مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب
2014/08/27 18:42
مقدمة البحث:
الحمد لله الذي أنزل القرآن بأفصح بيان وأوضح برهان، فهدى به إلى المحجّة وأدمغ به الباطل بالحجّة، وصلّى الله وسلّم على خير خلقه نبيه الذي دعا إلى سبيل ربه بالحكمة ذوي الحجر والأحلام، وبالموعظة ذوي الفطرة السليمة الكرام، وبالجدل بالتي هي أحسن المشاغبين ذوي اللدد والخصام، وعلى آله مصابيح الدجى وصحابته منائر العلم والهدى ومن تبعهم من ذوي الإيمان والتقى، إلى يوم يرث الله الثرى. وبعد:
فليس بخاف أن الدرس اللغوي والحجاجي منه بالخصوص لا يزال يستأثر باهتمام الدارسين، والذين عكفوا عليه ينظّرون له ويكشفون عن تجلياته وتقنياته، وذلك منذ أن عادت العناية بالخطاب، فقد شغل حيزا كبيرا من حياة الناس اليومية، وصار أهم وسائل التواصل وأكثرها نجاعة في التأثير في السلوك، ولا تواصل بدون خطاب.
والقرآن خطاب، بل وخطاب ديني، وكونه كذلك يعني أنه جاء للتأثير في السلوك، لأن الخطاب لابد أن يكون ذا رسالة، وكل رسالة إنما يقصد بها التأثير وإن اختلفت درجته ونوعه من خطاب لآخر.
وكون القرآن ذا رسالة من الطبيعي أن تتباين مواقف متلقيه من أطروحاتها؛ فيذعن لها طرف ’’المؤمنون’’ ويتكبر عليها طرف آخر ’’الخصوم’’، ومن هذا المنطلق يأخذ خطابه في مخاطبة ومحاجّة الطرفين، المؤمنين بتقوية إيمانهم عن طريق المعالم الواضحة التي يرسمها لهم، والمعارضين عبر الحجج العقلية والمقدمات المسلمات، وغير ذلك من الاستدلالات التي تفضي إلى التسليم والإقناع لمن تأملها بالنزاهة والتجرد.
وهذه المحاجّة مجالها اللغة التي تحدث بها مع المذكرين، وهي نفسها توفر له طاقات حجاجية أخرى تتمثل في الأساليب التي توفرها لأهلها، فتنضاف إلى مضامين الخطاب فتزداد قوته الحجاجية. والإطناب واحد من تلك الأساليب التي اشتغل بها الخطاب القرآني في تواصله مع جمهور متلقيه، ومن يقرأ القرآن يلاحظ كثرة تداول وتردد هذا النمط من التعبير فيه، والسبب في ذلك في رأينا _ أو بالأحرى من الأسباب_ يعود إلى ما له من أثر بالغ في التواصل والحجاج؛ فهو أسلوب يتمتع بطول النفس، وليس كل الأغراض يصلح فيها الإيجاز، إذ لكل مقام مقاله الذي تقتضيه الحال.
لنتبين هذا الأثر ولنكشف عن مظاهره وأبعاده في المحاجّة في القرآن؛ ارتأينا أن نخصص هذا الأسلوب بالدراسة وأن نفرد سورة من متوسط الطول لتكون نموذجا لها فيه، فوقع اختيارنا على سورة النحل، ثم لأننا لم نلق حسب اطلاعنا القاصر مؤلفا درس الأسلوب حجاجيا ودراسة مستقلة. فلعلنا بهذا التطبيق نكون قد ساهمنا بلبنة في إبراز حجاجية الخطاب القرآني.
وقبل أن نذكر سبب اختيارنا للسورة، فإنه يجب علينا أن نشير إلى الدراسة القيمة للباحث عبد الله صولة رحمه الله في كتابه الحجاج في القرآن، فقد درس في الباب الثاني الذي خصصه لدراسة: التركيب في القرآن، خصائصه ووجوه الحجاج فيه، كثيرا من مظاهر الإطناب وبين وظائفها الحجاجية، وقد استفدنا استفادة كبيرة من دراسته هذه، وتبنينا الكثير من آرائه والآليات التي اشتغل بها. لكن دراسته لم تكن مبنية أساسا على كشف حجاجية هذا الأسلوب وإنما كان همه في كتابه البحث في قيمة الظاهرة الأسلوبية ’’العدول’’ في بناء الحجاج في القرآن.
