سبتمبر 2014 17:16
بداية نقول: ليس المقصود بالثقافة هنا المعنى الشائع لها، أي بكونها جملة العناصر المجسّدة والموضوعية للممارسة الإنسانية في اتجاهيها المادي والروحي فحسب، بقدر ما نعني بها أيضاً، (مجموع الرؤى والقيم الداخلية النشطة، التي تمثل التعبير الهادئ عن التجربة اليومية الفردية والجماعية للناس الذين يعيشون هذه التجربة بأنفسهم).(1)
فالثقافة بهذا المعنى لم تعد نتاج النشاط الإنساني المادي والروحي فحسب، بل كذلك صيرورة الإنسان نفسه التاريخية النشطة، التي حازت على إنسانيتها ووعيها بهذه القيمة الإنسانية، عبر علاقتها المباشرة مع الطبيعة والمجتمع.
بهذا الفهم المنهجي لمعنى الثقافة، نعود ثانية لموضوعنا الأساس عنوان هذه المداخلة لنقول أيضاً: ليس من السهل على الدارس أو المطلع فهم العملية الثقافية بمعناها المشار إليه أعلاه في النطاق العالمي، وخاصة في العصرين الحديث والمعاصر، فهماً دقيقاً دون الأخذ بالاعتبار عامل تقويم الفكر العلمي- التكنولوجي لأوربا. وكذلك دون حساب تسرب هذا الفكر إلى الممارسة الاجتماعية، وشكل وعمق ترسبه في التجربة الداخلية للمجتمعات البشرية التي أخذت بإنتاجه وممارسته بأشكال مختلفة، وفي أوساط اجتماعية إثنية وثقافية مختلفة أيضاً. وبالتالي ما أفضت إليه عمليتي الإنتاج والممارسة من ردود أفعال إنسانية متعددة الاتجاهات والألوان والمستويات، ما بين القبول والرفض لهذا الفكر.
على العموم إن كل خطوة تخطوها البشرية في مجال تطور طابع القوى المنتجة وملحقاتها الاجتماعية والفكرية، يرافقها بالضرورة خطوات أخرى في تطور المجال الروحي- السيكولوجي لهذه البشرية. فالتطور الذي حدث في مجال المعرفة المادية والروحية لأوروبا منذ قيام الثورة الصناعية، أثر تأثيراً شاملاً وقوياً في معظم جوانب نشاط الإنسان (الفرد والمجتمع)، ليس في أوربا فحسب، بل وفي عالم الأطراف، إن كان على مستوى الوعي الاجتماعي والفردي، أم على المستوى النفسي والسلوكي للفرد والمجتمع. أي بمعنى آخر: لقد حدث (تأثير) على مجمل النشاطات المادية والاجتماعية والروحية التي يمارسها الإنسان. بيد أن ما أحدثته الثورة العلمية/ التكنولوجية في أوروبا، هذه الثورة التي ابتدأت أسسها المنهجية مع قيام الثورة الصناعية من تغيير لوجه العالم الحديث والمعاصر، لم يكن تأثيرها المادي والروحي على كل مجتمعات أوروبا والأطراف واحداً عبر أوساطها الاجتماعية. ففي دول الأطراف عامة، ومنها وطننا العربي على وجه الخصوص، راحت نتائج هذه الثورة تسير سيراً بطيئاً ومتنوعاً ومعقداً للغاية. إضافة إلى أنها أخذت أيضاً تتحقق هنا وهناك من دول الأطراف عموماً بأشكال مختلفة، وعلى مستويات متفاوتة، إن كان على المستوى الوطني أو الدولي أو المحلي، وأخيراً على المستوى الاجتماعي في اتجاهاته الإثنية والدينية... الخ.
