دور الدعاة في الأمن الفكري (1-3)
محمد الحبر يوسف
تكابد الأمة المسلمة اليوم، والسودان جزءٌ منها، واقعاً جديداً، تلاشت فيه الحواجز، وانفتحت السماوات، وأصبحت المعلومات والثقافات والأفكار تنتقل من مكان إلى مكان دون أن يمنعها من ذلك مانع. وفي ظل هذا الواقع الجديد، يصبح الحديث عن «الأمن الفكري لأمتنا»(1) ضرورةً ملحة، وواجباً مفروضاً، فنحن نعيش في زمانٍ - برغم ما فيه من تظاهر بقيم حقوق الإنسان، وإيمانٍ بالتعدديات الثقافية والدينية والحضارية - فإنّ القوى المهيمنة عليه تمارس علينا نوعاً من العدوان الفكري، والاستلاب الثقافي، بما في يدها من أدوات وأساليب مكّنتها من بسط هيمنتها وتسلطها بصورة غير معهودة. وما هذه الاتفاقيات - ذات الطابع الثقافي والاجتماعي(2)
التي تُلزم الدول بإبرامها، دون تحفظٍ، إلا نموذج فاضح يجسد الرغبة في سحقِ أي مشروع آخر، يُمكن أن يطرح نفسه بديلاً، ولو بعد حين. بل بلغ الأمر بمنظري الفكر الغربي أن يعلنوا في زَهوٍ غير مسبوق، عن مقولتين تمثلان قمة الاستئساد الغربي هما مقولتا «نهاية التاريخ»، و«نهاية الجغرافيا». وما نهاية التاريخ إلا إعلانٌ بأنّ النظام الباقي، الذي لن تجد الإنسانية أفضلَ منه، هو الديمقراطية في السياسة، والرأسمالية في الاقتصاد، ومن أراد أن يبدع شيئاً جديداً فلا سبيل إلى ذلك إلا بعد التسليم بمرجعية هذا الغرب، ومزاولة إبداعه في فضائه. وأمّا نهاية الجغرافيا، المقولة الثانية، فتعلن بأنّ الجبال والبحار، والحواجز الطبيعية لم تعد تمثل موانع في وجهِ القوة الإعلامية الغربية التي تستطيع أن تحرك آلياتها الضخمة متى ما شاءت لتصنع ما تشاء (3).
ومن هنا فإنّ قضية الأمن الفكري، قضيةٌ حية، نحتاج لمعالجتها أن نتفق على مُسلماتٍ نجملُها في الآتي: المسَلمة الأولى: هي أنّ الرؤية الفكرية بالنسبة للمسلم، ليست مجردَ ثقافة يتسربل بها إن شاء ويخلعها إن شاء، ولكنَّها عقيدة لا تقوم هويته إلا بها، ومن هنا كانت الانحرافات الفكرية التي يبتلى بها بعض أهل الإسلام، أسوأ أنواع الانحرافات وأبعدها ضلالاً، لأنّها تزين لصاحبها أنّه على صواب وغيره على خطأ، وأنّه محقٌ وغيره مبطل قال تعالى: ’’قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)’’ (الكهف)، وهذه الآية الكريمة من سورة الكهف تَصدق على أصحاب العقول المنحرفة الذين عدلوا عن منهج الحق، وظنّوا أنهم يحسنون صنعاً، فانتهى بهم هذا الظن الكاذب إلى التمادي في الباطل وعدم الإذعان للحق، وكيف يرجع للحق من يظن في نفسه أنّه يملك الحقيقة وينطق باسمها؟! وواقع المسلمين في ماضيهم وحاضرهم يخبرنا أن الانحرافات الفكرية والعقدية كانت أضرَّ على المجتمع المسلم من الانحرافات التي وقعت بسبب الشهوات وضعف النفس، ودونك فتنة الخوارج، الذين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يمرقون من الدين كما تمرق السهم من الرّمية(4)، فالخوارج وإن كانوا من أكثر الناس صدقاً، وبعداً عن الشهوات، وزهداً في الدنيا والملذات، إلا أنهم - بسبب فساد تصورهم وانحراف فكرتهم - سفكوا الدماء، واستحلوا المحارم، ووقعوا في الطغيان الذي حذر الله منه عباده المؤمنين، قال تعالى: ’’فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ . وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ’’(هود). المسَلمة الثانية: ومفادها أنّ الدعوة إلى الأمن الفكري ليست دعوةً إلى الجمود والانعزال، أو محاولة لإخضاع الفكر لمتطلبات الأمن القائم على الحذر والترصد، فالأمن الفكري الذي ندعو إليه لا يتعارض بحالٍ مع مناهج الحكمة القاضية بالانفتاح على الآخرين، والتعايش معهم والتعرف إليهم، والانتفاع بما عندهم. فقد علّمتنا التجارب أن الأمّة كلما مدّت أسباب التواصل مع غيرها، ممن يخالفها في الدين والمعتقد؛ زاد ذلك من قدرتها على تبليغ دعوتها، ونشر حقائق دينها، ونحن نعلم أن صلح الحديبية الذي أمِن فيه الناس، ووضعت الحرب أوزارها سمّاه الله فتحاً مبيناً، ومن أوجه هذا الفتح أنّ عدد الذين دخلوا في الإسلام بعد صلح الحديبية يفوق عدد الذين أسلموا منذ بداية الدعوة أضعافاً كثيرة، فالثابت في السيرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة، وخرج إلى فتح مكة بعد عامين فقط في عشرة آلاف(5).
وإذا كانت المقاومة ضرورة من ضرورات الدفاع عن أصالة الأمة، ودرء آفات الشرور عنها، فإنّ الانفتاح المبصر هو السبيل الوحيد الذي يحقق لها التواصل مع الآخرين أخذاً وعطاء، وتبادلاً نافعاً في ميادين الحياة. ولا مراء أنّ هذه المهمة ليست من المُهمات اليسيرة التي يُمكن أن تنال بأقل جهد يبذل، ولكنها مهمة أساسية لا سبيل إلى تحقيقها إلا باستكمال الخصال المؤهلة لها، ومنها خصلتان مدح الله بهما رسله الكرام، هما القوة والبصيرة، فقال جلَّ وعلا: ’’واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار’’ (ص:45).
المسلمة الثالثة: هي أن الأمن الفكري الذي نطالب به لا يتوجه فقط للوافد الخارجي، فهناك أفكارٌ من داخلنا، يروج لها من ينتمي لديننا، ويتكلم بألسنتنا، وهي أفكار ضارّة لا تعبر عن حقيقة الدين، ولا عن التيار الأساسي في الأمة. والتهاون مع هذا النوع من التوجهات الداخلية مضر ضرراً بليغاً بأمننا الفكري، لأنّه يسمح لأصحاب هذه الأفكار أن يتمددوا في فضائنا دون أن يَحُسّ بغربتهم أحد، فهم ينطلقون من الإسلام ويتحدثون باسمه، ويُلبِسُون على النّاس دينهم. ويمكن أن نجمع أصحاب هذه التوجهات - التي تنطلق من مرجعية إسلامية - في تياراتٍ ثلاثة، تمثل تحدياً فكرياً حقيقياً. التيار الأول: هو التيار الطائفي الذي يستند إلى مرجعية شيعيّة غالية، تنبش أحداث التاريخ، وتلفق منها الأباطيل لتهدم في حياتنا الفكرية مرجعياتنا التي نعتز بها ونترضى عليها. والتيار الثاني: هو تيار الغلاة ممن يؤمنون بالعنف طريقاً للتغيير، وينصبون من ذواتهم مرجعيات تفتي النّاس في أدق مسائل العلم والعمل. والتيار الثالث: ولا بأس أن نطيل النَفَس معه قليلاً، هو تيار الإسلام العصراني الذي تقدمه أمريكا على أنّه نموذج للإسلام المعتدل، فقد نشر قبل أعوام خلت معهد «راند»(6) الأمريكي تقريراً، يدعو الإدارة الأمريكية بضرورة السعي لدعم تيار الإسلام المعتدل الذي يفوت الفرصة على المشروع الإسلامي الأصيل، والاعتدال الذي يتحدث عنه هذا التقرير ليس هو الاعتدال الذي نعرفه من ثوابت ديننا، والذي يدعو إليه بعض أعلام عصرنا من العلماء الثقات، إنّ الاعتدال الذي يدعو إليه تقرير معهد «راند»، عبّر عنه بوضوح أشد الكاتب الأمريكي المرموق، والمقرب من صنّاع القرار في بلده «دانييل بايبس» في مؤتمر حاشد دعا إليه عمدة لندن 2007م تحت عنوان «حضارة عالمية أم صراع حضارات»(7) تحدث هذا الكاتب الأمريكي، وأعلن بوضوح أنّ جهود الإدارة الأمريكية سوف تنصب على تشجيع الإسلام المعتدل، الإسلام الليبرالي الذي يتعامل باحترام مع النساء والمثليين والملحدين وغيرهم. ولم يكتف بهذا القول ولكنّه قدم ثلاثة نماذج لرموز هذا الإسلام المعتدل، وهم: «وفاء سلطان، ومجدي علاّم، وسليم منصور» (ثلاثة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون). المسلمة الرابعة: ضرورة تحرير مصطلح «الأمن الفكري» من التوظيف السياسي للأنظمة الحاكمة، فبعض حكوماتنا تريد أن تجعل من الأمن الفكري حجةً تستند إليها في مواجهة خصومها، ومصادرة حقوقهم، وحري بمثل هذه الأنظمة أن تدرك أن زمان المنع والمحاصرة قد ولى، وأن من الخير لها ولشعوبها أن تعمل على استيعاب الأفكار وهضمها وفق مرجعية الأمة المتفق عليها. هذه المسلمات الأربع تحدد لنا الرؤية التي ينبغي للدعاة إلى الله أن ينطلقوا منها، وهم يواجهون الأخطار الفكرية التي لا تقلّ ضراوة عن خطر الجيوش الغازية.