وجدير بالذكر أيضا أن الكتب البلاغية والمتعلقة بإعجاز القرآن لم تخل من الملاحظات القيّمة والإشارات النادرة والتي تنصب في صميم ما نرمي إلى كشفه هنا من أوجه حجاجية هذا الأسلوب، ولو ذهبنا نضرب لذلك أمثلة لضاق المقام ولطالت القائمة، لكن ما ذكره أصحابها هي إشارات كما قلنا لأن الحجاج بمفهومه الذي انتهى إليه اليوم لم يكن من هدفهم ولا مما سعوا إلى إبرازه، ومع ذلك سيجد القارئ الكريم بعض تلك الإشارات في هذا البحث.
أما عن سبب اختيارنا لسورة النحل، فقد ذكرنا شيئا منه وهو أنها من السور المتوسطة الطول، وهي بذلك تسمح لنا بإجراء هذا الدراسة المقيدة بالزمن، وثانيا لأنا لاحظنا فيها معالجة أهم القضايا التي دعا إليها القرآن، وكانت أيضا محل الاختلاف بينه وبين خصومه: كتقرير وحدانية الله وقضية البعث وإثبات نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم والوحي، فتحقيق هذه القضايا وإثباتها مع ذلك الاختلاف الذي أشرنا إليه لابد وأنه يحتاج إلى حجاج قوي يحق الحق ويبطل الباطل، وهذا سيسمح لنا بكشف أبعاد الخطاب المتصف بالإطناب. وثالثا لأن السورة زخرت بتعداد نعم الله على عباده، ومن الناس من لا يسلم بأن المنعم بها هو الله تعالى، ومن ثم تأخذ السورة في دعوة المتلقين إلى الاعتراف بأنها منه وشكره تعالى عليها، وهذا أيضا يحتاج إلى تحقيق ينفض غبار الشك ويدعم الحق.
وبعد، فما تجليات حجاجية الإطناب في السورة، وما هي مظاهره وكيف ساهمت في البناء الحجاجي فيها؟
ذانك هما السؤالان المركزيان اللذان سنسعى إلى الإجابة عنهما خلال محطات البحث، وعن أسئلة أخرى حين تعرض لنا خلال الدراسة.
وحتى نفي بهذا الموعود فقد اقتضت منا المعالجة أن يتكون البحث من مدخل وفصلين، جعلنا المدخل بابا لتعرف مصطلح الحجاج وأهم مفاهيمه من القديم إلى الحديث، ثم بيّنا المفهوم الذي نروم السير على غراره في العمل. وخصصنا الفصل الأول المعنون بـ: الإطناب في البلاغة العربية، لتقديم رؤية واضحة عنه في الدرس البلاغي القديم، لنبني عليه دراستنا؛ حيث لا يمكن الحديث عن حجاجيته دون التعرف ماهيته ومظاهره التي رسمتها البلاغة القديمة، ثم حتى نفرق بينه وبين المصطلحات البلاغية القريبة المعنى منه من حيث الاصطلاح البلاغي؛ كالتطويل والتكرار والحشو. وعلى هذا تكون الفصل من مبحثين؛ الأول: التعريف اللغوي والاصطلاحي للإطناب، والمبحث: الإطناب في ميزان النقد البلاغي.
أما الفصل الثاني فقد عنوناه بـ: تجليات حجاجية الإطناب في سورة النجل، وقدمنا بين يديه تمهيدا للسورة، وتم توزيع الفصل على أربعة مباحث، تناولنا في الأول أغراض السورة وسياقها وآليات الحجاج فيها. وتناولنا في الثلاثة الباقية أكثر مظاهر الإطناب ورودا في السورة وقد ارتأينا الاقتصار عليها لهذا السبب، فكانت على النحو التالي:
المبحث الثاني: حجاجية الإطناب بالتوكيد.
