أ.د. محمد عمارة
السماحة التي تعني: المساهلة واللين في المعاملات، والعطاء بلا حدود، ودونما انتظار مقابل، أو حاجة إلى جزاء، إن هذه السماحة في النسق الإسلامي ليست مجرد كلمة تُقال، ولا شعار يُرفع، ولا حتى صياغة نظرية تأملية ومجردة، كما أنها ليست مجرد فضيلة إنسانية يمنحها حاكم ويمنعها آخر.. وإنما هي دين مقدس، ووحي إلهي، وبيان نبوي لهذا الوحي الإلهي، وتجسيد وتطبيق لهذا الدين في دولة النبوة (1 - 11هـ/ 622 - 632م)، وفي دولة الخلافة الراشدة (11 - 41هـ/ 632 - 661م). وفي التاريخ الحضاري للشرق الإسلامي منذ ما قبل أربعة عشر قرناً، وحتى هذه اللحظات، بل لأن هذه السماحة هي ثمرة للدين الخالد والشريعة الخاتمة، فإنها ستظل منهاجاً للإسلام والمسلمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. التأسيس القرآني للسماحة لقد بدأ القرآن الكريم، فأسس للسماحة الإسلامية على قاعدة الرؤية الفلسفية الإسلامية للكون والوجود. ففي هذا الوجود هناك: «حق» هو الله، سبحانه وتعالى، و«خلق»، يشمل جميع عوالم المخلوقات، وهناك «واجد الوجود»، وهناك «الوجود» المخلوق «لواجد الوجود».. وفي هذا التصور الفلسفي الإسلامي تكون الواحدية والأحدية فقط للحق، لله سبحانه وتعالى واجد الوجود، بينما تقوم كل عوالم الخلق - المادية والنباتية والحيوانية والإنسانية والفكرية - أي كل ما عدا الذات الإلهية، ومن عدا الذات الإلهية على التعدد، والتنوع، والتمايز، والاختلاف.. باعتبار هذا التنوع والتعدد والتمايز والاختلاف قانوناً إلهياً تكوينياً، وسُنة من سنن الله التي لا تبديل لها ولا تحويل؛ الأمر الذي يستلزم - لبقاء هذه السُّنة الكونية قائمة ومطردة - تعايش كل الفرقاء المختلفين، وتعارف جميع عوالم الخلق؛ أي سيادة خُلُق السماحة في العلاقات بين الأمم، والشعوب، والثقافات، والحضارات، والمذاهب، والفلسفات، والشرائع، والملل، والديانات، والأجناس، والألوان، واللغات، والقوميات.. فبدون السماحة يحل «الصراع» - الذي ينهي ويلغي ويفني التعددية - محل التعايش والتعارف؛ الأمر الذي يصادم سُنة الله، سبحانه وتعالى، في الاختلاف والتنوع بكل عوالم المخلوقات. على هذه الرؤية الفلسفية الإسلامية للكون والوجود، أقام الإسلام مذهبه في السماحة، باعتبارها فريضة دينية، وضرورة حياتية، لتكون جميع عوالم الخلق على هذا النحو الذي أراده الله تعالى. تعايش وتعارف وفي التأسيس القرآني لهذه الرؤية الفلسفية الإسلامية للكون والوجود، نقرأ في آيات الذكر الحكيم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ {13})(الحجرات)، فالإنسانية تتنوع إلى شعوب وقبائل، والسماحة هي السبيل إلى تعايشها وتعارفها في الإطار الإنساني العام. وهذه الأمم والشعوب والقبائل تتنوع أجناسها ولغاتها، ومن ثم قومياتها، كآية من آيات الله: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ {22})(الروم)، والسماحة هي السبيل لتعايش الأجناس والقوميات في إطار الحضارات الجامعة لشعوب هذه القوميات. وهذه الأمم والشعوب تتنوع دياناتها، وتختلف مللها وشرائعها، وتتعدد مناهجها وثقافاتها وحضاراتها، باعتبار ذلك سُنة من سُنن الابتلاء والاختبار الإلهي لهذه الأمم والشعوب.. وحتى يكون هناك تدافع وتسابق بينها جميعاً على طريق الحق وفي ميادين الخيرات؛ (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ {48})(المائدة)، (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ {118} إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)(هود)، والمفسرون لهذه الآيات يقولون عن هذا الاختلاف وذلك التنوع وتلك التعددية في الشرائع والمناهج والثقافات والحضارات: إنها علة الخلق.. وإن المعنى: «وللاختلاف خلقهم»(1). وبدون السماحة يستحيل تعايش هذه التعددية، التي هي علة الوجود، وسر التسابق في عمران هذا الوجود. وانطلاقاً من هذا الموقف القرآني، الذي جعل هذا التنوع سُنة إلهية وقانوناً كونياً، كان «العدل» - الذي هو معيار النظرة القرآنية وروح الحضارة الإسلامية - أساس السماحة الإسلامية في التعامل مع كل الفرقاء المختلفين. عدل وصبر إن الإسلام، لأنه دين ودولة، وأمة وجماعة، ونظام واجتماع، ليس الدين الذي يخلو من القانون ومن السلطة التي تعاقب المعتدين، وتدين الجناة.. ومع ذلك، فإن سماحته تدعو إلى العدل في رد العدوان وإنزال العقاب والجزاء، بل