دور الدعاة في الأمن الفكري (2-3)
تناولنا في العدد الماضي الأخطار الفكرية التي تتعرض لها أمتنا وقلنا إنها لا تقلّ ضراوة عن خطر الجيوش الغازية، وأكدنا على أن المقاومةُ ضرورةً للدفاع عن أصالة الأمة، يواكبه الانفتاحِ المبصر الذي يحقق لها التواصل مع الآخرين أخذا وعطاء.
والنقاط التالية تمثل منطلقاتٍ أساسية في دور الدعاة لمعالجة هموم الأمن الفكري لأمتنا:
المنطلق الأول: تعزيز الشعور بالاجتباء.
المنطلق الثاني: دفع آفات الفكر بالحجة والبرهان.
المنطلق الثالث: التأسيس لمرجعيات موثوقة.
أولا: تعزيز الشعور بالاجتباء: وأعني بهذا أنّ الأمة المسلمة أمة لها خصائص تميزها، وسمات تفردها عن غيرها من الأمم، فهي الأمة الوحيدة التي تستطيع أن تزعم أنّها تمتلك مصدراً معرفياً معصوماً يتمثّل في الوحي الذي ’’لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد’’، وهي الأمة الوحيدة التي تستطيع أن تبرهن أنّ دينها كان سببا مباشراً في نهضتها وتماسكها، ولم يكن عائقاً أمام انطلاقتها كما كانت الأديان المحرفة الأخرى، وأخيراً فإنّ أمتنا هي الأمة الوحيدة التي تزعم أنّها تملك إجابات واضحة عن التساؤلات الكبرى التي حيّرت العقل الإنساني. هذه الأسباب الثلاثة ، ويوجد غيرها ، تجعل من الأمة المسلمة أمةً ذات كيان خاص ونمطٍ فريد ، ومن هنا كان تعزيز الشعور بالاجتباء والاصطفاء أمراً مهماً في حياة المسلم قال تعالى: ’’وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ ’’( الحجرات:7)
وقال تعالي: ’’وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ’’(آل عمران :139).
إن تعزيز الشعور بالاجتباء ، من شأنه أن يحرر الأمّة من فتنة الركون إلى أهواء العصر، والرضا بمرجعية أخرى غير مرجعية الإسلام. ومعلومٌ أن العقل المسلم منذ أن ابتليَ بانتصار الحضارة الغربية ، وجد نفسه في محنةٍ عظيمة ، ومواجهة سافرة مع حضارة فتية مقبلة ، جعلت فريقا من المسلمين ينهزمون أمام تيارها الجارف ، وينادون بتقليدها في حلوها ومرها ، وما يحمد منها وما يعاب؛ لأنه كما صرّح بعضهم (لولا الغرب ورجاله ومفكروه لتعرت حياتنا الفكرية على حقيقتها ، فإذا هي حياة لا تختلف كثيراً عن حياة الإنسان البدائي في بعض مراحلها الأولى) مواءمة بين الإسلام ونظم الحياة: وذهب فريق آخر ممن صدمته الحضارة المعاصرة إلى سلوك طريق أقلّ حدة وغلواً وهو العمل على المواءمة بين الإسلام ونظم الحياة الغربية المعاصرة ، وأصبح الهمّ الكبير الذي يدندن حوله هؤلاء هو إثبات أنّ الإسلام قابل لأن يتعايش مع قيم الحضارة الغربية دون أن يتناقض معها، ذلك لأن المبادئ التي تقوم على أساسها الديمقراطية الغربية، وقيمِ حقوق الإنسان والمرأة والطفل يمكن أن تكون إطاراً جامعاً بين الغرب والإسلام ، لأنّها في حقيقتها مبادئ إنسانية عامة لا تتعارض مع روح الشريعة الإسلامية ومقاصدها. والمشكلة التي واجهت هذا التيار، الذي يدعو إلى المواءمة مع الغرب ونظمه أنّه - مع مرور الأيام- وجد عقله حائراً بين مرجعيتين، فإما أن ينتصر للإسلام بكل ما فيه من عقيدة وتشريع وأخلاق، وإمّا أن يرضى بالغرب مرجعاً له في حياته الثقافية والاجتماعية، ولا يوجد طريق ثالث بين هذين. هذه الحيرة جعلت رموز هذا التيار تأتي إلينا بالغرائب في كل مرة، لأنها تحاول أن تلفق بين المتقابلات حتى تصوغ منها فكرة منسجمة، ولذلك لا عجب أن يظهر من بين كُتـابنا من ينادي بـ (العلمانية المؤمنة)، ومن يدعو صراحةً إلى (تفكيك الإسلام) وذلك بإحداث خروق اجتهادية في منظومة الإسلام العقيدة والفقهية، تخالف ما أجمعت عليه الأمة طوال تجربتها التاريخية، انتصاراً لقيم الحداثة الغربية ومرجعيتها الحاكمة، فحتى نقر قيمة المساواة بين الذكر والأنثى فلابد من السماح للمرأة المسلمة بإمامة الرجال في الصلاة ، على نحو ما فعلت الحداثية أمينة ودود، ولابد من إجراء مراجعات فقهية لأحكام المواريث في الإسلام، تساوي بين الذكر والأنثى في جميع صور الميراث، لأن الأحكام الفقهية المتعلقة بشؤون المعاش قابلة كلها للتغيير والتعديل وفق ما تقتضيه ظروف العصر والمكان، يقول د. منصور خالد، الذي أقحم نفسه في قضايا الاجتهاد الإسلامي (من الواضح أنّ الفقهاء المجتهدين قد التزموا التزاماً صارماً بما ورد في الكتاب حول حقوق المرأة في سورة النساء، بيد أن تلك الآيات لا تفهم إلا في سياقها التاريخي حيث تنزلت بعد هزيمة المسلمين واستشهاد عدد كبير منهم ، مما اقتضى تقنيناً جديداً للطلاق والميراث) إنّ الخلاصة النهائية التي يمكن أن ينتهي إليها هذا النوع من التفكير –وهو في حقيقته تفكير قاصر ومقلّد ومعترض عليه –أن نجعل من الإسلام دينا محكوما بقِيم الحداثة الغربية، تابعا لمقرراتِها تبعية المفضول للفاضل. ملاحظات ثلاث وهناك ملاحظات ثلاث لابد من إثباتها هنا، ونحن نتحدث عن وجوب تعزيز الشعور بالاجتباء، لمواجهة المخاطر الفكرية الوافدة أو الأصيلة.
الملاحظة الأولى: حول ظاهرة المثقف المسلم الذي رضي لنفسه أن يكون تابعاً للمثقف الغربي يردد أقواله، ويلتقِط مفاهيمه، دون أن يكلف نفسه عناء الإبداع والنقد لها، بل لا نُبعد النُجْعة إن ذهبنا إلى أن المثقف الذي ينتمي إلى دار الإسلام كان، دون أن نعمم القول، ممن وطأ الأكناف لظاهرة الاستلاب الثقافي، وتكريس التبعية العمياء للغرب. أليس من المفارقات التي يطول منها العجب أن يكون المثقفون في كل أمةٍ هم عقلها المفكر، وطليعتها المدافعة عنها وعن تاريخها ورجالها، يحملون هموم أمتهم، حال كونهم كتاباً أو فلاسفة أو شعراء أو فنانين، ويتصدون جميعاً لكل خطر يهدد وجودهم المعنوي أو الماديً، بينما أهل الثقافة فينا لا اشتغال لهم بأصول قضايانا، وكأنهم ليسوا مناّ في شيء.
الموقف من التراث.
الملاحظة الثانية : حول الموقف الصحيح من التراث ، وهناك سؤال ما زال بعض كتّابنا يطرحه ويدندن حوله وهو ماذا نأخذ من التراث ؟ وما الذي يجب أن نستدعيه منه؟ وهذا السؤال يبدو عند التحقيق منتكسا ، لأنّه يفيد ضمنا أن التراث الذي نتحدث عنه ، هو تراث منفصل عنّا ولا يمت إلينا بصلة ، لقد غاب السؤال الصحيح الذي كان مطروحا فيما مضى (ما الذي نأخذه من الوافد ؟) ليحل محلّه السؤال عن التراث وما آل إلى مجتمعنا الراهن من قيم وأفكار وعادات وأخلاق وآداب. والحقيقة أن التراث بالنسبة لنا أمر هوية وانتماء، وموقفنا منه يجب أن يكون موقف الذي يستظل بظله، ويقف على أرضه، ويتقيد بأصوله وكلياته، ثم يجتهد بعد ذلك في تصويبه وتصحيحه ولكن من داخله وبأدواته، هذا هو الموقف الإجمالي الصحيح من التراث . وأحسب أن من القواعد الحسنة التي أبدعها المفكر المغربي الفيلسوف طه عبدالرحمن قاعدتين منهجيتين تحددان الموقف من التراث المأصول، ومن الوافد المنقول. (أولاهما صيغتها كالآتي: •كل أمر منقول معترض عليه ، حتى تثبت بالدليل صحته وهذه القاعدة توجب أن يكون النقد للمنقول هو مطالبته بالأدلة التي تثبت صحته، ثم التعرض لها بالطرق الاستدلالية المشروعة، وذلك من أجل اختبار فائدتها في إثبات المنقول. القاعدة المنهجية الثانية .