المبحث الثالث: حجاجية الإطناب بالتكرار.
المبحث الرابع: حجاجية الإطناب بالاعتراض.
وقد كانت مراجعتنا واستعانتنا بكتب التفسير في استخلاص المعنى الحجاجي الكامن في هذه المظاهر كبيرة، إذ لا يمكن فهم الخطاب القرآني بمنأى عنها، فأهلها هم أدرى بمرامي هذا الخطاب وهم أهل الاختصاص فيه، كما أننا لم نتجاوز في غالب الأحيان التفاسير الثلاثة الآتية: الكشاف للزمخشري، ومفاتيح الغيب لفخر الدين الرازي، والتحرير والتنوير للطاهر بن عاشور، وذلك لاهتمام هؤلاء في الممارسة التفسيرية بالجانب اللغوي كثيرا وإبرازهم للنكت البلاغية التي تنصب داخل النطاق الحجاجي الذي نبحث عنه.
وأخيرا ختمنا البحث بخاتمة ذكرنا فيها أهم ما توصلنا إليه من نتائج، ثم فهرس المصادر والمراجع ثم فهرس الموضوعات.
وانسجاما مع خطة البحث وإلماما بغاياته تبنينا في الفصل الأول منهجا وصفيا تاريخيا، حيث تتبعنا مسار دراسة البلاغيين للإطناب أو نوع دراستهم ابتداء من أبي هلال العسكري ووقوفا بأبي يعقوب السكاكي وانتهاء بابن الأثير. أردنا من ذلك معرفة ما استجد في دراسته عبر هذه القرون الفاصلة بين هؤلاء البلاغيين، أما الفصل الثاني فقد اتبعنا فيه منهجا وصفيا تحليليا يساهم في رصد حجاجية الأسلوب المدروس في التطبيقات.
الخاتمة
بيّنا خلال جميع المراحل التي قطعنا مع الخطاب القرآني من سورة النحل كيف سخّر هذا الخطاب الإطناب ليكون آلية من آليات الحجاج فيه. كما أفصحنا عن الوظائف التي شكلت حجاجية الإطناب في السورة. وقبل ذلك، قمنا برصد الإطناب في ميزان النقد البلاغي القديم، وقد حدا بنا تتبعنا للأمرين معا إلى أن نسطر ونسجل هنا أهم ما استنتجنا وخلصنا إليه:
1-لم يكن تحديد البلاغيين لمقياس الإطناب في الكلام مقياسا منضبطا، فاقترحنا أن نحدده بما اقتبسنا من الباحث عبد الله صولة، وهو’’ الجملة في مظهرها الخبري الابتدائي المفيد والمستقل’’ فما زاد عليها لفائدة فهو الإطناب.
2-تلمسنا خلال دراستنا أن أمر المفاضلة بين أقسام دلالة الألفاظ على المعاني أي الإيجاز والمساواة والإطناب، يبقى مفتوحا ويصعب القطع فيه بقول معين، ويحتاج تفضيل أحدها على الآخر إلى بيان واستدلال جدلي، ذلك أن العرب تكلمت بها كلها، وكلما اقتضى المقام أحدها، كان الإتيان به فيه بلاغة، وليس لأحدها في نفسه فضل على الآخر، وإنما يرجع فضله إلى إصابته موضعه.
3-أبان كل من أبي هلال العسكري وأبي يعقوب السكاكي في دراستهما للإطناب عن أثر المتلقي والمقام في بناء نوعية الخطاب، وأرجع ابن الأثير فائدته في الكلام عامة إلى التوكيد وزيادة التصوير والإيضاح، وهذا أيضا له علاقة بالمتلقي. ويمكن أن يصنف بيانهم هذا في أولى لبنات بناء حجاجية هذا الأسلوب.