وتفضل الصبر الجميل على رد العقاب: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ {125} وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ {126} وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ {127} إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ {128})(النحل). كذلك، يوجب الإسلام علينا العدل في النظر إلى المخالفين لنا في الاعتقاد - الذي هو سُنة إلهية - ونحن مدعوون وفق منهاج القرآن ألا نضع كل المخالفين لنا في سلة واحدة، وألا نسلك طريق التعميم الذي يظلم عندما يغفل الفروق بين مذاهب هؤلاء المخالفين ومواقفهم.. وإقامة لهذا المنهاج رأينا القرآن الكريم لا يعمم أبداً في حديثه عن أهل الكتاب وأصحاب العقائد والديانات، وإنما يميز بين مذاهبهم وطوائفهم، فيقول: (لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ {113})(آل عمران)، (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ {199})(آل عمران)، (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ {75})(آل عمران). والمنطلق الإسلامي لهذا التمييز - المؤسس للعدل والسماحة - هو العدل الإلهي الذي هو فريضة إسلامية جامعة، فالله سبحانه وتعالى، رب العالمين جميعاً: (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {2})(الفاتحة)، وليس رب شعب بعينه دون سائر الشعوب، والتكريم الإلهي شامل لكل بني آدم؛ (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً {70})(الإسراء)، ومعيار التفاضل بين البشر المكرمين هو التقوى؛ (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ {13})(الحجرات)، التطبيق النبوي للسماحة ولأن الإسلام هو الجامع والوارث لكل مواريث النبوات، فلقد تفرد بالسماحة التي جعلته وحده المؤمن بكل الرسل والأنبياء، وبجميع الكتب والصحف والألواح، دون تفريق أحد من رسل الله، عليهم الصلاة والسلام: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ {285})(البقرة). ولأن السُّنة النبوية هي التطبيق النبوي للبلاغ القرآني، رأينا احتفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل الرسل والأنبياء، فالوحي الذي جاء به في عقائد دين الله الواحد هو ذاته الوحي الذي أوحاه الله إلى الخالين من أصحاب الرسالات: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً {163} وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً {164})(النساء). وانطلاقاً من هذا البلاغ القرآني جاء التطبيق النبوي الذي يحتضن بالإيمان كل الرسل والأنبياء، فهم جميعاً أبناء دين واحد، وشرائعهم وأمهاتهم شتى: «الأنبياء إخوة من عَلاَّت، وأمهاتهم شتى ودينهم واحد»(رواه البخاري ومسلم وأبو داود).> الهامش (1) القرطبي: «الجامع لأحكام القرآن»، ج9، ص 114، 115، طبعة دار الكتب المصرية، القاهرة.
خاطب الرسول صلى الله عليه وسلم اليهود فقال: «نحن أحق وأولى بموسى منكم»(رواه البخاري ومسلم)، وقال عن عيسى عليه السلام: «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الأولى والآخرة»، قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: «الأنبياء إخوة من عَلاَّت، وأمهاتهم شتى، ودينهم واحد، فليس بيننا نبي»(رواه البخاري ومسلم). إبراهيم عليه السلام، هو أبو الأنبياء، الذي أقام مع إسماعيل، عليه السلام، قواعد البيت الحرام ليكون حرماً آمناً وقبلة دائمة لأمة خاتم الأنبياء، الذي أحيت شريعته مناسك ملة إبراهيم، وحنيفيته السمحة، التي تأسست عليها سماحة الإسلام: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {161}(الأنعام : 161). وفي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه السماحة، التي جسّدها الإسلام، نقرأ: «أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة»(رواه البخاري والإمام أحمد)، «وإني أُرسلت بحنيفية سمحة»(رواه الإمام أحمد)، و«دخل رجل الجنة بسماحته»(رواه الإمام أحمد)، و«إن الله يحب سمح البيع، سمح الشراء، سمح القضاء»(رواه الترمذي). ولم يقف هذا التطبيق النبوي للسماحة القرآنية عند حدود السُّنة القولية، بل تحولت هذه السماحة في التطبيق النبوي إلى واقع معاش، وأخلاق وسجايا، قنَّنها وقعّدها دستور دولة النبوة في المدينة المنورة وفي العهود والمواثيق التي قطعها وكتبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لغير