مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب
2014/08/27 18:42
د. فهد بن عبدالرحمن اليحيى

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

إن إشكالية التأمين في أصله (كما تنسحب على النوع التعاوني الموجود في الواقع ) هي اجتماع عنصرين:

العنصر الأول: الغرر، وعدم انفكاكه من هذا الغرر الذي هو علة تحريم التأمين التجاري عند من حرمه وهم عامة المعاصرين.

العنصر الثاني: المعاوضة، حيث إن التأمين عقد معاوضة.

فإذا نظرنا إلى العنصر الأول فإن الغرر هو جوهر التأمين ولا يمكن تصور التأمين بدون هذا الغرر والمخاطرة، وما كان من الصور يضعف فيها الغرر فلا ينبغي أن تسمى تأميناً حتى لا تختلط المصطلحات ويمكن التمثيل ببعض أشكال التأمين الصحي إذا انضبط مع أن الانضباط الذي يصبح الغرر فيه معفواً عنه لم أجد له واقعاً ؛ لكن يمكن تصوّره في الذهن فيصبح شبيهاً بعقد الصيانة.

وأما العنصر الثاني: وهو أن عقد التأمين عقد معاوضة فعلينا أن نتذكر ابتداءً أن إباحة التأمين التعاوني كان مستندها تكييفه على أنه عقد تبرع وليس عقد معاوضة، وهذا يبين ما تقدم من أن الغرر لا ينفك عن التأمين ولذا لجأنا في إباحة التأمين التعاوني إلى تكييفه عقد تبرع لأن الغرر في عقد التبرع مغتفر.

وما دام الأمر كذلك فهل عقد التأمين التعاوني عقد تبرع أم عقد معاوضة؟

لقد تأملت ذلك كثيراً فتبين لي أن قصد التبرع وإرادة التبرع عند إنشاء العقد إذا أمكن تحقيقها في أي صورة من صور التأمين بحيث لا يدفع العميل قسط التأمين إلا وهو متبرع لا ينتظر التزاما بالتعويض في حال الضرر بل هو حين العقد عالم بأن التعويض قد يقع وقد لا يقع فحينئذٍ يزول الإشكال في هذا التأمين وتزول علة تحريم ألا وهي الغرر في عقد معاوضة لأنه أصبح غرراً في عقد تبرع.

ولكن مثل هذا العقد هل يمكن تصوّره في سوق التأمين؟

في نظري أننا يمكن أن نتصور ذلك في صور وأحوال محدودة لا تمثل سوق التأمين ولا تفي بحاجات التأمين التي من أجلها قام التأمين، والصور المحدودة التي أشرت إليها يمكن التمثيل لها بالأسرة أو القبيلة حين ينشئون صندوقاً تعاونياً لغرض تعويض المتضرر فقصد التبرع يمكن تصوره هنا، وكذلك مجموعة من الموظفين أو الطلاب أو نحوهم.

أما أن نتصور عقد التأمين القائم على التبرع ليكون بديلاً عن التأمين التجاري في تطبيقاته فهذا قد عسر عليّ جداً.

مثال - التأمين على المركبات

حين تطلب شركة التأمين من العميل مثلا مبلغ (500) ريال كقسط للتأمين على المركبة لمدة سنة هل يمكن أن يكون هذا المبلغ بقصد التبرع؟

إنني أدعي أننا حتى لو أشعنا ثقافة التبرع لحمل الناس على هذا القصد فلا يمكن أن يتحول هذا العقد من عقد معاوضة إلى عقد تبرع، وغاية الأمر أن تشوبه شائبة التبرع لكن يبقى الأصل والقصد الأغلب الأعظم هو المعاوضة.

يوضح ذلك لوازم عقد التبرع وهي عدم المطالبة بالتعويض لو نفد ما في ميزانية الشركة من الأقساط، وعدم التزامها أثناء العقد بالتعويض في حال نفاد الأقساط.

ولو قلنا للناس: إن ما تدفعونه لا يقابله التزام من الشركة في جميع الأحوال ؛ لأن الشخص منكم حين يستحق التعويض قد لا نجد له ما نعوضه، وما دفعه فقد أنفقناه على من وقع له الضرر قبلك.

فهل يقبل بذلك أحد؟!

فإن قيل: تلتزم الشركة بالتعويض.

قلنا: هذا عين المعاوضة.

