيقة التاريخية بأن عكا القائمة في عصرنا، بمعالمها الأثرية وبيوتها والفن المعماري الخاص فيها، هي المدينة التي أعاد الشيخ "ظاهر العمر الزيداني" بناءها، على خرائب المدينة الصليبية المدّمرة، ومن بعده أحمد باشا الجزار ومن تلاه من الحكام حتى سقوط الإمبراطورية العثمانية وقدوم الانتداب البريطاني[5].
الغريب في هذا الموضوع، أن مجهودات تهويد عكا تأتي عقب أن حصلت على اعتراف من اليونسكو عام 2001 بكونها مدينة تراثية، وذلك بناء على طلب إسرائيلي وليس بناء على طلب من جهة أخرى، وذلك لكونها مدينة ميناء عثمانية لا زالت ثقافة أهلها حية فيها، بالإضافة للآثار الصليبية الهامة فيها؛ إذ كانت عكا عاصمة المملكة الصليبية الثانية[6].
قبل ذلك، تتابعت بشكل متسارع المجهودات الإسرائيلية لتهويد هوية مدينة القدس وفرض الطابع اليهودي عليها، فقبل شهر كشفت منظمة "عير عميم" الحقوقية الإسرائيلية عن خطة سرية لحكومة نتانياهو تهدف إلى محاصرة البلدة القديمة وتحويلها إلى "مملكة توراتية" بالتعاون مع جمعيات استطيانية، حيث من المتوقع انشاء تسع حدائق وطنية تاريخية تمجد التاريخ اليهودي ما يؤدي إلى تغيير حاد في طابع المدينة الحالي[7].
تنسجم هذه الخطة مع خطة أخرى كانت أقرتها الحكومة الإسرائيلية عام 2007 وتحمل رقم 11555، وترمي إلى محاصرة الحوض التاريخي للقدس القديمة وفرض الهيمنة الإسرائيلية اليهودية عليها، وسط عمليات تغيير هوية المنطقة وإقصاء السكان الفلسطينيين منها[8].
كل هذه المحاولات لتهويد الهوية تنبع من منطلقات صهيونية واحدة تحمل خلفيات أيدلوجية تختلط فيها المفاهيم الدينية والقومية، فالمحتوى الفكري للمشروع الصهيوني في فلسطين قام منذ البداية على إدعاء "يهودية البلاد وعودة اليهود إلى وطنهم". وجرى بناء جيش جرَّار من المقولات الغيبية، بهدف ترويج هذا الإدعاء في النطاقين اليهودي والعالمي[9].
ونشطت المحاولات الصهيونية الرامية إلى توفير الأغطية النظرية للعمل الصهيوني، بسبب أهمية التعاضد بين عاملي الإيديولوجيا والقوة في تهويد فلسطين، وإقامة الدولة الصهيونية[10].
ومن هنا كانت نسبة فلسطين إلى اليهود، وتهويد أسماء معالمها ومواقعها التاريخية، في القلب من التوجهات الصهيونية الأولى التي سبقت قيام الدولة عام 1948، ما فسر تشدين ما سمي بـ" صندوق استكشاف فلسطين" الذي قام بعملية مسح للبلاد بين 1871_ 1877، وجمع أسماء المواقع القديمة والخرائب والقرى، وأعدّ قوائم للأسماء تحوي أكثر من 10 آلاف اسم نقلت بحروف إنجليزية. بعد ذلك طبع الصندوق خارطة لفلسطين الغربية على أربعة أشكال، الأولى: عليها الأسماء العربية الحديثة، الثانية، عليها أسماء العهد القديم، الثالثة، عليها أسماء العهد الجديد، الرابعة: عليها أسماء مصادر المياه وتوزيعها[11].
منذ ذلك الحين بدأت التعدّيات على التاريخ الفلسطيني خدمة للمشروع الصهيوني، وذلك عبر فرض تسميات عبرانية يهودية من التوراة على أسماء المعالم والأماكن التاريخية الفلسطينية، أو عبر اقحام روايات تاريخية توارتية يتم إلصاقها بمعالم المكان، فقد كان موضوع فرض الهوية اليهودية من السياسيات الفكرية للصهيونية والتي عبر عنها المفكر اليهودي"موشيه مينوحين في كتابه "انحطاط اليهودية في عصرنا" الذي أشار فيه لضرورة تطهير ما سماه بأرض الآباء من أي هوية أخرى وفرض الهوية العبرانية عليها[12].
كل هذه المحاولات المتعلقة بتشويه الأسماء واغتصابها بشكل يهود الهوية، تهدف إلى تطبيق المقولة الكلاسيكية الصهونية بأن فلسطين هي أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، بما يعطي مبررًا أخلاقيًا وعلميًا لاستيطانها على أرض الواقع، وذلك بعد استيطانها تاريخيا وفكريا من خلال التهويد الثقافي، فقد كان الربط بين اليهود والأسماء التاريخية في فلسطين بمثابة رافعة للعمل الصهيوني الرامي إلى تهويد فلسطين ووحدانية ملكيتها لليهود[13]. ففي أحد الكيبوتسات قال "مناحيم بيجين" إن اليهود لو تحدثوا عن فلسطين بدلاً من ايرتس يسرائيل، فإنهم يفقدون كل حق لهم في الأرض، لأنهم بذلك يعترفون ضمنًا بأن هناك وجودًا فلسطينيًا، وبالتالي إن عبارة ارتس يسرائيل أي أرض إسرائيل تدل على عدم الاعتراف بأي شعب آخر على هذه الأرض"[14].