المسلمين. ففي دستور دولة المدينة (الصحيفة أو الكتاب) أصبح الآخر الديني (اليهود) جزءاً من الذات.. ذات الرعية الواحدة والأمة الواحدة، مع حرية الاعتقاد بالعقيدة الجاحدة لشريعة الإسلام! ونص هذا الدستور على أن «لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، ومن تبعنا من يهود فإن لهم النصر والأسوة، غير مظلومين ولا مُتنحر عليهم، وأن بطانة يهود ومواليهم كأنفسهم، وأن اليهود ينفقون من المؤمنين ما داموا محاربين، على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر المحض من أهل هذه الصحيفة دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه»(1). وعندما جاء وفد نصارى نجران عام 10هـ/ 631م إلى مدينة رسول الله [، فتح لهم أبواب مسجد النبوة، فصلوا فيه صلاة عيد الفصح، مولين وجوههم إلى المشرق، ثم تركهم وما يدينون(2)، وعقد لهم عهداً عاماً ودائماً لهم ولسائر من يتدين بالنصرانية عبر الزمان والمكان، ولقد جاء هذا الدستور الذي تفردت به سماحة الإسلام دون كل الأنساق الفكرية والمواثيق الدستورية: «ولنجران وحاشيتها، ولأهل ملتها، ولجميع من ينتحل دعوة النصرانية في شرق الأرض وغربها، قريبها وبعيدها، وفصيحها وأعجمها، جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله، على أموالهم، وأنفسهم، وملتهم، وغائبهم، وشاهدهم، وعشيرتهم، وبيعهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، لا يُغيّر أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته.. وأن أحرس دينهم وملتهم أين كانوا.. بما أحفظ به نفسي وخاصتي وأهل الإسلام من ملّتي». في الخلافة الراشدة ولقد امتدت هذه السماحة بامتداد الفتوحات الإسلامية التي أقامت «الدولة»، وتركت الناس أحراراً في «الدين»؛ فرأينا أبا بكر الصديق (51 ق هـ - 13هـ/ 573 - 634م) يوصي أمير الجيش الذاهب إلى الشام يزيد بن أبي سفيان (18هـ/ 639م): «إنك ستجد قوماً زعموا أنهم حبّسوا أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له»(رواه مالك في الموطأ). ووجدنا الراشد الثاني عمر بن الخطاب (40 ق هـ - 23هـ/ 584 - 644م) يكتب عهد الأمان «العهد العمري» لأهل القدس «أيليا» عند فتحها سنة 15هـ/ 635م الذي قرر فيه: «الأمان لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم، وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، وأنه لا تُسكن كنائسهم ولا تُهدم، ولا يُنتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يُضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود - وفق ما طلبوا - وعلى أهل إيلياء أن يُخرجوا منها الروم واللصوص، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن.. ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم، ويخلي بيعهم وصلبهم، فإنهم آمنون على أنفسهم وبيعهم وصلبانهم، حتى يبلغوا مأمنهم.. وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله، وذمة الخلفاء، وذمة المؤمنين..»(3). بل لقد امتدت هذه السماحة الإسلامية، من إطار التعامل مع أهل الديانات السماوية - اليهود والنصارى - إلى أهل كل العقائد والديانات، فشملت المتدينين بالديانات الوضعية من أهل البلاد التي دخلت في الدولة الإسلامية، وعندما فُتحت فارس - وأهلها مجوس عبدة النار - سأل عمر بن الخطاب مجلس الشورى (مجلس السبعين) عن الموقف من أهل هذه الديانات غير السماوية، كيف أصنع بالمجوس؟ فوثب عبدالرحمن بن عوف (44 ق هـ/ 580 - 652م) فقال: أشهد على رسول الله [ أنه قال: «سُنّوا فيهم سُنة أهل الكتاب»(4). إن الإيمان - في الإسلام وبالإسلام - تصديق قلبي يبلغ مرتبة اليقين، لذلك استحال الوصول إلى هذا الإيمان بأي لون من ألوان الإكراه، فكانت القاعدة القرآنية المحكمة: لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ {256}(البقرة).، لذلك كان سبيل الإسلام إلى القلوب هو الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ {125}(النحل).