نعم إذا كانت الثورة العلمية/ التكنولوجية الحديثة والمعاصرة تحمل في كل حالة من حالاتها التي تحدث في البلدان المنتجة لها - أي أوروبا هنا- طابعاً اجتماعياً منسجماً في مكوناته، إلا أنها تحمل في البلدان النامية - الأطراف- طابعاً أكثر خصوصية، والسبب في ذلك يعود أساساً، لكون الذي يقوم بإنتاج المعرفة واستهلاكها، غير الذي يقوم باستهلاكها فقط. فمجتمعات الإنتاج والاستهلاك المعرفي (العلمي - التكنولوجي)، تمتاز عن غيرها بكونها عبر عملية الإنتاج والاستهلاك هذه، استطاعت أن تخلق مجتمعات أكثر انسجاماً مع الذات، هذا الانسجام الذي راح يتجلى بخاصة في القدرة على ردم الهوة ما بين الماضي والحاضر لشعوب تلك المجتمعات. فالتطور العلمي ومفرزاته، خلقا إنساناً جديداً منسجماً مع واقعه - على الأقل- الذي أنتجه هو بنفسه، بمعاناته، لذلك لم يعد هذا الواقع غريباً عنه كي يدفعه للبحث عن فردوسه المفقود، برغم كل ما يحمله هذا الواقع المعاش من ظلم وقهر ومآسٍ له. إضافة إلى ذلك، هناك مسألة هامة ساعدت على خلق ذاك الانسجام مع الذات، لابد من الإشارة إليها هنا، وهي إنه، كلما تطورت وسائل الإنتاج، كلما ولدت مع تطورها مجالات جديدة للإنتاج، وبالتالي، زج الإنسان المنتج نفسه لممارسة نشاطه عبر هذه المجالات التي ستخلق عنده بالضرورة مهارات وسلوكيات ووعياً جديداً يتناسب مع طابع الإنتاج الجديد. أي أن الإنسان يبدل ذاته دائماً مادياً وروحياً، في كل مرة يمارس فيها عملاً جديداً. ففي العمل حقاً يبدل الإنسان في الطبيعة ويبدل في نفسه أيضاً.
أما في دول أو مجتمعات الأطراف، فحالة الانسجام مع الذات تُفتقد هنا، بسبب استمرارية تعايش وتفاعل عناصر التقليد والصناعات المبكرة، وما يرافقها من علاقات اجتماعية وثقافية ووعي، مع الجديد المعرفي- والتكنولوجي المستورد.
إن حالة التركيب الثقافي القائم ما بين القديم والجديد في مجتمعات الأطراف ومنها وطننا العربي على سبيل المثال، هي التي تحدد بدورها حالة الخلل والتمايز الثقافي بين هذه المجتمعات والمجتمعات الأوروبية المتقدمة. وبالتالي فإن عملية كشف آلية التركيب القائم ما بين التطور العلمي/ التكنولوجي، ومفرزاته المادية والاجتماعية والروحية في الغرب، مع الوضعية الثقافية لبلدان الأطراف يدفعنا للنظر في التالي:
أولاً: إن غياب مسألة إنتاج العلم/ التكنولوجيا المتطورة في هذه البلدان، لم يساعد على خلق علاقات إنتاج جديدة، وما يرافقها من علاقات اجتماعية وسياسية وفكرية تتناسب معها، الأمر الذي أبقى الهوة واسعة ما بين الماضي التقليدي بكل ثقله، والحاضر، فالماضي لا زال قوياً ومتماسكاً في بلدان الأطراف.
ثانياً: إن سيادة الماضي بكل ثقله، يعني بقاء الوجود الاجتماعي محافظاً على طبيعته منذ مئات السنين، أي عدم وجود تطور في المجتمع بمفهومه الواسع، وبالتالي عدم خلق علاقات إنتاجية جديدة تولد بالضرورة قوى اجتماعية جديدة لها مصلحة حقيقية في تحقيق التطور. أي فقدان الحامل الاجتماعي المؤهل لقيادة عبء المشروع الثقافي/ النهضوي القادر على تحقيق التوازن مع الذات الفردية والاجتماعية.