فقد كان واضحا تنبه الصهاينة منذ وقت مبكر إلى أهمية موضوع أسماء المعالم والأماكن التاريخية الفلسطينية وتوصلوا إلى أن هذا الموضوع يرتبط بهوية الدولة وطبيعتها. لهذا سعوا بعد تأسيس إسرائيل إلى معالجة المسألة كحالة تطبيقية في عملية تهويد البلاد. وتم التشديد على هذا الربط بين الدولة ككيان سياسي منظم وبين ما يسمى "القومية العبرانية التوراتية". فحسب تحديدات "بن جوريونن" من الضروري بلورة طابع عبري وأسلوب عبري للبلاد - يقصد فلسطين - لم يكونا قائمين في السابق، ولم يكن بالإمكان إقامتهما في المنفى[15].
وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أن عملية تهويد اسماء المعالم الفلسطينة، تعكس عقيدة "التشريش" التي هي إحدى سمات الخطاب الإيديولوجي الصهيوني - الإسرائيلي. والتي هي بالنتيجة علامة مميزة لما يسمى "الثقافة السياسية الإسرائيلية"؛ إذ أن آلية التهويد ترتبط بالشكل تام بالسياسات فعلى سبيل المثال حينما تقرر أن يعهد بمدينة يافا إلى بلدية تل أبيب دار نقاش حكومي حاد حول تسمية المدينة فاقترح البعض يافو بصفته الاسم التوراتي والبعض اقترح تل أبيب بصفته الاسم الصهيوني، وصارت في النهاية تل أبيب[16].
وبشكل عام يمكن القول أن الصهيونية أعادت رسم خارطة تاريخية لفلسطين انطوت على بنى وسمات مغايرة لهويتها القومية، وتحولت عبرها العلاقة بين المكان ومحيطه العربي من وضعية التوافق والتآلف إلى حالة التضاد والتنافر. وشكل هذا الأمر تحديًا بالغ الخطورة، ليس فقط للوجود العربي الفلسطيني في البلاد، وإنما أيضًا لطبيعتها الحضارية وذاكرتها التاريخية[17].
فالصهيونية ومن بعدها إسرائيل لم تكتفيان باغتصاب الأرض الفلسطينية وبتهجير غالبية الشعب الفلسطيني إلى خارج وطنه، وإنما عمدت إلى محاولات طمس كل أثر يدل على الهوية العربية للبلاد وعلى ارتباط شعب فلسطين بها. ومنذ تأسيس الدولة / الكيان، قامت المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة بحملة محمومة لتهويد أسماء المعالم الجغرافية الفلسطينية بطريقة لم يسجل لها التاريخ مثيلاً، سواء بالمعايير الكمية أو النوعية.
تهويد الذاكرة
تعاني الدولة القومية الحديثة عمومًا، بمختلف تياراتها ومشاربها الفكرية وأطيافها الأيديولوجية، هوسَ السيطرة على المكان وعدم تحمّلها ترك بقعة أرض دون فرض سيادتها عليها بشتى الاساليب والادوات. ولكن في الحالة الإسرائيلية فإن الدولة تعاني هوسًا إضافيًّا، يتلخص في عملية "تهويد" البلاد، بما يرتبط بذلك من معضلة وجود أقلية نسبية وهي العرب لها تاريخها القومي وتراثها اشعبي الأصلي الذي من الصعب محوه[18].
ولتنفيذ هذا التهويد على الأشياء غير المادية مثل الأرض والمياة من خلال السيطرة الاستيطاينة والعسكرية عليهما، تندفع الدولة الإسرائيلية بشك مستمر لسيطرة سلطانها إلى قوننة الأشياء بشكل إما يحرمها من حق إحياء ثقافتها أو يفرض عليها ثقافة أخرى[19].
وانطلاقا من ذلك، شهدت الأيام الأخيرة تصاعدًا في وتيرة حملة حكومة الاحتلال لشطب مصطلح "النكبة" من ذاكرة الإنسان الفلسطيني وصفحات التاريخ البشري على المستويات السياسية والثقافية والتربوية، من خلال سن القوانين والقرارات التعسفية.
وترمي هذه الحملة الصهيونية - حسب مراقبين - إلى طمس بشاعة جريمة الاحتلال التي وقعت قبل أكثر من ستة عقود، مستغلاً عامل الزمن، والإمعان في سياسة التهويد وإخفاء معالم الهوية الحضارية العربية والإسلامية للفلسطينيين، خصوصًا في الأراضي المحتلة عام 1948.
وجاء هذا القرار في إطار خطة ممنهجة اعتمدتها حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتانياهو" تستهدف ترسيخ مفاهيم التهويد وتذويب الهوية العربية والإسلامية للفلسطينيين وللمدن الفلسطينية وعلى رأسها مدينة القدس، فقرار إلغاء مصطلح النكبة يعد بمثابة نسخة مخففة من مشروع قانون اقترحه الفاشي "أفيجدور ليبرمان" وزير الخارجية الإسرائيلية وزعيم حزب يسرائيل بيتنو، يقضي بمنع أي مظاهر من مظاهر إحياء ذكرى النكبة الفلطسينية، والتي عادة ما كانت تأخذ شكل احتفاليات ثقافية تؤكد على أصالة ورسوخ الهوية العربية في إسرائيل[20].
كما يأتي هذا القرار مكملا لخطة كانت قد أقرتها وزيرة التربية والتعلم الإسرائيلية السابقة "ليمور ليفنات" ( الليكود) عام 2005، ومضمون تلك الخطة التربوية التعليمية - كما زعمت الوزيرة - "تعميق الصهيونية والديموقراطية والتراث اليهودي داخل المدارس في "إسرائيل"، واشتملت الخطة التي جرى تعميمها على المدارس داخل الأراضي المحتلة عام 48؛ بما فيها المدارس الفلسطينية، على مائة مصطلح تتحدث عن أهم الأحداث المتعلقة بالصراع عبر مصطلحات مركزة وموجَّهة صهيونيًّا، مثل: "إعلان قيام إسرائيل"، و"أنواع الاستيطان"، و"جيش الدفاع"، و"حروب إسرائيل"، وغيرها[21].
