تمهيد
إذا كان الاغتراب ظاهرة إنسانية قديمة قِدَم الوجود الإنساني، فإن غربة شاعر مبدع مثل بدر شاكر السيّاب تأخذ شكلاً مختلفاً من حيث طاقته وقدرته وتأثيره ، سواء على مجتمعه بالتمرّد والانشقاق، أو حين تقوده أحياناً إلى العزلة والانكفاء على الذات. وكان أبو العلاء المعرّي يطلق على نفسه "رهين المحبسين"، فقد ظل نحو 40 عاماً لم يبارح منزله، إضافة إلى أنه يعاني من فقدان البصر، حيث مثّل ذروة الاغتراب النفسي والزماني والمكاني (الزمكاني) في الآن، للجسد والروح.
وإذا كنّا نتحدث عن اغتراب الشاعر السيّاب أحد روّاد القصيدة الحديثة والشعر الحر، فذلك لأن الاغتراب كان يشكّل جوهر شعره وحياته والمآسي الإنسانية التي عاشها سواء صدمة المدينة أو صدود النساء أو فقر الحال والعوز أو المرض الذي نخر عظامه، وكل ذلك في ظل ارتكاس سياسي وانكسار معنوي وضعف اجتماعي، زاده طفولة معذّبة، بفقدان والدته وهو ما سيظهر في شعره على نحو صارخ ومتكرّر.
وبعد كل ذلك فالاغتراب قضية وجودية، شغلت الفلاسفة والمفكرين بالدراسة والتحليل وبالبحث والاستقصاء، ولاسيّما بعد الثورة الصناعية،حيث تناولها جان جاك روسو وهيغل وماركس وفيورباخ وأريك فروم وفرويد ومدرسة فرانكفورت وتحديداً هابرماز وغيرهم.
ولعلّ مفهوم الاغتراب عند كارل ماركس شكّل نقطة محورية في نضال حركات اجتماعية، حيث كان تناوله من زاوية معناه الإنساني الاجتماعي، لاسيّما بين عامي 1844-1845 وذلك بالمخطوطات الاقتصادية والفلسفية التي لم تنشر في حينها ولكنها ظهرت في وقت لاحق (1932)، فقد كان ماركس حينها يُعتبر من الهيغليين اليساريين وتأثراً بهيغل وفلسفته ناقش مفهوم الاغتراب، لكنه اعتبر أن تحقيق الحرية لم يأت من العقل حسبما ذهب إلى ذلك هيغل، بل من العالم المادي، خصوصاً وأن السبب هو المجتمع الطبقي الذي لا بدّ من إلغائه.
وعلى الرغم من دعوته للافادة من تطور التكنولوجيا والوفرة المادية لكنه اعتبرهما، "وأن فتحا الباب لتحرر الإنسان"، إلاّ أن نتائجهما المباشرة كانت في "زيارة تجريد الإنسان من الإنسانية" بسبب طبيعة النظام الاجتماعي السائد (الرأسمالي)، مثلما هو اغتراب العامل عن الآلة، والإنسان عن مجتمعه.
وقد زادت الثورة العلمية – التقنية من اغتراب الإنسان، وخصوصاً بعد حربين عالميتين مدمّرتين، راح ضحيتهما ملايين البشر.واليوم بفعل ثورة الاتصالات والمواصلات وتكنولوجيا الاعلام والتدفق الهائل للمعلوماتية والطفرة الرقمية "الديجيتل"، وبفعل العولمة ووجهها المتوحش، فإن اغتراب الإنسان ازداد عمقاً، بتعمّق عمليات المحق اللاانسانية لإنسانيته، بسبب الحروب واستخدامات التكنولوجيا والعلوم لتدمير حياة الإنسان وثقافته وقيمه.
وحسب ماركس هناك أربعة أنواع من الاغتراب وهي:
1-الاغتراب عن منتجات العمل، أي السلعة التي ينتجها العامل.