فمن استجاب قلبه كان مؤمناً بالإسلام، ومن أعرض قلبهلَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ {6}(الكافرون)، وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ {29} ( الكهف: 26)، وحسابه في الآخرة إلى الله وعلى الله، أما في الدنيا، فإن «له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين». ولهذه الحقيقة كان انتشار الإسلام سلمياً، بل ودون مؤسسة تبشيرية ترعى وتعمل على هذا الانتشار، وإذا كانت أغلب بقاع عالم الإسلام، وأكثر شعوب الأمة الإسلامية عدداً لم تجرِ فيها فتوحات ولا حروب إسلامية، فإن كل حروب الإسلام إنما كانت دفاعاً عن حرية الاعتقاد، وحرية الضمير، وحرية الوطن الذي يعيش فيه المسلمون، فكل غزوات عهد النبوة إنما كانت ضد الذين أخرجوا المسلمين من ديارهم وفتنوهم في دينهم: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ {39} الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ {40}(الحج) فلم يعرف الإسلام «حروباً دينية»، لقهر المخالفين على الإيمان به، وكل ضحايا غزوات عهد النبوة من الجانبين - شهداء المسلمين وقتلى المشركين - هم، على سبيل الحصر 386 قتيلاً، 183 هم جملة شهداء المسلمين، و203 هم جملة قتلى المشركين(5)، بينما ضحايا «الحروب الدينية»، داخل النصرانية بين الكاثوليك والبروتستانت قد بلغت عشرة ملايين وفق إحصاء «فولتير» (1694 - 1778م)، أي 40% من شعوب وسط أوروبا أبيدوا في هذه الحروب الدينية التي امتدت نحو قرنين من الزمان! أما كل معارك الفتوحات الإسلامية، في القرن الهجري الأول، فإنها كانت ضد جيوش القوى الاستعمارية التي قهرت الشرق، سياسياً واقتصادياً، ودينياً وثقافياً، لأكثر من عشرة قرون، ضد جيوش القيصرية الرومانية والكسروية الفارسية، ولم تدر معركة واحدة بين جيوش الإسلام وبين أهل البلاد المفتوحة، بل وقف أهل تلك البلاد - وهم على دياناتهم القديمة - مع جيوش الفتح الإسلامي، وشاركوا في هذه الفتوحات، ورأوا فيها تحريراً لأوطانهم من القهر الاستعماري الروماني، وتحريراً لضمائرهم وعقائدهم من القهر الديني والحضاري، بل ورأوها إنقاذاً إلهياً لهم - على يد المسلمين - وعقاباً إلهياً للمستبدين الرومان. الهوامش (1) «مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة»، ص 17 - 21، جمعها وحققها: د. محمد حميد الله الحيدر آبادي، طبعة القاهرة سنة 1956م. (2) ابن القيم: «زاد المعاد في هدي خير العباد»، ج3، ص 459، 505، تحقيق شعيب الأرنؤوطي، عبدالقادر الأرنؤوطي، طبعة بيروت سنة 1418هـ/ 1997م، ومحمد بن يوسف بن صالح الشامي: «سبل الهدي والرشاد في سيرة خير العباد»، ج6، ص 246، تحقيق إبراهيم الترزي، عبدالكريم العزباوي، طبعة القاهرة سنة 1418هـ/ 1997م. (3) «مجموعة الوثائق السياسية في العهد النبوي والخلافة الراشدة»، مرجع سابق، ص 345، 643. (4) البلاذري: «فتح البلدان»، ص 327، تحقيق: د. صلاح الدين المنجد، طبعة القاهرة سنة 1956م. (5) ابن عبدالبر: «الدرر في اختصار المغازي والسير»، تحقيق: د. شوقي ضيف، طبعة القاهرة، سنة 1969م. (6) يوحنا النقيوسي: «تاريخ مصر ليوحنا النقيوسي»، ص 201، 220، ترجمة ودراسة: د. عمر صابر عبدالجليل، طبعة القاهرة، سنة 2000م. (7) د. صبري أبو الخير سليم: «تاريخ مصر في العصر البيزنطي»، ص 62، طبعة القاهرة، سنة 2001م. شهادة حق شهد الأسقف «يوحنا النقيوسي» على سماحة المسلمين في الفتح الإسلامي لمصر - فقال: «إن الله الذي يصون الحق، لم يهمل العالم، وحكم على الظالمين، ولم يرحمهم لتجرئهم عليه، وردهم على يد الإسماعيليين (العرب المسلمين)، ثم نهض المسلمون وحازوا كل مدينة مصر، وكان «هرقل» (610 - 641م) حزيناً، وبسبب هزيمة الروم الذين كانوا في مدينة مصر، وبأمر الله الذي يأخذ أرواح حكامهم، مرض «هرقل» ومات، وكان عمرو بن العاص يقوى كل يوم في عمله، ويأخذ الضرائب التي حددها، ولم يأخذ شيئاً من مال الكنائس، ولم يرتكب شيئاً ما، سلباً أو نهباً، وحافظ على الكنائس طوال الأيام..«(6). وشهد بذلك أيضاً الأسقف «ميخائيل السرياني» فقال: «لم يسمح الإمبراطور الروماني لكنيستنا بالظهور، ولم يصغِ إلى شكاوى الأساقفة فيما يتعلق بالكنائس التي نهبت، ولهذا، فقد انتقم الرب منه، لقد نهب الرومان الأشرار كنائسنا بقسوة بالغة، واتهمونا دون شفقة، ولهذا جاء إلينا من الجنوب أبناء إسماعيل لينقذونا من أيدي الرومان، وتركنا العرب نمارس عقائدنا بحرية، وعشنا في سلام»(7). فالفتوحات الإسلامية كانت تحريراً لأوطان الشرق من الاستعمار والاستعباد والاستغلال الروماني، وكانت «إنقاذاً» لنصارى الشرق ونصرانيتهم من القهر الروماني، حررت الأرض، وحررت ضمائر الشعوب، ثم تركتهم وما يدينون في سلام، فكانت نصرانية الشرق بهذه الفتوحات «هبة الإسلام»!