كما تم طرح مشروع قانون آخر، صادق عليه الكنيست، ويصب في نفس الاتجاه، وهو القانون المعروف باسم الاعتراف بدولة إسرائيل ويقضي بالسجن عاما كاملا لكل من يرفض الاعتراف بأن "إسرائيل" دولة يهودية ديمقراطية ليكون بمقدور الاحتلال وبحسب هذا القانون ملاحقة أي فلسطيني بل وأي عربي داخل حدود الكيان الصهيوني سواء في الخط الأخضر أو في الجولان بتهمة أنه لا يعترف بكون "إسرائيل" دولة يهودية لتكون عقوبته السجن عاما[22].
أما القانون المكمل لثلاثية القوانين العنصرية الهادفة لتهويد الهوية الثقافية العربية في إسرائيل فهو قانون "الولاء والمواطنة" الذي يلزم أي عربي عند حصوله على بطاقة هوية بأداء قسم الولاء لـ "إسرائيل" وإلا فلن يحصل عليها وبالتالي سيكون هذا الشخص بلا هوية وهو ما سيحرمه من أية حقوق يجب أن يتمتع بها أي مواطن كالتعليم والعلاج والصفة الشخصية وغيرها.[23]
ويأتي هذا النوع من "التهويد" في إطار هدف صهيوني قديم يتمثل في تخريج جيل فلسطيني في الداخل الإسرائيلي "مغيب الذاكرة"، وذلك عن طريق أسرلتهم ثقافيا وسياسيا، وفرض مفاهيم تاريخية وثقافية معنية تخدم الفكر والأيدولجيا الصهوينية.
وتدعي الدوائر الرسمية في إسرائيل، أن هذه القوانين التهويدية تهدف بالأساس إلى تعزيز قيم ولاء العرب للدولة التي يعيشون بها، وتقليل حجم الفجوات بينهم وبين السكان اليهود، وذلك من خلال محاولات اندماجهم ثقافيا مع الثقافة الغالبة في البلاد وهي الثقافية اليهودية.
ومع ذلك، فيبدو واضحا أن عمليات التقنين المتمثل في سن تشريعات وإصدار قرارات وزايرة تعطي هذه المجهودات طابع "العنصرية" الشديدة التي تمارس من جانب الدوائر الإسرائيلية على الأوساط العربية، فعلى سبيل المثال يعاني القطاع التعليمي في إسرائيل تمييزا شديدا لغير صالح العرب، وهو ما يرتبط بمجهودات التهويد من جانب آخر، فتخريج طالب عربي ضعيف المستوى التعليمي يصب لصالح إمكانية فرض مفاهيم تهودية عليه.
من ناحية أخرى ، فإنه على ضوء الخصوصيات الثقافية والاجتماعية للعرب في إسرائيل، يبدو واضحًا أن الدولة تمارس عليهم ضغوطًا ممنهجة لتغيير أنماط سلوكياتهم الثقافية، بشكل تبدو معه وكأنها حرب ثقافية شاملة، فعلى سبيل المثال قامت السلطات الإسرائيلية مع إعلان القدس عاصمة للثقافة الإسلامية عام 2015، بإغلاق الكثير من المراكز الثقافية والتعليمية، والتضيق على أي نشاط لعرب إسرائيل فلسطيني مهما كان شكله ونوعه وطني،اجتماعي، ثقافي ،تعليمي، تراثي، ديني وغبره لإحياء هذه المناسبة.
تهويد اللغة
اعتمدت إسرائيل منذ اللحظة الأولى لقيامها على استراتيجية متكاملة للسيطرة على فلسطين من كل النواحي، وتحويلها تدريجيا إلى أرض إسرائيلية لحمًا ودمًا؛ حيث وجدت أن التهويد بشتى اشكاله هو السبيل الوحيد لضمان بقاء الدولة وحفظ كينونتها وخصوصيتها التي تميزها عن المحيط العربي الكبير والوساع الذي يحبط بها من كل جانب.
وبالتالي تبنت إسرائيل نوعين من التهويد أولهما يمكن تسميته بـ "التهويد الخشن" الذي تستخدم فيه القوة وأساليب فرض الأمر الواقع، أمرًا مهما للغاية لضمان حالة التوسع المستمرة التي هي ضرورة من ضرورات البقاء الإسرائيلي في المنطقة، أما النوع الثاني فهو ما يمكن تسميته بـ "التهويد الناعم" وهو التهويد الثقافي، الذي يضمن السيطرة على هوية الأرض وثقافتها بعد النجاح في احتلالها واستطيانها.
هذا التهويد الناعم لا تستخدم فيه القوة ولا يحتاج بالضرورة لوسائل عنيفة لفرضه، بل إن إسرائيل تعمد فيه على "التدرج" بحيث تتخد خطوات بطيئة لكنها مؤثر، كان آخرها محاولة تهويد اللغة في حد ذاتها عن طريق اعتماد خطة متكاملة لاستبدال الأسماء العربية بالأسماء العبرية على لافتات طرق البلدات العربية داخل إسرائيل.
وفقًا لهذه الخطة فإن أسماء البلدات بالإنجليزية وبالعربية سيتم كتابتها من الآن فصاعدًا بمنطوقها العبري، فمثلاً سيكون اسم القدس بالإنجليزية (Yerushalayim) بدلا من (Jerusalem)، وبالعربية ستشطب كلمة القدس وتستبدل بـ"يورشاليم"، كما أن مدينة الناصرة ستصبح "نصرات"، وعكا ستصبح "عكو" وصفد "تصفات"[24].
ومن الملاحظ أن غالبية هذه التسميات المستبدلة هي تسميات تناخية أي واردة في العهد القديم، لكن يربطها تشابه نطقي ولفظي كبير بنظائرها في العربية؛ نظرًا لأن كل من العربية والعبرية تنميان لفرع لغوي واحد في أسرة لغوية واحدة وهو فرع اللغات السامية في أسرة اللغات الأفروآسيوية وفقًا لتقسيم اللغويين للغات العالم وفق قرابتها لبعضها البعض[25].