2-الاغتراب داخل عملية الانتاج نفسها (حين يصبح العمل ليس لإشباع الذات ورغبة مستقلة، بل أمر مفروضاً).
3-الاغتراب عن الوجود البشري، أي محاولة تشكيل وإعادة تشكيل العالم من حولنا وفقاً للاحتياجات والقدرات الإبداعية.
4-اغتراب الإنسان عن الإنسان نتيجة لتعميم الطبيعة اللاإنسانية للمجتمع الرأسمالي واستخدام جهد العمال كسلعة بدلاً من أن يكون نشاطاً اجتماعياً واقتصادياً منتجاً لصالح تحسين حياة المجتمع.
وهكذا فإن الاغتراب يشمل جميع جوانب الحياة اليومية، ولا يمكن التغلب عليه الآّ باستعادة الطبيعة الإنسانية (البشرية) للعمل، وذلك بتغيير طبيعة النظام وعلاقات إنتاجه وتطويع الطبيعة لصالح الإنسان، وهكذا يصبح الاغتراب عند ماركس هو التمايز بين الوجود والجوهر.
قد لا يصحّ أن نُخضع السيّاب لمفهوم ماركس المحدد عن الاغتراب، بل يمكن إدراجه ضمن مفهوم أريك فروم المستند إلى مفهوم ماركس (الاقتصادي- الاجتماعي) ومفهوم فرويد (النفسي- الفرداني)، حيث يمكن القول أن السيّاب خضع لأنواع متعددة من الاغتراب الاجتما-اقتصادي بكل تجلياته، وأساسه شكل التعبير والموقف من النظام السياسي، والاغتراب النفسي – الفردي بما فيه الجنسي حسب فرويد، من الناحية العاطفية سواء العائلية أو العلاقة بالنساء أو الاغتراب عن نفسه، مثلما هو عن محيطه ومجتمعه، أي أن السيّاب عاش شكلاً من اشكال الاغتراب الاجتماعي بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني، والاغتراب النفسي، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من مدلولات لها علاقة باغتراب الإنسان عن مجتمعه وأحياناً انكفائه على ذاته.
هكذا حاول فروم الحديث عن الاغتراب، بما له علاقة باغتراب الإنسان (كفرد) عن مجتمعه (كجماعة بشرية) وبين الإنسان ومحيطه. وكان هيغل قد ركّز على مفهوم الحرية لتحديد ماهية الإنسان من خلال المصالحة بينه وبين محيطه وبين الإنسان والطبيعة، ولعلّ انفصال الإنسان عن الثقافة التي هي "حياة الروح" كان قد عمّق اغتراب الإنسان، وذلك من خلال توجه أخلاقي ونفسي، وحسب أريك فروم ليس العامل الاقتصادي هو الأساس مثلما ذهب ماركس، كما أنه ليس العامل الجنسي كما استنتج فرويد، وإنما هو نتاج خلطة وجودية جعلها أريك فروم، شخصية الطابع واجتماعية المنشأ ووضعها في إطار وجودي إنساني عريض.
وبدر شاكر السيّاب كان يشعر بالاغتراب إزاء ذاته أيضاً، وإن كان لاغترابه مدلولات اجتماعية واقتصادية ونفسية ، لاسيّما بانحلال الصلة بينه وبين مجتمعه، خصوصاً عدم تمكّنه من احتلال الموقع الذي يريده، والاغتراب السياسي لديه الذي بدأ بتسيّد آيديولوجيا محدّدة وتقديسها، أو فيما بعد نقضها والانخراط في غيرها بانتقاله إلى صف خصومها وأعدائها، مثلما ينساق أحياناً بفعل الفكرة السائدة للاذعان لزعيم أو قائد، وهو ما أنتج ما أطلق عليه (عبادة الفرد)، وتلكم جزء من الاغتراب الذي أصاب مجتمعات وكتلاً بشرية بكاملها أو على مستوى الأفراد.