السماحة التي تعني: المساهلة واللين في المعاملات، والعطاء بلا حدود، ودونما انتظار مقابل، أو حاجة إلى جزاء، إن هذه السماحة في النسق الإسلامي ليست مجرد كلمة تُقال، ولا شعار يُرفع، ولا حتى صياغة نظرية تأملية ومجردة، كما أنها ليست مجرد فضيلة إنسانية يمنحها حاكم ويمنعها آخر.. وإنما هي دين مقدس، ووحي إلهي، وبيان نبوي لهذا الوحي الإلهي، وتجسيد وتطبيق لهذا الدين في دولة النبوة (1 - 11هـ/ 622 - 632م)، وفي دولة الخلافة الراشدة (11 - 41هـ/ 632 - 661م). وفي التاريخ الحضاري للشرق الإسلامي منذ ما قبل أربعة عشر قرناً، وحتى هذه اللحظات، بل لأن هذه السماحة هي ثمرة للدين الخالد والشريعة الخاتمة، فإنها ستظل منهاجاً للإسلام والمسلمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. التأسيس القرآني للسماحة لقد بدأ القرآن الكريم، فأسس للسماحة الإسلامية على قاعدة الرؤية الفلسفية الإسلامية للكون والوجود. ففي هذا الوجود هناك: «حق» هو الله، سبحانه وتعالى، و«خلق»، يشمل جميع عوالم المخلوقات، وهناك «واجد الوجود»، وهناك «الوجود» المخلوق «لواجد الوجود».. وفي هذا التصور الفلسفي الإسلامي تكون الواحدية والأحدية فقط للحق، لله سبحانه وتعالى واجد الوجود، بينما تقوم كل عوالم الخلق - المادية والنباتية والحيوانية والإنسانية والفكرية - أي كل ما عدا الذات الإلهية، ومن عدا الذات الإلهية على التعدد، والتنوع، والتمايز، والاختلاف.. باعتبار هذا التنوع والتعدد والتمايز والاختلاف قانوناً إلهياً تكوينياً، وسُنة من سنن الله التي لا تبديل لها ولا تحويل؛ الأمر الذي يستلزم - لبقاء هذه السُّنة الكونية قائمة ومطردة - تعايش كل الفرقاء المختلفين، وتعارف جميع عوالم الخلق؛ أي سيادة خُلُق السماحة في العلاقات بين الأمم، والشعوب، والثقافات، والحضارات، والمذاهب، والفلسفات، والشرائع، والملل، والديانات، والأجناس، والألوان، واللغات، والقوميات.. فبدون السماحة يحل «الصراع» - الذي ينهي ويلغي ويفني التعددية - محل التعايش والتعارف؛ الأمر الذي يصادم سُنة الله، سبحانه وتعالى، في الاختلاف والتنوع بكل عوالم المخلوقات. على هذه الرؤية الفلسفية الإسلامية للكون والوجود، أقام الإسلام مذهبه في السماحة، باعتبارها فريضة دينية، وضرورة حياتية، لتكون جميع عوالم الخلق على هذا النحو الذي أراده الله تعالى. تعايش وتعارف وفي التأسيس القرآني لهذه الرؤية الفلسفية الإسلامية للكون والوجود، نقرأ في آيات الذكر الحكيم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ {13})(الحجرات)، فالإنسانية تتنوع إلى شعوب وقبائل، والسماحة هي السبيل إلى تعايشها وتعارفها في الإطار الإنساني العام. وهذه الأمم والشعوب والقبائل تتنوع أجناسها ولغاتها، ومن ثم قومياتها، كآية من آيات الله: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ {22})(الروم)، والسماحة هي السبيل لتعايش الأجناس والقوميات في إطار الحضارات الجامعة لشعوب هذه القوميات. وهذه الأمم والشعوب تتنوع دياناتها، وتختلف مللها وشرائعها، وتتعدد مناهجها وثقافاتها وحضاراتها، باعتبار ذلك سُنة من سُنن الابتلاء والاختبار الإلهي لهذه الأمم والشعوب.. وحتى يكون هناك تدافع وتسابق بينها جميعاً على طريق الحق وفي ميادين الخيرات؛ (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ {48})(المائدة)، (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ {118} إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)(هود)، والمفسرون لهذه الآيات يقولون عن هذا الاختلاف وذلك التنوع وتلك التعددية في الشرائع والمناهج والثقافات والحضارات: إنها علة الخلق.. وإن المعنى: «وللاختلاف خلقهم»(1). وبدون السماحة يستحيل تعايش هذه التعددية، التي هي علة الوجود، وسر التسابق في عمران هذا الوجود. وانطلاقاً من هذا الموقف القرآني، الذي جعل هذا التنوع سُنة إلهية وقانوناً كونياً، كان «العدل» - الذي هو معيار النظرة القرآنية وروح الحضارة الإسلامية - أساس السماحة الإسلامية في التعامل مع كل الفرقاء المختلفين. عدل وصبر إن الإسلام، لأنه دين ودولة، وأمة وجماعة، ونظام واجتماع، ليس الدين الذي يخلو من القانون ومن السلطة التي تعاقب المعتدين، وتدين الجناة.. ومع ذلك، فإن سماحته تدعو إلى العدل في رد العدوان وإنزال العقاب والجزاء، بل وتفضل