لكن ذلك يعكس من جانب آخر، ذلك المسعى الإسرائيلي الحثيث لتغيير مدلولات تسميات المناطق والأماكن العربية بهدف إحداث حالة من " اللبس" والتشويه لمعانيها التاريخية والثقافية، فعلى سيبل المثال كان " مناحم بيجين" عند نطقه للفظة فلسطين يشدد على الحرف "ش" بدلا من "س" بحين تكون بلشتين التناخية بما يثير لبسًا حول ما إذا كانت هي بلشتين اليهودية أم فلسطين العربية. وبعد حرب 1967 أطلق اليمين الإسرائيلي على فلسطين اسم بلشتيم، وحتى الآن تستخدم الصحف والإذاعة الإسرائيلية هذا المسمى، بحيث تتضح بجلاء محاولة لجعل مدلول الكلمة في خدمة تهويد المكان، واستبدال هويته.
كما تنطوي عملية الاستبدال هذه على سعي إسرائيلي محموم لترسيخ وعي يهودي وعبريا لسكان بلاد لكل معالمها وأماكنها؛ إذ أن الغالبية الساحقة من سكان البلاد من الإسرائيليين القادمين من أماكن مختلفة حول العالم، لم تكن لهم أي جذور بأرض فلسطين، لكن كان لهم ارتباطات متفاوتة باليهودية والعهد القديم، ومن هنا تم اللجوء إلى تسميات تاريخية وتناخية "العهد القديم" لإحلالها مكان التسميات العربية.
وكانت محاولات إسرائيل في هذا المجال مبكرة للغاية ففي عام 1967 تقدمت "المؤتمر الدولي لتوحيد المصطلحات الجغرافية" المنعقد في جنيف بمذكرة تضمنت محاولاتها لإحلال أسماء عبرية محل الأسماء العربية الأصلية للمواقع العربية في فلسطين، كما ركز المسؤولون في وسائل الدعاية الصهيونية المقروءة والمسموعة والمرئية على استخدام الأسماء العبرية الجديدة للمواقع والأماكن في البلاد وفي الضفة والقطاع وعدم استخدام الأسماء العربية. وتم تجديد الأوامر بين حين وآخر، ومنها مثلاً التعليمات التي أصدرها مدير عام هيئة البث "آرييه ماكل" بهذا الخصوص في سبتمبر 1990، وعلى سبيل المثال يجب أن يقال قرية هشيلوح وليس قرية سلوان.
___________________
(*) أحمد صلاح البهنسي: باحث ومترجم عبري، متخصص في الشؤون الإسرائيلية.
شهدت الأوساط العربية في الداخل الإسرائيلي خلال الأونة الأخيرة حملة شرسة وغير مسبوقة من محاولات "التهويد" لكل ما يتعلق بالهوية والتراث والتاريخ العربي والإسلامي في إسرائيل. فبدءا من محاولات تهويد اللغة من خلال عبرنة الأسماء وحذف المصلطحات، مروروا بعملية تهويد الذاكرة من خلال منع ومحو احتفالات تذكارية تتعلق بإحياء أحداث قومية الفلسطينية للعرب في إسرائيل، وانتهاءا بمحاولات تهويد الهوية الأصلية للمكان.
فعملية التهويد الثقافي التي تمارس بشكل ممنهج من جانب إسرائيل، تنحصر في محاولة تفريغ الشيء المراد تهويده من مضمونه وهويته الأصلية وإضفاء أو فرض مفاهيم ومضامين ترتبط باليهودية وما يتعلق بها على أشكال راقية من الإبداع الإنساني مثل الأدب والفن والآثار والتاريخ واللغة والتراث[1].
إسرائيليا، تم اعتماد أكثر من آلية لتنفيذ هذه المخططات الممنهجة، فتارة عن طريق سن قوانين أو طرح مشاريع قوانين تحرم بشكل قانوني العرب من التمسك بهويتهم الثقافية الأصلية، بما يضفي على هذه العملية نوعا من أنواع الشرعية في الداخل الإسرائيلي، أو عن طريق الإجراءات الرسمية التي تتخذها الوزارات التي يتصل مجال عملها بابعاد ثقافية مثال وزراتي التربية والتعليم والمواصلات، أو من خلال تدشين المشاريع الثقافية والاستيطانية المختلفة الهادفة لنزع الأماكن العربية المختلفة (القدس، عكا) من هويتها الأصلية وفرض الهوية اليهودية عليها.
تهويد الهوية
تركزت المحاولات الإسرائيلية على تهويد هوية المكان، ليس فقط من خلال تغيير اسمه العربي وفرض اسم عبراني عليه، لكن من خلال تشويه ملامحه التاريخية الأصلية وما يرتبط بذلك من فصله عن التراث الحضاري الذي يربطه بالسكان الأصليين للمكان.
كانت آخر المحاولات التهويدية في هذا الصد ما عكسته تلك الأزمة التي شهدتها مدينة عكا مؤخرا التي تعد من أهم وأبرز المدن التراثية العربية في الداخل الإسرائيلي، حيث نشب خلاف شديد بين السكان الأصليين للمدينة من العرب المسلمين والمسيحيين وبين السلطات الإسرائيلية البلدية حول تسمية ميناء المدينة البحري[2].
فالسكان العرب يرغبون في تسميته باسم ميناء القائد "عيسى العوام البحري"، وهو أحد قادة القائد العربي الشهير صلاح الدين الذي تمكن من مقاومة الاحتلال الصليبي للمنطقة خلال القرن الـ12 الميلادي، في حين ترغب السلطات البلدية للمدينة في تسميته باسم ميناء "زئيف بريد" البحري، وهو قائد بحري صهيوني بارز ويعد من مؤسسي الأسطول الإسرائيلي[3].