كل أمر مأصول مسلّمٌ به ، حتى يثبت بالدليل فساده وتوجب هذه القاعدة الثانية أن يكون نقدنا للمأصول هو تعليق صحته بانتفاء الأدلة المبطلة، بحيث لا يقل استعدادنا لطلب هذه الأدلة، متى اقتضى الأمر، عن استعدادنا للمطالبة بالأدلة المثبتة لصحة المنقول.) إن الصلة بالتراث لا تفيد التقليد، ولا توجب الانكفاء عليه ، وتقديرنا لتراثنا الفكري لن يكون حائلا بيننا وبين أن نبدع ونطور مسترشدين بما تركه لنا السلف من علم نافع، نتخّير منه ما يكون أنسب لزماننا وعصرنا، دون أن نتجاوز ثابتاً أو نضيق واسعاً، أو نسيئ أدباً . وخلاصة القول: إن ما أبدعه العقل المسلم من علوم وثقافة بالنسبة لنا (كنز مرشد) علينا أن نتعامل معه بفكر مستنير، نسترشد ونهتدي بما فيه، ونعمل على حفظه حفاظاً على ذاكرة الأمة، واستفادة بخبرات السلف، على النحو الذي يضيف أعمارهم إلى أعمارنا وأما ما تجاوزه التطور من إبداع السلف فإننا نتجاوزه، معتزين به، واضعين إياه في متحف التاريخ الفكري، مادةً للعظة والعبرة الدين والتدين.
الملاحظة الثالثة : ضرورة التفريق بين الدين والتدين، فالدين هو ما أنزله الله تعالى، وأرسل به رسله الكرام، وأمّا التدين فهو كسب الناس، وما يمارسونه من سلوك، وما يلتزمون به في حياتهم من قيم وأخلاق. وعليه لا يجوز لنا ونحن نتحدث عن تعزيز الشعور بالاجتباء، أن نخلط بين الدين المنزل، والممارسة التاريخية لصور التدين في مجتمعات المسلمين، حتى لا يظن الناس أن الدعوة إلى تعزيز الشعور بالاجتباء دعوة إلى تقليد واقع ديني معين في بلد معين، أو أنها دعوة للقطيعة مع المجتمعات التي نعيش فيها طمعا في استدعاء نماذج التاريخ الماضي. ومن رحمة الله بنا أن الدين الذي أنزله الله سمح للمتدينين به أن يحدثوا في أمور دنياهم من النماذج والأشكال ما يعبرون به عن واقعهم الاجتماعي، بحسب أوطانهم وبيئاتهم ، وجعل هذه الدائرة التي يسميها فقهاؤنا بدائرة العفو أو الفراغ التشريعي، موكلة لظروف النّاس، ولم يتدخل في إبطال شيء منها، إلا أن يكون قائما على فساد، يقول الكاتب الإسلامي الكبير علال الفاسي: ’’ومن محاسن دين الإسلام أن له المرونة الكافية التي جعلته يتمشى مع سير الآلة النفسية للشعوب التي اعتنقته، وهكذا نجد في العالم الإسلامي تغايرا في طبائع الجماعات المسلمة وفقا لطبيعة الأرض التي تسكن بها، وأن ما يتراءى من هذا التغاير الملموس ينتهي في باطنه كله لهذا النموذج النفسي الإسلامي’’
دور الدعاة في الأمن الفكري (3-3)
ذكرنا في العدد الماضي أن هناك ثلاثة منطلقاتٍ أساسية في دور الدعاة لمعالجة هموم الأمن الفكري لأمتنا وهي: المنطلق الأول: تعزيز الشعور بالاجتباء، والمنطلق الثاني: دفع آفات الفكر بالحجة والبرهان، والمنطلق الثالث: التأسيس لمرجعيات موثوقة.. وقد تناولنا بالشرح المنطلق الأول، وفي هذا العدد نتناول المنطلقين الثاني والثالث.
المنطلق الثاني: دفع آفات الفكر بالحجة والبرهان: الاختلاف الفكري بين النّاس أمر وارد، وحقيقة واقعة في الحياة، ويمكن لهذا النوع من الاختلاف أن يكون سبباً في إثارة الفتن والمشكلات، كما يمكن أن يكون - متى ما أحسنا إدارته - سبباً في تنوير العقل وتوسيع مداركه. والسؤال الذي يطرح نفسه علينا في هذا المقام: ما الوسائل التي يتعين علينا أن نأخذ بها أنفسنا حتى نُجنب مجتمعنا آفات العنف التي يجلبها الاختلاف في الرأي أو المعتقد؟ وللإجابة عن هذا السؤال، نطرح بعض هذه الوسائل ونجملها في الآتي:
1-التربية على الإذعان إلى الصواب وممارسة الإقناع بالحجة: وهذا مما علمنا له الدين، فالكبر الذي ذمه الله يتمثل في بطر الحق أي رده ودفعه، وغمط الناس، والمسلم مطالب بأن يعود نفسه الخضوع للحجة متى ما استبانت له، إذ ليس بينه وبين الحق عداوة. وأما ممارسة الإقناع بالحجة، فهي السبيل المفضي إلى نبذ العنف في الحوار، ونحن نقرأ في القرآن الكريم قول الله تعالى: (وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {111}) (البقرة)، فكل مدعٍ لابد أن يثبت دعواه بحجة واضحة وبرهان ساطع. ومما يساعد على ممارسة الإقناع بالحجة أن يستند الحوار إلى القواسم المشتركة، والمعايير المتفق عليها بين المتجادلين، وهذه المعايير قد تكون حججاً عقلية وقد تكون حقائق علمية، وقد تكون نصوصاً دينية يؤمن بها الطرفان، ومن الأمثلة التي يحسن أن نستشهد بها على هذا الأصل قصّة الشاب الذي أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله أتأذن لي في الزنا؟ فصاح الناس به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ’’قربوه، ادنُ’’، فدنا حتى جلس بين يديه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام:’’ أتحبه لأمك؟’’، فقال: لا جعلني الله فداك، قال: ’’كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم، أتحبه لابنتك؟’’ قال: لا جعلني الله فداك قال: ’’كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم، أتحبه لأختك؟’’ وزاد ابن عوف حتى ذكر العمة والخالة، وهو يقول في كل واحد لا، جعلني الله فداك، وهو صلى الله عليه وسلم يقول كذلك الناس لا يحبونه، وقالا جميعا في حديثهما – أعني ابن عوف والراوي الآخر -: فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره وقال: ’’اللهم طهر قلبه واغفر ذنبه وحصن فرجه فلم يكن شيء أبغض إليه منه’’. والشاهد في هذه القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم وظّف قيما كانت مستقرة في نفس هذا الشاب تلقاها من بيئته، ونشأ عليها، فهو من قوم استقر عندهم أن الزنا رذيلة وعار، وأنّه لا يليق بأهل المروءات أن يلطخوا شرفهم بمثل هذه القاذورات، فأدرك الفتى العربي بهذه المحاورة العقلية النفسية التي سلكها معه النبي صلى الله عليه وسلم أن ما همّ به من الزنا عمل قبيح وسمعة سيئة، وسلوك فاضح، فقام من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم - ببركة منهجه ودعائه - وما من شيء عنده أقبح من الزنا.
2-إتاحة الفرصة لأصحاب الرأي أن يعبروا عن آرائهم: إنّ كثيراً من وجهات النظر التي تكون سبباً في التصادم بين المختلفين، إذا توافق الناس على مناقشتها بالحجج العقلية والمنطق السليم، يمكن أن تستبين فيها وجهة الحق، ويرتفع التنازع، أو يتعايش الناس بالحسنى، وعليه فلابد من الحرص على توسيع دائرة الحوار، وعدم اللجوء للعنف، ومصادرة حق الناس في الاختلاف بالقهر، والقرآن يخبرنا أن غاية ما طلبه الرسل من أقوامهم أن يتفكروا في دعوتهم التي جاؤوا بها، وما تأمر به وتحض عليه، ليختاروا لأنفسهم، من غير إكراه، ما تحملهم عليه هواتف الفطرة والنظر الرشيد قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ {46}) (سبأ). وقال إبراهيم لقومه: (قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ {66} أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ {67}) (الأنبياء). ولكنّ المتعنتين، الذين يضيقون ذرعاً بالحوار والمجادلة، لم يجدوا ما يواجهون به دعوة الحق إلا ممارسة العدوان، ونحن نقرأ في القرآن كيف واجه قوم إبراهيم عليه السلام ما جاء به من دعوة بيّنة: (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ {68}) (الأنبياء)، ونقرأ في القرآن ما قاله قوم شعيب لشعيب عليه السلام: (قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ {88}) (الأعراف)، ونقرأ مقالة قومِ لوط لنبيّهم عليه السلام: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ {56}) )النمل). ونقرأ ما همّ به مشركو العرب من مكر برسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ {30}) (الأنفال). فالعنف كان على مدار التاريخ الإنساني سبيل المجرمين، والتجربة التاريخية الإسلامية تشهد بأنّ المسلمين، في عهودهم الراشدة، كانوا من أوسع الناس صدراً مع مخالفيهم، فقد علّمهم الإسلام المنهج الصحيح الذي به يفكرون ويستدلون ويعترضون، وبلغت الحرية الفكرية عند أهل الإسلام مداها، حيث كانوا يناقشون الآراء والأفكار دون حَجر، وقامت مدارس ومذاهب للعلوم والمعارف انتظمت الساحة الإسلامية كلها.