الصبر الجميل على رد العقاب: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ {125} وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ {126} وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ {127} إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ {128})(النحل). كذلك، يوجب الإسلام علينا العدل في النظر إلى المخالفين لنا في الاعتقاد - الذي هو سُنة إلهية - ونحن مدعوون وفق منهاج القرآن ألا نضع كل المخالفين لنا في سلة واحدة، وألا نسلك طريق التعميم الذي يظلم عندما يغفل الفروق بين مذاهب هؤلاء المخالفين ومواقفهم.. وإقامة لهذا المنهاج رأينا القرآن الكريم لا يعمم أبداً في حديثه عن أهل الكتاب وأصحاب العقائد والديانات، وإنما يميز بين مذاهبهم وطوائفهم، فيقول: (لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ {113})(آل عمران)، (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ {199})(آل عمران)، (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ {75})(آل عمران). والمنطلق الإسلامي لهذا التمييز - المؤسس للعدل والسماحة - هو العدل الإلهي الذي هو فريضة إسلامية جامعة، فالله سبحانه وتعالى، رب العالمين جميعاً: (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {2})(الفاتحة)، وليس رب شعب بعينه دون سائر الشعوب، والتكريم الإلهي شامل لكل بني آدم؛ (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً {70})(الإسراء)، ومعيار التفاضل بين البشر المكرمين هو التقوى؛ (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ {13})(الحجرات)، التطبيق النبوي للسماحة ولأن الإسلام هو الجامع والوارث لكل مواريث النبوات، فلقد تفرد بالسماحة التي جعلته وحده المؤمن بكل الرسل والأنبياء، وبجميع الكتب والصحف والألواح، دون تفريق أحد من رسل الله، عليهم الصلاة والسلام: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ {285})(البقرة). ولأن السُّنة النبوية هي التطبيق النبوي للبلاغ القرآني، رأينا احتفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل الرسل والأنبياء، فالوحي الذي جاء به في عقائد دين الله الواحد هو ذاته الوحي الذي أوحاه الله إلى الخالين من أصحاب الرسالات: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً {163} وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً {164})(النساء). وانطلاقاً من هذا البلاغ القرآني جاء التطبيق النبوي الذي يحتضن بالإيمان كل الرسل والأنبياء، فهم جميعاً أبناء دين واحد، وشرائعهم وأمهاتهم شتى: «الأنبياء إخوة من عَلاَّت، وأمهاتهم شتى ودينهم واحد»(رواه البخاري ومسلم وأبو داود).> الهامش (1) القرطبي: «الجامع لأحكام القرآن»، ج9، ص 114، 115، طبعة دار الكتب المصرية، القاهرة.
خاطب الرسول صلى الله عليه وسلم اليهود فقال: «نحن أحق وأولى بموسى منكم»(رواه البخاري ومسلم)، وقال عن عيسى عليه السلام: «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الأولى والآخرة»، قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: «الأنبياء إخوة من عَلاَّت، وأمهاتهم شتى، ودينهم واحد، فليس بيننا نبي»(رواه البخاري ومسلم). إبراهيم عليه السلام، هو أبو الأنبياء، الذي أقام مع إسماعيل، عليه السلام، قواعد البيت الحرام ليكون حرماً آمناً وقبلة دائمة لأمة خاتم الأنبياء، الذي أحيت شريعته مناسك ملة إبراهيم، وحنيفيته السمحة، التي تأسست عليها سماحة الإسلام: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {161}(الأنعام : 161). وفي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه السماحة، التي جسّدها الإسلام، نقرأ: «أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة»(رواه البخاري والإمام أحمد)، «وإني أُرسلت بحنيفية سمحة»(رواه الإمام أحمد)، و«دخل رجل الجنة بسماحته»(رواه الإمام أحمد)، و«إن الله يحب سمح البيع، سمح الشراء، سمح القضاء»(رواه الترمذي). ولم يقف هذا التطبيق النبوي للسماحة القرآنية عند حدود السُّنة القولية، بل تحولت هذه السماحة في التطبيق النبوي إلى واقع معاش، وأخلاق وسجايا، قنَّنها وقعّدها دستور دولة النبوة في المدينة المنورة وفي العهود والمواثيق التي قطعها وكتبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لغير المسلمين. ففي