تأتي هذه الأزمة امتدادا لمجهودات إسرائيلية سابقة لنزع المدينة عن طابعها العربي الأصيل، فقد دشنت الحكومة الإسرائيلية مؤخرا مشروعا يحمل اسم "الماركة" وتديره بلدية المدينة، ويهدف إلى تغيير طابع المدينة وصورتها وتسويقها كمدينة "متوسطية"، مغيّرة الرواية (الانتقائية) التي صاغتها خلال السنوات الماضية وسوقتها للسائحين حتى هذا اليوم كمدينة صليبية، متجاهلة هوية المدينة وتاريخها العربي والفلسطيني والعثماني[4].
فوزارة السياحة الإسرائيلية تعمل على انكار الحقيقة التاريخية بأن عكا القائمة في عصرنا، بمعالمها الأثرية وبيوتها والفن المعماري الخاص فيها، هي المدينة التي أعاد الشيخ "ظاهر العمر الزيداني" بناءها، على خرائب المدينة الصليبية المدّمرة، ومن بعده أحمد باشا الجزار ومن تلاه من الحكام حتى سقوط الإمبراطورية العثمانية وقدوم الانتداب البريطاني[5].
الغريب في هذا الموضوع، أن مجهودات تهويد عكا تأتي عقب أن حصلت على اعتراف من اليونسكو عام 2001 بكونها مدينة تراثية، وذلك بناء على طلب إسرائيلي وليس بناء على طلب من جهة أخرى، وذلك لكونها مدينة ميناء عثمانية لا زالت ثقافة أهلها حية فيها، بالإضافة للآثار الصليبية الهامة فيها؛ إذ كانت عكا عاصمة المملكة الصليبية الثانية[6].
قبل ذلك، تتابعت بشكل متسارع المجهودات الإسرائيلية لتهويد هوية مدينة القدس وفرض الطابع اليهودي عليها، فقبل شهر كشفت منظمة "عير عميم" الحقوقية الإسرائيلية عن خطة سرية لحكومة نتانياهو تهدف إلى محاصرة البلدة القديمة وتحويلها إلى "مملكة توراتية" بالتعاون مع جمعيات استطيانية، حيث من المتوقع انشاء تسع حدائق وطنية تاريخية تمجد التاريخ اليهودي ما يؤدي إلى تغيير حاد في طابع المدينة الحالي[7].
تنسجم هذه الخطة مع خطة أخرى كانت أقرتها الحكومة الإسرائيلية عام 2007 وتحمل رقم 11555، وترمي إلى محاصرة الحوض التاريخي للقدس القديمة وفرض الهيمنة الإسرائيلية اليهودية عليها، وسط عمليات تغيير هوية المنطقة وإقصاء السكان الفلسطينيين منها[8].
كل هذه المحاولات لتهويد الهوية تنبع من منطلقات صهيونية واحدة تحمل خلفيات أيدلوجية تختلط فيها المفاهيم الدينية والقومية، فالمحتوى الفكري للمشروع الصهيوني في فلسطين قام منذ البداية على إدعاء "يهودية البلاد وعودة اليهود إلى وطنهم". وجرى بناء جيش جرَّار من المقولات الغيبية، بهدف ترويج هذا الإدعاء في النطاقين اليهودي والعالمي[9].
ونشطت المحاولات الصهيونية الرامية إلى توفير الأغطية النظرية للعمل الصهيوني، بسبب أهمية التعاضد بين عاملي الإيديولوجيا والقوة في تهويد فلسطين، وإقامة الدولة الصهيونية[10].
ومن هنا كانت نسبة فلسطين إلى اليهود، وتهويد أسماء معالمها ومواقعها التاريخية، في القلب من التوجهات الصهيونية الأولى التي سبقت قيام الدولة عام 1948، ما فسر تشدين ما سمي بـ" صندوق استكشاف فلسطين" الذي قام بعملية مسح للبلاد بين 1871_ 1877، وجمع أسماء المواقع القديمة والخرائب والقرى، وأعدّ قوائم للأسماء تحوي أكثر من 10 آلاف اسم نقلت بحروف إنجليزية. بعد ذلك طبع الصندوق خارطة لفلسطين الغربية على أربعة أشكال، الأولى: عليها الأسماء العربية الحديثة، الثانية، عليها أسماء العهد القديم، الثالثة، عليها أسماء العهد الجديد، الرابعة: عليها أسماء مصادر المياه وتوزيعها[11].
منذ ذلك الحين بدأت التعدّيات على التاريخ الفلسطيني خدمة للمشروع الصهيوني، وذلك عبر فرض تسميات عبرانية يهودية من التوراة على أسماء المعالم والأماكن التاريخية الفلسطينية، أو عبر اقحام روايات تاريخية توارتية يتم إلصاقها بمعالم المكان، فقد كان موضوع فرض الهوية اليهودية من السياسيات الفكرية للصهيونية والتي عبر عنها المفكر اليهودي"موشيه مينوحين في كتابه "انحطاط اليهودية في عصرنا" الذي أشار فيه لضرورة تطهير ما سماه بأرض الآباء من أي هوية أخرى وفرض الهوية العبرانية عليها[12].
كل هذه المحاولات المتعلقة بتشويه الأسماء واغتصابها بشكل يهود الهوية، تهدف إلى تطبيق المقولة الكلاسيكية الصهونية بأن فلسطين هي أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، بما يعطي مبررًا أخلاقيًا وعلميًا لاستيطانها على أرض الواقع، وذلك بعد استيطانها تاريخيا وفكريا من خلال التهويد الثقافي، فقد كان الربط بين اليهود والأسماء التاريخية في فلسطين بمثابة رافعة للعمل الصهيوني الرامي إلى تهويد فلسطين ووحدانية ملكيتها لليهود[13]. ففي أحد الكيبوتسات قال "مناحيم بيجين" إن اليهود لو تحدثوا عن فلسطين بدلاً من ايرتس يسرائيل، فإنهم يفقدون كل حق لهم في الأرض، لأنهم بذلك يعترفون ضمنًا بأن هناك وجودًا فلسطينيًا، وبالتالي إن عبارة ارتس يسرائيل أي أرض إسرائيل تدل على عدم الاعتراف بأي شعب آخر على هذه الأرض"[14].