إن ما تقدمنا به أعلاه، يدفعنا للتساؤل هنا:
أ- ما مدى قابلية ثقافة الأطراف التقليدية لتقبل التفكير العلمي/ التكنولوجي الحديث، واستخدام نتائجه في الحياة اليومية... وبالتالي القدرة أيضاً على المساهمة في إنتاج مثل هذا الفكر وتطويره؟
ب- ما هي درجة تشبع مجتمعات الأطرف بالنجاحات التي حققتها التكنولوجيا الحديثة وما مدى استعداد الجماهير للتكيف مع نجاحاتها؟
ج- كيف نستطيع الجمع ما بين عناصر المعارف الغربية العلمية/ التكنولوجية، ومعطيات ثقافة الأطراف التقليدية؟. وما هي العلاقة بين الثابت والمتحول في هذه الثقافة؟ وكيف السبيل إلى اجتياز بوتقة الحضارة العلمية- التكنولوجية المتقدمة دون فقدان الذات؟.
إن مسألة طرح هذه الأسئلة يظل الهاجس وراءها عدم تشكل ثقافة طرفية قادرة على تحقيق الانسجام مع الذات. وذلك بسبب غياب مكونات المشروع الثقافي/ النهضوي، والذي يأتي في مقدمتها غياب الحامل الاجتماعي لهذا المشروع أولاً، ثم ثقل الموروث الثقافي التقليدي ثانياً، وهناك حالة التمايز والتفاوت في التطور ما بين المركز (المسيطر) والأطراف (التابع) ثالثاً.
أما السؤال عن كيفية تجاوز هذه المعوقات، فهذه مسألة أخرى!!
ملاك القول هنا: تظل في الواقع تلح علينا الحقيقة لتأكيد مسألة منهجية أساسية هي: إن الأشكال والتكوينات الثقافية الرئيسية التي تراءت عبر التجربة الثقافية في التاريخ، وخاصة في تاريخ التفاعل الزماني والمكاني للشعوب، ولمختلف مراحل التاريخ والحضارات والمناطق والبلدان لا يمكن تقديمها بمعزل عن تحديدها البشري. أي خارج الشخصية الإنسانية. فالديناميكية الثقافية لمجتمع الأطراف في شكلها الحالي، تظل في الواقع نتاج تفاعل شروط اجتماعية وثقافية محلية، مع كثرة من الاتجاهات العملية التاريخية العالمية، الحديثة والمعاصرة التي ولدت في حضارات شعوب أخرى، وفي ظروف ثقافية تاريخية أخرى أكثر منها نتاجاً للتطور التاريخي.
نعم، إن الثقافة الحديثة تمثل لمجتمع الأطراف ومنها وطننا العربي، طرازاً جديداً من المعارف، وبالتالي، طرازاً جديداً من التنظيم الذهني والروحي، وكذلك نمطاً جديداً لشخصية جديدة.
وعلى ما يبدو، لا زالت الثقافة العربية - بمفهومها المشار إليه أعلاه، ومن ضمنها الشخصية العربية، غير قادرة على استلهامها والتفاعل معها بطريقة إيجابية أو حتى إنتاجها بعد.
******
الهوامش:
1- ارتقاء المجتمعات الشرقية، مجموعة من الباحثين، ترجمة، حسان اسحق، دار الأهالي 88 دمشق، ج 3، ص 26.
2- تأتي التكنولوجيا هنا بمعناها الواسع على أنها: (مجموع المعارف والخبرات المتراكمة والمتاحة، مضافاً إليها، الأدوات والوسائل العادية والتنظيمية والإدارية التي يستخدمها الإنسان في إدارة عمل ما، أو وظيفة ما، في مجال حياته اليومية، لإشباع الحاجات المادية والمعنوية على مستوى الفرد والمجتمع). راجع مجلة الوحدة، العدد، 55، عام 1989، ص 7.