3-البعد عن التسيّب في ممارسة المجادلة وحرية التعبير: الحوار الذي يترفع به العنف ما كان قائماً على الحجة بعيداً عن السباب والتجريح، وهناك فرق كبير بين نقد الفكرة وبين سبّها وشتمِ أصحابها قال تعالى: (وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ {108}) (الأنعام)، إنّ الإسلام يدعونا إلى أنّ نجادل النّاس بالحسنى قال تعالى: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ {46}) (العنكبوت)، ويعلمنا أن الاعتراض على العقائد والأفكار لا يقتضي مواجهة الناس بالبذاءة والمطاعنة والفحش، فالإسلام كما يقول د. جعفر شيخ إدريس: ’’يفرق في المعاملة بين المعتقدات والمعتقدين، فبينما يدعو إلى دعوة المعتقدين بالتي هي أحسن، بل وإلى بر من لم يعتد منهم، فإنه لا يتردد في نقد معتقداتهم نقداً صارماً وإقامة الحجج على بطلانها، انظر مثلاً كيف يدعو إلى معاملة النصارى بالتي هي أحسن، ويحكم بحل طعامهم ونسائهم، بينما يؤكد أنه لا عيسى بن مريم ولا غيره يمكن أن يكون ولداً لله تعالى؛ لأنهم مخلوقون والمخلوق لا يكون ولداً لخالقه؛ إن الأب يلد ابنه ولا يخلقه’’.. فالتسيّب في ممارسة المجادلة وحرية التعبير، لا تعني إلا الفوضى، ولا تقود إلا للعنف، وقد رأينا نموذجاً لهذا التسيب المقيت بما عرف في الإعلام قبل فترة بالرسوم المسيئة، فقد طفق ساسة الغرب ومفكروه ورجال الإعلام فيه يبررون لهذه الرسوم بأنّها حرية تعبير، وهي حرية مطلقة غير مقيَّدة؛ ’’إلا أن المفارقة العظمى في موقف هذا الغرب، هي أنّه يرفع عن حرية التعبير - فِعْلاً - كل القيود والضوابط متى حصل استهداف الإسلام والمسلمين؛ لكنّه يبادر إلى مصادرتها كلياً متى تعلق الأمر بشبهة ’’معاداة السامية’’ أو التشكيك في ’’المحرقة’’، بل إنه لا يتردد في محاكمة من يجرؤ على ممارسة حريته في الرأي بشأن هاتين القضيتين؛ ولا يخفى على ذي بصيرة أن حرية التعبير ليست بهذا الإطلاق المزعوم ولا بهذا التسيُّب المذموم؛ وينهض دليلاً على ذلك وجود قيود متعددة وضعها الغرب نفسه على هذه الحرية: منها قيود سياسية وأيديولوجية ترفض كل فكر لا يتفق مع اختيارات الغرب وتوجُّهاته؛ ومنها أيضاً قيود قانونية مصدرها الدساتير والقوانين الداخلية وأيضاً القانون الدولي الذي اجتهد في ضمان حُرمة الإنسان وحقه في الاختلاف الثقافي وحماية اختياراته العقدية؛ ومنها كذلك قيود قيمية وأخلاقية أساسها اشتراك الإنسانية في قيم خالدة تضمن الكرامة لكل الأفراد وتُرسخ أسباب التعايش وتواصل الشعوب والثقافات’’.
4-بناء توافقات على المتفق عليه بين المختلفين: أرادت حكمة الله جل وعلا أن يكون الناس مختلفين في معتقداتهم وأفكارهم قال تعالى: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ {118}) (هود)، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {2}) (التغابن). وهذا الاختلاف القدري بين البشر، لا يمنع ولا يحول بين النّاس وبين أن يتعارفوا ويتعاونوا ويتعايشوا بالحسنى، وأول مقتضيات ذلك، الاعتراف بحقيقة واقعة هي أنه لا يوجد مجتمع من المجتمعات الإنسانية يخلو من قيم حسنة تستحق الشكر، لكنّ الأمم والمجتمعات تتفاوت في مقدار ما عندها من القيم، كما تتفاوت في درجات تمسكها بها، ومحافظتها عليها، ولا يمكن - عقلاً - أن توجد أمة من الناس لا تملك خيراً قط، وهذا عمرو بن العاص الصحابي الجليل يشهد لأهل الروم، بما عرف من خصالهم لم يمنعه عن هذه الشهادة المنصفة بغض أو شنآن فقال: ’’إن فيهم خصالاً أربعاً: أنهم أحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لضعيف ويتيم ومسكين، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك). والمسلمون - في سبيل رعاية القيم الحسنة والحفاظ عليها - لا يجدون في أنفسهم حرجاً من التعاون مع أي كيان آخر ينشد الخير ويعمل من أجل إيصاله للناس، وقد علّمنا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وضرب لنا من نفسه قدوة صالحة في المسارعة لفعل الخير، والتعاون مع كل من يرفع رايته، ويعمل من أجل حماية الفضائل التي يمكن أن تنتقل بالإنسانية خطوات تقربهم إلى حياة الكرامة والفضيلة التي نرجوها لقومنا وللناس أجمعين. ومن الشواهد الدالة على هذا في السيرة النبوية المباركة موقفان: أ- موقف النبي صلى الله عليه وسلم من حلف الفضول، وهو حلف سببه أن قريشاً كانت تتظالم بالحرم، فقام عبد الله بن جدعان والزبير بن عبدالمطلب فدعوهم إلى التحالف على التناصر والأخذ للمظلوم من الظالم فأجابهما بنو هاشم وبعض القبائل من قريش كبني أسد بن عبدالعزى، وبني زهرة بن كلاب وبني تيم بن مرة، فتحالفوا في دار عبد الله بن جدعان فسموا ذلك الحلف حلف الفضول، فقال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: ’’لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم لو أدعى به في الإسلام لأجبت’’، فهذا حلف أقامته قبائل لم تسلم بعد، ولكنها التقت على هدف نبيل، ومقصد إنساني حسن، يتوافق مع منطق الشريعة التي جاءت من أجل حماية مثل هذه المقاصد التي تعود على المجتمع أمناً في معاشه، وصلاحاً في شؤونه وأحواله. ب- ومنها ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم الحديبية: ’’والذي نفسي بيده، لا يسألونني خطة - يعني المشركين - يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها’’، وأخذ الإمام ابن القيم من هذا الموقف قاعدة عظيمة حكيمة فقال رحمه الله: ’’إن المشركين وأهل البدع والفجور والبغاة والظلمة إذا طلبوا أمراً يعظمون به حرمة من حرمات الله تعالى، أجيبوا إليه وأعطوه، وأعينوا عليه، وإن منعوا غيره، فيعاونون على ما فيه تعظيم حرمات الله تعالى، لا على كفرهم وبغيهم، ويمنعون مما سوى ذلك، فكل من التمس المعونة على محبوب لله تعالى مرض له، أجيب إلى ذلك كائناً من كان، ما لم يترتب على إعانته على ذلك المحبوب مبغوض لله أعظم منه’’. المنطلق الثالث: التأسيس لمرجعيات موثوقة: إن المرجعية العلمية التي تحظى باحترام النّاس وتقديرهم، تمثل في ظني حجر الزاوية في منع الفوضى الفكرية التي تسمح لكل من شدا شيئاً من العلم أن يتصدر المجالس، ويصدر الفتاوى، ويخوض فيما يحسن وما لا يحسن، ولا شك أن ضعف هذه المرجعيات في عالمنا السّني على وجه التحديد، ساعد في السماح لمجوعات من الشباب الغيور، أن تأخذ زمام المبادرة بيدها، وأن تسارع لمعالجة هموم الأمة كلها بمنهجيتها التي تختارها لنفسها. إن التأسيس لمرجعيات موثوقة في الأمة لا يعني أن نعلن في كل قطر عن مجمع فقهي يدفع بأهل الاختصاص إليه، وإنما يعني أن نسعى لتوفير مطلوبات أساسية تجعل من هذه المجامع والمجالس الفقهية المنتشرة في عالمنا الإسلامي محلّ ثقة وقبول، ويكون لها أثر مبارك على واقعنا، وتوحيد صفنا ورؤانا، ومن هذه المطلوبات التي يجب العمل على تحقيقها:
1-الكفاءة العلمية التي تجعل الأفراد والجماهير مطمئنين إلى أن من يفتيهم في عامة أمرهم وخاصته أهل لهذه المنزلة.
2-الحضور المستمر، ومواكبة الأحداث والنوازل، ومعالجتها بالرأي الواضح في الوقت المناسب بالوجه المناسب، أما الاكتفاء ببيانات محدودة في مناسبات عامة، وإصدار الفتاوى في بعض شأننا، والإطلال على الناس في مواسم العبادات، فهذا مما لا يجدي شيئاً، ولن يخدم قضية، ومن العجب أن ترى أصحاب المشاريع المأجورة يشكلون حضوراً كثيفاً في كل حدث، ولا تمل أقلامهم وألسنتهم من تناول ما يهمّ الناس بالتصريحات والمقالات والكتب والمنشورات، بينما يتوارى الصوت الإسلامي الفقهي أو يكاد.
3-الاستقلالية في الرأي والموقف، وأعني أن لا تصدر هذه المرجعيات عن نظرة حزبية ضيقة، ولا عن هيمنة قابضة لنظام حاكم، ذلك لأنّ العلماء هم أجدر النّاس بالتحرر من هذه التوجهات القاصرة التي تجعل منهم أدوات تحركها جهات لها ظروفها وخياراتها الخاصّة.
4- التكامل بين المجالس العلمية الفقهية، والتيارات الحركية في الساحة الإسلامية، وأحسب أنّ واقع عالمنا الإسلامي والتحديات التي تواجهه ستسمح بمثل هذا التكامل، وستزيل كثيراً من بؤر التوتر والجفوة التي حالت بين هذه الكيانات المؤثرة أن تجتمع وتتعاون.
____________
(*)المراقب العام للإخوان المسلمين في السودان.
الهوامش :
(1) المقصود بالأمن الفكري هنا «حماية الشخصية المسلمة من الأفكار والتصورات المنحرفة».
(2) وأشهر مثال لها اتفاقية «سيداو».
(3) انظر: من مضايق الحداثة إلى فضاء الإبداع، لخالد حاجي، ص 121.
(4) متفق عليه، رواه البخاري في كتاب استتابة المرتدين، (رقم 6930)، و(رواه مسلم، رقم 1066).
(5) زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم، ج 3، ص 298.
(6) معهد «راند» مؤسسة بحثية أمريكية تساعد الإدارة الأمريكية في اتخاذ القرار.