فقد كان واضحا تنبه الصهاينة منذ وقت مبكر إلى أهمية موضوع أسماء المعالم والأماكن التاريخية الفلسطينية وتوصلوا إلى أن هذا الموضوع يرتبط بهوية الدولة وطبيعتها. لهذا سعوا بعد تأسيس إسرائيل إلى معالجة المسألة كحالة تطبيقية في عملية تهويد البلاد. وتم التشديد على هذا الربط بين الدولة ككيان سياسي منظم وبين ما يسمى "القومية العبرانية التوراتية". فحسب تحديدات "بن جوريونن" من الضروري بلورة طابع عبري وأسلوب عبري للبلاد - يقصد فلسطين - لم يكونا قائمين في السابق، ولم يكن بالإمكان إقامتهما في المنفى[15].
وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أن عملية تهويد اسماء المعالم الفلسطينة، تعكس عقيدة "التشريش" التي هي إحدى سمات الخطاب الإيديولوجي الصهيوني - الإسرائيلي. والتي هي بالنتيجة علامة مميزة لما يسمى "الثقافة السياسية الإسرائيلية"؛ إذ أن آلية التهويد ترتبط بالشكل تام بالسياسات فعلى سبيل المثال حينما تقرر أن يعهد بمدينة يافا إلى بلدية تل أبيب دار نقاش حكومي حاد حول تسمية المدينة فاقترح البعض يافو بصفته الاسم التوراتي والبعض اقترح تل أبيب بصفته الاسم الصهيوني، وصارت في النهاية تل أبيب[16].
وبشكل عام يمكن القول أن الصهيونية أعادت رسم خارطة تاريخية لفلسطين انطوت على بنى وسمات مغايرة لهويتها القومية، وتحولت عبرها العلاقة بين المكان ومحيطه العربي من وضعية التوافق والتآلف إلى حالة التضاد والتنافر. وشكل هذا الأمر تحديًا بالغ الخطورة، ليس فقط للوجود العربي الفلسطيني في البلاد، وإنما أيضًا لطبيعتها الحضارية وذاكرتها التاريخية[17].
فالصهيونية ومن بعدها إسرائيل لم تكتفيان باغتصاب الأرض الفلسطينية وبتهجير غالبية الشعب الفلسطيني إلى خارج وطنه، وإنما عمدت إلى محاولات طمس كل أثر يدل على الهوية العربية للبلاد وعلى ارتباط شعب فلسطين بها. ومنذ تأسيس الدولة / الكيان، قامت المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة بحملة محمومة لتهويد أسماء المعالم الجغرافية الفلسطينية بطريقة لم يسجل لها التاريخ مثيلاً، سواء بالمعايير الكمية أو النوعية.
تهويد الذاكرة
تعاني الدولة القومية الحديثة عمومًا، بمختلف تياراتها ومشاربها الفكرية وأطيافها الأيديولوجية، هوسَ السيطرة على المكان وعدم تحمّلها ترك بقعة أرض دون فرض سيادتها عليها بشتى الاساليب والادوات. ولكن في الحالة الإسرائيلية فإن الدولة تعاني هوسًا إضافيًّا، يتلخص في عملية "تهويد" البلاد، بما يرتبط بذلك من معضلة وجود أقلية نسبية وهي العرب لها تاريخها القومي وتراثها اشعبي الأصلي الذي من الصعب محوه[18].
ولتنفيذ هذا التهويد على الأشياء غير المادية مثل الأرض والمياة من خلال السيطرة الاستيطاينة والعسكرية عليهما، تندفع الدولة الإسرائيلية بشك مستمر لسيطرة سلطانها إلى قوننة الأشياء بشكل إما يحرمها من حق إحياء ثقافتها أو يفرض عليها ثقافة أخرى[19].
وانطلاقا من ذلك، شهدت الأيام الأخيرة تصاعدًا في وتيرة حملة حكومة الاحتلال لشطب مصطلح "النكبة" من ذاكرة الإنسان الفلسطيني وصفحات التاريخ البشري على المستويات السياسية والثقافية والتربوية، من خلال سن القوانين والقرارات التعسفية.
وترمي هذه الحملة الصهيونية - حسب مراقبين - إلى طمس بشاعة جريمة الاحتلال التي وقعت قبل أكثر من ستة عقود، مستغلاً عامل الزمن، والإمعان في سياسة التهويد وإخفاء معالم الهوية الحضارية العربية والإسلامية للفلسطينيين، خصوصًا في الأراضي المحتلة عام 1948.
وجاء هذا القرار في إطار خطة ممنهجة اعتمدتها حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتانياهو" تستهدف ترسيخ مفاهيم التهويد وتذويب الهوية العربية والإسلامية للفلسطينيين وللمدن الفلسطينية وعلى رأسها مدينة القدس، فقرار إلغاء مصطلح النكبة يعد بمثابة نسخة مخففة من مشروع قانون اقترحه الفاشي "أفيجدور ليبرمان" وزير الخارجية الإسرائيلية وزعيم حزب يسرائيل بيتنو، يقضي بمنع أي مظاهر من مظاهر إحياء ذكرى النكبة الفلطسينية، والتي عادة ما كانت تأخذ شكل احتفاليات ثقافية تؤكد على أصالة ورسوخ الهوية العربية في إسرائيل[20].
