معالم نظرية التكامل المعرفي في المنهج الإسلامي
د.زرواق نصير
معالم نظرية التكامل المعرفي في المنهج الإسلامي
الجزء الأول والثاني
الخميس 12 جمادى الأولى 1435 الموافق 13 مارس 2014
معالم نظرية التكامل المعرفي في المنهج الإسلامي
نصير زرواق
مقدمة و تمهيد
مما لا جدال فيه ، إن العقل المسلم، و لد، حين و لد حضاريا، متوازنا في أصوله، متكاملا في مقاصده، متناسقا في أجزائه، و نفى عن نفسه منذ لحظة ميلاده،ثنائية الوحي أو العقل ، أو ازدواجية العقيدة أو الفكر، أو جدلية الدين أو الدنيا، ومن ثم لم يشهد تصادما ، في تاريخه الحضاري، ذي بال بين الغيب المحجوب و الكون المشهود، و لم يقم حاجزا بين المادة و الروح، و لم يفصل بين الدين و الحياة.. بل مضى متوازنا متكافئا، موفقا بين التناقضات و الثنائيات التي تطبع الإنسان و الكون و الحياة.و قد اتسم بالشمول و الإيجابية في علاقة هذه الموجودات بعضها مع بعض: الإنسان و الكون و الحياة، على أساس التوحيد الذي أعطى ذلك التفسير الشامل و الايجابي في علاقة الموجودات بالواجد سبحانه، و بالتالي برأ الفكر الإسلامي من لوثة الازدواجية أو الثنائية التي دمغت الفكر الغربي الذي و لد من رحم الجدلية و الثنائية و الازدواجية بين الدين و الدنيا ، و بين الوحي و العقل ، وبين الغيب و الشهادة، و بين المادة و الروح،و هو ماتبناه لاحقا في منظومته الفكرية بعد الانتصار على الكنيسة المتحالفة مع الإقطاع، و هو سر ولادة المنظومة الفكرية الغربية ولادة حضارية مشوهة، تحت رايات العلم و البحث العلمي الذي لا يعترفا إلا بالتجربة أساسا و مقياسا لصدقية الأحكام أو عدم صدقتيها و التي أساسها الحس ، و التي سحبها الفكر الغربي على كافة الحقول المعرفية و الفروع العلمية ، حتى تلك التي تتعلق بدراسة النفس الإنسانية أو الدراسات الاجتماعية و لاقتصادية، وما عجز عن تفسيره علميا عن طريق مناهج البحث يفسره تفسيرا ماديا ن حتى و لو لم يكن المفسر من جنس المادة.
و بما إن الأمة الإسلامية تقتات على إنتاج الحضارة الغربية المادية،و تحذو مناهجها التعليمة حذو الغربية ، و إن لم تصل إلى حد نبذ الدين جملة، فوضعت ، اقتداء بما تركه المستعمر في الغالب من تقليد و ما كونه من نخب، مناهج خاصة بالدراسات الدينية ، و أخرى خاصة بالمناهج التجريبية ،و أقامت حاجزا بين المنهجين ، و حجرت على التقليدي في فضاء التراث، غير المصفى،و فتحت الأفاق للتقدمي على أساس أنه سر النهضة و الفتح المادي.
و هي نظرة لم تراعي خصوصية الإسلام و لا خصوصية المسلمين ، و هو ما ولد تنازعا غريبا في تكوين جيل لا يستطيع التوفيق بين المادة و الروح أو بين الدين و الدنيا، و التوفيق بين الوحي و العقل و بين العقيدة و الفكر، و بالتالي ضاعت تلك الرؤية الشمولية المتوازنة التي أسسها الجيل الأول و التي قامت عليها الحضارة الإسلامية في بدايات ميلادها،و قامت على هديها مناهجها التعليمية و التربوية في بغداد و دمشق و القاهرة و فاس و الأندلس و غيرها من الأمصار،و أنتجت عقليات كبيرة و نظارا كبارا لم يشعروا بالتنازع بين الدين و الدنيا و بين العقيدة و الفكر و بين الوحي و العقل.و إن وجدت مناقشات و جدل هنا و هناك، و لكنه لم يخل بأصل التوازن و التناسق و الشمول الذي بقي الخط الأكبر و التوجه العام الذي ضبط مسيرة المناهج التعليمية و التربوية ، و التي أسهمت في الإنتاج الإنساني المشترك، بل و كان أساس الحضارة الحديثة و المدنية القائمة اليوم.
و عليه، سنحاول في هذه الورقة إتباع المنهج الاستقرائي والمنهج التاريخي ، في عرض نظرية التكامل المعرفي في المنهج الإسلامي و عرض نظريته التي اتسمت بالشمول و التوازن وهو ماوسم الفكر الإسلامي في قوته، وطبعه على امتداد مسيرته، قبل التوقف الحضاري ،و الاستسلام للحضارة الغربية القائمة.
و هذه الورقة تلامس المحو الثني المتعلق بوصف التكامل المعرفي إطارا فلسفيا لمناهج التعليم الجامعي، وذلك بطرح أصول و أساسيات فكرة التكامل المعرفي في محاولة لعرضها بقصد تفعيلها كأصل و أساس لكل المعرف و العلوم ابتداء، مع عرض ما تتركه للاجتهاد العقلي من مساحة و فضاء فيما وراء تلك الأصول و تلك الأسس.
أولا :مصادر المعرفة بين الوحي والعقل
أولا: العقيدة والفكر:
1- العقيدة:
هناك حقيقتين أساسيتين متلازمتين للحياة البشرية، والنفس البشرية،على كل حال وفي كل زمان؛ الحقيقة الأولى: أن هذا الإنسان -بفطرته- لا يملك أن يستقر في هذا الكون ذرة تائهة مغفلة ضائعة، فلا بد له من رباط معني بهذا الكون، يضمن له الاستقرار فيه، ومعرفة مكانه في هذا الكون الذي يستقر فيه، فلا بد له إذن من عقيدة تفسر له مكانه فيما حوله، فهي ضرورة فطرية شعورية، لا علاقة لها بملابسات العصر والبيئة(1).
والحقيقة الأخرى: هي أن هناك تلازما وثيقا بين طبيعة التصور الإعتقادي، وطبيعة النظام الاجتماعي، ... تلازما لا ينفصل، ولا يتعلق بملابسات العصر والبيئة، .. بل إن هناك ما هو أكثر من التلازم ... هناك الانبثاق الذاتي...
فمن وظائف العقيدة البيان والتفسير، بيان منهج التعامل، وتفسير الحقائق التي يعجز العقل البشــري عــن إيجـــاد تفسير لها.
في إطار الكون الذي يعيش فيه، وأهم ما تزود به العقيدة الإنسان:
أ- تربية الإدراك وتقويم منهج النظر والحكم(2):
- (ولا تقف ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا)(الإسراء 36).
- (إن الظن لا يغني من الحق شيئا)(يونس 36).
ب- في النظر في النفس والآفاق:
- (قل انظروا ماذا في السموات والأرض)(يونس 101).
- (وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون)(الذاريات 20-21).
- (قل سيروا فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة ، إن الله على كل شيء قدير) (العنكبوت 20).
ثانيا: ثبات العقيدة وتغير الفكر:
ولا تنازع بين العقيدة والتفكير، فالتصور الإسلامي يدع للعقل البشري وللعلم ميدانا واسعا كاملا، فيما وراء أصل التصور ومقوماته، ولا يقف دون العقل يصره عن البحث في الكون، بل هو يدعوه إلى هذا البحث ويدفعه إليه دفعا. ولا يقف دون العلم البشري في المجال الكوني، بل هو بكل أمر الخلافة لله، في حدود التصور الرباني، للعقل البشري وللعلم البشري.
وبناء على ما تقدم هناك ثبات في مقومات هذا التصور الأساسية، وقيمه الذاتية، فهي لا تتغير ولا تتطور، حينما تتغير ظواهر الحياة الواقعية، وأشكال الأوضاع العملية، فهذا التغير في ظواهر الحياة وأشكال الأوضاع يظل مكونا بالمقومات والقيم الثابتة لهذا التصور، ولا يقتضي هذا تحميد حركة الفكر والحياة، ولكنه يقتضي السماح لها بالحركة –بل دفعها إلى الحركة- ولكل داخل هذا الإطار الثابت، وحول هذا المحور الثابت(1)،(2).
على أن المنظومة الإسلامية، وهي تضع هذا النظام، في علاقة العقيدة بالفكر - وهو ما نبذه ويرفضه بل ويعاديه العقل الغربي- له جملة من الإيجابيات أهمها:
أ- ضبط حركة البشرية: فلا تمضي البشرية شاردة من غير هدى، كما وقع في الحياة الأوربية عندما أفلتت من عروة العقيدة.
ب- ضبط مجال تفكير العقل.
جـ - التقويم: وجود مقوم للفكر الإنساني، مقوم منضبط بذاته، يمكن أن يعصم الفكر الإنساني، فلا يتأرجح مع الشهوات والمؤثرات.
ثالثا: العقيدة وصيانة الطاقة الفكرية
زود العقل بطاقات كبيرة هائلة، تسعفه في التكليف مع الكون واستغلاله في حدود المعقول لسد حاجاته، ولكن هذا العقل يعجز عن تفسير كثير من الحقائق، ولا يبلغ إدراك أسرار ما حوله(1).
فهذه الحياة كيف انبثقت في المادة؟ وكيف بارت، وتسير سيرتها هذه العجيبة المحوطة بالآلاف من الموافقات والموازنات والتقديرات المرسومة المحسوبة بهذا الحساب الدقيق ... أي المسافة بين الوجود والعدم مسافة لا يكاد يعبرها العقل البشري، فكيف وجد هذا العالم، وكيف وجدت هذه الطبيعة... إذا كانوا يعنون بها الوجود المادي، والمسافة بين الكلية الجامدة والكلية الحية، لكن المسافة التي بين الوجود والعدم، إنها كذلك مسافة هائلة لا يعبرها العقل البشري إلا بالإحالة على تلك الإرادة المبدئية، التي تنشئ كل شيء إنشاء وتبدع إبداعا إرادة الله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى(2).
فالعقيدة تخاطب العقل وتحدثه عن المادة والأحياء، فتعرفهم مصدر الحياة ومصدر الأحياء:
- (وخلقنا من الماء كل شيء حي)(الأنبياء 30).
- (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء)(هود 6).
- (وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج)(الحج 5).
- (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون)().
كما تمرن العقيدة العقل عن الاهتمام حديثا مستفيضا، مصدره ومنشأه وطبيعته ومركزه وغاية وجوده:
- (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون)(الحجر 26).