(7) على شبكة الإنترنت(bbc) .
محمد الحبر يوسف
تكابد الأمة المسلمة اليوم، والسودان جزءٌ منها، واقعاً جديداً، تلاشت فيه الحواجز، وانفتحت السماوات، وأصبحت المعلومات والثقافات والأفكار تنتقل من مكان إلى مكان دون أن يمنعها من ذلك مانع. وفي ظل هذا الواقع الجديد، يصبح الحديث عن «الأمن الفكري لأمتنا»(1) ضرورةً ملحة، وواجباً مفروضاً، فنحن نعيش في زمانٍ - برغم ما فيه من تظاهر بقيم حقوق الإنسان، وإيمانٍ بالتعدديات الثقافية والدينية والحضارية - فإنّ القوى المهيمنة عليه تمارس علينا نوعاً من العدوان الفكري، والاستلاب الثقافي، بما في يدها من أدوات وأساليب مكّنتها من بسط هيمنتها وتسلطها بصورة غير معهودة. وما هذه الاتفاقيات - ذات الطابع الثقافي والاجتماعي(2)
التي تُلزم الدول بإبرامها، دون تحفظٍ، إلا نموذج فاضح يجسد الرغبة في سحقِ أي مشروع آخر، يُمكن أن يطرح نفسه بديلاً، ولو بعد حين. بل بلغ الأمر بمنظري الفكر الغربي أن يعلنوا في زَهوٍ غير مسبوق، عن مقولتين تمثلان قمة الاستئساد الغربي هما مقولتا «نهاية التاريخ»، و«نهاية الجغرافيا». وما نهاية التاريخ إلا إعلانٌ بأنّ النظام الباقي، الذي لن تجد الإنسانية أفضلَ منه، هو الديمقراطية في السياسة، والرأسمالية في الاقتصاد، ومن أراد أن يبدع شيئاً جديداً فلا سبيل إلى ذلك إلا بعد التسليم بمرجعية هذا الغرب، ومزاولة إبداعه في فضائه. وأمّا نهاية الجغرافيا، المقولة الثانية، فتعلن بأنّ الجبال والبحار، والحواجز الطبيعية لم تعد تمثل موانع في وجهِ القوة الإعلامية الغربية التي تستطيع أن تحرك آلياتها الضخمة متى ما شاءت لتصنع ما تشاء (3).
ومن هنا فإنّ قضية الأمن الفكري، قضيةٌ حية، نحتاج لمعالجتها أن نتفق على مُسلماتٍ نجملُها في الآتي: المسَلمة الأولى: هي أنّ الرؤية الفكرية بالنسبة للمسلم، ليست مجردَ ثقافة يتسربل بها إن شاء ويخلعها إن شاء، ولكنَّها عقيدة لا تقوم هويته إلا بها، ومن هنا كانت الانحرافات الفكرية التي يبتلى بها بعض أهل الإسلام، أسوأ أنواع الانحرافات وأبعدها ضلالاً، لأنّها تزين لصاحبها أنّه على صواب وغيره على خطأ، وأنّه محقٌ وغيره مبطل قال تعالى: ’’قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)’’ (الكهف)، وهذه الآية الكريمة من سورة الكهف تَصدق على أصحاب العقول المنحرفة الذين عدلوا عن منهج الحق، وظنّوا أنهم يحسنون صنعاً، فانتهى بهم هذا الظن الكاذب إلى التمادي في الباطل وعدم الإذعان للحق، وكيف يرجع للحق من يظن في نفسه أنّه يملك الحقيقة وينطق باسمها؟! وواقع المسلمين في ماضيهم وحاضرهم يخبرنا أن الانحرافات الفكرية والعقدية كانت أضرَّ على المجتمع المسلم من الانحرافات التي وقعت بسبب الشهوات وضعف النفس، ودونك فتنة الخوارج، الذين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يمرقون من الدين كما تمرق السهم من الرّمية(4)، فالخوارج وإن كانوا من أكثر الناس صدقاً، وبعداً عن الشهوات، وزهداً في الدنيا والملذات، إلا أنهم - بسبب فساد تصورهم وانحراف فكرتهم - سفكوا الدماء، واستحلوا المحارم، ووقعوا في الطغيان الذي حذر الله منه عباده المؤمنين، قال تعالى: ’’فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ . وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ’’(هود). المسَلمة الثانية: ومفادها أنّ الدعوة إلى الأمن الفكري ليست دعوةً إلى الجمود والانعزال، أو محاولة لإخضاع الفكر لمتطلبات الأمن القائم على الحذر والترصد، فالأمن الفكري الذي ندعو إليه لا يتعارض بحالٍ مع مناهج الحكمة القاضية بالانفتاح على الآخرين، والتعايش معهم والتعرف إليهم، والانتفاع بما عندهم. فقد علّمتنا التجارب أن الأمّة كلما مدّت أسباب التواصل مع غيرها، ممن يخالفها في الدين والمعتقد؛ زاد ذلك من قدرتها على تبليغ دعوتها، ونشر حقائق دينها، ونحن نعلم أن صلح الحديبية الذي أمِن فيه الناس، ووضعت الحرب أوزارها سمّاه الله فتحاً مبيناً، ومن أوجه هذا الفتح أنّ عدد الذين دخلوا في الإسلام بعد صلح الحديبية يفوق عدد الذين أسلموا منذ بداية الدعوة أضعافاً كثيرة، فالثابت في السيرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة، وخرج إلى فتح مكة بعد عامين فقط في عشرة آلاف(5).
وإذا كانت المقاومة ضرورة من ضرورات الدفاع عن أصالة الأمة، ودرء آفات الشرور عنها، فإنّ الانفتاح المبصر هو السبيل الوحيد الذي يحقق لها التواصل مع الآخرين أخذاً وعطاء، وتبادلاً نافعاً في ميادين الحياة. ولا مراء أنّ هذه المهمة ليست من المُهمات اليسيرة التي يُمكن أن تنال بأقل جهد يبذل، ولكنها مهمة أساسية لا سبيل إلى تحقيقها إلا باستكمال الخصال المؤهلة لها، ومنها خصلتان مدح الله بهما رسله الكرام، هما القوة والبصيرة، فقال جلَّ وعلا: ’’واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار’’ (ص:45).
المسلمة الثالثة: هي أن الأمن الفكري الذي نطالب به لا يتوجه فقط للوافد الخارجي، فهناك أفكارٌ من داخلنا، يروج لها من ينتمي لديننا، ويتكلم بألسنتنا، وهي أفكار ضارّة لا تعبر عن حقيقة الدين، ولا عن التيار الأساسي في الأمة. والتهاون مع هذا النوع من التوجهات الداخلية مضر ضرراً بليغاً بأمننا الفكري، لأنّه يسمح لأصحاب هذه الأفكار أن يتمددوا في فضائنا دون أن يَحُسّ بغربتهم أحد، فهم ينطلقون من الإسلام ويتحدثون باسمه، ويُلبِسُون على النّاس دينهم. ويمكن أن نجمع أصحاب هذه التوجهات - التي تنطلق من مرجعية إسلامية - في تياراتٍ ثلاثة، تمثل تحدياً فكرياً حقيقياً. التيار الأول: هو التيار الطائفي الذي يستند إلى مرجعية شيعيّة غالية، تنبش أحداث التاريخ، وتلفق منها الأباطيل لتهدم في حياتنا الفكرية مرجعياتنا التي نعتز بها ونترضى عليها. والتيار الثاني: هو تيار الغلاة ممن يؤمنون بالعنف طريقاً للتغيير، وينصبون من ذواتهم مرجعيات تفتي النّاس في أدق مسائل العلم والعمل. والتيار الثالث: ولا بأس أن نطيل النَفَس معه قليلاً، هو تيار الإسلام العصراني الذي تقدمه أمريكا على أنّه نموذج للإسلام المعتدل، فقد نشر قبل أعوام خلت معهد «راند»(6) الأمريكي تقريراً، يدعو الإدارة الأمريكية بضرورة السعي لدعم تيار الإسلام المعتدل الذي يفوت الفرصة على المشروع الإسلامي الأصيل، والاعتدال الذي يتحدث عنه هذا التقرير ليس هو الاعتدال الذي نعرفه من ثوابت ديننا، والذي يدعو إليه بعض أعلام عصرنا من العلماء الثقات، إنّ الاعتدال الذي يدعو إليه تقرير معهد «راند»، عبّر عنه بوضوح أشد الكاتب الأمريكي المرموق، والمقرب من صنّاع القرار في بلده «دانييل بايبس» في مؤتمر حاشد دعا إليه عمدة لندن 2007م تحت عنوان «حضارة عالمية أم صراع حضارات»(7) تحدث هذا الكاتب الأمريكي، وأعلن بوضوح أنّ جهود الإدارة الأمريكية سوف تنصب على تشجيع الإسلام المعتدل، الإسلام الليبرالي الذي يتعامل باحترام مع النساء والمثليين والملحدين وغيرهم. ولم يكتف بهذا القول ولكنّه قدم ثلاثة نماذج لرموز هذا الإسلام المعتدل، وهم: «وفاء سلطان، ومجدي علاّم، وسليم منصور» (ثلاثة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون). المسلمة الرابعة: ضرورة تحرير مصطلح «الأمن الفكري» من التوظيف السياسي للأنظمة الحاكمة، فبعض حكوماتنا تريد أن تجعل من الأمن الفكري حجةً تستند إليها في مواجهة خصومها، ومصادرة حقوقهم، وحري بمثل هذه الأنظمة أن تدرك أن زمان المنع والمحاصرة قد ولى، وأن من الخير لها ولشعوبها أن تعمل على استيعاب الأفكار وهضمها وفق مرجعية الأمة المتفق عليها. هذه المسلمات الأربع تحدد لنا الرؤية التي ينبغي للدعاة إلى الله أن ينطلقوا منها، وهم يواجهون الأخطار الفكرية التي لا تقلّ ضراوة عن خطر الجيوش الغازية.