أما لودفيغ فيورباخ فقد تناول ما يطلق عليه "الاغتراب الديني" الذي يشكّل جوهر فلسفته الحسيّة، فالإنسان يكشف جوهره الخاص بفضل الدين، ولكنه يظل مفصولاً عنه طالما يسلم بوجوده المستقل خارج ذاته. يقول فيورباخ " لقد كان شغلي الدائم أن أميّز الأماكن المظلمة للدين بمصابيح العلم حتى يمكن للإنسان ألاّ يقع فريسة القوى المعادية التي تستفيد من غموض الدين لتقهر الجنس البشري".
وجمع هابرماز بين الهيغلية والماركسية ومدارس علم الاجتماع والنفس في محاولة نقد نمطية الوعي والآيديولوجيات الجامدة، وذلك بهدف إعادة بناء المادية التاريخية على أسس جديدة مكرّراً قول ماركس أن المجتمع المدني والدولة كانا غرباء عن الحياة الإنسانية الحقيقية، الأمر يحتاج إلى إعادة بناء المجتمعات وفقاً لأسس جديدة لتحرير الإنسان من علاقات إنتاج مريضة ومن جبروت الطبيعة، الأساس للخروج من مأزق الاغتراب، علماً بأن ماركس كان قد حذّر من الاستخدام المفرط للموارد الطبيعية.
إن اغتراب المثقف يزداد طردياً مع تعقّد الحياة الاجتماعية وشحّ فرص الحرية والعدالة، والأمر ينعكس سلبياً عليه، بحكم حساسيته، خصوصاً بتراجع منظومة القيم الإنسانية وصعود النفعية والانتهازية والاستلاب والاستغلال محل مبادئ الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية والمشاركة والحقوق الإنسانية.
لقد دخل بدر شاكر السيّاب ومعه جيل من الشعراء والأدباء والمثقفين معركة أساسها اجتماعي وجذرها فردي، بسبب حالة الاغتراب التي عاشها، بين الحلم والواقع، ولعلّ مقدمات اغترابه الأولى كانت قد بدأت من جيكور، منها غرابة شكله وهزال جسمه، يضاف إلى ذلك فقدانه والدته وهو طفل صغير (لم يتجاوز السادسة من العمر) وزواج والده، ثم وفاة جدته. وظلّ الموت يحوم فوق رأسه، كلما استذكر أمه، لذلك عانى من شدّة الألم والوحدة وهما أول من دفعاه دفعاً نحو اغترابه المجتمعي، إضافة إلى المرض لاحقاً والشقاء وصدود الحبيبات الموهومات. كل ذلك قد عاظم من اغترابه الوجودي.
لقد رافق اغتراب السيّاب الاجتماعي – الوجودي، اغتراب عاطفي، فهو مستوحش، عائلياً وصداقياً وعاطفياً، ولم يجد ما يعوّضه عن هذا الفقدان والفداحة والحرمان،
وما من عادتي ماضيّ الذي كانا
ولكن.. كل من أحببت قبلك ما أحبوني
ولا عطفوا عليّ، عشقت سبعاً...
إلى أن يقول
أحبيني
لأنّي كلّ من أحببت لم يحبوني
عاش ولم يعش
يقول بدر شاكر السيّاب: أشعر إنني عشت طويلاً.. رافقت غلغامش في مغامراته، وصاحبت عوليس في ضياعه، وعشت التاريخ العربي كلّه ... ألا يكفي هذا؟
كلّ ذلك والسيّاب لم يعش سوى ما يقارب 39 عاماً، فقد ولد في العام 1926 وهناك من يقول إنه ولد في العام 1925 وتوفي في 24/12/1964، لكنّه كان يشعر وهو يستحضر كل هذا التاريخ، بخياله الشعري، إضافة إلى الميثولوجيا العالمية، حيث كانت أساطير الشرق وحكاياه، فضلاً عن تراثه والأسطورة اليونانية، تتدفق بقوة وحرارة في قصيدته، حتى نكاد نسمع نبضها في ثنايا شعره.