دستور دولة المدينة (الصحيفة أو الكتاب) أصبح الآخر الديني (اليهود) جزءاً من الذات.. ذات الرعية الواحدة والأمة الواحدة، مع حرية الاعتقاد بالعقيدة الجاحدة لشريعة الإسلام! ونص هذا الدستور على أن «لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، ومن تبعنا من يهود فإن لهم النصر والأسوة، غير مظلومين ولا مُتنحر عليهم، وأن بطانة يهود ومواليهم كأنفسهم، وأن اليهود ينفقون من المؤمنين ما داموا محاربين، على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر المحض من أهل هذه الصحيفة دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه»(1). وعندما جاء وفد نصارى نجران عام 10هـ/ 631م إلى مدينة رسول الله [، فتح لهم أبواب مسجد النبوة، فصلوا فيه صلاة عيد الفصح، مولين وجوههم إلى المشرق، ثم تركهم وما يدينون(2)، وعقد لهم عهداً عاماً ودائماً لهم ولسائر من يتدين بالنصرانية عبر الزمان والمكان، ولقد جاء هذا الدستور الذي تفردت به سماحة الإسلام دون كل الأنساق الفكرية والمواثيق الدستورية: «ولنجران وحاشيتها، ولأهل ملتها، ولجميع من ينتحل دعوة النصرانية في شرق الأرض وغربها، قريبها وبعيدها، وفصيحها وأعجمها، جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله، على أموالهم، وأنفسهم، وملتهم، وغائبهم، وشاهدهم، وعشيرتهم، وبيعهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، لا يُغيّر أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته.. وأن أحرس دينهم وملتهم أين كانوا.. بما أحفظ به نفسي وخاصتي وأهل الإسلام من ملّتي». في الخلافة الراشدة ولقد امتدت هذه السماحة بامتداد الفتوحات الإسلامية التي أقامت «الدولة»، وتركت الناس أحراراً في «الدين»؛ فرأينا أبا بكر الصديق (51 ق هـ - 13هـ/ 573 - 634م) يوصي أمير الجيش الذاهب إلى الشام يزيد بن أبي سفيان (18هـ/ 639م): «إنك ستجد قوماً زعموا أنهم حبّسوا أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له»(رواه مالك في الموطأ). ووجدنا الراشد الثاني عمر بن الخطاب (40 ق هـ - 23هـ/ 584 - 644م) يكتب عهد الأمان «العهد العمري» لأهل القدس «أيليا» عند فتحها سنة 15هـ/ 635م الذي قرر فيه: «الأمان لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم، وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، وأنه لا تُسكن كنائسهم ولا تُهدم، ولا يُنتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يُضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود - وفق ما طلبوا - وعلى أهل إيلياء أن يُخرجوا منها الروم واللصوص، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن.. ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم، ويخلي بيعهم وصلبهم، فإنهم آمنون على أنفسهم وبيعهم وصلبانهم، حتى يبلغوا مأمنهم.. وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله، وذمة الخلفاء، وذمة المؤمنين..»(3). بل لقد امتدت هذه السماحة الإسلامية، من إطار التعامل مع أهل الديانات السماوية - اليهود والنصارى - إلى أهل كل العقائد والديانات، فشملت المتدينين بالديانات الوضعية من أهل البلاد التي دخلت في الدولة الإسلامية، وعندما فُتحت فارس - وأهلها مجوس عبدة النار - سأل عمر بن الخطاب مجلس الشورى (مجلس السبعين) عن الموقف من أهل هذه الديانات غير السماوية، كيف أصنع بالمجوس؟ فوثب عبدالرحمن بن عوف (44 ق هـ/ 580 - 652م) فقال: أشهد على رسول الله [ أنه قال: «سُنّوا فيهم سُنة أهل الكتاب»(4). إن الإيمان - في الإسلام وبالإسلام - تصديق قلبي يبلغ مرتبة اليقين، لذلك استحال الوصول إلى هذا الإيمان بأي لون من ألوان الإكراه، فكانت القاعدة القرآنية المحكمة: لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ {256}(البقرة).، لذلك كان سبيل الإسلام إلى القلوب هو الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ {125}(النحل).