يوضح هذا المثال الآخر:

مثال آخر - التأمين على البضائع أو على المصانع

ستكون العلاقة هنا بين شركة التأمين وبين شركة تجارية ؛ ولذا فهل يمكن أن تقبل أية شركة تجارية التبرع من قبلها، في مقابل عدم التزام التأمين من قبل شركة التأمين؟!

كيف يمكن قبولها بدفع قسط التأمين (وهو في حالة الشركات مرتفع ) وهي لا تجد في العقد إلزاماً لشركة التأمين بالتعويض.

وهل يمكن تصوّر شركة تقبل بالتبرع لشركة أخرى منافسة لها؟

البديل المقترح

بدايةً فإن الحل في نظري قد لا يكون جذرياً فربما نجد أنفسنا في بعض الحالات أمام خيارات ننتقي منها ما هو أكثر ملائمةً للضوابط الشرعية وأدناها مخالفة وهذا ما لعله ينطبق على الحل المقترح.

بما أن إشكالية التأمين التعاوني في الواقع هي في اجتماع عنصري الغرر والمعاوضة فالحل إذاً يكمن في معالجة أحد العنصرين.

أما الغرر فكما تقدم لا يمكن تصور التأمين منفكا عنه فيبقى العنصر الثاني وهو المعاوضة.

تأملت في الجهة التي يمكن أن يزول معها عنصر المعاوضة أو أن يضعف، فرأيت أن الدولة (الحكومة أو بيت المال) هي الجهة القابلة لمثل هذا التصور و بالتالي فإن التأمين إذا أصبح حكومياً ستصبح العلاقة أقل من حيث عنصر المعاوضة (و لا أدعي أنه سيزول كلياً).

مثال على مستوى الأفراد

وليكن ذلك في تأمين المركبات (توحيداً للمثال لتسهل المقارنة):

في جانب الفرد حين يدفع قسط التأمين لسنة واحدة (500 ريال) مثلاً فهو يدفعه للدولة، فليس من العسير أن يتم على هيئة رسوم للمركبة أو أن تضاف إلى رسوم رخصة الملكية (الاستمارة) أو رخصة (القيادة) وتذهب فعلا إلى خزينة الدولة، وبهذا يضعف عنصر المعاوضة.

نحن ندفع رسوما للدولة في أشكال متعددة، ومهما عسُر علينا تكييف تلك الرسوم من الناحية الفقهية فتبقى -في نظري – إشكاليتها أقل بكثير من إشكالية قسط التأمين لشركة من القطاع الخاص، ولذا فإن هذا القسط لو مضت السنة من غير استفادة منه فإنه من قبيل الرسوم.

في جانب الدولة حين يقع حادث للسيارة (أي سبب للتعويض في التأمين) فمقتضى التأمين هو التزام المؤمن بالتعويض، وهذا ما تلتزم به الدولة في هذه الحالة، فإن وفت أقساط المستأمنين (العملاء) وإلا غطت الدولة العجز.

والتزام الدولة هنا لا ينقل العقد من التبرع إلى المعاوضة ؛ لأن الدولة تلتزم بالتبرع للمواطن، وهو من شأنها، بخلاف شركة التأمين حين تكون من القطاع الخاص فليس من شأنها التبرع للناس حتى لو كيّفنا التزامها بذلك، وهي شركة ربحية لا يمكن تصور ذلك منها.

وهذا الحل المقترح يمكن تطبيقه على مستوى الأفراد في سائر أنواع التأمين، ومن أهم ذلك التأمين الصحي، حيث تتولاه الدولة ولا تدع مواطنيها تحت رحمة شركات التأمين؛ وعليها في هذه الحال أن تكون أيضاً رحيمة بهم فيشعر الموظف أن ما تأخذه الدولة منه مقابل الرعاية الصحية رمزياً , مع كونه يمثل قدراً لا يستهان به من رأس المال حيث تتجمع المبالغ القليلة من العدد الكثير وتدعم الدولة في هذه الحال النقص اليسير إن وجد.

وأما عقد الدولة مع القطاع الصحي الخاص فقد يقال بدخول الغرر فيه، فهو عقد إجارة على عمل (خدمات)، والعمل غير منضبط وكذلك عدد المستفيدين منه.