- (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة)(البقرة 30).
- (أولم يرى الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين)(يس 77).
- (وكان الإنسان أكثر شيء جدلا)(الكهف 54).
- (إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا)(المعارج 19-21).
وتبرز الحاجة الإنسانية كلها إلى العقيدة الصحيحة عن الإنسان و الكون و الحياة و ما وراء ذلك ، من أجل تفسير ما يعجز العقل عن تفسيره(1).
توازن الفكر :
لا شك أن الفكر البشري يتوازن حين يجد تفسيرا لما يعجز عقله عن تفسيره ، من مجهول، و هو الجانب الذي تتلقاه الكينونة الإنسانية لتدركه و تسلم به، و ينتهي عملها عندا لتسليم .و الجانب الثاني الذي تتلقاه الكينونة الإنسانية لتدركه و تبحث حججه و براهينه ، و تحاول معرفة علله و غاياته ، و تفكر في مقتضياته العلمية و تطبيقها في الحياة الواقعية... و بذلك يقف الضمير البشري على أرض ثابتة مستقرة يتعرف إلى نواميس الكون و سنن الحياة و طاقات الأرض و ينتفع بها و بتجاربه العلمية و طرائقه العلمية في التعامل مع الكون و أسراره و طاقاته و مدخراته ، فلا يفوته شيء من مزايا العلوم التجريبية و الطرائق العلمية(2) .
مصادر المعرفة :
ليست المادة و حدها مصدر المعرفة الإنسانية ، فهناك مصدران للمعرفة : الوحي و الكون.
فمن وراء الغيب المحجوب و من صفحة الكون المشهود، أو بتعبير أخر بين لوحي و الكون ...فالكون كتاب الله المفتوح الذي يصب المعرفة في الكينونة الإنسانية ، كما يصبها الوحي ، مع فارق و احد هو : أن المعرفة التي يتلقاها الإنسان بمداركه في هذا الكون قابلة للخطأ و الصواب ، أما ما يتلقاه من الوحي فهو الحق اليقين فالإنسان متوافق في فطرته و تكوينه مع هذا الكون و سائر الأحياء (3) :
( ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدئ ) طه :50
(و من كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ) الذاريات :49
( الذي جعل لكم الأرض مهدا و سلك لكم فيها سبلا ) طه :53
و لذا نجد الدعوة إلى التلقي من كتاب الكون المفتوح و من كتاب النفس المكنون الشيء الكثير(2) :
( و في الأرض آيات للموقنين و في أنفسكم أفلا تبصرون ) الذاريات :21
( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت و إلى السماء كيف نصبت و إلى الأرض كيف سطحت ) الغاشية : 20
و التوجيه إلى استخدام العقل للمعرفة :
( أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو أذان يسمعون بها فأنها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور ) الحج :46
(و الله خلقكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا و جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة ) النحل :78
ثانيا : منهج البحث عند علماء المسلمين:
التوحيد قاعدة التفكير :
كانت لفظة علم تطلق على كل معرفة مهما كان ميدانها.
و لم يفرقوا في الماضي بين العلوم و المعارف ، و لاحقا عرفوا العلم :( المعرفة التي تؤخذ عن طريق الملاحظة و التجربة و الاستنتاج . )
و التعريف المعتمد للمعرفة لدى اليونسكو هو: ( المعرفة هي كل معلوم خضع للحس و التجربة )(2).
و لكن انطلاقا من تصورنا الخاص للإنسان و الكون و الحياة و فق الرؤية القرآنية يمكن إعادة صياغة التعريف ليكون : ( المعرفة هي كل معلوم دل عليه الوحي و الحس و التجربة ). مع مراعاة الترتيب من حيث القوة و اليقين .
و من صور التوحيد الأساسية هي رد الوجود طله بنشأته ابتداء و حركته بعد نشأته و كل انبثاقة فيه و كل تحور و كل تغير و كل تطور ، و الهيمنة عليه و تدبيره و تصريفه و تنسيقه ...رد ذلك كله إلى الإرادة الإلهية.
العلم والعقل في التصور الإسلامي
1- العلــــــم:
1-1-المفهوم:
العلـــم هو: إدراك الشيء أو المعني على ما هو عليه في الواقع، وهو مجموعة معارف ظنية راجحة منها ما هو قطعي، حول موضوع ما، وهو يأتي في شكل معرفة منسقة تنشأ عن الوحي أو الملاحظة والدراسة والتجريب، والتي تقوم بغرض تحديد طبيعة وأسس وأصول ما تتم دراستها(1).
1-2-الأهداف:
الهدف الأساسي للعلم هو الاكتشاف والتفسير للظواهر الكونية والإحاطة بالنظام الذي يحكمها، وبالتالي التنبؤ من خلال معرفة قوانينها بغرض التحكم والضبط، وهذا كله خدمة للإنسان وتسهيلا لحياته، فأهداف العلم إذا هي التفسير والتنبؤ و التحكم.
أ- التفسير و الفهم: وهو الهدف الأساسي الذي يسعى العلم إليه، وذلك بالاجتهاد في تفسير القوانين التي تحكم هذا الكون وظواهره والإنسان وسلوكياته، وذلك من خلال الملاحظة والتصنيف والتحليل بواسطة الفرضيات والتأكد من صحتها عن طريق التجربة الحسية والوصول إلى تلك القوانين العلمية الموضوعية والسنن الثابتة المنضبطة .
ب- التوقع و الاستشراف: ولمعرفة القوانين العلمية الموضوعية المنضبطة الثابتة، يستطيع الإنسان الاستكشاف والتنبؤ بسير الظواهر الكونية والإنسانية الاجتماعية ومعرفة اتجاهاتها ووضع تصور لمستقبل سيرها وخط صيرورتها.
جـ- التحكم و التوجيه: وبامتلاك التصور لسير الظواهر الكونية والإنسانية الاجتماعية وصيرورتها المستقبلية يستطيع الإنسان التحكم والتوجيه والضبط العلمي لهذه الظواهر لصالح الإنسانية سواء بمنعها أو إتمامها وتسهيلها.
1-3_الضوابط:
عملية البحث عن المعرفة العلمية تتعاون فيه وسائل الحس الظاهرة والباطنة، وموازين العقل الفطرية والمكتسبة، والمعارف المكتسبة ذاتيا أو من خلال الآخرين. فالحواس (اللمس، الذوق، البصر، السمع، الشم) تكسب العلم والمعرفة، فهي بمثابة منافذ للفكر على العالم، فيدرك العلم بشكل مباشر ما تستطيع هذه الحواس أن تحس به وتنقله من صفات الأشياء إلى منطقة الإدراك الفكري ثم تسجل الذاكرة لديها ما تؤكده الحواس بتكرار التجربة، وتبقي حدود العقل داخل دائرة المحسوس لا تتعداه إلى الغيبيات، لأن العقل غير مزود بأدوات معرفتها والوصول إلى حقائقها.
وإذا طرق العلم والمعرفة محكومة بمجموعة من الضوابط والأصول حتى يعتد بها، وهي:
- الإدراك بالحواس الظاهرة أو الباطنة، ويدخل فيه المجربات لأن إدراكها يعتمد على ملاحظة الحس مضاف تعميم عقلي يأتي عن طريق التمثيل.
- إدراك شهادات الآخرين وأخبارهم عن المعارف والعلوم.
- إدراك قوانين العقل الذاتية وما يستنبطه العقل ويضبطه من معارف وردت عن طريق الحواس وخبرات الآخرين(1).
والفكر يمارس أعماله بتوفر مجموعة من مواد العلم والمعرفة التي ترد إليه عن طريق الحواس الظاهرة والباطنة ويخضعها لموازين أساسية موجودة في أصل فطرته، وهي قوانين الفكر العقلية، وهبا يستطيع الحكم ذاتيا على كثير من الأفكار بالإثبات أو النفي، ومنها:
- الحكم بالتوحيد بين الفكر وماهيتها المكونة لها، وهو ما يعبر عنه بما هو هو.
- قانون عدم التناقض، ككون الشيء موجودا ومعدوما في آن واحد.
- قانون الامتناع، ككون الشيء إما موجودا إما معدوما.
- واجب الوجود وواجب العدم وممكن الوجود، وقانون العلة.
- تسلسل الدور إلى ما لا نهاية في التصور.
- تصور مركبات جديدة غير موجودة في الواقع بهيئتها التركيبية مع وجود أجزائها ... الخ.
العقــــل:
1_مكانته:
العقل جهاز عظيم وأداة أساسية لإدراك صور المعارف والعلوم من خلال فهم حقائق الأشياء المادية وحقائق المعاني المجردة، وجعله مسئولا عن التفكر في الأدلة الموصلة إلى الحقائق، وهو لا يذكر في القرآن الكريم إلا في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العلم به والرجوع إليه، وال تأتي الإشارة إليه عارضة ولا مقتضبة بل مقصودة جازمة مؤكدة باللفظ والدلالة، وتأتي الإشارة إليه شاملة وظائف الإنسان العقلية على اختلاف أعمالها وخصائصها، فلا ينحصر في العقل الوازع و في العقل المدرك ولا في العقل المفكر الذي يناط به التأمل الصادق والحكم الصحيح، بل يعم الخطاب في الآيات القرآنية كلما يتسع له الذهن الإنساني من خاصية أو وظيفة(1).
فنهى القرآن الإنسان عن إتباع ما ليس له به علم صحيح، مستندا إلى فهم سليم من خلال وسائل المعرفة ومسؤوليته عن ذلك (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا)(الإسراء 17).
ودعاه إلى التفكر بغرض التبصر (أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون)(الروم 30).
ووجهه إلى التفكر (وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون)(الحشر 59).
وذم المعطلين لعقولهم (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون)(الأنفال 22).
وذم الذين لا يفقهون، والفقه هو الفهم الصحيح للأمور، ونعى عليهم (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم أذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون)(الأعراف 07).
2_وظيفته:
أعمال العقل كثيرة منها:
- استنباط الجزئيات من الكليات وإدراك الكليات من الجزئيات، وتعميم الأحكام عن طريق قوانينه الذاتية أو عن طريق الاستقراء.
- قياس الأشباه والنظائر بعضها على بعض.
- إجراء عمليات التحليل والتركيب والجمع والتفريق.
- إدراك النسب بين المعاني والمدركات.
- إدراك الروابط بين المعلولات وعللها العقلية، وبين المسببات وأسبابها المنطقية.
- إصدار الأحكام العامة من ملاحظة التجارب المتكررة، ولو لم يكن بين السبب والظاهرة ارتباط عقلي.
- إدراك احتمالات اختلاف الكيفيات إلى ما لا نهاية(1).