دور الدعاة في الأمن الفكري (2-3)
تناولنا في العدد الماضي الأخطار الفكرية التي تتعرض لها أمتنا وقلنا إنها لا تقلّ ضراوة عن خطر الجيوش الغازية، وأكدنا على أن المقاومةُ ضرورةً للدفاع عن أصالة الأمة، يواكبه الانفتاحِ المبصر الذي يحقق لها التواصل مع الآخرين أخذا وعطاء.
والنقاط التالية تمثل منطلقاتٍ أساسية في دور الدعاة لمعالجة هموم الأمن الفكري لأمتنا:
المنطلق الأول: تعزيز الشعور بالاجتباء.
المنطلق الثاني: دفع آفات الفكر بالحجة والبرهان.
المنطلق الثالث: التأسيس لمرجعيات موثوقة.
أولا: تعزيز الشعور بالاجتباء: وأعني بهذا أنّ الأمة المسلمة أمة لها خصائص تميزها، وسمات تفردها عن غيرها من الأمم، فهي الأمة الوحيدة التي تستطيع أن تزعم أنّها تمتلك مصدراً معرفياً معصوماً يتمثّل في الوحي الذي ’’لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد’’، وهي الأمة الوحيدة التي تستطيع أن تبرهن أنّ دينها كان سببا مباشراً في نهضتها وتماسكها، ولم يكن عائقاً أمام انطلاقتها كما كانت الأديان المحرفة الأخرى، وأخيراً فإنّ أمتنا هي الأمة الوحيدة التي تزعم أنّها تملك إجابات واضحة عن التساؤلات الكبرى التي حيّرت العقل الإنساني. هذه الأسباب الثلاثة ، ويوجد غيرها ، تجعل من الأمة المسلمة أمةً ذات كيان خاص ونمطٍ فريد ، ومن هنا كان تعزيز الشعور بالاجتباء والاصطفاء أمراً مهماً في حياة المسلم قال تعالى: ’’وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ ’’( الحجرات:7)
وقال تعالي: ’’وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ’’(آل عمران :139).
إن تعزيز الشعور بالاجتباء ، من شأنه أن يحرر الأمّة من فتنة الركون إلى أهواء العصر، والرضا بمرجعية أخرى غير مرجعية الإسلام. ومعلومٌ أن العقل المسلم منذ أن ابتليَ بانتصار الحضارة الغربية ، وجد نفسه في محنةٍ عظيمة ، ومواجهة سافرة مع حضارة فتية مقبلة ، جعلت فريقا من المسلمين ينهزمون أمام تيارها الجارف ، وينادون بتقليدها في حلوها ومرها ، وما يحمد منها وما يعاب؛ لأنه كما صرّح بعضهم (لولا الغرب ورجاله ومفكروه لتعرت حياتنا الفكرية على حقيقتها ، فإذا هي حياة لا تختلف كثيراً عن حياة الإنسان البدائي في بعض مراحلها الأولى) مواءمة بين الإسلام ونظم الحياة: وذهب فريق آخر ممن صدمته الحضارة المعاصرة إلى سلوك طريق أقلّ حدة وغلواً وهو العمل على المواءمة بين الإسلام ونظم الحياة الغربية المعاصرة ، وأصبح الهمّ الكبير الذي يدندن حوله هؤلاء هو إثبات أنّ الإسلام قابل لأن يتعايش مع قيم الحضارة الغربية دون أن يتناقض معها، ذلك لأن المبادئ التي تقوم على أساسها الديمقراطية الغربية، وقيمِ حقوق الإنسان والمرأة والطفل يمكن أن تكون إطاراً جامعاً بين الغرب والإسلام ، لأنّها في حقيقتها مبادئ إنسانية عامة لا تتعارض مع روح الشريعة الإسلامية ومقاصدها. والمشكلة التي واجهت هذا التيار، الذي يدعو إلى المواءمة مع الغرب ونظمه أنّه - مع مرور الأيام- وجد عقله حائراً بين مرجعيتين، فإما أن ينتصر للإسلام بكل ما فيه من عقيدة وتشريع وأخلاق، وإمّا أن يرضى بالغرب مرجعاً له في حياته الثقافية والاجتماعية، ولا يوجد طريق ثالث بين هذين. هذه الحيرة جعلت رموز هذا التيار تأتي إلينا بالغرائب في كل مرة، لأنها تحاول أن تلفق بين المتقابلات حتى تصوغ منها فكرة منسجمة، ولذلك لا عجب أن يظهر من بين كُتـابنا من ينادي بـ (العلمانية المؤمنة)، ومن يدعو صراحةً إلى (تفكيك الإسلام) وذلك بإحداث خروق اجتهادية في منظومة الإسلام العقيدة والفقهية، تخالف ما أجمعت عليه الأمة طوال تجربتها التاريخية، انتصاراً لقيم الحداثة الغربية ومرجعيتها الحاكمة، فحتى نقر قيمة المساواة بين الذكر والأنثى فلابد من السماح للمرأة المسلمة بإمامة الرجال في الصلاة ، على نحو ما فعلت الحداثية أمينة ودود، ولابد من إجراء مراجعات فقهية لأحكام المواريث في الإسلام، تساوي بين الذكر والأنثى في جميع صور الميراث، لأن الأحكام الفقهية المتعلقة بشؤون المعاش قابلة كلها للتغيير والتعديل وفق ما تقتضيه ظروف العصر والمكان، يقول د. منصور خالد، الذي أقحم نفسه في قضايا الاجتهاد الإسلامي (من الواضح أنّ الفقهاء المجتهدين قد التزموا التزاماً صارماً بما ورد في الكتاب حول حقوق المرأة في سورة النساء، بيد أن تلك الآيات لا تفهم إلا في سياقها التاريخي حيث تنزلت بعد هزيمة المسلمين واستشهاد عدد كبير منهم ، مما اقتضى تقنيناً جديداً للطلاق والميراث) إنّ الخلاصة النهائية التي يمكن أن ينتهي إليها هذا النوع من التفكير –وهو في حقيقته تفكير قاصر ومقلّد ومعترض عليه –أن نجعل من الإسلام دينا محكوما بقِيم الحداثة الغربية، تابعا لمقرراتِها تبعية المفضول للفاضل. ملاحظات ثلاث وهناك ملاحظات ثلاث لابد من إثباتها هنا، ونحن نتحدث عن وجوب تعزيز الشعور بالاجتباء، لمواجهة المخاطر الفكرية الوافدة أو الأصيلة.
الملاحظة الأولى: حول ظاهرة المثقف المسلم الذي رضي لنفسه أن يكون تابعاً للمثقف الغربي يردد أقواله، ويلتقِط مفاهيمه، دون أن يكلف نفسه عناء الإبداع والنقد لها، بل لا نُبعد النُجْعة إن ذهبنا إلى أن المثقف الذي ينتمي إلى دار الإسلام كان، دون أن نعمم القول، ممن وطأ الأكناف لظاهرة الاستلاب الثقافي، وتكريس التبعية العمياء للغرب. أليس من المفارقات التي يطول منها العجب أن يكون المثقفون في كل أمةٍ هم عقلها المفكر، وطليعتها المدافعة عنها وعن تاريخها ورجالها، يحملون هموم أمتهم، حال كونهم كتاباً أو فلاسفة أو شعراء أو فنانين، ويتصدون جميعاً لكل خطر يهدد وجودهم المعنوي أو الماديً، بينما أهل الثقافة فينا لا اشتغال لهم بأصول قضايانا، وكأنهم ليسوا مناّ في شيء.
الموقف من التراث.
الملاحظة الثانية : حول الموقف الصحيح من التراث ، وهناك سؤال ما زال بعض كتّابنا يطرحه ويدندن حوله وهو ماذا نأخذ من التراث ؟ وما الذي يجب أن نستدعيه منه؟ وهذا السؤال يبدو عند التحقيق منتكسا ، لأنّه يفيد ضمنا أن التراث الذي نتحدث عنه ، هو تراث منفصل عنّا ولا يمت إلينا بصلة ، لقد غاب السؤال الصحيح الذي كان مطروحا فيما مضى (ما الذي نأخذه من الوافد ؟) ليحل محلّه السؤال عن التراث وما آل إلى مجتمعنا الراهن من قيم وأفكار وعادات وأخلاق وآداب. والحقيقة أن التراث بالنسبة لنا أمر هوية وانتماء، وموقفنا منه يجب أن يكون موقف الذي يستظل بظله، ويقف على أرضه، ويتقيد بأصوله وكلياته، ثم يجتهد بعد ذلك في تصويبه وتصحيحه ولكن من داخله وبأدواته، هذا هو الموقف الإجمالي الصحيح من التراث . وأحسب أن من القواعد الحسنة التي أبدعها المفكر المغربي الفيلسوف طه عبدالرحمن قاعدتين منهجيتين تحددان الموقف من التراث المأصول، ومن الوافد المنقول. (أولاهما صيغتها كالآتي: •كل أمر منقول معترض عليه ، حتى تثبت بالدليل صحته وهذه القاعدة توجب أن يكون النقد للمنقول هو مطالبته بالأدلة التي تثبت صحته، ثم التعرض لها بالطرق الاستدلالية المشروعة، وذلك من أجل اختبار فائدتها في إثبات المنقول. القاعدة المنهجية الثانية .