ولكن لو نظرنا من حيثية أخرى فهو يشبه عقود الصيانة التي أجازها المعاصرون والمجامع الفقهية، كما أن الغرر يظهر في العدد القليل دون العدد الكثير حيث يمكن تضييق الاحتمالات لتكون ضمن دائرة هي من قبيل الغرر المغتفر كما هو معروف في علم الإحصاء.

مثال آخر على مستوى الشركات

إن إمكانية تطبيق البديل المقترح على مستوى الأفراد أقرب منها على مستوى الشركات ؛ ومع أننا لو نجحنا في هذا الجانب لكفى في حد ذاته ؛ فعلاج جزء من المشكلة غاية وهدف ؛ إلا أن تطبيقه على مستوى الشركات ليس مستحيلاً فما المانع أن تتولى الدولة التأمين على البضائع أو المصانع أو غير ذلك مما تحتاجه الشركات؟

فالدولة يهمها استقرار الشركات فيها لانعكاسه على استقرار اقتصادها.

كيف تتولى الدولة التأمين على مستوى الشركات؟

يمكن ذلك من خلال المنظمات المتصلة بالدولة والمدعومة منها كالغرفة التجارية، فيصبح قسط التأمين من قبيل الرسوم على الشركة، وتلتزم الدولة بالتأمين، ويكون التعويض حتى في حال نفاد الأقساط جزءاً من دعم الدولة للشركات كجزء من دعم الاقتصاد، فكما أن الدولة تدعم البنك في حال عجزه فكذلك هنا.

تجارب الآخرين

اتخذت بعض الدول نوعاً من التأمين تتولاه مستقلة أو بمشاركة القطاع الخاص، ويطلق عليه البعض التأمين الاجتماعي، وهو قريب من الصيغة المقترحة وإن لم تكن ذاتها، وكانت عنايتي أصلاً بالتخريج الفقهي للفكرة إذ التفاصيل هي من شأن ذوي الاختصاص، كما تنبغي الإشارة إلى أن التأمين الاجتماعي في غالب الدول التي اطلعت عليها قد انحصر في التأمين الصحي لأهميته، وهو جدير بذلك، ولذا عقدت المؤتمرات لهذا الهدف وكان منها مؤتمرات وندوات في السعودية منها مؤتمر التأمين الصحي ’’آفاق وخيارات’’ والذي عقد خلال الفترة من 6-7 جمادى الأولى 1432ه الموافق 10-11 أبريل 2011م وذلك بمركز الرياض الدولي للمؤتمرات والمعارض.

وقد أوضح بعض المختصين أن التجارب العالمية الناجحة في التأمين الصحي على المواطنين كانت على شكل صناديق حكومية واجتماعية أو خليط بين الاثنين، بحيث تؤدي هذه الصناديق دور الوسيط بين المؤمّن عليه ومقدم الخدمة سواء من القطاع الحكومي أو الخاص، شرط أن لا تهدف إلى الربح.(1)

وتجارب الدول في هذا النوع من التأمين ولاسيما التأمين الصحي كثيرة كما في كندا وفرنسا والصين واليابان وغيرها.

الإشكالات المتوقعة

قد يتبادر إلى الذهن بعض الإشكالات، ومن المهم الوقوف عندها:

الإشكال الأول ألا تعتبر الرسوم قسطاً للتأمين يقابله التزام فيصبح العقد معاوضة؟

هذا إشكال وارد وقد حاولت معالجته فيما تقدم، وأذكّر به بإيجاز:

1- أكرر ما قدمت به أننا نسعى إلى الحل الأبعد عن الإشكالات الشرعية ما أمكن وليس الخالي منها فقد لا نجد.

2- محور الحل المقترح تخفيف عنصر المعاوضة في العقد، فحين ننظر إلى العقد المقترح من هذه الحيثية يزول الإشكال.

فالدولة طرف في العقد وهي جهة غير ربحية إذاً سيضعف عنصر المعاوضة.

والمواطن حين يدفع القسط للدولة فهو يدفع لا نقول بنية التبرع المحضة ولكن أيضاً ليس بنية المعاوضة المحضة.

وكما تقدم فهو يدفع جملة من الرسوم التي ربما لم تستوقفنا كثيراً في تكييفها الفقهي.

وهو حين يدفع أيضاً فإنما يدفع لبيت المال وهو مشترك.