3- ضوابطه:
للعقل كما للحس الظاهر والباطن حدود ينتهي إليها بالنظر إلى محدودية الإنسان بين الزمان والمكان.
ولذا تنحصر أعمال العقل في المحسوسات، وأما علم الغيب فلا يستطيع العقل مستقلا أن يحكم على شيء منه بإثبات أو نفي إلا ضمن أحكامه الذاتية، فما وراء العقل قد يكون بعيدا عن تصوره وتوهمه بعدا بالغ النهاية، فهناك فرق كبير بين ما لا يدركه العقل، فهو لا يحكم بنفي ولا إثبات لأنه ليس من الأمور التي يتناولها بأحكامه، وما يحكم العقل قطعا بنفيه أو إثباته.
العقل والعلم بين المنهج الإسلامي والمناهج الأخرى:
لما كانت رسالة الإسلام فاتحة لعهد الرشد البشري كان اهتمامها كبيرا بالغا، فبدأ الوحي بالأمر بالقراءة والإشادة بالعلم (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم)(العلق 1-4).
و(ن والقلم وما يسطرون)(القلم 1).
والعلم الذي يشيد به القرآن ويدعوا إليه، هو العلم بمفهومه الشامل الذي ينظم كل ما يتصل بالحياة ولا يقتصر على علم الشريعة، فقد دعا إلى النظر في ظواهر الوجود ومظاهر الحياة، كما دعا إلى دراسة الكائن البشري (وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون)(الذاريات 20-21).
ووجه إلى علم النباتات و الجماد والحيوان والأجناس(ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور)(فاطر 27-28).
وجعل الكون كتابا للمعرفة، ووجه العقول والقلوب والأبصار إلى التفكير في آياته واستنكاه أسراره وفهم نظمه ونواميسه عن طريق البحث والدراسة، وهو منهج واقعي يدعوا إلى عالم الحس والتجربة.
هذا بينما قامت فلسفة اليونان -مثلا- على أساس التفكير النظري المجرد وأغفلت الواقع المحسوس، ذلك أن منهج التجريد لا يدعوا إلى نظر ولا يؤدي إلى كشف ولا يعدوا كونه رياضة ذهنية ليس بينه وبين الحياة ومطالبها صلة، ذلك أنه فكر مثالي تجريدي يحلق بعيدا عن الواقع ومعطيات الواقع ومتطلبات هذا الواقع(1).
الجــــــزء الثاني
ثالثا : مناهج البحث عند المسلمين بين التطوير والابتكار
1- نهضة المسلمين العلمية:
عني العرب بنقل العلوم إبان نهضتهـم العلميـة الأولى مـن مصادر ثلاثـة، كانت بمثابة مـراكـز الحركة العلمية، وهي ميـلاد اليونان والفـرس والهنـد، وقـد اعتمـد اليونان علـى الطـب والرياضيات والفلسفـة وعلـوم الطبيعة، واعتمد الفرس على النظم الإدارية والآداب العامة، أما الهند فقد اعتمدوا على معالجة الأمراض ومعرفة خصائص العقاقير وأصول الحساب والفلك، وكانت صلة الوصل بينهم وبين اليونان علماء السريان، وبينهم وبين الهند أدباء الفرس، ثم استغنوا عن الوسطاء وترجموا مباشرة إلى اللغة العربية(2).
1-1- مرحلة النقل والترجمة:
بدأت طلائع حركة النقل والترجمة في العصر الأموي في نطاق محدود، لأنها كانت فردية، ثم نشطت في أواخر العصر العباسي في عهد الرشيد ثم بلغت أوجها في خلافة المؤمن (813-833)، وفضلا عن بغداد كانت هناك مراكز أخرى للنقل كمدينة مرو ومدينة نيسابور بفارس، وفي مستهل القرن العاشر الميلادي أخذت الحركة العلمية في النضج، وغدت الترجمات مردفة بالتعليقات والشروح وتطورت من دراسات قصيرة في موضوعات محدودة إلى مؤلفات جامعة فيها اقتباس واجتهاد وتحليل ونقد وتنظيم وتبوب واستنباط ووضع(1).
1-2- مرحلة الإنتاج:
نشأت المؤسسات العلمية الرسمية ذات نظام إداري خاص ومنهج تدريسي معين في العقد الثالث من القرن التاسع للميلاد على يد الخليفة المؤمن في بغداد، فتأسست (بيت الحكمة) ضمت معهدا للترجمة ومكتبة للمطالعة وقاعة لمجالس العلم.
وأسس الحاكم بأمره في القاهرة معهد (دار العلم) نظمه على نسق بيت الحكمة أنفق بسخاء على إنماء المكتبة وتجهيزها بوسائل الاختبار العلمي.
وكانت أشهر المؤسسات العلمية (المدرسة النظامية) أسسها نظام الملك وزير ألب أرسلان في بغداد أواخر القرن الحادي عشر وفتح لها فروعا في مرو والبصرة والموصل وأصفهان وهرات وغيرها ووضع لها نظاما جامعا محكما غدا مقياسا لمؤسسة التعليم الكبرى.
كما أسس المستنصر في بغداد (المدرسة المستنصرية) في القرن الثالث عشر للميلاد وجهزها على غرار المدرسة النظامية(2).
1-3- بين التطوير والابتكار:
لقد استقل المسلمون بمناهجهم العلمية سواء عن طريق التطوير للمناهج الموجودة أو الابتكار لمناهج علمية في شتى فروع العلم والمعرفة.
1- علم الجبر والمقابلة:
وهي صناعة بها يستخرج العدد المجهول من العدد المعلوم، وقد كانت عمليات هذا العلم غير واضحة مشتتة ومختلطة في موضوعات الرياضيات العامة من حساب وهندسة، وقد أسس هذا العلم وأعطاه اسمه واستقلاليته العالم محمد ابن موسى الخوارزمي (ت 223-846) فهو مؤسس هذا العلم وواضع مصطلحاته في كتابه الشهير (الجبر والمقابلة). كما نبغ في هذا العلم ثابت ابن قرة في القرن الثامن الميلادي، ليتم ما بدأه الخوارزمي، وسار على الأسس التي كان يحل بها الخوارزمي معادلات الدرجة الثانية، فاستعمل الهندسة في حل معادلات الدرجة الثالثة، وهو أول من وضع حساب التكامل والتفاضل، وأوجد حجم الجسم المتولد من دوران القطع المكافئ حول محوره، كما نبغ عبد الحميد ابن الواجب ابن الترك، ووضع مؤلف (كتاب الجبر والمقابلة) وأبو كامل شجاع ابن أسلم المصري (850-930) وأبو الفتح عمر ابن براهيم الخيام (ت515-1131) وغيرهم.
2- علم الأرصاد والتقويم:
اعتمد المسلمون أولا على اليونان و اليهود, ولكن سرعان ما استقلوا منهجهم الخاص في هذا العلم, فقام الخوارزمي بوضع تقويم قام غدا من بعده معتمد الدارسين, و عكف الفلكيون بعده على أعمال المراصد فنبغ محمد ابن جاب التباني (918) و كان يجري أرصاده في الدقة و أنطاكية, و امتازت أرصاده بالدقة و توصل إلى حساب ادوار الأفلاك و انحراف دائرة البروج تعيين نقطة الاعتدال و طول السنة الشمسية, و تلاه أبو الريحان البيروني (1048) ففاقه بدقة الأرصاد و ترك كتابين احدهما (الآثار الباقية) و الآخر (الفانون المسعودي) وبلغ من استقلاله في التفكير أن شكك في صحة النظام الفلكي الذي قرره بطلميوس في المجسطي و اعتبر بياناته غير مقنعة و أشار إلى احتمال أن دورة الفلك اليومية نتيجة لدوران الأرض حول محورها, و هو ما ثبت لاحقا. و أنجبت الأندلس البطرومي (1204) صاحب كتاب (الهيئة) وفي صقلية الإدريسي (1166) واضعا أول خريطة لصورة الفلك و شكل الأرض , وغيرهم(1).
3- علم الطب و الصيدلة والجراحة :
اعتمد العرب في أمرهم على مصدر اليونان و الهند ثم استقلوا بمناهجهم العلمية في فن التطبيب و الصيدلة و الجراحة فنبغ الرازي (925) مؤلف رسالة في الجدري و الحصبة, و كتاب جامع في الأطراف و علاجها (الحاوي) و اشتهر كذلك في الطب ابن سينا (1073) و ألف الموسوعة الطبية الفخمة (القانون اشتمل أوصاف الأطراف المعروفة و اثبت مئات العقاقير و خصائصها). و ابن الرشد (1189) ووضع كتاب (الكليات في الطب) يساعـــد ابـن
الطفيل (1158), وهذه الموسوعات نقلت إلى اللاتينية وعليها قامت النهضة الطبية الحديثة في أوربا. وفي الجراحة أطباء الأندلس وبخاصة أبو القاسم الزهراوي (1013)، فقد بسط في مؤلفه (التعريف لمن عجز عن التأليف) معارف عن الجراحة ورسوما لبعض الآلات وبين أهمية التّشريح. وابن النفيس (1288) في دراسة الأوردة والشرايين ووصف تقنية الدم لدى مروره في الرئتين، واشتهر بجراحة العين صلاح الدين بن يوسف أواخر القرن الثالث عشر في مصر، ونجح في إخراج الماء الأزرق من العين بعملية جراحية وترك كتابا هو (نور العيون). ونبغ في العقاقير والأدوية ابن البيطار الأندلسي (1248) فقد جال الأقطار الإسلامية وعرف أنواع النباتات وخصائصها ومنافعها، وترك مؤلفا ضخما (الجامع لمفردات الأغذية والأدوية) وضع فيه نحو ألف وأربعة مئة مادة، منها ثلاث مئة مادة لم يسبق ذكرها(1).
4- علم الحساب والرياضة:
اعتمد المسلمون في علم الحساب أولا على أصول ثلاث، حساب اليد والحساب الهندي وخصائص الأعداد عند اليونان، فحساب اليد حساب موروث كان نظاما عند الروم والفرس، والحساب الهندي تبناه العرب وطوروه وعدلوه واستخرج منه المسلمون أسس الجبر والفروع الرياضية الأخرى. فوضعوا الصفر للانتقال من الآحاد إلى العشرات ومن العشرات إلى المئات ومن المئات إلى الآلاف ... وطوروا الكسور العشرية والكسور الستينية وأكملوا المثلثات. ونبغ غياث الدين الكاشاني (1424) فأثبت نسبة الدائرة إلى قطرها ووضع مفتاح الحساب الذي قامت على أساسه المسطرة الحسابية.(2)
5- علم الكيمياء:
نبغ المسلمون في علم الكيمياء وسجلوا فتوحا في الناحية التجريبية، وتقدموا في وسائل التبخير والتذويب والتقطير وصهر المعادن، وحولوا الكيمياء إلى علم منظم له منهجه البحثي، وبرعوا في المستحضرات كالحامض الكبريتي والبوتاس وكربونات الصودا، وأدخلوا تحسينات على صناعات كثيرة كصناعة الفولاذ وتنقية المعادن وتركيب الروائح العصرية ودباغة الجلود وصباغة الأقمشة وصناعة الزجاج وصناعة الورق، وأشهر أعلام الكيمياء جابر ابن حيان (القرن الثامن) الملقب بأبي الكيمياء.