*********
[email protected]
بداية نقول: ليس المقصود بالثقافة هنا المعنى الشائع لها، أي بكونها جملة العناصر المجسّدة والموضوعية للممارسة الإنسانية في اتجاهيها المادي والروحي فحسب، بقدر ما نعني بها أيضاً، (مجموع الرؤى والقيم الداخلية النشطة، التي تمثل التعبير الهادئ عن التجربة اليومية الفردية والجماعية للناس الذين يعيشون هذه التجربة بأنفسهم).(1)
فالثقافة بهذا المعنى لم تعد نتاج النشاط الإنساني المادي والروحي فحسب، بل كذلك صيرورة الإنسان نفسه التاريخية النشطة، التي حازت على إنسانيتها ووعيها بهذه القيمة الإنسانية، عبر علاقتها المباشرة مع الطبيعة والمجتمع.
بهذا الفهم المنهجي لمعنى الثقافة، نعود ثانية لموضوعنا الأساس عنوان هذه المداخلة لنقول أيضاً: ليس من السهل على الدارس أو المطلع فهم العملية الثقافية بمعناها المشار إليه أعلاه في النطاق العالمي، وخاصة في العصرين الحديث والمعاصر، فهماً دقيقاً دون الأخذ بالاعتبار عامل تقويم الفكر العلمي- التكنولوجي لأوربا. وكذلك دون حساب تسرب هذا الفكر إلى الممارسة الاجتماعية، وشكل وعمق ترسبه في التجربة الداخلية للمجتمعات البشرية التي أخذت بإنتاجه وممارسته بأشكال مختلفة، وفي أوساط اجتماعية إثنية وثقافية مختلفة أيضاً. وبالتالي ما أفضت إليه عمليتي الإنتاج والممارسة من ردود أفعال إنسانية متعددة الاتجاهات والألوان والمستويات، ما بين القبول والرفض لهذا الفكر.
على العموم إن كل خطوة تخطوها البشرية في مجال تطور طابع القوى المنتجة وملحقاتها الاجتماعية والفكرية، يرافقها بالضرورة خطوات أخرى في تطور المجال الروحي- السيكولوجي لهذه البشرية. فالتطور الذي حدث في مجال المعرفة المادية والروحية لأوروبا منذ قيام الثورة الصناعية، أثر تأثيراً شاملاً وقوياً في معظم جوانب نشاط الإنسان (الفرد والمجتمع)، ليس في أوربا فحسب، بل وفي عالم الأطراف، إن كان على مستوى الوعي الاجتماعي والفردي، أم على المستوى النفسي والسلوكي للفرد والمجتمع. أي بمعنى آخر: لقد حدث (تأثير) على مجمل النشاطات المادية والاجتماعية والروحية التي يمارسها الإنسان. بيد أن ما أحدثته الثورة العلمية/ التكنولوجية في أوروبا، هذه الثورة التي ابتدأت أسسها المنهجية مع قيام الثورة الصناعية من تغيير لوجه العالم الحديث والمعاصر، لم يكن تأثيرها المادي والروحي على كل مجتمعات أوروبا والأطراف واحداً عبر أوساطها الاجتماعية. ففي دول الأطراف عامة، ومنها وطننا العربي على وجه الخصوص، راحت نتائج هذه الثورة تسير سيراً بطيئاً ومتنوعاً ومعقداً للغاية. إضافة إلى أنها أخذت أيضاً تتحقق هنا وهناك من دول الأطراف عموماً بأشكال مختلفة، وعلى مستويات متفاوتة، إن كان على المستوى الوطني أو الدولي أو المحلي، وأخيراً على المستوى الاجتماعي في اتجاهاته الإثنية والدينية... الخ.