4-عملت هذه الدراسة على نفض غبار التهمة عن الإطناب، حيث كلما ذكر تبادر إلى الأذهان وصف ’’التطويل والإسهاب في الكلام’’، فبادرنا إلى تطهيره من هذه الملابسة، حيث تبين لنا عبر فحص الكتب البلاغية اختصاصه دائما بمزية هي ’’الفائدة’’ فلا يوصف أي خطاب بأنه خطاب مطنب إلا إذا كان الإطناب فيه لفائدة، وإلا أطلق عليه وصف غير هذا، كالتطويل والإسهاب والحشو.
5-بهذا التحقيق كنا قد هيئنا الإطناب ليقوم بالوظيفة التي أردناها له، وهي وظيفة الحجاج، فقد بحثنا في الجانب الحجاجي لتلك الفائدة.
6-إن الإطناب في السورة يتوسل التوكيد والتكرار والاعتراض أكثر في بناء حجاجيته، وهي التي شكلت أهم مظاهره فيها، وتظهر حجاجية التوكيد في:
أ-أن التوكيد ’’ضروبه التي رأينا’’ دخل على القضايا محل الاختلاف بين الخطاب وخصومه فأحدث زعزعة لأركان شبههم، وجعل بفضل قوته أطروحات الخطاب هي الغالبة، وفوّت على الخصوم فرصة الاعتراض عليها، حيث لا يمكن إنكارها فقد باتت من قبيل المسلم به. أما في حق المؤمنين فقد عمل على تثبيت القضايا المعروضة عليهم في نفوسهم.
ب-مجيء التوكيد في الخطاب فيه إيحاء إلى مقامه ونقل للحوار الدائر بينه وبين المتلقين، ومن ثم نقض الرأي المخالف لأطروحته.
ج-دخول التوكيد على الجمل رفع من مستوى خبريتها إلى إنشاء أفعال: كالتهديد والوعد والوعيد وهلم جرا.
أما حجاجية التكرار فيمكن رصدها فيما يلي:
أ-كانت الغاية من التكرار الحاصل في السورة _والذي رأينا فيه وجها حجاجيا _ تقوية الحكم أو مضمون الكلام على اختلاف الرسالة التي يحملها من اقتضاء أو زجر أو تهديد.
ب-لما كانت السورة سورة تعداد نعم الله على الخلق، فقد عمل تكرار بعض النعم على جعلها ثابتة ومقتضية للشكر، حيث كأنما يطلب من المتلقين الاستدلال بتكررها على إيجابها الشكر.
أما حجاجية الجمل الاعتراضية، فتكمن في:
أ-أن أغلبها جاءت في معرض ذكر مطاعن المشركين على تنوعها واختلافها، وأصبح الإتيان بها في تلك المواضع ردا وإبطالا لمطاعنهم ومواقفهم، حيث يذكر الخطاب رأيهم ثم يعلق عليه عن طريق الاعتراض بالبطلان.
ب-بفضل الاعتراض حافظ الخطاب في السورة كثيرا على إنشائيته، ولولاه لكان في الخطاب نقل لآراء الخصوم دون التعليق عليها وتحذريهم من عواقبها وسوء تبعاتها.
ج-بمجيء الاعتراض في الخطاب حصل تقابل بين أطروحة القرآن ورأي الخصوم، وفي هذا التقابل فتح للحوار بينه وبينهم، ومن ثم انتقاد رأيهم وبيان أن الحق هو كذا وكذا.
ولو أردنا أن نذكر الجامع بين هذه المظاهر الثلاثة من حيث القوة الحجاجية، قلنا هو جعل كل منها الخطاب يحتفظ بالبعد الإنشائي إضافة إلى الخبر الذي يتضمنه، ويجمع بينها أيضا توكيدها وتقويتها لرسالة الخطاب.
7-لم يكن الإطناب هو الآلية الحجاجية الوحيدة في السورة كما رأينا، ما يعني أنه يمكن دراسة السورة من زوايا أخرى قصد كشف وجوه الحجاج فيها.
هذا، ما كان من توفيق فمن الله وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان، ولله الحمد في الأولى والآخرة.
من اعمال الباحث
أضافة تعليق