في قرية جيكور التي تغفو على نهيرُ البويب وحيث النخيل الذي يلقي بظلاله على تلك القرية المسحورة من قضاء أبو الخصيب في البصرة ولد الشاعر، وظلّت تلك البقعة أثيرة على قلبه ضاجّة بالأسرار والحكايا والأشباح، مثلما تشعّ بالجمال والسحر والإشراق، وظلّ السيّاب متعلقاً بموطن الصبا الأول، لا يكاد يفارقه، حتى يعود إليه، بل إنه يشعر بالتيه كلما ابتعد عنه، لدرجة أن الاغتراب كان قد تأصل فيه منذ لحظة انتقاله إلى بغداد للدراسة في دار المعلمين العالية (قسم اللغة الإنكليزية) حيث الشوارع العريضة والأحياء الواسعة، التي شعر معها، بكيان حاجز وسور مرتفع فصل بينه وبين جيكور.
لقد تحوّل اغتراب السيّاب إلى قدر من النستالوجيا كما يقول الفنان والشاعر عمران القيسي، لاسيّما حيال طفولته وقريته، حين كان مستمتعاً وعارفاً بموعد المدّ والجزر الذي يتأثر به نُهير البويب الصغير، وقد شاءت الصدف أن تكون القرية بموضوعها النفسي، أو الذاتي، وكذلك الموضوعي أي المادي، حديثاً دائماً للسيّاب، ولعلّه في ذلك كان جزءًا من القصيدة الجديدة التي ولدت في مرحلة نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات، وهي قصيدة ذات نكهة اغترابية، كان السيّاب أحد روّادها الأوائل ومؤسسيها اللامعين.
فهذا بلند الحيدري زميل السيّاب وبعد اغترابه لأشهر عن مكان عيشه يقول :
لمن أعود وقريتي أضحت مدينة؟
أو عند محمود الريفي الشاعر الذي كتب قصيدة من الشعر الحديث قبل قصيدة الكوليرا الشهيرة لنازك الملائكة، التي تعتبر ريادية مع السياب والحيدري وعبد الوهاب البياتي في كتابة الشعر الحديث.
يقول الريفي:ما مات شيطان الهوى
لم يزل يزرع في آدمنا روحا
فالهدبُ خلف الهدبِ أرجوحة
والعمر كله.. أرجوحة
لقد أيقظت نازك الملائكة ما في داخل العراقي من غربة معتّقة وبؤس وحنين إلى البراءة، مثلما كان محمود البريفكان مصاب بالاغتراب والحنين، ففي قصيدته يا سلمى يناجي امرأة لم يرها، بل سمع اسمها من أخيها شريكه في الزنزانة، فكان اليوم الذي أطلق سراح الشقيق أكثر الأيام كآبة وغربة لهذا العاشق الشفوي، مثلما يغترب وهو يكتب عن موظف اعتيادي كأنه يردد إحدى شخصيات تشيخوف أو ما كتبه لاحقاً غائب طعمة فرمان.
اعتاد أن يستيقظ
حين تقرع الساعة
دقاتها السبع
ويعلو صخب الباعة
يفتح مذياعه
يدهن شاربيه
ويصلح عارضيه
ثم على زوايا شفتيه
يرسم ابتسامة
غبراء، خدّاعة
ونقتبس من خليل حاوي الذي يقول:
وعرفت كيف تمطّ أرجلها الدقائق
تكبر، تستحيل إلى عصور
لكن السيّاب الذي سبقه ريح قصيدته إلى كل أرجاء العالم، وهو لم يزل على مقاعد الدرس في دار المعلمين العالية، كان يصرّ على أن يكون محلياً، إلاّ أن عالميته كانت ظاهرة باهرة وملموسة، فهو من أسمع الكثير من أقرانه بالشاعر ت. س إليوت وعزرا باوند وإيديت ستويل، مثلما كان هذا الدور الريادي لجبرا ابراهيم جبرا. وقد جسّدت حياة السيّاب والمرض الذي لازمه إضافة إلى شعوره بالوحدة السبب الأساسي في تكريس اغترابه، خصوصاً انتقاله إلى أجواء جديدة مفعمة بالدهشة والتيه والعوز، وتجسّد ذلك في اغترابه من جميع الوجوه.