6- العلم الطبيعي:
اشتهر غير واحد من المسلمين في علوم الطبيعة وفي البصريات وعلم الضوء، فبرعوا في الوزن النوعي وأحكام الضوء وقواعد الصوت، وأبحاث الجاذبية والموازين والضغط الجوي، وهو ما ساعد على ضبط أمور الصناعة، ونبغ ابن الحسن الهيثم (965) في البصريات وعلم الضوء وألّف (المناظر) وبرع في دراسة العلاقة بين سرعة الجسم الساقط والبعد الذي يقطعه الزمن الذي يستغرقه، ووضع القوانين والمعادلات الخاصة بهذه النظرية، وامتازت بحوثه بالتجربة والملاحظة وأخذ بالاستقراء والقياس والتمثيل، كما بـرع أبـو الريحان البيروني (ت 1048)
في علم السوائل وشرح بعض الظواهر المتعلقة بضغط السوائل وتوازنها، وعلّل صعود مياه النافورات والعيون إلى أعلى، وأعظم ما برع فيه هو سبقه العلمي المتمثل في تحديد الكثافة النوعية لعدد من المعادن والأحجار تحديدا دقيقا يقترب جدا من التقديرات الحديثة.
7- علم الهندسة:
خرجت الهندسة من أيدي اليونان علما ناضجا مكتمل النمو مستوفي النظريات، ولا إن كانت إنجازات العرب ضئيلة ومحدودة في الهندسة النظرية، إلا أنهم برعوا في الهندسة العملية فطبقوا النظريات على أعمال مفيدة وأخرجوا الهندسة من النظري إلى العملي، وبالتالي برعوا في المعمار والبناء وما يصاحبها إخراج هندسي غاية في الروعة والجمال، تتسم بالبراعة والدقة وضخامة امتزجت بالفن والجمال وشواهد الأبنية الباقية خير دليل على ذلك، فقد برع سعد أبو عثمان وصالح ابن كسان وإسحاق ابن قصيبة وموسى ابن داوود...(1).
رابعا : الفكر الإسلامي وأثره في نهضة الفكر الغربي الحديث
1-مراكز الاتصال الفكري:كان اتصال العرب بالأمم الغربية اتصال حروب وقتال أولا ثم اتصال ثقافة وأفكار وعلوم ومعارف، وكان اللقاء بين فكر إسلامي بلغ أوج نضجه وغاية تطوره وفكر غربي في خطوات الوعي الأولى بوجوده وكيانه، وبين ثقافة اكتملت واستوت وآتت أكلها وثقافة تبحث عن هويتها وتتلمس طريقها نحو النهضة والعلم والحضارة والمعرفة، بدأ الاحتكاك من صقلية جنوب إيطاليا التي فتحها الأغالبة (212 هـ) ومعهم وفدت الثقافة والعلوم والكتب، وفي بلرم التي اتخذها العرب العاصمة أنشئت أولى مدرسة للطب وعلى نسقها نشأت مدارس الطب في نواحي إيطاليا وفرنسا.
2-الترجمة والنقل ورحلة التراث العلمي نحو أوربا:بدأت حركة الترجمة من اللغة العربية التي تولاها يهودي مستعرب بترجمة النص العربي إلى الاسبانية ثم قيام أحد المترجمين الإسبان بنقله إلى اللاتينية، وبدأت هذه الترجمة تلخيصا وإجمالا، ثم غدت ترجمة دقيقة، واقترنت من بعد بالشروح والتعاليق، وحرصوا على جمع الكتب وأنفقوا على العلم بسخاء، وكانت مدينة طليطلة هي أهم مواطن الترجمة والنقل، ومدينة بلرم في صقيلية، ففي اسبانيا رعى حركة النقل والترجمة الأسقف رموند (11- 51) وألفنسو الحكيم ملك قشتالة (1248) وفي صقلية فريديريك الثاني (1250) وقبله روجر الأول (1101). ونشطت حركة التأليف والشروح والتعاليق وتطور الأمر إلى الرحلات العلمية نحو البلاد العربية في طلب العلم والاستزادة منه على العرب والمسلمين(2).
خامسا : علم الإنسان وعلم الكون في التصور الإسلامي
1-علم الإنسان:
الغاية من كل الدراسات المتعلقة بالإنسان والنفس الإنسانية هي معرفة مكونات هذه النفس بهدف فهم أحوال الإنسان في حال الصحة والمرض والاستواء والانحراف، ومعطيات مراحله العمرية وحاجاته في كل مرحلة، ومن الضروري دراسة ومعرفة المؤثرات وما يطرأ داخل النفس من تأزمات نتيجة الصراع بين رغائب مقوماتها الذاتية وعدم توافق اجتماعي، وكذا وظيفته ودوره في الحياة وطاقاته وحدود هذه الطاقة.
2-الإنسان في القرآن:
الإنسان خليفة الله في الأرض (وإذ قال ربك إني جاعل في الأرض خليفة)(البقرة 30). وكلمة خليفة كلمة ضخمة ذات إيحاءات كبيرة، أهمها أن الإنسان ذو أهمية كبيرة بارزة في الحياة، وهو مزود بأدوات الخلافة من علم ومعرفة، وأن دوره أخطر من دور كل الكائنات، وأنه مخلوق للعبادة وعمارة الكون. وأنه مزدوج الطبيعة (وإذ قال ربك إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) وهو بهذه الطبيعة متفرد عن باقي المخلوقات ذات الطبيعة الواحدة والوجهة الواحدة. فقبضة الطين تتمثل في حقيقة الجسد: عضلاته ووشائجه وأعضاؤه وأحشاؤه. ونفخة الروح تتمثل في الجانب الروحي للإنسان تتمثل في الوعي والإرادة والإدراك(1).
3-النفس الإنسانية:
الإنسان, إذن, بعد النفخة طينا بحتا و لا يمكن أن يعود كذلك, ولا هو روح بحت, و لا يمكن أن يكون كذلك. فالعنصران مختلطان ممتزجان مترابطان, يتكون منها كيان موحد, مختلط الصفات, و هي حقيقة تبنى عليها كل أعمال الإنسان و مشاعره و تصرفاته. و الإنسان يحمل, تبعا لهذه الطبيعة, خطوط متقابلة في نفسه, وهي مترابطة مع كل زوج منها رغم التقابل, فهو يحمل الخوف و الرجاء, و الحب و الكره, الحسية و المعنوية, الواقع و الخيال, المعلوم و المجهول, الفردية و الجماعية, و كل خطين متقابلان في الخلقة متضادين في الاتجاه, ومع ذلك فهما مترابطان ترابطا يبلغ أحيانا أن يعملا في نفس الوقت و في ذات المجال .
4-الدوافع و الضوابط :
1- الدوافع:
يقوم كيان الإنسان على دافع حب الحياة و الاستمتاع بها, وهو الدافع الأكبر, و ينقسم دوافع جزئية تظل تتفرع بدورها و تتشعب حتى تصل إلى دقائق صغيرة عميقة . و يشمل هذا الدافع الأكبر فرعين رئيسين هما حفظ الذات و حفظ النوع .
الضوابط:
وهي قوة تولد مع الإنسان كامنة في كيانه, و لكنها لا تظهر كما تظهر الدوافع بل هي بحاجة إلى المساعدة الخارجية ليتم لها النماء و النضج, و إلا بقيت ضامرة لا تؤدي وظيفتها كاملة. فأجهزة الضبط اللاشعورية هي أجهزة بيولوجية من صميم الخلقة و الفطرة, تنشا عنها أجهزة سيكولوجية, و هي تعمل لا شعوريا في الطفولة الأولى ثم تعمل شعوريا بعد ذلك, و تلك هي مهمة التوجيه و التهذيب وهي عميقة ضرورية للإنسان .(1)
5-علم الكون :
يعتبر القرآن الكون كتاب الله المفتوح, و هو مصدر من مصادر المعرفة, و هو مخلوق منضبط بنواميس وقوانين ثابتة لا تتغير ولا تتبدل, وهو مكان عمل الإنسان و عيشه ,ووجهه القرآن إلى البحث في الكون (الم نجعل الأرض مهادا و الجبال أوتادا و خلقناكم أزواجا و جعلنا نومكم سباتا و جعلنا النهار معاشا و بنينا فوقكم سبعا شدادا و جعلنا سراجا وهاجا و أنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا لنخرج به حبا ونباتا و جنات ألفافا )(النبا 6-16)
و الكون ليس له إرادة, لذا فهو منضبط بالقوانين و السنن .
6-الكون و القرءان :
يبصر القرءان الإنسان بالكون من حوله على أنه جملة من المظاهر التي أبدعها الله عز و جل في انتظام و تناسق لغرضين:
الأول, التأمل فيه و التنبؤ إلى مدى دقته و تناسق أجزائه (إن في خلق السماوات و الأرض و اختلاف الليل و النهار و الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس و ما انزل من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها و بث فيها من كل دابة و تصريف الرياح و السحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون) (البقرة 146).
و الثاني, أن تكون هذه المظاهر الكونية كلها مسخرة لخدمة الإنسان و مصلحته و حاجاته فوق الأرض, و أن يكتشف بمقدار ما يتسع له إدراكه و علمه, سننه و قوانينه ليحل مشكلاته و لا يصطدم بها, و يستفيد من خيراته (و سخر لكم ما في السماوات و الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) (الجاثية 12) .
7-تفاعل الإنسان مع الكون :
يعلن القرءان أن الله تعالى خالق الكون و مبدعه و واهب الحياة فيه, و الإنسان عبد الله خلقه الله و سخر له هذا الكون و الحياة و استخلفه فيه, و أطلق يده فيه بحيث يستطيع الإنسان كشف ما فيه من كنوز و خيرات و خدمات و الانتفاع بها لخدمته, فهو يملك طاقات كافية لذلك وهو يعمل على التطوير و الترقية, لقدرة الإنسان على التعلم و اكتساب المهارات و المعارف, و دور الإنسان على الأرض دور ضخم و كبير و له المركز الأول في نظام الكون كله, و بالتالي فله مجال هائل للعمل و الفاعلية و التأثير. و يشير القرآن للإنسان بالتفاعل (هو أنشاكم مـن الأرض واستعمركم فيها)(هود61), وذلك من أجل أن يقوم بدوره في خلافة الأرض و عمارتها باستخدام طاقاتها و خاماتها, و التحليل فيها و التركيب, و التحوير فيها و التعديل (ألم تر أن الله سخر لكم ما في السموات و ما في الأرض)(لقمان20) (1).
