مفهوم الدولة
يكتسي مفهوم الدولة معانٍ متغايرة، إذ يظهر تارة في صورة الحكومة، وتارة أخرى يأتي بمعنى النظام، كما يشار به أحيانًا إلى المؤسسات العمومية، وغيرها من المعاني، في حين أن مفهوم الدولة يشير إلى كل كيان سياسي يبسط نفوذه وسيادته على رقعة جغرافية معينة، ويفترض في سكانه أن يشعروا تجاهه بالمواطنة والانتماء، والدولة كيان لا يمكن أن نتمثل أبعاده دون إثارة مفاهيم، مثل السيادة، والسلطة، والحق، والقانون، والحرية. مما يبين أن إثارة مفهوم الدولة هو في الواقع محاولة لإثارة تساؤلات متداخلة من قبيل: ممن تستمد الدولة شرعيتها وفيمَ تتحدد غاياتها؟ وما هي طبيعة السلطة السياسية التي تمارسها الدولة؟ وهل السلطة التي تمارسها الدولة مستمدة من القانون أم من القوة والعنف؟
1-الدولة في الغرب:
يعتقد سبينوزا أن غاية الدولة تتمثل في ضمان الحماية للأفراد، وليس في ممارسة السلطة، بل إن على الدولة أن تضمن الشروط الموضوعية التي تمكنهم من استخدام عقولهم والعمل على تنميتها، ومن ثم يؤكد الفيلسوف أن الحرية هي الغاية الأساسية من وجود الدولة. ولا يعني ذلك التصرف المطلق بطريقة فيها إيذاء للغير، خاصة أن من الناس من فُطر على استعمال الشهوة، ومن المعلوم أيضًا أن الجميع ميال إلى الاعتقاد أنه دائمًا على صواب. لقد دعا سبينوزا إلى الاحتكام إلى العقل والابتعاد عن الحقد والغضب والخداع، فكان لابد أن يدرك الأفراد أن تقنين الحرية الفردية ضرورة حتمية وحصرها في حرية التفكير والتعبير وإصدار الأحكام، دون أن يكون في نية الفرد تغيير الأشياء لأن الدولة وحدها تملك سلطة اتخاذ القرار.
أما هيغل، فيحذر من الخلط بين الدولة والمجتمع المدني، لأنه يعتقد أن هناك غايات تتجاوز الدولة نفسها، وتتمثل في تحقيق أبعاد كونية، ويتصور الفيلسوف أن العلاقة بين الإرادة الفردية والإرادة الجماعية في تفاعل جدلي، لتصبحا إرادة مشتركة تترجم الدولة من خلالها تعاقدًا بين الأفراد. وبما أن هيغل يؤمن بأن أصل الوجود هو الفكرة المطلقة، فإنه يعتقد أن وجود الإنسان يتحدد أساسًا في العمل على أن يرجع الوجود إلى أصله، ليكون مصير الإنسانية مرتبطًا ومتلاحمًا في تحقيق ما هو كوني، لأنه لا يوجد إلا روح واحد ومبدأ واحد يعبر عن نفسه في جميع منجزات الإنسان. إن التقابل الموجود بين تمثل كل من هيغل وسبينوزا حول شرعية الدولة وغاياتها يدفع إلى طرح السؤال التالي: ما هي نوعية السلطة السياسية التي تمارسها الدولة.
ويرى ماكيافيلي Machiavel أن التجارب اليومية تؤكد أنه على الرغم من مدح الناس للأمير العادل، فإن عظمة الحكام ترجع إلى استعمالهم لأساليب المكر والخداع. ومن ثم ينصح هذا المفكر كل أمير بضرورة الجمع بين القانون واستعمال القوة والعنف، فلا حكم إلا لمن يستطيع الجمع بين القوة، والمكر، والخداع. فعلى الحاكم أن يكون قادرًا على خيانة الأمانة ونقض العهود، عندما لا يخدم الوفاء مصلحته أو عندما تنتهي أسباب ودواعي إقامة تلك العهود. فرعاية الأمانة أمر لا يستقيم إلا مع رعية مكونة من الأخيار، وبما أن ذلك ليس هو حال الناس فلا مناص من لجوء الحاكم إلى ما سبق ذكره، بل إن ماكيافيلي، ينصح الحاكم بأن يجيد أساليب التمويه والخداع حتى لا يفتضح أمره، خاصة أن سذاجة الرعية تجعلهم ينقادون بسهولة نحو الانخداع.