نعم إذا كانت الثورة العلمية/ التكنولوجية الحديثة والمعاصرة تحمل في كل حالة من حالاتها التي تحدث في البلدان المنتجة لها - أي أوروبا هنا- طابعاً اجتماعياً منسجماً في مكوناته، إلا أنها تحمل في البلدان النامية - الأطراف- طابعاً أكثر خصوصية، والسبب في ذلك يعود أساساً، لكون الذي يقوم بإنتاج المعرفة واستهلاكها، غير الذي يقوم باستهلاكها فقط. فمجتمعات الإنتاج والاستهلاك المعرفي (العلمي - التكنولوجي)، تمتاز عن غيرها بكونها عبر عملية الإنتاج والاستهلاك هذه، استطاعت أن تخلق مجتمعات أكثر انسجاماً مع الذات، هذا الانسجام الذي راح يتجلى بخاصة في القدرة على ردم الهوة ما بين الماضي والحاضر لشعوب تلك المجتمعات. فالتطور العلمي ومفرزاته، خلقا إنساناً جديداً منسجماً مع واقعه - على الأقل- الذي أنتجه هو بنفسه، بمعاناته، لذلك لم يعد هذا الواقع غريباً عنه كي يدفعه للبحث عن فردوسه المفقود، برغم كل ما يحمله هذا الواقع المعاش من ظلم وقهر ومآسٍ له. إضافة إلى ذلك، هناك مسألة هامة ساعدت على خلق ذاك الانسجام مع الذات، لابد من الإشارة إليها هنا، وهي إنه، كلما تطورت وسائل الإنتاج، كلما ولدت مع تطورها مجالات جديدة للإنتاج، وبالتالي، زج الإنسان المنتج نفسه لممارسة نشاطه عبر هذه المجالات التي ستخلق عنده بالضرورة مهارات وسلوكيات ووعياً جديداً يتناسب مع طابع الإنتاج الجديد. أي أن الإنسان يبدل ذاته دائماً مادياً وروحياً، في كل مرة يمارس فيها عملاً جديداً. ففي العمل حقاً يبدل الإنسان في الطبيعة ويبدل في نفسه أيضاً.
أما في دول أو مجتمعات الأطراف، فحالة الانسجام مع الذات تُفتقد هنا، بسبب استمرارية تعايش وتفاعل عناصر التقليد والصناعات المبكرة، وما يرافقها من علاقات اجتماعية وثقافية ووعي، مع الجديد المعرفي- والتكنولوجي المستورد.
إن حالة التركيب الثقافي القائم ما بين القديم والجديد في مجتمعات الأطراف ومنها وطننا العربي على سبيل المثال، هي التي تحدد بدورها حالة الخلل والتمايز الثقافي بين هذه المجتمعات والمجتمعات الأوروبية المتقدمة. وبالتالي فإن عملية كشف آلية التركيب القائم ما بين التطور العلمي/ التكنولوجي، ومفرزاته المادية والاجتماعية والروحية في الغرب، مع الوضعية الثقافية لبلدان الأطراف يدفعنا للنظر في التالي:
أولاً: إن غياب مسألة إنتاج العلم/ التكنولوجيا المتطورة في هذه البلدان، لم يساعد على خلق علاقات إنتاج جديدة، وما يرافقها من علاقات اجتماعية وسياسية وفكرية تتناسب معها، الأمر الذي أبقى الهوة واسعة ما بين الماضي التقليدي بكل ثقله، والحاضر، فالماضي لا زال قوياً ومتماسكاً في بلدان الأطراف.
ثانياً: إن سيادة الماضي بكل ثقله، يعني بقاء الوجود الاجتماعي محافظاً على طبيعته منذ مئات السنين، أي عدم وجود تطور في المجتمع بمفهومه الواسع، وبالتالي عدم خلق علاقات إنتاجية جديدة تولد بالضرورة قوى اجتماعية جديدة لها مصلحة حقيقية في تحقيق التطور. أي فقدان الحامل الاجتماعي المؤهل لقيادة عبء المشروع الثقافي/ النهضوي القادر على تحقيق التوازن مع الذات الفردية والاجتماعية.