كما يأتي هذا القرار مكملا لخطة كانت قد أقرتها وزيرة التربية والتعلم الإسرائيلية السابقة "ليمور ليفنات" ( الليكود) عام 2005، ومضمون تلك الخطة التربوية التعليمية - كما زعمت الوزيرة - "تعميق الصهيونية والديموقراطية والتراث اليهودي داخل المدارس في "إسرائيل"، واشتملت الخطة التي جرى تعميمها على المدارس داخل الأراضي المحتلة عام 48؛ بما فيها المدارس الفلسطينية، على مائة مصطلح تتحدث عن أهم الأحداث المتعلقة بالصراع عبر مصطلحات مركزة وموجَّهة صهيونيًّا، مثل: "إعلان قيام إسرائيل"، و"أنواع الاستيطان"، و"جيش الدفاع"، و"حروب إسرائيل"، وغيرها[21].
كما تم طرح مشروع قانون آخر، صادق عليه الكنيست، ويصب في نفس الاتجاه، وهو القانون المعروف باسم الاعتراف بدولة إسرائيل ويقضي بالسجن عاما كاملا لكل من يرفض الاعتراف بأن "إسرائيل" دولة يهودية ديمقراطية ليكون بمقدور الاحتلال وبحسب هذا القانون ملاحقة أي فلسطيني بل وأي عربي داخل حدود الكيان الصهيوني سواء في الخط الأخضر أو في الجولان بتهمة أنه لا يعترف بكون "إسرائيل" دولة يهودية لتكون عقوبته السجن عاما[22].
أما القانون المكمل لثلاثية القوانين العنصرية الهادفة لتهويد الهوية الثقافية العربية في إسرائيل فهو قانون "الولاء والمواطنة" الذي يلزم أي عربي عند حصوله على بطاقة هوية بأداء قسم الولاء لـ "إسرائيل" وإلا فلن يحصل عليها وبالتالي سيكون هذا الشخص بلا هوية وهو ما سيحرمه من أية حقوق يجب أن يتمتع بها أي مواطن كالتعليم والعلاج والصفة الشخصية وغيرها.[23]
ويأتي هذا النوع من "التهويد" في إطار هدف صهيوني قديم يتمثل في تخريج جيل فلسطيني في الداخل الإسرائيلي "مغيب الذاكرة"، وذلك عن طريق أسرلتهم ثقافيا وسياسيا، وفرض مفاهيم تاريخية وثقافية معنية تخدم الفكر والأيدولجيا الصهوينية.
وتدعي الدوائر الرسمية في إسرائيل، أن هذه القوانين التهويدية تهدف بالأساس إلى تعزيز قيم ولاء العرب للدولة التي يعيشون بها، وتقليل حجم الفجوات بينهم وبين السكان اليهود، وذلك من خلال محاولات اندماجهم ثقافيا مع الثقافة الغالبة في البلاد وهي الثقافية اليهودية.
ومع ذلك، فيبدو واضحا أن عمليات التقنين المتمثل في سن تشريعات وإصدار قرارات وزايرة تعطي هذه المجهودات طابع "العنصرية" الشديدة التي تمارس من جانب الدوائر الإسرائيلية على الأوساط العربية، فعلى سبيل المثال يعاني القطاع التعليمي في إسرائيل تمييزا شديدا لغير صالح العرب، وهو ما يرتبط بمجهودات التهويد من جانب آخر، فتخريج طالب عربي ضعيف المستوى التعليمي يصب لصالح إمكانية فرض مفاهيم تهودية عليه.
من ناحية أخرى ، فإنه على ضوء الخصوصيات الثقافية والاجتماعية للعرب في إسرائيل، يبدو واضحًا أن الدولة تمارس عليهم ضغوطًا ممنهجة لتغيير أنماط سلوكياتهم الثقافية، بشكل تبدو معه وكأنها حرب ثقافية شاملة، فعلى سبيل المثال قامت السلطات الإسرائيلية مع إعلان القدس عاصمة للثقافة الإسلامية عام 2015، بإغلاق الكثير من المراكز الثقافية والتعليمية، والتضيق على أي نشاط لعرب إسرائيل فلسطيني مهما كان شكله ونوعه وطني،اجتماعي، ثقافي ،تعليمي، تراثي، ديني وغبره لإحياء هذه المناسبة.
تهويد اللغة
اعتمدت إسرائيل منذ اللحظة الأولى لقيامها على استراتيجية متكاملة للسيطرة على فلسطين من كل النواحي، وتحويلها تدريجيا إلى أرض إسرائيلية لحمًا ودمًا؛ حيث وجدت أن التهويد بشتى اشكاله هو السبيل الوحيد لضمان بقاء الدولة وحفظ كينونتها وخصوصيتها التي تميزها عن المحيط العربي الكبير والوساع الذي يحبط بها من كل جانب.
وبالتالي تبنت إسرائيل نوعين من التهويد أولهما يمكن تسميته بـ "التهويد الخشن" الذي تستخدم فيه القوة وأساليب فرض الأمر الواقع، أمرًا مهما للغاية لضمان حالة التوسع المستمرة التي هي ضرورة من ضرورات البقاء الإسرائيلي في المنطقة، أما النوع الثاني فهو ما يمكن تسميته بـ "التهويد الناعم" وهو التهويد الثقافي، الذي يضمن السيطرة على هوية الأرض وثقافتها بعد النجاح في احتلالها واستطيانها.
هذا التهويد الناعم لا تستخدم فيه القوة ولا يحتاج بالضرورة لوسائل عنيفة لفرضه، بل إن إسرائيل تعمد فيه على "التدرج" بحيث تتخد خطوات بطيئة لكنها مؤثر، كان آخرها محاولة تهويد اللغة في حد ذاتها عن طريق اعتماد خطة متكاملة لاستبدال الأسماء العربية بالأسماء العبرية على لافتات طرق البلدات العربية داخل إسرائيل.
وفقًا لهذه الخطة فإن أسماء البلدات بالإنجليزية وبالعربية سيتم كتابتها من الآن فصاعدًا بمنطوقها العبري، فمثلاً سيكون اسم القدس بالإنجليزية (Yerushalayim) بدلا من (Jerusalem)، وبالعربية ستشطب كلمة القدس وتستبدل بـ"يورشاليم"، كما أن مدينة الناصرة ستصبح "نصرات"، وعكا ستصبح "عكو" وصفد "تصفات"[24].