وفي مقابل ذلك، يرى ابن خلدون أن السلطة السياسية يجب أن تتأسس على الاعتدال، والرفق بالرعية؛ فهذه الأخيرة لا يهمها من الحاكم لا صفاته الجسمية ولا قدراته العقلية، إن الرعية تهتم فقط بما يمكن أن تلمسه من تأثير الحكم على حياتها: فإذا تأسس الحكم على الاستبداد والتربص بالرعية، فعلى الحاكم أن يتوقع خذلان رعيته عند حاجته إليها. وفي المقابل، إذا كان حليمًا وعطوفًا تناسوا سيئاته وأحبوه.
أما ألان تورين A. Touraine فيعتقد أن السلطة السياسية ترتبط عضويًا بقوة النظام الديمقراطي؛ أي أنه يؤمن بأن قوة الديمقراطية رهينة باحترام الحقوق المدنية والاجتماعية. فالديمقراطية هي النظام السياسي الوحيد الذي يسمح بتشكل الفاعلين الاجتماعيين، ويتيح لهم فرص المشاركة الحرة، وذلك ليبين أن هدف الديمقراطية لم يعد يتمثل في مواجهة نمط جديد من الممارسات التي تتبنى الحداثة، وتحتمي بالشعب، لكنها لا تتيح للناس أية فرص للمبادرة الحرة. لذا أصبحت الديمقراطية مضطرة لمحاربة الأنظمة العسكرية الاستبدادية، علاوة على محاربة الأحزاب الكليانية. خاصة وأن هناك من يستغل مفاهيم الديمقراطية، إما لخلق أنظمة استبدادية أو للعمل على استنبات ممارسات اقتصادية فردانية تقوم على اقتصاد السوق وتدفع نحو تعفن الدولة، ليستنتج ألان تورين، أن أساسيات النظام الديمقراطي تتمثل في الاعتراف بالحقوق الاجتماعية، وشرعية القيادات، والشعور بالمواطنة...إلخ
إن المقارنة بين التمثلات السابقة تبين أن بعضها يدعو إلى المحافظة على كرامة الإنسان بينما يدعو البعض الآخر إلى غياب الأخلاق في الممارسة السياسية، ومهما كان الأمر فلا يمكن لأي أحد أن ينكر أن جميع الدول تضطر إلى اللجوء إلى أشكال من الزجر والإكراهات المادية والبدنية، وذلك ما يسمح لنا بالتساؤل حول علاقة الدولة بالعنف. ومن ثم التساؤل: إلى أي حد نستطيع أن نسمي تلك الإكراهات عنفًا؟
يعتقد الألماني ماكس فيبر M. Weber أن الدولة باعتبارها تجمعًا سياسيًا غير قابلة للتعريف إلا من خلال العنف، فالعنف المادي يعتبر الوسيلة الوحيدة التي تسمح للدولة بممارسة سيادتها، وبدون العنف ستعم الفوضى. كما يؤكد المفكر بأن الدولة تملك الحق في استعمال العنف، فهو إذن عنف مشروع لا يمكن أن يمارسه أي فرد دون موافقة الدولة. أما بول ريكور P. Ricoeur فيرى أن حقيقة الدولة تتجلى في قدرتها على الجمع بين ما هو عقلاني واقتصادي. فالعقلانية تجعل الدولة تعتمد على نوعين من المؤسسات: مؤسسات تكوينية وأخرى زجرية. وذلك ما يعني أن الدولة تلعب دور المربي من خلال المدرسة والجامعة ووسائل الإعلام، إلا أنها تعتمد كذلك على القوة وتضطر إلى اللجوء إلى إكراهات زجرية. ولعل ذلك هو ما دفع بماكس فيبر إلى إدماج العنف المشروع مكونًا أساسيًا للدولة، الأمر الذي يرفضه بول ريكور، لأنه يعتقد أن الدولة لا تقبل التعريف إلا من خلال ممارسة السلطة والسيادة، فمن واجب الدولة أن تتوفر على بيروقراطية منسجمة وقضاء مستقل، ومراقبة برلمانية، وتربية الأفراد على المناقشة الحرة. إن هذه المبادئ، تشكل بعض معايير دولة الحق التي تلعب فيها الحكومة دور الرقيب.
وفي السياق الفكري نفسه، تؤكد جاكلين روس J. Russ أن دولة الحق أصبحت واقعًا معيشًا، ولم تعد كيانًا مجردًا، فدولة الحق تتجلى في الممارسة المعقلنة للسلطة، وتسعى إلى توفير الحريات الفردية وبلورة الحريات العامة، لأن الدولة توجد لخدمة الفرد، وليس العكس، لأنها تعتبره قيمة مؤسسة. فالدولة إذن "تحتل مرتبة بعد الإنسان لما أصبح يمثله من معيار أسمى" و"سلطة دولة الحق تتخذ ملامح ثلاثة: القانون، الحق، وفصل السلط". فلا يمكن أن يوجد حق دون قانون عادل وصريح. كما أن إحقاق الحق مستحيل دون فصل السلطات؛ السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية.