في قصيدته المومس العمياء يقول دفاعاً عن الاستلاب والاغتراب وفقدان الحقوق :
الليل يطبق مرة أخرى، فتشربه المدينه
والعابرون، إلى القرارة... مثل أغنية حزينه.
وتفتحت كأزاهر الدفلي، مصابيح الطريق،
كعيون ""ميدوزا""، تحجّر كل قلب في الضغينه،
وكأنها نذر تبشر أهل ""بابل"" بالحريق
من أي غاب جاء هذا الليل؟ من أي الكهوف
من أي وجر للذئاب؟
كلّما كان السلّ العظمي ينهش جسده الذاوي كان يزاد اغتراباً، فقد أصبح ذلك نهجاً شاعرياً موسوماً بدرامية عالية وحبكة مركبة، ليتبيّن أبعاد الوجود الإنساني الحقيقي الذي لا يتجلّى الاّ بالأحزان وحتى في جلسات السيّاب الخاصة، كان لا يميل إلى الفرح الزائد وإن كان يستغرق في المقالب مع الأصدقاء، ويقول علينا الاّ نرفع أصواتنا، بل نرفع أحزاننا ليسمع العالم أننا البشر المسحوقون.. إننا الضحايا، مقتفياً إثر الشاعر الأسباني غارسيا لوركا الذي يقول :
في هذه الليلة
سأكتب أكثر الأشعار حزناً
وقد تكسرت أحلام السياب الواحد بعد الآخر، عاطفياً وسياسياً وصداقياً وصحياً ومادياً، مكاناً وزماناً، فقد كان غريبأً على من أحبهم من النساء، وكان غريباً عن الحزب الذي انتمى إليه، وانتقل إلى صف خصومه، بعد خيبات ومرارات، وكان غريباً بعد جيكور والبصرة عن الكثير من أقرانه، وكان غريباً في المدينة حيث يشعر بانتمائه إلى القرية، وكان غريباً عن المجتمع، بل منشقاً عليه ومنفصلاً عنه وحتى عندما تزوّج إقبال شعر بالاغتراب سريعاً.
الغرفة موصدة الباب
والصمت عميق
وستائر شباكي مرخاة رب طريق
يتنصت لي ، يترصد بي خلف الشباك وأثوابي
كمفزع بستان سود
أعطاها الباب الموصود
نفساً ذر بها حسا فتكاد تفيق
من ذاك الموت وتهمس بي والصمت عميق
لم يبق صديق
ليزورك في الليل الكابي
والغرفة موصدة الباب
لم يحمّل بدر شاكر السيّاب، غربته بُعداً فلسفياً، كما حمّل الشاعر خليل حاوي وحدته بُعداً فلسفياً، بل أراد أن يتركها مثل أغنية عراقية يحزن الناس عن سماعها، وهم يغنّونها في أفراحهم. لم يكن اغترابه بالمعنى الوجودي " السارتري"، بل كان اغتراباً تتأكد فيه حريته الداخلية، حيث يشكل شعره شهادة رسولية للحزن الجليل حتى وإن كان في لجّة الفرح.
ولعلّ خاصية اغتراب السيّاب تحتاج إلى فهم خاص، فقد كان يحتاج إلى الاعتراف به كغريب ومبشر بهذه الغربة، وكشاعر فريد لا يُعترف بأهميته الاّ بعد رحيله. وكان اغترابه حتى في عمله، فرغم سعيه للوظيفة في الدولة، فإنه يحتقر اللحظة التي يشعره فيها أحدهم أنه يرضع من ثديها، أي أن اغترابه في العمل هو أقرب إلى اغتراب العامل عن الآله في الفكر الماركسي.