ومن الملاحظ أن غالبية هذه التسميات المستبدلة هي تسميات تناخية أي واردة في العهد القديم، لكن يربطها تشابه نطقي ولفظي كبير بنظائرها في العربية؛ نظرًا لأن كل من العربية والعبرية تنميان لفرع لغوي واحد في أسرة لغوية واحدة وهو فرع اللغات السامية في أسرة اللغات الأفروآسيوية وفقًا لتقسيم اللغويين للغات العالم وفق قرابتها لبعضها البعض[25].
لكن ذلك يعكس من جانب آخر، ذلك المسعى الإسرائيلي الحثيث لتغيير مدلولات تسميات المناطق والأماكن العربية بهدف إحداث حالة من " اللبس" والتشويه لمعانيها التاريخية والثقافية، فعلى سيبل المثال كان " مناحم بيجين" عند نطقه للفظة فلسطين يشدد على الحرف "ش" بدلا من "س" بحين تكون بلشتين التناخية بما يثير لبسًا حول ما إذا كانت هي بلشتين اليهودية أم فلسطين العربية. وبعد حرب 1967 أطلق اليمين الإسرائيلي على فلسطين اسم بلشتيم، وحتى الآن تستخدم الصحف والإذاعة الإسرائيلية هذا المسمى، بحيث تتضح بجلاء محاولة لجعل مدلول الكلمة في خدمة تهويد المكان، واستبدال هويته.
كما تنطوي عملية الاستبدال هذه على سعي إسرائيلي محموم لترسيخ وعي يهودي وعبريا لسكان بلاد لكل معالمها وأماكنها؛ إذ أن الغالبية الساحقة من سكان البلاد من الإسرائيليين القادمين من أماكن مختلفة حول العالم، لم تكن لهم أي جذور بأرض فلسطين، لكن كان لهم ارتباطات متفاوتة باليهودية والعهد القديم، ومن هنا تم اللجوء إلى تسميات تاريخية وتناخية "العهد القديم" لإحلالها مكان التسميات العربية.
وكانت محاولات إسرائيل في هذا المجال مبكرة للغاية ففي عام 1967 تقدمت "المؤتمر الدولي لتوحيد المصطلحات الجغرافية" المنعقد في جنيف بمذكرة تضمنت محاولاتها لإحلال أسماء عبرية محل الأسماء العربية الأصلية للمواقع العربية في فلسطين، كما ركز المسؤولون في وسائل الدعاية الصهيونية المقروءة والمسموعة والمرئية على استخدام الأسماء العبرية الجديدة للمواقع والأماكن في البلاد وفي الضفة والقطاع وعدم استخدام الأسماء العربية. وتم تجديد الأوامر بين حين وآخر، ومنها مثلاً التعليمات التي أصدرها مدير عام هيئة البث "آرييه ماكل" بهذا الخصوص في سبتمبر 1990، وعلى سبيل المثال يجب أن يقال قرية هشيلوح وليس قرية سلوان.
___________________
(*) أحمد صلاح البهنسي: باحث ومترجم عبري، متخصص في الشؤون الإسرائيلية.
[1] خالد عزب، التهويد الثقافي والاعلامي لمدينة القدس وتراثها، صحيفة الجمهورية المصرية، 31 يناير 2009.
[2] انظر مقال " عكا رمز الصمود أمام سياسات التهودي والاستطيان" على الرابط http://www.islamweb.net/ramadan/index.php?page=article&lang=A&id=151851
[3] انظر مقال " عكا رمز الصمود أمام سياسات التهودي والاستطيان" على الرابط http://www.islamweb.net/ramadan/index.php?page=article&lang=A&id=151851
[4] سليمان بشارات، عكا تضييق على الفلسطينيين وتطوير لصالح اليهود، موقع اسلام أون لاين، http://islamonline.net/1555
[5] نفس المرجع.
[6] نقلا عن تقرير عكا رمز الصمود أمام سياسات التهويد والاستيطان، المركز الفلسطيني للاعلام، رام الله 25 ابريل 2009.
[7] نفس المرجع.
[8] نفس المرجع.
[9] محمد خليفة حسن، آثار الفكر الاستشراقي في المجتمعات الإسلامية، دار عين للبحوث والدراسات، القاهرة 1997. ص 47.
[10] محمد خليفة حسن، الحركة الصهيونية وموقفها من التراث الديني اليهودي، دار الثقافة العربية، القاهرة 2011، ص 101.
[11] نفس المرجع.
[12] نفس المرجع.
[13] عبد الوهاب المسيري، التجانس اليهودي والشخصية اليهودية، دار الهلال، القاهرة 2004، ص 15.
[14] عبد الوهاب المسيري، المرجع السابق، ص 24.
[15] تهويد أسماء المعالم الفلسطينية، مركز بيت المقدس، للدراسات التوثيقية، 13 مارس 2008. http://www.aqsaonline.org/news.aspx?id=580
[16] نفس المرجع.
[17] نفس المرجع.
[18] المركز الفلسطيني للدراسات الاسرائيلية ( مدار)، ترجمة لدراسة حول تهويد المكان، 9 اغسطس 2004. منشورة على موقع المركز http://www.madarcenter.org بتاريخ 4 اغطسطس 2004.
[19] نفس المرجع.
[20] صحيفة معاريف الإسرائيلية، العدد بتاريخ 25 يوليو 2015. www.nrg.co.il
[21] صحيفة معاريف الإسرائيلية، العدد بتاريخ 25 يوليو 2015. www.nrg.co.il
[22] موقع الكنيست الإسرائيلي على الانترنت، www.keneset.co.il
[23] نفس المرجع.
[24] أحمد البهنسي، تهويد ناعم يراود فلسطين عن ذاكرتها العربية، إسلام اون لاين، www.islamonline.net
[25] نفس المرجع.