كل أمر مأصول مسلّمٌ به ، حتى يثبت بالدليل فساده وتوجب هذه القاعدة الثانية أن يكون نقدنا للمأصول هو تعليق صحته بانتفاء الأدلة المبطلة، بحيث لا يقل استعدادنا لطلب هذه الأدلة، متى اقتضى الأمر، عن استعدادنا للمطالبة بالأدلة المثبتة لصحة المنقول.) إن الصلة بالتراث لا تفيد التقليد، ولا توجب الانكفاء عليه ، وتقديرنا لتراثنا الفكري لن يكون حائلا بيننا وبين أن نبدع ونطور مسترشدين بما تركه لنا السلف من علم نافع، نتخّير منه ما يكون أنسب لزماننا وعصرنا، دون أن نتجاوز ثابتاً أو نضيق واسعاً، أو نسيئ أدباً . وخلاصة القول: إن ما أبدعه العقل المسلم من علوم وثقافة بالنسبة لنا (كنز مرشد) علينا أن نتعامل معه بفكر مستنير، نسترشد ونهتدي بما فيه، ونعمل على حفظه حفاظاً على ذاكرة الأمة، واستفادة بخبرات السلف، على النحو الذي يضيف أعمارهم إلى أعمارنا وأما ما تجاوزه التطور من إبداع السلف فإننا نتجاوزه، معتزين به، واضعين إياه في متحف التاريخ الفكري، مادةً للعظة والعبرة الدين والتدين.
الملاحظة الثالثة : ضرورة التفريق بين الدين والتدين، فالدين هو ما أنزله الله تعالى، وأرسل به رسله الكرام، وأمّا التدين فهو كسب الناس، وما يمارسونه من سلوك، وما يلتزمون به في حياتهم من قيم وأخلاق. وعليه لا يجوز لنا ونحن نتحدث عن تعزيز الشعور بالاجتباء، أن نخلط بين الدين المنزل، والممارسة التاريخية لصور التدين في مجتمعات المسلمين، حتى لا يظن الناس أن الدعوة إلى تعزيز الشعور بالاجتباء دعوة إلى تقليد واقع ديني معين في بلد معين، أو أنها دعوة للقطيعة مع المجتمعات التي نعيش فيها طمعا في استدعاء نماذج التاريخ الماضي. ومن رحمة الله بنا أن الدين الذي أنزله الله سمح للمتدينين به أن يحدثوا في أمور دنياهم من النماذج والأشكال ما يعبرون به عن واقعهم الاجتماعي، بحسب أوطانهم وبيئاتهم ، وجعل هذه الدائرة التي يسميها فقهاؤنا بدائرة العفو أو الفراغ التشريعي، موكلة لظروف النّاس، ولم يتدخل في إبطال شيء منها، إلا أن يكون قائما على فساد، يقول الكاتب الإسلامي الكبير علال الفاسي: ’’ومن محاسن دين الإسلام أن له المرونة الكافية التي جعلته يتمشى مع سير الآلة النفسية للشعوب التي اعتنقته، وهكذا نجد في العالم الإسلامي تغايرا في طبائع الجماعات المسلمة وفقا لطبيعة الأرض التي تسكن بها، وأن ما يتراءى من هذا التغاير الملموس ينتهي في باطنه كله لهذا النموذج النفسي الإسلامي’’
دور الدعاة في الأمن الفكري (3-3)
ذكرنا في العدد الماضي أن هناك ثلاثة منطلقاتٍ أساسية في دور الدعاة لمعالجة هموم الأمن الفكري لأمتنا وهي: المنطلق الأول: تعزيز الشعور بالاجتباء، والمنطلق الثاني: دفع آفات الفكر بالحجة والبرهان، والمنطلق الثالث: التأسيس لمرجعيات موثوقة.. وقد تناولنا بالشرح المنطلق الأول، وفي هذا العدد نتناول المنطلقين الثاني والثالث.
المنطلق الثاني: دفع آفات الفكر بالحجة والبرهان: الاختلاف الفكري بين النّاس أمر وارد، وحقيقة واقعة في الحياة، ويمكن لهذا النوع من الاختلاف أن يكون سبباً في إثارة الفتن والمشكلات، كما يمكن أن يكون - متى ما أحسنا إدارته - سبباً في تنوير العقل وتوسيع مداركه. والسؤال الذي يطرح نفسه علينا في هذا المقام: ما الوسائل التي يتعين علينا أن نأخذ بها أنفسنا حتى نُجنب مجتمعنا آفات العنف التي يجلبها الاختلاف في الرأي أو المعتقد؟ وللإجابة عن هذا السؤال، نطرح بعض هذه الوسائل ونجملها في الآتي:
1-التربية على الإذعان إلى الصواب وممارسة الإقناع بالحجة: وهذا مما علمنا له الدين، فالكبر الذي ذمه الله يتمثل في بطر الحق أي رده ودفعه، وغمط الناس، والمسلم مطالب بأن يعود نفسه الخضوع للحجة متى ما استبانت له، إذ ليس بينه وبين الحق عداوة. وأما ممارسة الإقناع بالحجة، فهي السبيل المفضي إلى نبذ العنف في الحوار، ونحن نقرأ في القرآن الكريم قول الله تعالى: (وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {111}) (البقرة)، فكل مدعٍ لابد أن يثبت دعواه بحجة واضحة وبرهان ساطع. ومما يساعد على ممارسة الإقناع بالحجة أن يستند الحوار إلى القواسم المشتركة، والمعايير المتفق عليها بين المتجادلين، وهذه المعايير قد تكون حججاً عقلية وقد تكون حقائق علمية، وقد تكون نصوصاً دينية يؤمن بها الطرفان، ومن الأمثلة التي يحسن أن نستشهد بها على هذا الأصل قصّة الشاب الذي أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله أتأذن لي في الزنا؟ فصاح الناس به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ’’قربوه، ادنُ’’، فدنا حتى جلس بين يديه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام:’’ أتحبه لأمك؟’’، فقال: لا جعلني الله فداك، قال: ’’كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم، أتحبه لابنتك؟’’ قال: لا جعلني الله فداك قال: ’’كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم، أتحبه لأختك؟’’ وزاد ابن عوف حتى ذكر العمة والخالة، وهو يقول في كل واحد لا، جعلني الله فداك، وهو صلى الله عليه وسلم يقول كذلك الناس لا يحبونه، وقالا جميعا في حديثهما – أعني ابن عوف والراوي الآخر -: فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره وقال: ’’اللهم طهر قلبه واغفر ذنبه وحصن فرجه فلم يكن شيء أبغض إليه منه’’. والشاهد في هذه القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم وظّف قيما كانت مستقرة في نفس هذا الشاب تلقاها من بيئته، ونشأ عليها، فهو من قوم استقر عندهم أن الزنا رذيلة وعار، وأنّه لا يليق بأهل المروءات أن يلطخوا شرفهم بمثل هذه القاذورات، فأدرك الفتى العربي بهذه المحاورة العقلية النفسية التي سلكها معه النبي صلى الله عليه وسلم أن ما همّ به من الزنا عمل قبيح وسمعة سيئة، وسلوك فاضح، فقام من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم - ببركة منهجه ودعائه - وما من شيء عنده أقبح من الزنا.
2-إتاحة الفرصة لأصحاب الرأي أن يعبروا عن آرائهم: إنّ كثيراً من وجهات النظر التي تكون سبباً في التصادم بين المختلفين، إذا توافق الناس على مناقشتها بالحجج العقلية والمنطق السليم، يمكن أن تستبين فيها وجهة الحق، ويرتفع التنازع، أو يتعايش الناس بالحسنى، وعليه فلابد من الحرص على توسيع دائرة الحوار، وعدم اللجوء للعنف، ومصادرة حق الناس في الاختلاف بالقهر، والقرآن يخبرنا أن غاية ما طلبه الرسل من أقوامهم أن يتفكروا في دعوتهم التي جاؤوا بها، وما تأمر به وتحض عليه، ليختاروا لأنفسهم، من غير إكراه، ما تحملهم عليه هواتف الفطرة والنظر الرشيد قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ {46}) (سبأ). وقال إبراهيم لقومه: (قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ {66} أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ {67}) (الأنبياء). ولكنّ المتعنتين، الذين يضيقون ذرعاً بالحوار والمجادلة، لم يجدوا ما يواجهون به دعوة الحق إلا ممارسة العدوان، ونحن نقرأ في القرآن كيف واجه قوم إبراهيم عليه السلام ما جاء به من دعوة بيّنة: (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ {68}) (الأنبياء)، ونقرأ في القرآن ما قاله قوم شعيب لشعيب عليه السلام: (قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ {88}) (الأعراف)، ونقرأ مقالة قومِ لوط لنبيّهم عليه السلام: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ {56}) )النمل). ونقرأ ما همّ به مشركو العرب من مكر برسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ {30}) (الأنفال). فالعنف كان على مدار التاريخ الإنساني سبيل المجرمين، والتجربة التاريخية الإسلامية تشهد بأنّ المسلمين، في عهودهم الراشدة، كانوا من أوسع الناس صدراً مع مخالفيهم، فقد علّمهم الإسلام المنهج الصحيح الذي به يفكرون ويستدلون ويعترضون، وبلغت الحرية الفكرية عند أهل الإسلام مداها، حيث كانوا يناقشون الآراء والأفكار دون حَجر، وقامت مدارس ومذاهب للعلوم والمعارف انتظمت الساحة الإسلامية كلها.