يقول إحسان عباس في كتابه عن " بدر شاكر السيّاب" دراسة في حياته وشعره" : إن العشرين كانت من أصعب الجسور التي اجتازها بدر، فقد أحسّ أنه يعبر حدّاً فاصلاً بين عهدين، وهو لا يدري إلى أين تتجه به الأقدار. كان قد سمّى المجموعة الشعرية التي رتّبها في كرّاس " أزهار ذابلة"، وبسببها تعرّض إلى لوم بعض أصدقائه، لحالة اليأس والحزن المبالغ فيها، خصوصاً وهو في عزّ الشباب، لكن خيبته وهو لا يزال في دار المعلمين هي التي ألقت به في هذا العذاب العظيم.
كتب السيّاب إلى خالد الشوّاف مفسّراً حالته، بقوله: أي خالد كم عاهدت نفسي في سكون الليل العميق أن أخفت نغمة اليأس في أشعاري، وأمحو صورة الموت من أفكاري، حتى لا تسمع الآذان ركناً من تلك، ولا تبصر العيون خطأ من هذه، لكنني واحسرتاه عدتُ بصفة الخاسر، وحظّ الخائب، وقد نذرت نفسي للألم والشقاء واليأس والعناء، ما أجهل من لامني على أنني سميت مجموعة أشعاري " بالأزهار الذابلة"، ليته كان معي ليرى إن كل الكون، الأرض والسماء والتراب والماء والصخر والهواء، أزهار ذابلة؟ ذابلة في عينيّ الشاحبتين ونفسي الهامدة الخامدة.
ولعلّ في ذلك محاكاة للشاعر بودلير الذي كتب " أزهار الشر" فكتب السيّاب قصيدة مطوّلة على غرارها أهداها إليه تحدّث فيها عن الحب الآثم، فأي اغتراب يعيشه الشاعر، خصوصاً وهو يقدّم مثل هذه القراءة الحزينة التي لم تزده الاّ يأساً، خصوصاً وهو يودّع هواه البكر حين اضطر إلى الذهاب إلى القرية بعد فصله من الدراسة في دار المعلمين، حيث شارك بإضراب طلابي، ثم من فقر مستكلب ومن " فراغ وبطالة وسأم وهمود"
وردّاً على رسالة خالد الشوّاف، الذي حاول ثنيه مما هو عليه، فبعد أن ترك في نفسه الرضا، حتى وإن كانت كلماته زاجرة وأقواله ساخرة، كما ورد في كتاب إحسان عباس، حيث يقول: ولكن ليل الريف الندي، تهب عليه أنسام الشمال التي أحسبها آتية من بغداد ، أقول: لكن هذا الليل تسرق فيه الأحلام خطاها الخفية الواهنة مفضفضة بالشعاع الباهت ينطف من نهر المجرّ المختفي وراء الأبعاد، هاج لي الألم واستنزل على صدري الخافق حسرات راعدة وآهات صاعدة، ضاق بها صدر الأفق الأرقط.
ويستطرد السيّاب ليت لي براعة شعراء الأرض جميعاً لأصوّر لك حلمي المقطوع، الحافل بالثمار، الخالي من القطاف، الباكي على الصورة الهاربة من الإطار، ولعلّ هذا هو التناقض الجميل أو جوار الأضداد الذي كان يحفل به السيّاب شعراً ونثراً ووجوداً.
كان السيّاب يمنّي نفسه بالحب، حتى وإن كان غير حقيقي أو من طرف واحد ولربما خادعاً، وإلاّ فإن نهايته ستكون لا محالة حسبما يوحي. وكان هذا الاغتراب حدّ التناقض يمتد إلى السياسة، فمن جهة كان السيّاب ينتمي إلى حزب يؤمن بالمستقبل وبالتفاؤل التاريخي، ولكنه في الوقت نفسه يتحدث عن الضياع واليأس والموت، خصوصاً عندما يتحدث عن حرمانه من المرأة التي يبدو أنها سرّ الأسرار في رفضه للشيوعية فيما بعد، كما يقول إحسان عباس وإن كان هناك أسباب أخرى. وكان متمزقاً بين اللهفة إلى الحب والموت والإنكفاء.