إن ما تقدمنا به أعلاه، يدفعنا للتساؤل هنا:
أ- ما مدى قابلية ثقافة الأطراف التقليدية لتقبل التفكير العلمي/ التكنولوجي الحديث، واستخدام نتائجه في الحياة اليومية... وبالتالي القدرة أيضاً على المساهمة في إنتاج مثل هذا الفكر وتطويره؟
ب- ما هي درجة تشبع مجتمعات الأطرف بالنجاحات التي حققتها التكنولوجيا الحديثة وما مدى استعداد الجماهير للتكيف مع نجاحاتها؟
ج- كيف نستطيع الجمع ما بين عناصر المعارف الغربية العلمية/ التكنولوجية، ومعطيات ثقافة الأطراف التقليدية؟. وما هي العلاقة بين الثابت والمتحول في هذه الثقافة؟ وكيف السبيل إلى اجتياز بوتقة الحضارة العلمية- التكنولوجية المتقدمة دون فقدان الذات؟.
إن مسألة طرح هذه الأسئلة يظل الهاجس وراءها عدم تشكل ثقافة طرفية قادرة على تحقيق الانسجام مع الذات. وذلك بسبب غياب مكونات المشروع الثقافي/ النهضوي، والذي يأتي في مقدمتها غياب الحامل الاجتماعي لهذا المشروع أولاً، ثم ثقل الموروث الثقافي التقليدي ثانياً، وهناك حالة التمايز والتفاوت في التطور ما بين المركز (المسيطر) والأطراف (التابع) ثالثاً.
أما السؤال عن كيفية تجاوز هذه المعوقات، فهذه مسألة أخرى!!
ملاك القول هنا: تظل في الواقع تلح علينا الحقيقة لتأكيد مسألة منهجية أساسية هي: إن الأشكال والتكوينات الثقافية الرئيسية التي تراءت عبر التجربة الثقافية في التاريخ، وخاصة في تاريخ التفاعل الزماني والمكاني للشعوب، ولمختلف مراحل التاريخ والحضارات والمناطق والبلدان لا يمكن تقديمها بمعزل عن تحديدها البشري. أي خارج الشخصية الإنسانية. فالديناميكية الثقافية لمجتمع الأطراف في شكلها الحالي، تظل في الواقع نتاج تفاعل شروط اجتماعية وثقافية محلية، مع كثرة من الاتجاهات العملية التاريخية العالمية، الحديثة والمعاصرة التي ولدت في حضارات شعوب أخرى، وفي ظروف ثقافية تاريخية أخرى أكثر منها نتاجاً للتطور التاريخي.
نعم، إن الثقافة الحديثة تمثل لمجتمع الأطراف ومنها وطننا العربي، طرازاً جديداً من المعارف، وبالتالي، طرازاً جديداً من التنظيم الذهني والروحي، وكذلك نمطاً جديداً لشخصية جديدة.
وعلى ما يبدو، لا زالت الثقافة العربية - بمفهومها المشار إليه أعلاه، ومن ضمنها الشخصية العربية، غير قادرة على استلهامها والتفاعل معها بطريقة إيجابية أو حتى إنتاجها بعد.
******
الهوامش:
1- ارتقاء المجتمعات الشرقية، مجموعة من الباحثين، ترجمة، حسان اسحق، دار الأهالي 88 دمشق، ج 3، ص 26.
2- تأتي التكنولوجيا هنا بمعناها الواسع على أنها: (مجموع المعارف والخبرات المتراكمة والمتاحة، مضافاً إليها، الأدوات والوسائل العادية والتنظيمية والإدارية التي يستخدمها الإنسان في إدارة عمل ما، أو وظيفة ما، في مجال حياته اليومية، لإشباع الحاجات المادية والمعنوية على مستوى الفرد والمجتمع). راجع مجلة الوحدة، العدد، 55، عام 1989، ص 7.
*********
[email protected]