إن مفهوم الدولة من المفاهيم الأساسية التي لا بد من إثارتها فلسفيًا، وأهمية هذا المفهوم تتجلى في اهتمام فلاسفة اليونان به. كما أن الرجوع إلى التاريخ الإسلامي يثير الصراعات التي خاضها المسلمون من أجل ترسيخ هذا المفهوم، وفي الوقت الراهن، فإن طرح مفهوم الدولة يستدعي بالضرورة إثارة مفاهيم كثيرة، مثل الديمقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان. ويلاحظ أن كثيرًا من الناس يتشدقون بهذه المفاهيم لفرط سماعها واستعمالها، إلا أن السلوكيات تدل عن بعدهم عنها، ومن ثم فلابد أن ندرك أن بناء الدولة فعل جماعي يتأسس على الوعي وتمثل الذات والآخرين في حدود الحق والواجب، وأن الدولة وحدها هي من تستطيع أن تمنح الناس الشعور بالانتماء.
2-الدولة في الفضاء العربي والإسلامي:
ينطلق "الجابري" من فكرة أن الإسلام دين ودنيا، وأن الدولة قامت منذ ظهور الإسلام، إلا أن الإسلام لم يحدد شكل الدولة وتركها للاختيار الحر للمسلمين، الشيء الذي أدى إلى ظهور الخلافات فيما بعد. فبعد معركة "صفين" التي أكد فيها الشيعة على ضرورة الاحتفاظ بالخلافة لذرية علي رضي الله عنه، ساند الخوارج معاوية، الذي أقام الدولة السياسية التي تحولت إلى ملكية وراثية بعد ثلاثين سنة، عملت على فصل الدين عن السياسة والعلماء عن الأمراء، وإدخال معايير جديدة في الحكم من قبيل المنفعة والمصلحة.[1]
وخلافًا للجابري، نجد "برهان غليون" الذي يرى أن مرحلة النبوة تمثل "الأساس الأنطولوجي" إذ شكلت مرحلة الأمة، حينما غابت الدولة؛ فالدولة في هذه المرحلة التي امتدت حتى عهد الخلفاء، لم تكن شيئًا غير الإسلام الذي هو مصدر الشرعية التاريخية للنبوة وتفوقها على السياسة والدولة القهرية، كما كان ينظر إليها وكما كانت تمارس آنذاك بالفعل. فالنبوة ظهرت عند العرب حركةً ثوريةً وكان النبي قائدًا روحيًا وسياسيًا وعسكريًا ووسيطًا بين السماء والأرض مبلغًا لرسالة ربه[2]، ولم تكن جمعًا للدين والسياسة، بل حالة استثنائية جاءت لتؤسس لوجود المسلمين أمةً وجماعة، وهي مرحلة جسدت ما قبل الدولة أو ما قبل السياسة، خاصة أن القرآن الكريم لم يتحدث عن الدولة مفهومًا إسلاميًا. وطرحت بعد وفاة النبي الكريم مشكلة الخلافة، ولم تطرح مشكلة السلطة، فلا يمكن فصل لحظة الخلافة عن اللحظة النبوية لكونهما يشتغلان ويفكران بمنطق الأمة لا بمنطق الدولة.[3] أما مرحلة التأسيس السياسي للسلطة، فقد تشكلت بعد الخلافة وعلى أنقاضها، إذ كانت الفتنة الكبرى الشرط التاريخي لميلاد دولة زمنية قهرية، وكان توسع المجال الإسلامي بسبب الفتوحات العامل الرئيسي وراء انهيار القدرة على التحكم في التراب، مما نتج عنه الاقتتال والتنازع حول السلطة وتم الاستسلام للحرب وكأنها كارثة ميتافيزيقية.[4] وقد كان عثمان أول من أدرك تغير الأوضاع وأدرك الحاجة للدولة وللسياسة سندًا ضروريًا للدين.[5] وهو بذلك لم يكن مخطئًا، حسب برهان غليون، في فتحه باب التمكين للسياسة، لأن ذلك هو ما كان حافزًا ودافعًا لبناء الدولة بعدما كان الإسلام لا يحمل أي تصور عن الدولة.