فمن استجاب قلبه كان مؤمناً بالإسلام، ومن أعرض قلبهلَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ {6}(الكافرون)، وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ {29} ( الكهف: 26)، وحسابه في الآخرة إلى الله وعلى الله، أما في الدنيا، فإن «له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين». ولهذه الحقيقة كان انتشار الإسلام سلمياً، بل ودون مؤسسة تبشيرية ترعى وتعمل على هذا الانتشار، وإذا كانت أغلب بقاع عالم الإسلام، وأكثر شعوب الأمة الإسلامية عدداً لم تجرِ فيها فتوحات ولا حروب إسلامية، فإن كل حروب الإسلام إنما كانت دفاعاً عن حرية الاعتقاد، وحرية الضمير، وحرية الوطن الذي يعيش فيه المسلمون، فكل غزوات عهد النبوة إنما كانت ضد الذين أخرجوا المسلمين من ديارهم وفتنوهم في دينهم: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ {39} الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ {40}(الحج) فلم يعرف الإسلام «حروباً دينية»، لقهر المخالفين على الإيمان به، وكل ضحايا غزوات عهد النبوة من الجانبين - شهداء المسلمين وقتلى المشركين - هم، على سبيل الحصر 386 قتيلاً، 183 هم جملة شهداء المسلمين، و203 هم جملة قتلى المشركين(5)، بينما ضحايا «الحروب الدينية»، داخل النصرانية بين الكاثوليك والبروتستانت قد بلغت عشرة ملايين وفق إحصاء «فولتير» (1694 - 1778م)، أي 40% من شعوب وسط أوروبا أبيدوا في هذه الحروب الدينية التي امتدت نحو قرنين من الزمان! أما كل معارك الفتوحات الإسلامية، في القرن الهجري الأول، فإنها كانت ضد جيوش القوى الاستعمارية التي قهرت الشرق، سياسياً واقتصادياً، ودينياً وثقافياً، لأكثر من عشرة قرون، ضد جيوش القيصرية الرومانية والكسروية الفارسية، ولم تدر معركة واحدة بين جيوش الإسلام وبين أهل البلاد المفتوحة، بل وقف أهل تلك البلاد - وهم على دياناتهم القديمة - مع جيوش الفتح الإسلامي، وشاركوا في هذه الفتوحات، ورأوا فيها تحريراً لأوطانهم من القهر الاستعماري الروماني، وتحريراً لضمائرهم وعقائدهم من القهر الديني والحضاري، بل ورأوها إنقاذاً إلهياً لهم - على يد المسلمين - وعقاباً إلهياً للمستبدين الرومان. الهوامش (1) «مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة»، ص 17 - 21، جمعها وحققها: د. محمد حميد الله الحيدر آبادي، طبعة القاهرة سنة 1956م. (2) ابن القيم: «زاد المعاد في هدي خير العباد»، ج3، ص 459، 505، تحقيق شعيب الأرنؤوطي، عبدالقادر الأرنؤوطي، طبعة بيروت سنة 1418هـ/ 1997م، ومحمد بن يوسف بن صالح الشامي: «سبل الهدي والرشاد في سيرة خير العباد»، ج6، ص 246، تحقيق إبراهيم الترزي، عبدالكريم العزباوي، طبعة القاهرة سنة 1418هـ/ 1997م. (3) «مجموعة الوثائق السياسية في العهد النبوي والخلافة الراشدة»، مرجع سابق، ص 345، 643. (4) البلاذري: «فتح البلدان»، ص 327، تحقيق: د. صلاح الدين المنجد، طبعة القاهرة سنة 1956م. (5) ابن عبدالبر: «الدرر في اختصار المغازي والسير»، تحقيق: د. شوقي ضيف، طبعة القاهرة، سنة 1969م. (6) يوحنا النقيوسي: «تاريخ مصر ليوحنا النقيوسي»، ص 201، 220، ترجمة ودراسة: د. عمر صابر عبدالجليل، طبعة القاهرة، سنة 2000م. (7) د. صبري أبو الخير سليم: «تاريخ مصر في العصر البيزنطي»، ص 62، طبعة القاهرة، سنة 2001م. شهادة حق شهد الأسقف «يوحنا النقيوسي» على سماحة المسلمين في الفتح الإسلامي لمصر - فقال: «إن الله الذي يصون الحق، لم يهمل العالم، وحكم على الظالمين، ولم يرحمهم لتجرئهم عليه، وردهم على يد الإسماعيليين (العرب المسلمين)، ثم نهض المسلمون وحازوا كل مدينة مصر، وكان «هرقل» (610 - 641م) حزيناً، وبسبب هزيمة الروم الذين كانوا في مدينة مصر، وبأمر الله الذي يأخذ أرواح حكامهم، مرض «هرقل» ومات، وكان عمرو بن العاص يقوى كل يوم في عمله، ويأخذ الضرائب التي حددها، ولم يأخذ شيئاً من مال الكنائس، ولم يرتكب شيئاً ما، سلباً أو نهباً، وحافظ على الكنائس طوال الأيام..«(6). وشهد بذلك أيضاً الأسقف «ميخائيل السرياني» فقال: «لم يسمح الإمبراطور الروماني لكنيستنا بالظهور، ولم يصغِ إلى شكاوى الأساقفة فيما يتعلق بالكنائس التي نهبت، ولهذا، فقد انتقم الرب منه، لقد نهب الرومان الأشرار كنائسنا بقسوة بالغة، واتهمونا دون شفقة، ولهذا جاء إلينا من الجنوب أبناء إسماعيل لينقذونا من أيدي الرومان، وتركنا العرب نمارس عقائدنا بحرية، وعشنا في سلام»(7). فالفتوحات الإسلامية كانت تحريراً لأوطان الشرق من الاستعمار والاستعباد والاستغلال الروماني، وكانت «إنقاذاً» لنصارى الشرق ونصرانيتهم من القهر الروماني، حررت الأرض، وحررت ضمائر الشعوب، ثم تركتهم وما يدينون في سلام، فكانت نصرانية الشرق بهذه الفتوحات «هبة الإسلام»!