وكذلك فقد جاء عن بعض الفقهاء كشيخ الإسلام ابن تيمية ما يتعلق بدفع المال لبيت المال.

فكل هذه الملابسات تخفف عنصر المعاوضة.

مع أني أرجو ألا يتخذ هذا المقترح لامتصاص أموال الناس بغير حق ؛ بل ينبغي أن يكون رمزياً ليدعم التأمين الذي تدعمه الدولة من جانبها.

الإشكال الثاني كونه عكس الخصخصة

ربما قيل: إن هذا المقترح يعيد فكرة التأميم في وقتٍ تتجه فيه الدول إلى الخصخصة؟

فنقول: يجب النظر إلى المصلحة العامة والموازنة بين المصالح والمفاسد (أو الإيجابيات والسلبيات)، في أية برامج، ومنها الخصخصة ؛ لأن توجه الدول إليها هو بغرض البحث عن الأفضل، وهذا متحقق في قطاعات متعددة(2)؛ ولكن ليس بالضرورة أن يكون التأمين منها،فقد ظهرت سلبيات وإشكاليات التأمين المستقل عن الدولة، فربما كان المرتبط بالدولة أقل في (السلبيات ) وهذا ما أزعمه في هذه الورقة.

ومن جانب آخر ينبغي أن نعلم أن الهامش الربحي في شركات القطاع الخاص التأميني كبيرة جداً، ولذا ففي الشكل المقترح الذي نطرحه لن يزول هذا الهامش بالكلية، لكن نسبته قد تقل لأسباب منها تقليل القسط المطلوب، ومنها التغطية الحقيقية للحوادث والتي قد لا تتم لدى شركات القطاع الخاص.

وإذا كان هامش الربح موجوداً فهذا يضمن استمرار المشروع لوجود تغطية لرأس المال، وهامش الربح يستفاد منه كاحتياطي وكحوافز.

الإشكال الثالث

ضعف الأداء مقارنة بالقطاع الخاص بحيث أن ضعف الحافز الربحي قد يؤدي إلى ضعف الأداء

ومعالجة هذا الإشكال -في نظري – ليست بالعسيرة إذا أمكن اتخاذ الاحتياطات والتدابير والحوافز المعينة على ذلك، وليس القطاع الخاص دائماً بأحسن أداءً حتى مع حوافزه من القطاع الحكومي ولا سيما مع قوة الدولة ورقابتها.

أخيراً...

ربما قيل:ما دامت الحلول لديك لا تسلم من الإشكالات فأين نجد التأمين من خلال النظام الاقتصادي الإسلامي؟

جواباً على هذا السؤال يمكن إعادة صياغته أيضاً بما يلي:

هل النظام الاقتصادي الإسلامي أصلاً بحاجة إلى صناعة التأمين؟

دائماً أدعو أن يكون النظر إلى المسائل المعاصرة بنظرين:

أحدهما في حالة تطبيق النظام الاقتصادي الإسلامي الشامل.

وثانيهما في الواقع الحالي.

فما طرحته في هذه الورقة يندرج تحت النظر الثاني.

وأما لو نظرنا من خلال النظر الأول فالذي أزعمه أن تطبيق النظام الاقتصادي الشامل يغني عن التأمين بصورته الحالية، وليست المصائب التي قد تجتاح المال أو تصيب الإنسان شيئاً حادثاً ؛ بل ’’خلق الإنسان في كبد’’، فكان السؤال قائماً:أين معالجة ذلك في النظام الاقتصادي الإسلامي؟

وقد كنت كتبت شيئاً من هذا (الإدعاء) منذ زمن حين درست جانباً من الاقتصاد الإسلامي، وسوف أتناوله في وقتٍ لاحقٍ بإذن الله.



(1) صحيفة الحياة 9/4/2011.
(2) بالرجوع إلى البحوث والمقالات التي تتحدث عن الخصخصة بشكل عام وعنها في السعودية بشكل خاص ندرك أن الخصخصة كغيرها من البرامج الخاضعة للتقييم بين فترة وأخرى من حيث سلبياتها وإيجابياتها وملاءمتها لهذا القطاع أو ذاك .
كما أن الخصخصة لكي تنجح في قطاع معين يجب أن تتم بشروط وقيود ورقابة وإلا فإنها تفقد ميزاتها .
من اعمال الباحث
أضافة تعليق
آخر مقالات