9-الكون و الإنسان بين حضارتين:
في التصور الإسلامي يتفاعل الإنسان مع الكون تفاعلا ايجابيا, فهو يلاحظ السنن و يتعرف عليها بغرض التعامل معها دون مصادمة, فالعلاقة علاقة مسخر و مسخر له نشا كلاهما من مصدر واحد, و العلاقة إذا علاقة انس و صداقة و ارتباط و مصير. و معرفة القوانين و السنن الكونية في سبيل السيطرة عليها و توجيهها وكشف أسرارها للانتفاع بها و تسيير عيشه في الحياة و الإقبال عليها, فالطبيعة في حس المسلم ظواهر العالم المادي المحسوس, وهو جانب له قيمته في أساس كل معرفة إنسانية. و الكون مظهر لإرادة الله أو التعبير عن مشيئته, و الإنسان مطالب بأداء واجب الخلافة و العبادة و التعمير, و المحافظة على البيئة و عدم الإفساد و الاستكبار في الأرض... ومن هن لم تحدث تلك الفجوة بين المسلم والكون, كتلك التي حدثت في النصرانية التي أفضت إلى قيام محاكم التفتيش, ولا ما أفرزته المرحلة التالية لحكم الكنيسة, التي صوت العلاقة بين الإنسان علاقة صراع و تضاد, لا علاقة توافق و انتفاع. إضافة إلى جعل الحضارة الإسلامية الإنسان أغلى و أجل من كل شيء مادي في هذه الأرض و لا يجوز أن تعلو عليه المادة, و إلا تهدر أية قيمة من قيمه الإنسانية لأي سبب كان, لقاء تحقيق أي كسب مادي أو إنتاج أي شيء مادي, كما ترى الحضارة الغربية, فكل الماديات مصنوعة مخلوقة من اجله, من اجل تحقيق وجوده الإنساني, و الإنسان هو الذي يقود الأرض بقيمه و موازينه و ليست وسائل الإنتاج و لا توزيع الإنتاج هي التي تقود الحياة و الإنسان من ورائها, كما صورته المذاهب المادية في الغرب(1).
(1) مقاصد الشريعة الإسلامية في فكر الإمام سيد قطب، د نصير زرواق، دار السلام ط 2006.
(2) المرجع السابق، وأنظر سيد قطب خصائص ومقومات التصور الإسلامي، دار الشروق.
(1)،(2) أنظر المرجع السابق.
(1) المرجع السابق.
(2) المرجع السابق.
(1) المرجع السابق.
(2) المرجع السابق.
(3) المرجع السابق.
(1) المرجع السابق.
(1) عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، ضوابط المعرفة، دار القلم دمشق، الطبعة السادسة 2002.
(1) عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، المرجع السابق
(1) عباس محمود العقاد، التفكير فريضة إسلامية، مطبعة المعارف، طبعة 1979.
(1) حسن حبنكة الميداني، المرجع السابق.
(1) منهج البحث العلمي عند العرب، د جلال موسى دار الكتاب اللبناني، الطبعة الأولى 1972، وأنظر د عبد الرحمان بدوي، دور العرب في تكوين الفكر الغربي، وكالة المطبوعات الطبعة الثالثة 1979.
(2) المنهج الإسلامي، محمد شديد، الشركة المتحدة للتوزيع ببيروت وأنظر معالم الفكر العربي، د كمال اليازجي، دار العلم للملايين، بيروت الطبعة السادسة.وأنظر الجامع في تاريخ العلوم عند العرب، محمد عبد الرحمان مرحبا، منشورات عويدات، بيروت، 1988.
(1) الدكتور كمال اليازجي، المرجع السابق.
(2) د عبد الرحمان مرحبا، المرجع السابق، وأنظر د عبد الرزاق نوفل، المسلمون والعلم الحديث، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 3، 1973، وأنظر أحمد أمين، موسوعة أحمد أمين الإسلامية، دار الكتاب العربي، بيروت ط 10، 1969.
(1) الدكتور محمد عبد الرحمن مرحبا، المرجع السابق
(1) الدكتور عبد الرزاق نوفل، المسلمون والعلم الحديث، دار الكتاب العربي بيروت الطبعة الثالثة 1973.
(2) انظر أحمد أمين، موسوعة أحمد أمين الإسلامية، دار الكتاب العربي بيروت الطبعة العاشرة 1969.
(1) الدكتور كمال اليازجي، المرجع السابق.
(2) الدكتور عبد الرحمن مرحبا، المرجع السابق.
(1) الأستاذ محمد قطب، دراسات في النفس الإنسانية، دار الشروق، بدون تاريخ.
(1) الأستاذ محمد قطب، المرجع السابق.
(1) الأستاذ سيد قطب، في ظلال القرآن الجزء الأول 67-73 طبعة دار الشروق 1999. وخصائص ومقومات التصور الإسلامي، طبعة الشروق 1980.
(1) عبد الرزاق السامرائي، في التفسير الإسلامي للتاريخ، الجزائر دار الشهاب 1990. وسيد قطب، المرجعين السابقين.
الإسلام اليوم
د.زرواق نصير
معالم نظرية التكامل المعرفي في المنهج الإسلامي
الجزء الأول والثاني
الخميس 12 جمادى الأولى 1435 الموافق 13 مارس 2014
معالم نظرية التكامل المعرفي في المنهج الإسلامي
نصير زرواق
مقدمة و تمهيد
مما لا جدال فيه ، إن العقل المسلم، و لد، حين و لد حضاريا، متوازنا في أصوله، متكاملا في مقاصده، متناسقا في أجزائه، و نفى عن نفسه منذ لحظة ميلاده،ثنائية الوحي أو العقل ، أو ازدواجية العقيدة أو الفكر، أو جدلية الدين أو الدنيا، ومن ثم لم يشهد تصادما ، في تاريخه الحضاري، ذي بال بين الغيب المحجوب و الكون المشهود، و لم يقم حاجزا بين المادة و الروح، و لم يفصل بين الدين و الحياة.. بل مضى متوازنا متكافئا، موفقا بين التناقضات و الثنائيات التي تطبع الإنسان و الكون و الحياة.و قد اتسم بالشمول و الإيجابية في علاقة هذه الموجودات بعضها مع بعض: الإنسان و الكون و الحياة، على أساس التوحيد الذي أعطى ذلك التفسير الشامل و الايجابي في علاقة الموجودات بالواجد سبحانه، و بالتالي برأ الفكر الإسلامي من لوثة الازدواجية أو الثنائية التي دمغت الفكر الغربي الذي و لد من رحم الجدلية و الثنائية و الازدواجية بين الدين و الدنيا ، و بين الوحي و العقل ، وبين الغيب و الشهادة، و بين المادة و الروح،و هو ماتبناه لاحقا في منظومته الفكرية بعد الانتصار على الكنيسة المتحالفة مع الإقطاع، و هو سر ولادة المنظومة الفكرية الغربية ولادة حضارية مشوهة، تحت رايات العلم و البحث العلمي الذي لا يعترفا إلا بالتجربة أساسا و مقياسا لصدقية الأحكام أو عدم صدقتيها و التي أساسها الحس ، و التي سحبها الفكر الغربي على كافة الحقول المعرفية و الفروع العلمية ، حتى تلك التي تتعلق بدراسة النفس الإنسانية أو الدراسات الاجتماعية و لاقتصادية، وما عجز عن تفسيره علميا عن طريق مناهج البحث يفسره تفسيرا ماديا ن حتى و لو لم يكن المفسر من جنس المادة.
و بما إن الأمة الإسلامية تقتات على إنتاج الحضارة الغربية المادية،و تحذو مناهجها التعليمة حذو الغربية ، و إن لم تصل إلى حد نبذ الدين جملة، فوضعت ، اقتداء بما تركه المستعمر في الغالب من تقليد و ما كونه من نخب، مناهج خاصة بالدراسات الدينية ، و أخرى خاصة بالمناهج التجريبية ،و أقامت حاجزا بين المنهجين ، و حجرت على التقليدي في فضاء التراث، غير المصفى،و فتحت الأفاق للتقدمي على أساس أنه سر النهضة و الفتح المادي.
و هي نظرة لم تراعي خصوصية الإسلام و لا خصوصية المسلمين ، و هو ما ولد تنازعا غريبا في تكوين جيل لا يستطيع التوفيق بين المادة و الروح أو بين الدين و الدنيا، و التوفيق بين الوحي و العقل و بين العقيدة و الفكر، و بالتالي ضاعت تلك الرؤية الشمولية المتوازنة التي أسسها الجيل الأول و التي قامت عليها الحضارة الإسلامية في بدايات ميلادها،و قامت على هديها مناهجها التعليمية و التربوية في بغداد و دمشق و القاهرة و فاس و الأندلس و غيرها من الأمصار،و أنتجت عقليات كبيرة و نظارا كبارا لم يشعروا بالتنازع بين الدين و الدنيا و بين العقيدة و الفكر و بين الوحي و العقل.و إن وجدت مناقشات و جدل هنا و هناك، و لكنه لم يخل بأصل التوازن و التناسق و الشمول الذي بقي الخط الأكبر و التوجه العام الذي ضبط مسيرة المناهج التعليمية و التربوية ، و التي أسهمت في الإنتاج الإنساني المشترك، بل و كان أساس الحضارة الحديثة و المدنية القائمة اليوم.
و عليه، سنحاول في هذه الورقة إتباع المنهج الاستقرائي والمنهج التاريخي ، في عرض نظرية التكامل المعرفي في المنهج الإسلامي و عرض نظريته التي اتسمت بالشمول و التوازن وهو ماوسم الفكر الإسلامي في قوته، وطبعه على امتداد مسيرته، قبل التوقف الحضاري ،و الاستسلام للحضارة الغربية القائمة.
و هذه الورقة تلامس المحو الثني المتعلق بوصف التكامل المعرفي إطارا فلسفيا لمناهج التعليم الجامعي، وذلك بطرح أصول و أساسيات فكرة التكامل المعرفي في محاولة لعرضها بقصد تفعيلها كأصل و أساس لكل المعرف و العلوم ابتداء، مع عرض ما تتركه للاجتهاد العقلي من مساحة و فضاء فيما وراء تلك الأصول و تلك الأسس.