3-البعد عن التسيّب في ممارسة المجادلة وحرية التعبير: الحوار الذي يترفع به العنف ما كان قائماً على الحجة بعيداً عن السباب والتجريح، وهناك فرق كبير بين نقد الفكرة وبين سبّها وشتمِ أصحابها قال تعالى: (وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ {108}) (الأنعام)، إنّ الإسلام يدعونا إلى أنّ نجادل النّاس بالحسنى قال تعالى: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ {46}) (العنكبوت)، ويعلمنا أن الاعتراض على العقائد والأفكار لا يقتضي مواجهة الناس بالبذاءة والمطاعنة والفحش، فالإسلام كما يقول د. جعفر شيخ إدريس: ’’يفرق في المعاملة بين المعتقدات والمعتقدين، فبينما يدعو إلى دعوة المعتقدين بالتي هي أحسن، بل وإلى بر من لم يعتد منهم، فإنه لا يتردد في نقد معتقداتهم نقداً صارماً وإقامة الحجج على بطلانها، انظر مثلاً كيف يدعو إلى معاملة النصارى بالتي هي أحسن، ويحكم بحل طعامهم ونسائهم، بينما يؤكد أنه لا عيسى بن مريم ولا غيره يمكن أن يكون ولداً لله تعالى؛ لأنهم مخلوقون والمخلوق لا يكون ولداً لخالقه؛ إن الأب يلد ابنه ولا يخلقه’’.. فالتسيّب في ممارسة المجادلة وحرية التعبير، لا تعني إلا الفوضى، ولا تقود إلا للعنف، وقد رأينا نموذجاً لهذا التسيب المقيت بما عرف في الإعلام قبل فترة بالرسوم المسيئة، فقد طفق ساسة الغرب ومفكروه ورجال الإعلام فيه يبررون لهذه الرسوم بأنّها حرية تعبير، وهي حرية مطلقة غير مقيَّدة؛ ’’إلا أن المفارقة العظمى في موقف هذا الغرب، هي أنّه يرفع عن حرية التعبير - فِعْلاً - كل القيود والضوابط متى حصل استهداف الإسلام والمسلمين؛ لكنّه يبادر إلى مصادرتها كلياً متى تعلق الأمر بشبهة ’’معاداة السامية’’ أو التشكيك في ’’المحرقة’’، بل إنه لا يتردد في محاكمة من يجرؤ على ممارسة حريته في الرأي بشأن هاتين القضيتين؛ ولا يخفى على ذي بصيرة أن حرية التعبير ليست بهذا الإطلاق المزعوم ولا بهذا التسيُّب المذموم؛ وينهض دليلاً على ذلك وجود قيود متعددة وضعها الغرب نفسه على هذه الحرية: منها قيود سياسية وأيديولوجية ترفض كل فكر لا يتفق مع اختيارات الغرب وتوجُّهاته؛ ومنها أيضاً قيود قانونية مصدرها الدساتير والقوانين الداخلية وأيضاً القانون الدولي الذي اجتهد في ضمان حُرمة الإنسان وحقه في الاختلاف الثقافي وحماية اختياراته العقدية؛ ومنها كذلك قيود قيمية وأخلاقية أساسها اشتراك الإنسانية في قيم خالدة تضمن الكرامة لكل الأفراد وتُرسخ أسباب التعايش وتواصل الشعوب والثقافات’’.
4-بناء توافقات على المتفق عليه بين المختلفين: أرادت حكمة الله جل وعلا أن يكون الناس مختلفين في معتقداتهم وأفكارهم قال تعالى: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ {118}) (هود)، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {2}) (التغابن). وهذا الاختلاف القدري بين البشر، لا يمنع ولا يحول بين النّاس وبين أن يتعارفوا ويتعاونوا ويتعايشوا بالحسنى، وأول مقتضيات ذلك، الاعتراف بحقيقة واقعة هي أنه لا يوجد مجتمع من المجتمعات الإنسانية يخلو من قيم حسنة تستحق الشكر، لكنّ الأمم والمجتمعات تتفاوت في مقدار ما عندها من القيم، كما تتفاوت في درجات تمسكها بها، ومحافظتها عليها، ولا يمكن - عقلاً - أن توجد أمة من الناس لا تملك خيراً قط، وهذا عمرو بن العاص الصحابي الجليل يشهد لأهل الروم، بما عرف من خصالهم لم يمنعه عن هذه الشهادة المنصفة بغض أو شنآن فقال: ’’إن فيهم خصالاً أربعاً: أنهم أحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لضعيف ويتيم ومسكين، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك). والمسلمون - في سبيل رعاية القيم الحسنة والحفاظ عليها - لا يجدون في أنفسهم حرجاً من التعاون مع أي كيان آخر ينشد الخير ويعمل من أجل إيصاله للناس، وقد علّمنا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وضرب لنا من نفسه قدوة صالحة في المسارعة لفعل الخير، والتعاون مع كل من يرفع رايته، ويعمل من أجل حماية الفضائل التي يمكن أن تنتقل بالإنسانية خطوات تقربهم إلى حياة الكرامة والفضيلة التي نرجوها لقومنا وللناس أجمعين. ومن الشواهد الدالة على هذا في السيرة النبوية المباركة موقفان: أ- موقف النبي صلى الله عليه وسلم من حلف الفضول، وهو حلف سببه أن قريشاً كانت تتظالم بالحرم، فقام عبد الله بن جدعان والزبير بن عبدالمطلب فدعوهم إلى التحالف على التناصر والأخذ للمظلوم من الظالم فأجابهما بنو هاشم وبعض القبائل من قريش كبني أسد بن عبدالعزى، وبني زهرة بن كلاب وبني تيم بن مرة، فتحالفوا في دار عبد الله بن جدعان فسموا ذلك الحلف حلف الفضول، فقال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: ’’لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم لو أدعى به في الإسلام لأجبت’’، فهذا حلف أقامته قبائل لم تسلم بعد، ولكنها التقت على هدف نبيل، ومقصد إنساني حسن، يتوافق مع منطق الشريعة التي جاءت من أجل حماية مثل هذه المقاصد التي تعود على المجتمع أمناً في معاشه، وصلاحاً في شؤونه وأحواله. ب- ومنها ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم الحديبية: ’’والذي نفسي بيده، لا يسألونني خطة - يعني المشركين - يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها’’، وأخذ الإمام ابن القيم من هذا الموقف قاعدة عظيمة حكيمة فقال رحمه الله: ’’إن المشركين وأهل البدع والفجور والبغاة والظلمة إذا طلبوا أمراً يعظمون به حرمة من حرمات الله تعالى، أجيبوا إليه وأعطوه، وأعينوا عليه، وإن منعوا غيره، فيعاونون على ما فيه تعظيم حرمات الله تعالى، لا على كفرهم وبغيهم، ويمنعون مما سوى ذلك، فكل من التمس المعونة على محبوب لله تعالى مرض له، أجيب إلى ذلك كائناً من كان، ما لم يترتب على إعانته على ذلك المحبوب مبغوض لله أعظم منه’’. المنطلق الثالث: التأسيس لمرجعيات موثوقة: إن المرجعية العلمية التي تحظى باحترام النّاس وتقديرهم، تمثل في ظني حجر الزاوية في منع الفوضى الفكرية التي تسمح لكل من شدا شيئاً من العلم أن يتصدر المجالس، ويصدر الفتاوى، ويخوض فيما يحسن وما لا يحسن، ولا شك أن ضعف هذه المرجعيات في عالمنا السّني على وجه التحديد، ساعد في السماح لمجوعات من الشباب الغيور، أن تأخذ زمام المبادرة بيدها، وأن تسارع لمعالجة هموم الأمة كلها بمنهجيتها التي تختارها لنفسها. إن التأسيس لمرجعيات موثوقة في الأمة لا يعني أن نعلن في كل قطر عن مجمع فقهي يدفع بأهل الاختصاص إليه، وإنما يعني أن نسعى لتوفير مطلوبات أساسية تجعل من هذه المجامع والمجالس الفقهية المنتشرة في عالمنا الإسلامي محلّ ثقة وقبول، ويكون لها أثر مبارك على واقعنا، وتوحيد صفنا ورؤانا، ومن هذه المطلوبات التي يجب العمل على تحقيقها:
1-الكفاءة العلمية التي تجعل الأفراد والجماهير مطمئنين إلى أن من يفتيهم في عامة أمرهم وخاصته أهل لهذه المنزلة.
2-الحضور المستمر، ومواكبة الأحداث والنوازل، ومعالجتها بالرأي الواضح في الوقت المناسب بالوجه المناسب، أما الاكتفاء ببيانات محدودة في مناسبات عامة، وإصدار الفتاوى في بعض شأننا، والإطلال على الناس في مواسم العبادات، فهذا مما لا يجدي شيئاً، ولن يخدم قضية، ومن العجب أن ترى أصحاب المشاريع المأجورة يشكلون حضوراً كثيفاً في كل حدث، ولا تمل أقلامهم وألسنتهم من تناول ما يهمّ الناس بالتصريحات والمقالات والكتب والمنشورات، بينما يتوارى الصوت الإسلامي الفقهي أو يكاد.
3-الاستقلالية في الرأي والموقف، وأعني أن لا تصدر هذه المرجعيات عن نظرة حزبية ضيقة، ولا عن هيمنة قابضة لنظام حاكم، ذلك لأنّ العلماء هم أجدر النّاس بالتحرر من هذه التوجهات القاصرة التي تجعل منهم أدوات تحركها جهات لها ظروفها وخياراتها الخاصّة.
4- التكامل بين المجالس العلمية الفقهية، والتيارات الحركية في الساحة الإسلامية، وأحسب أنّ واقع عالمنا الإسلامي والتحديات التي تواجهه ستسمح بمثل هذا التكامل، وستزيل كثيراً من بؤر التوتر والجفوة التي حالت بين هذه الكيانات المؤثرة أن تجتمع وتتعاون.
____________
(*)المراقب العام للإخوان المسلمين في السودان.
الهوامش :
(1) المقصود بالأمن الفكري هنا «حماية الشخصية المسلمة من الأفكار والتصورات المنحرفة».
(2) وأشهر مثال لها اتفاقية «سيداو».
(3) انظر: من مضايق الحداثة إلى فضاء الإبداع، لخالد حاجي، ص 121.
(4) متفق عليه، رواه البخاري في كتاب استتابة المرتدين، (رقم 6930)، و(رواه مسلم، رقم 1066).
(5) زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم، ج 3، ص 298.
(6) معهد «راند» مؤسسة بحثية أمريكية تساعد الإدارة الأمريكية في اتخاذ القرار.
(7) على شبكة الإنترنت(bbc) .