كان ميلاد الدولة في المجتمع العربي الإسلامي علامة على الابتعاد عن الأنموذج النبوي الذي تم خزنه في الجانب المعارض للدولة الذي يدعو على مر التاريخ إلى الرجوع إلى الأصل وتكريس الدين نصًا وتاريخًا. لقد ولدت الدولة، لأن النبوة ليست حالة دائمة ولا عادية، ولا يمكن إلا أن تكون مرحلة استثنائية في التاريخ.[6] ومع ميلاد الدولة سيتحول مركز الثقل من العقيدة إلى الجماعة، باعتبارها قيمة دينية، ومن الدعوة إلى تنظيم الحياة الدنيوية؛ أي إلى دائرة الزمني والتاريخي والممكن، ومن ثم ستنشأ السياسة بمعناها الحقيقي في الإسلام، لكن نشوء السياسة في المجال العربي سيصطحب عنصر إجهاضها مجالاً وحقلاً لتكون في النهاية وتحت ضغط الفتنة الكبرى عبارة عن وصايا فقهية وأحكام سلطانية.[7] وفي ظل تحول مسار تكون الدولة هذا أصبح الكفاح من أجل تماهي الدولة مع الشريعة هو جوهر الإسلام وحقيقته والسبب في ذلك التحول يرجع إلى بث الإسلام لنوع من الروح العلمانية؛ أي الروح الوضعية الموجهة نحو الاهتمام الحقيقي بالعالم الخارجي المادي والواقعي ورفض الزهد والانعزالية.
إن صيرورة التحول من العقيدة إلى العالم الخارجي بالكيفية التي تمت بها في العالم العربي أعاقت نمو السياسة بوصفها حقلاً ومجالاً للممارسة البشرية تقع بين العقيدة واستخدام القوة، وحولتها إلى نقطة مركزية للصراع حول الدولة، وتم اختزال السياسة في الدولة، وهو ما عمق من الفتنة والفرقة، مما شتت العلاقات الاجتماعية بعد لحمتها. وستحول الأحزاب السياسية الدولة إلى نقطة قطبية في الصراع السياسي، إذ سيعمل الحزب على تبرير مقصده استنادًا إلى العقيدة وعبر مطابقة خطابه للشريعة، أو سيعمل على إبعاد الدين عن الدولة باعتبار ذلك شرطًا لولوج المجتمع العربي فضاء الحداثة والمواطنة، لنكون أمام تيارين أحدهما إسلامي يرفع شعار الدولة الإسلامية ويستند إلى أساس إيديولوجي ينبني على الماضي والشمولية والدعوة الضالة.[8]
ويصل برهان غليون في نهاية التحليل إلى أن الصراع بين الإسلاميين والعلمانيين قد أرجع السياسة إلى درجة الصفر، بعد المكتسبات التي حققتها السياسة فيما قبل، وللخروج من هذا المأزق، فيؤكد غليون على أنه لابد من إرساء فهم جديد لدور السلطة الدينية ولدور الدين في المجتمع، وذلك عبر التفكير في الإصلاح والخروج من دائرة الصراع الذاتي والاقتتال الأهلي.[9] كما يرى أن ارتباط الدين بالسياسة لا يمثل الخطر على الدين أو السياسة، ولكن الخطر يكمن في تحويل السياسة إلى ممارسة دينية مقدسة، وإلغاء الفعل العقلي والنقدي فيها، فالخطأ في نظره ليس في تأسيس أحزاب ذات مرجعية إسلامية، ولكن في الادعاء بقدسية العقيدة السياسية المستمدة من القيم الدينية وقدسية السلطة المرتبطة بها.[10] ولا يتعارض الحفاظ على الطبيعة الدنيوية للدولة، يقول غليون، مع جعل القيم الأخلاقية والعَقَدية حقًا كليًا وجماعيًا للمجتمع. لابد إذن، من تجاوز الدولة قطبًا للصراع بين الطرفين وربط تفكير السياسة بتفكير المجتمع، فيتسع حقل السياسة للجميع ويتسع الدين للجميع.
[1] محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي: محدداته وتجلياته، المغرب، دار النشر المغربية، طبعة خاصة بالمغرب، 2003، ج3
[2] برهان غليون، نقد السياسة: الدولة والدين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 1991
[3] المرجع نفسه، ص 47
[4] المرجع نفسه، ص 490
[5] المرجع نفسه، ص 102
[6] المرجع نفسه، ص 100
[7] المرجع نفسه، ص 60
[8] المرجع نفسه، ص 62
[9] عبد الله ساعف، اضطرابات الدولة، إفريقيا الشرق، ط1، 1992، ص 253
[10] برهان غليون، مرجع سابق، ص 74
*المصدر :مؤمنون بلا حدود