أولا :مصادر المعرفة بين الوحي والعقل
أولا: العقيدة والفكر:
1- العقيدة:
هناك حقيقتين أساسيتين متلازمتين للحياة البشرية، والنفس البشرية،على كل حال وفي كل زمان؛ الحقيقة الأولى: أن هذا الإنسان -بفطرته- لا يملك أن يستقر في هذا الكون ذرة تائهة مغفلة ضائعة، فلا بد له من رباط معني بهذا الكون، يضمن له الاستقرار فيه، ومعرفة مكانه في هذا الكون الذي يستقر فيه، فلا بد له إذن من عقيدة تفسر له مكانه فيما حوله، فهي ضرورة فطرية شعورية، لا علاقة لها بملابسات العصر والبيئة(1).
والحقيقة الأخرى: هي أن هناك تلازما وثيقا بين طبيعة التصور الإعتقادي، وطبيعة النظام الاجتماعي، ... تلازما لا ينفصل، ولا يتعلق بملابسات العصر والبيئة، .. بل إن هناك ما هو أكثر من التلازم ... هناك الانبثاق الذاتي...
فمن وظائف العقيدة البيان والتفسير، بيان منهج التعامل، وتفسير الحقائق التي يعجز العقل البشــري عــن إيجـــاد تفسير لها.
في إطار الكون الذي يعيش فيه، وأهم ما تزود به العقيدة الإنسان:
أ- تربية الإدراك وتقويم منهج النظر والحكم(2):
- (ولا تقف ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا)(الإسراء 36).
- (إن الظن لا يغني من الحق شيئا)(يونس 36).
ب- في النظر في النفس والآفاق:
- (قل انظروا ماذا في السموات والأرض)(يونس 101).
- (وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون)(الذاريات 20-21).
- (قل سيروا فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة ، إن الله على كل شيء قدير) (العنكبوت 20).
ثانيا: ثبات العقيدة وتغير الفكر:
ولا تنازع بين العقيدة والتفكير، فالتصور الإسلامي يدع للعقل البشري وللعلم ميدانا واسعا كاملا، فيما وراء أصل التصور ومقوماته، ولا يقف دون العقل يصره عن البحث في الكون، بل هو يدعوه إلى هذا البحث ويدفعه إليه دفعا. ولا يقف دون العلم البشري في المجال الكوني، بل هو بكل أمر الخلافة لله، في حدود التصور الرباني، للعقل البشري وللعلم البشري.
وبناء على ما تقدم هناك ثبات في مقومات هذا التصور الأساسية، وقيمه الذاتية، فهي لا تتغير ولا تتطور، حينما تتغير ظواهر الحياة الواقعية، وأشكال الأوضاع العملية، فهذا التغير في ظواهر الحياة وأشكال الأوضاع يظل مكونا بالمقومات والقيم الثابتة لهذا التصور، ولا يقتضي هذا تحميد حركة الفكر والحياة، ولكنه يقتضي السماح لها بالحركة –بل دفعها إلى الحركة- ولكل داخل هذا الإطار الثابت، وحول هذا المحور الثابت(1)،(2).
على أن المنظومة الإسلامية، وهي تضع هذا النظام، في علاقة العقيدة بالفكر - وهو ما نبذه ويرفضه بل ويعاديه العقل الغربي- له جملة من الإيجابيات أهمها:
أ- ضبط حركة البشرية: فلا تمضي البشرية شاردة من غير هدى، كما وقع في الحياة الأوربية عندما أفلتت من عروة العقيدة.
ب- ضبط مجال تفكير العقل.
جـ - التقويم: وجود مقوم للفكر الإنساني، مقوم منضبط بذاته، يمكن أن يعصم الفكر الإنساني، فلا يتأرجح مع الشهوات والمؤثرات.
ثالثا: العقيدة وصيانة الطاقة الفكرية
زود العقل بطاقات كبيرة هائلة، تسعفه في التكليف مع الكون واستغلاله في حدود المعقول لسد حاجاته، ولكن هذا العقل يعجز عن تفسير كثير من الحقائق، ولا يبلغ إدراك أسرار ما حوله(1).
فهذه الحياة كيف انبثقت في المادة؟ وكيف بارت، وتسير سيرتها هذه العجيبة المحوطة بالآلاف من الموافقات والموازنات والتقديرات المرسومة المحسوبة بهذا الحساب الدقيق ... أي المسافة بين الوجود والعدم مسافة لا يكاد يعبرها العقل البشري، فكيف وجد هذا العالم، وكيف وجدت هذه الطبيعة... إذا كانوا يعنون بها الوجود المادي، والمسافة بين الكلية الجامدة والكلية الحية، لكن المسافة التي بين الوجود والعدم، إنها كذلك مسافة هائلة لا يعبرها العقل البشري إلا بالإحالة على تلك الإرادة المبدئية، التي تنشئ كل شيء إنشاء وتبدع إبداعا إرادة الله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى(2).
فالعقيدة تخاطب العقل وتحدثه عن المادة والأحياء، فتعرفهم مصدر الحياة ومصدر الأحياء:
- (وخلقنا من الماء كل شيء حي)(الأنبياء 30).
- (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء)(هود 6).
- (وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج)(الحج 5).
- (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون)().
كما تمرن العقيدة العقل عن الاهتمام حديثا مستفيضا، مصدره ومنشأه وطبيعته ومركزه وغاية وجوده:
- (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون)(الحجر 26).
- (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة)(البقرة 30).
- (أولم يرى الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين)(يس 77).
- (وكان الإنسان أكثر شيء جدلا)(الكهف 54).
- (إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا)(المعارج 19-21).
وتبرز الحاجة الإنسانية كلها إلى العقيدة الصحيحة عن الإنسان و الكون و الحياة و ما وراء ذلك ، من أجل تفسير ما يعجز العقل عن تفسيره(1).
توازن الفكر :
لا شك أن الفكر البشري يتوازن حين يجد تفسيرا لما يعجز عقله عن تفسيره ، من مجهول، و هو الجانب الذي تتلقاه الكينونة الإنسانية لتدركه و تسلم به، و ينتهي عملها عندا لتسليم .و الجانب الثاني الذي تتلقاه الكينونة الإنسانية لتدركه و تبحث حججه و براهينه ، و تحاول معرفة علله و غاياته ، و تفكر في مقتضياته العلمية و تطبيقها في الحياة الواقعية... و بذلك يقف الضمير البشري على أرض ثابتة مستقرة يتعرف إلى نواميس الكون و سنن الحياة و طاقات الأرض و ينتفع بها و بتجاربه العلمية و طرائقه العلمية في التعامل مع الكون و أسراره و طاقاته و مدخراته ، فلا يفوته شيء من مزايا العلوم التجريبية و الطرائق العلمية(2) .
مصادر المعرفة :
ليست المادة و حدها مصدر المعرفة الإنسانية ، فهناك مصدران للمعرفة : الوحي و الكون.
فمن وراء الغيب المحجوب و من صفحة الكون المشهود، أو بتعبير أخر بين لوحي و الكون ...فالكون كتاب الله المفتوح الذي يصب المعرفة في الكينونة الإنسانية ، كما يصبها الوحي ، مع فارق و احد هو : أن المعرفة التي يتلقاها الإنسان بمداركه في هذا الكون قابلة للخطأ و الصواب ، أما ما يتلقاه من الوحي فهو الحق اليقين فالإنسان متوافق في فطرته و تكوينه مع هذا الكون و سائر الأحياء (3) :
( ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدئ ) طه :50
(و من كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ) الذاريات :49
( الذي جعل لكم الأرض مهدا و سلك لكم فيها سبلا ) طه :53
و لذا نجد الدعوة إلى التلقي من كتاب الكون المفتوح و من كتاب النفس المكنون الشيء الكثير(2) :
( و في الأرض آيات للموقنين و في أنفسكم أفلا تبصرون ) الذاريات :21
( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت و إلى السماء كيف نصبت و إلى الأرض كيف سطحت ) الغاشية : 20
و التوجيه إلى استخدام العقل للمعرفة :
( أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو أذان يسمعون بها فأنها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور ) الحج :46
(و الله خلقكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا و جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة ) النحل :78
ثانيا : منهج البحث عند علماء المسلمين:
التوحيد قاعدة التفكير :
كانت لفظة علم تطلق على كل معرفة مهما كان ميدانها.
و لم يفرقوا في الماضي بين العلوم و المعارف ، و لاحقا عرفوا العلم :( المعرفة التي تؤخذ عن طريق الملاحظة و التجربة و الاستنتاج . )
و التعريف المعتمد للمعرفة لدى اليونسكو هو: ( المعرفة هي كل معلوم خضع للحس و التجربة )(2).
و لكن انطلاقا من تصورنا الخاص للإنسان و الكون و الحياة و فق الرؤية القرآنية يمكن إعادة صياغة التعريف ليكون : ( المعرفة هي كل معلوم دل عليه الوحي و الحس و التجربة ). مع مراعاة الترتيب من حيث القوة و اليقين .
و من صور التوحيد الأساسية هي رد الوجود طله بنشأته ابتداء و حركته بعد نشأته و كل انبثاقة فيه و كل تحور و كل تغير و كل تطور ، و الهيمنة عليه و تدبيره و تصريفه و تنسيقه ...رد ذلك كله إلى الإرادة الإلهية.
العلم والعقل في التصور الإسلامي
1- العلــــــم:
1-1-المفهوم:
العلـــم هو: إدراك الشيء أو المعني على ما هو عليه في الواقع، وهو مجموعة معارف ظنية راجحة منها ما هو قطعي، حول موضوع ما، وهو يأتي في شكل معرفة منسقة تنشأ عن الوحي أو الملاحظة والدراسة والتجريب، والتي تقوم بغرض تحديد طبيعة وأسس وأصول ما تتم دراستها(1).
1-2-الأهداف:
الهدف الأساسي للعلم هو الاكتشاف والتفسير للظواهر الكونية والإحاطة بالنظام الذي يحكمها، وبالتالي التنبؤ من خلال معرفة قوانينها بغرض التحكم والضبط، وهذا كله خدمة للإنسان وتسهيلا لحياته، فأهداف العلم إذا هي التفسير والتنبؤ و التحكم.
أ- التفسير و الفهم: وهو الهدف الأساسي الذي يسعى العلم إليه، وذلك بالاجتهاد في تفسير القوانين التي تحكم هذا الكون وظواهره والإنسان وسلوكياته، وذلك من خلال الملاحظة والتصنيف والتحليل بواسطة الفرضيات والتأكد من صحتها عن طريق التجربة الحسية والوصول إلى تلك القوانين العلمية الموضوعية والسنن الثابتة المنضبطة .
ب- التوقع و الاستشراف: ولمعرفة القوانين العلمية الموضوعية المنضبطة الثابتة، يستطيع الإنسان الاستكشاف والتنبؤ بسير الظواهر الكونية والإنسانية الاجتماعية ومعرفة اتجاهاتها ووضع تصور لمستقبل سيرها وخط صيرورتها.
جـ- التحكم و التوجيه: وبامتلاك التصور لسير الظواهر الكونية والإنسانية الاجتماعية وصيرورتها المستقبلية يستطيع الإنسان التحكم والتوجيه والضبط العلمي لهذه الظواهر لصالح الإنسانية سواء بمنعها أو إتمامها وتسهيلها.
1-3_الضوابط:
عملية البحث عن المعرفة العلمية تتعاون فيه وسائل الحس الظاهرة والباطنة، وموازين العقل الفطرية والمكتسبة، والمعارف المكتسبة ذاتيا أو من خلال الآخرين. فالحواس (اللمس، الذوق، البصر، السمع، الشم) تكسب العلم والمعرفة، فهي بمثابة منافذ للفكر على العالم، فيدرك العلم بشكل مباشر ما تستطيع هذه الحواس أن تحس به وتنقله من صفات الأشياء إلى منطقة الإدراك الفكري ثم تسجل الذاكرة لديها ما تؤكده الحواس بتكرار التجربة، وتبقي حدود العقل داخل دائرة المحسوس لا تتعداه إلى الغيبيات، لأن العقل غير مزود بأدوات معرفتها والوصول إلى حقائقها.
وإذا طرق العلم والمعرفة محكومة بمجموعة من الضوابط والأصول حتى يعتد بها، وهي:
- الإدراك بالحواس الظاهرة أو الباطنة، ويدخل فيه المجربات لأن إدراكها يعتمد على ملاحظة الحس مضاف تعميم عقلي يأتي عن طريق التمثيل.
- إدراك شهادات الآخرين وأخبارهم عن المعارف والعلوم.
- إدراك قوانين العقل الذاتية وما يستنبطه العقل ويضبطه من معارف وردت عن طريق الحواس وخبرات الآخرين(1).
والفكر يمارس أعماله بتوفر مجموعة من مواد العلم والمعرفة التي ترد إليه عن طريق الحواس الظاهرة والباطنة ويخضعها لموازين أساسية موجودة في أصل فطرته، وهي قوانين الفكر العقلية، وهبا يستطيع الحكم ذاتيا على كثير من الأفكار بالإثبات أو النفي، ومنها:
- الحكم بالتوحيد بين الفكر وماهيتها المكونة لها، وهو ما يعبر عنه بما هو هو.
- قانون عدم التناقض، ككون الشيء موجودا ومعدوما في آن واحد.
- قانون الامتناع، ككون الشيء إما موجودا إما معدوما.
- واجب الوجود وواجب العدم وممكن الوجود، وقانون العلة.
- تسلسل الدور إلى ما لا نهاية في التصور.
- تصور مركبات جديدة غير موجودة في الواقع بهيئتها التركيبية مع وجود أجزائها ... الخ.
العقــــل:
1_مكانته:
العقل جهاز عظيم وأداة أساسية لإدراك صور المعارف والعلوم من خلال فهم حقائق الأشياء المادية وحقائق المعاني المجردة، وجعله مسئولا عن التفكر في الأدلة الموصلة إلى الحقائق، وهو لا يذكر في القرآن الكريم إلا في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العلم به والرجوع إليه، وال تأتي الإشارة إليه عارضة ولا مقتضبة بل مقصودة جازمة مؤكدة باللفظ والدلالة، وتأتي الإشارة إليه شاملة وظائف الإنسان العقلية على اختلاف أعمالها وخصائصها، فلا ينحصر في العقل الوازع و في العقل المدرك ولا في العقل المفكر الذي يناط به التأمل الصادق والحكم الصحيح، بل يعم الخطاب في الآيات القرآنية كلما يتسع له الذهن الإنساني من خاصية أو وظيفة(1).
فنهى القرآن الإنسان عن إتباع ما ليس له به علم صحيح، مستندا إلى فهم سليم من خلال وسائل المعرفة ومسؤوليته عن ذلك (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا)(الإسراء 17).
ودعاه إلى التفكر بغرض التبصر (أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون)(الروم 30).
ووجهه إلى التفكر (وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون)(الحشر 59).
وذم المعطلين لعقولهم (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون)(الأنفال 22).
وذم الذين لا يفقهون، والفقه هو الفهم الصحيح للأمور، ونعى عليهم (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم أذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون)(الأعراف 07).
2_وظيفته:
أعمال العقل كثيرة منها:
- استنباط الجزئيات من الكليات وإدراك الكليات من الجزئيات، وتعميم الأحكام عن طريق قوانينه الذاتية أو عن طريق الاستقراء.
- قياس الأشباه والنظائر بعضها على بعض.
- إجراء عمليات التحليل والتركيب والجمع والتفريق.
- إدراك النسب بين المعاني والمدركات.
- إدراك الروابط بين المعلولات وعللها العقلية، وبين المسببات وأسبابها المنطقية.
- إصدار الأحكام العامة من ملاحظة التجارب المتكررة، ولو لم يكن بين السبب والظاهرة ارتباط عقلي.
- إدراك احتمالات اختلاف الكيفيات إلى ما لا نهاية(1).
3- ضوابطه:
للعقل كما للحس الظاهر والباطن حدود ينتهي إليها بالنظر إلى محدودية الإنسان بين الزمان والمكان.
ولذا تنحصر أعمال العقل في المحسوسات، وأما علم الغيب فلا يستطيع العقل مستقلا أن يحكم على شيء منه بإثبات أو نفي إلا ضمن أحكامه الذاتية، فما وراء العقل قد يكون بعيدا عن تصوره وتوهمه بعدا بالغ النهاية، فهناك فرق كبير بين ما لا يدركه العقل، فهو لا يحكم بنفي ولا إثبات لأنه ليس من الأمور التي يتناولها بأحكامه، وما يحكم العقل قطعا بنفيه أو إثباته.
العقل والعلم بين المنهج الإسلامي والمناهج الأخرى:
لما كانت رسالة الإسلام فاتحة لعهد الرشد البشري كان اهتمامها كبيرا بالغا، فبدأ الوحي بالأمر بالقراءة والإشادة بالعلم (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم)(العلق 1-4).
و(ن والقلم وما يسطرون)(القلم 1).
والعلم الذي يشيد به القرآن ويدعوا إليه، هو العلم بمفهومه الشامل الذي ينظم كل ما يتصل بالحياة ولا يقتصر على علم الشريعة، فقد دعا إلى النظر في ظواهر الوجود ومظاهر الحياة، كما دعا إلى دراسة الكائن البشري (وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون)(الذاريات 20-21).
ووجه إلى علم النباتات و الجماد والحيوان والأجناس(ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور)(فاطر 27-28).
وجعل الكون كتابا للمعرفة، ووجه العقول والقلوب والأبصار إلى التفكير في آياته واستنكاه أسراره وفهم نظمه ونواميسه عن طريق البحث والدراسة، وهو منهج واقعي يدعوا إلى عالم الحس والتجربة.
هذا بينما قامت فلسفة اليونان -مثلا- على أساس التفكير النظري المجرد وأغفلت الواقع المحسوس، ذلك أن منهج التجريد لا يدعوا إلى نظر ولا يؤدي إلى كشف ولا يعدوا كونه رياضة ذهنية ليس بينه وبين الحياة ومطالبها صلة، ذلك أنه فكر مثالي تجريدي يحلق بعيدا عن الواقع ومعطيات الواقع ومتطلبات هذا الواقع(1).
الجــــــزء الثاني
ثالثا : مناهج البحث عند المسلمين بين التطوير والابتكار
1- نهضة المسلمين العلمية:
عني العرب بنقل العلوم إبان نهضتهـم العلميـة الأولى مـن مصادر ثلاثـة، كانت بمثابة مـراكـز الحركة العلمية، وهي ميـلاد اليونان والفـرس والهنـد، وقـد اعتمـد اليونان علـى الطـب والرياضيات والفلسفـة وعلـوم الطبيعة، واعتمد الفرس على النظم الإدارية والآداب العامة، أما الهند فقد اعتمدوا على معالجة الأمراض ومعرفة خصائص العقاقير وأصول الحساب والفلك، وكانت صلة الوصل بينهم وبين اليونان علماء السريان، وبينهم وبين الهند أدباء الفرس، ثم استغنوا عن الوسطاء وترجموا مباشرة إلى اللغة العربية(2).
1-1- مرحلة النقل والترجمة:
بدأت طلائع حركة النقل والترجمة في العصر الأموي في نطاق محدود، لأنها كانت فردية، ثم نشطت في أواخر العصر العباسي في عهد الرشيد ثم بلغت أوجها في خلافة المؤمن (813-833)، وفضلا عن بغداد كانت هناك مراكز أخرى للنقل كمدينة مرو ومدينة نيسابور بفارس، وفي مستهل القرن العاشر الميلادي أخذت الحركة العلمية في النضج، وغدت الترجمات مردفة بالتعليقات والشروح وتطورت من دراسات قصيرة في موضوعات محدودة إلى مؤلفات جامعة فيها اقتباس واجتهاد وتحليل ونقد وتنظيم وتبوب واستنباط ووضع(1).
1-2- مرحلة الإنتاج:
نشأت المؤسسات العلمية الرسمية ذات نظام إداري خاص ومنهج تدريسي معين في العقد الثالث من القرن التاسع للميلاد على يد الخليفة المؤمن في بغداد، فتأسست (بيت الحكمة) ضمت معهدا للترجمة ومكتبة للمطالعة وقاعة لمجالس العلم.
وأسس الحاكم بأمره في القاهرة معهد (دار العلم) نظمه على نسق بيت الحكمة أنفق بسخاء على إنماء المكتبة وتجهيزها بوسائل الاختبار العلمي.
وكانت أشهر المؤسسات العلمية (المدرسة النظامية) أسسها نظام الملك وزير ألب أرسلان في بغداد أواخر القرن الحادي عشر وفتح لها فروعا في مرو والبصرة والموصل وأصفهان وهرات وغيرها ووضع لها نظاما جامعا محكما غدا مقياسا لمؤسسة التعليم الكبرى.
كما أسس المستنصر في بغداد (المدرسة المستنصرية) في القرن الثالث عشر للميلاد وجهزها على غرار المدرسة النظامية(2).
1-3- بين التطوير والابتكار:
لقد استقل المسلمون بمناهجهم العلمية سواء عن طريق التطوير للمناهج الموجودة أو الابتكار لمناهج علمية في شتى فروع العلم والمعرفة.
1- علم الجبر والمقابلة:
وهي صناعة بها يستخرج العدد المجهول من العدد المعلوم، وقد كانت عمليات هذا العلم غير واضحة مشتتة ومختلطة في موضوعات الرياضيات العامة من حساب وهندسة، وقد أسس هذا العلم وأعطاه اسمه واستقلاليته العالم محمد ابن موسى الخوارزمي (ت 223-846) فهو مؤسس هذا العلم وواضع مصطلحاته في كتابه الشهير (الجبر والمقابلة). كما نبغ في هذا العلم ثابت ابن قرة في القرن الثامن الميلادي، ليتم ما بدأه الخوارزمي، وسار على الأسس التي كان يحل بها الخوارزمي معادلات الدرجة الثانية، فاستعمل الهندسة في حل معادلات الدرجة الثالثة، وهو أول من وضع حساب التكامل والتفاضل، وأوجد حجم الجسم المتولد من دوران القطع المكافئ حول محوره، كما نبغ عبد الحميد ابن الواجب ابن الترك، ووضع مؤلف (كتاب الجبر والمقابلة) وأبو كامل شجاع ابن أسلم المصري (850-930) وأبو الفتح عمر ابن براهيم الخيام (ت515-1131) وغيرهم.
2- علم الأرصاد والتقويم:
اعتمد المسلمون أولا على اليونان و اليهود, ولكن سرعان ما استقلوا منهجهم الخاص في هذا العلم, فقام الخوارزمي بوضع تقويم قام غدا من بعده معتمد الدارسين, و عكف الفلكيون بعده على أعمال المراصد فنبغ محمد ابن جاب التباني (918) و كان يجري أرصاده في الدقة و أنطاكية, و امتازت أرصاده بالدقة و توصل إلى حساب ادوار الأفلاك و انحراف دائرة البروج تعيين نقطة الاعتدال و طول السنة الشمسية, و تلاه أبو الريحان البيروني (1048) ففاقه بدقة الأرصاد و ترك كتابين احدهما (الآثار الباقية) و الآخر (الفانون المسعودي) وبلغ من استقلاله في التفكير أن شكك في صحة النظام الفلكي الذي قرره بطلميوس في المجسطي و اعتبر بياناته غير مقنعة و أشار إلى احتمال أن دورة الفلك اليومية نتيجة لدوران الأرض حول محورها, و هو ما ثبت لاحقا. و أنجبت الأندلس البطرومي (1204) صاحب كتاب (الهيئة) وفي صقلية الإدريسي (1166) واضعا أول خريطة لصورة الفلك و شكل الأرض , وغيرهم(1).
3- علم الطب و الصيدلة والجراحة :
اعتمد العرب في أمرهم على مصدر اليونان و الهند ثم استقلوا بمناهجهم العلمية في فن التطبيب و الصيدلة و الجراحة فنبغ الرازي (925) مؤلف رسالة في الجدري و الحصبة, و كتاب جامع في الأطراف و علاجها (الحاوي) و اشتهر كذلك في الطب ابن سينا (1073) و ألف الموسوعة الطبية الفخمة (القانون اشتمل أوصاف الأطراف المعروفة و اثبت مئات العقاقير و خصائصها). و ابن الرشد (1189) ووضع كتاب (الكليات في الطب) يساعـــد ابـن
الطفيل (1158), وهذه الموسوعات نقلت إلى اللاتينية وعليها قامت النهضة الطبية الحديثة في أوربا. وفي الجراحة أطباء الأندلس وبخاصة أبو القاسم الزهراوي (1013)، فقد بسط في مؤلفه (التعريف لمن عجز عن التأليف) معارف عن الجراحة ورسوما لبعض الآلات وبين أهمية التّشريح. وابن النفيس (1288) في دراسة الأوردة والشرايين ووصف تقنية الدم لدى مروره في الرئتين، واشتهر بجراحة العين صلاح الدين بن يوسف أواخر القرن الثالث عشر في مصر، ونجح في إخراج الماء الأزرق من العين بعملية جراحية وترك كتابا هو (نور العيون). ونبغ في العقاقير والأدوية ابن البيطار الأندلسي (1248) فقد جال الأقطار الإسلامية وعرف أنواع النباتات وخصائصها ومنافعها، وترك مؤلفا ضخما (الجامع لمفردات الأغذية والأدوية) وضع فيه نحو ألف وأربعة مئة مادة، منها ثلاث مئة مادة لم يسبق ذكرها(1).
4- علم الحساب والرياضة:
اعتمد المسلمون في علم الحساب أولا على أصول ثلاث، حساب اليد والحساب الهندي وخصائص الأعداد عند اليونان، فحساب اليد حساب موروث كان نظاما عند الروم والفرس، والحساب الهندي تبناه العرب وطوروه وعدلوه واستخرج منه المسلمون أسس الجبر والفروع الرياضية الأخرى. فوضعوا الصفر للانتقال من الآحاد إلى العشرات ومن العشرات إلى المئات ومن المئات إلى الآلاف ... وطوروا الكسور العشرية والكسور الستينية وأكملوا المثلثات. ونبغ غياث الدين الكاشاني (1424) فأثبت نسبة الدائرة إلى قطرها ووضع مفتاح الحساب الذي قامت على أساسه المسطرة الحسابية.(2)
5- علم الكيمياء:
نبغ المسلمون في علم الكيمياء وسجلوا فتوحا في الناحية التجريبية، وتقدموا في وسائل التبخير والتذويب والتقطير وصهر المعادن، وحولوا الكيمياء إلى علم منظم له منهجه البحثي، وبرعوا في المستحضرات كالحامض الكبريتي والبوتاس وكربونات الصودا، وأدخلوا تحسينات على صناعات كثيرة كصناعة الفولاذ وتنقية المعادن وتركيب الروائح العصرية ودباغة الجلود وصباغة الأقمشة وصناعة الزجاج وصناعة الورق، وأشهر أعلام الكيمياء جابر ابن حيان (القرن الثامن) الملقب بأبي الكيمياء.
6- العلم الطبيعي:
اشتهر غير واحد من المسلمين في علوم الطبيعة وفي البصريات وعلم الضوء، فبرعوا في الوزن النوعي وأحكام الضوء وقواعد الصوت، وأبحاث الجاذبية والموازين والضغط الجوي، وهو ما ساعد على ضبط أمور الصناعة، ونبغ ابن الحسن الهيثم (965) في البصريات وعلم الضوء وألّف (المناظر) وبرع في دراسة العلاقة بين سرعة الجسم الساقط والبعد الذي يقطعه الزمن الذي يستغرقه، ووضع القوانين والمعادلات الخاصة بهذه النظرية، وامتازت بحوثه بالتجربة والملاحظة وأخذ بالاستقراء والقياس والتمثيل، كما بـرع أبـو الريحان البيروني (ت 1048)
في علم السوائل وشرح بعض الظواهر المتعلقة بضغط السوائل وتوازنها، وعلّل صعود مياه النافورات والعيون إلى أعلى، وأعظم ما برع فيه هو سبقه العلمي المتمثل في تحديد الكثافة النوعية لعدد من المعادن والأحجار تحديدا دقيقا يقترب جدا من التقديرات الحديثة.
7- علم الهندسة:
خرجت الهندسة من أيدي اليونان علما ناضجا مكتمل النمو مستوفي النظريات، ولا إن كانت إنجازات العرب ضئيلة ومحدودة في الهندسة النظرية، إلا أنهم برعوا في الهندسة العملية فطبقوا النظريات على أعمال مفيدة وأخرجوا الهندسة من النظري إلى العملي، وبالتالي برعوا في المعمار والبناء وما يصاحبها إخراج هندسي غاية في الروعة والجمال، تتسم بالبراعة والدقة وضخامة امتزجت بالفن والجمال وشواهد الأبنية الباقية خير دليل على ذلك، فقد برع سعد أبو عثمان وصالح ابن كسان وإسحاق ابن قصيبة وموسى ابن داوود...(1).
رابعا : الفكر الإسلامي وأثره في نهضة الفكر الغربي الحديث
1-مراكز الاتصال الفكري:كان اتصال العرب بالأمم الغربية اتصال حروب وقتال أولا ثم اتصال ثقافة وأفكار وعلوم ومعارف، وكان اللقاء بين فكر إسلامي بلغ أوج نضجه وغاية تطوره وفكر غربي في خطوات الوعي الأولى بوجوده وكيانه، وبين ثقافة اكتملت واستوت وآتت أكلها وثقافة تبحث عن هويتها وتتلمس طريقها نحو النهضة والعلم والحضارة والمعرفة، بدأ الاحتكاك من صقلية جنوب إيطاليا التي فتحها الأغالبة (212 هـ) ومعهم وفدت الثقافة والعلوم والكتب، وفي بلرم التي اتخذها العرب العاصمة أنشئت أولى مدرسة للطب وعلى نسقها نشأت مدارس الطب في نواحي إيطاليا وفرنسا.
2-الترجمة والنقل ورحلة التراث العلمي نحو أوربا:بدأت حركة الترجمة من اللغة العربية التي تولاها يهودي مستعرب بترجمة النص العربي إلى الاسبانية ثم قيام أحد المترجمين الإسبان بنقله إلى اللاتينية، وبدأت هذه الترجمة تلخيصا وإجمالا، ثم غدت ترجمة دقيقة، واقترنت من بعد بالشروح والتعاليق، وحرصوا على جمع الكتب وأنفقوا على العلم بسخاء، وكانت مدينة طليطلة هي أهم مواطن الترجمة والنقل، ومدينة بلرم في صقيلية، ففي اسبانيا رعى حركة النقل والترجمة الأسقف رموند (11- 51) وألفنسو الحكيم ملك قشتالة (1248) وفي صقلية فريديريك الثاني (1250) وقبله روجر الأول (1101). ونشطت حركة التأليف والشروح والتعاليق وتطور الأمر إلى الرحلات العلمية نحو البلاد العربية في طلب العلم والاستزادة منه على العرب والمسلمين(2).
خامسا : علم الإنسان وعلم الكون في التصور الإسلامي
1-علم الإنسان:
الغاية من كل الدراسات المتعلقة بالإنسان والنفس الإنسانية هي معرفة مكونات هذه النفس بهدف فهم أحوال الإنسان في حال الصحة والمرض والاستواء والانحراف، ومعطيات مراحله العمرية وحاجاته في كل مرحلة، ومن الضروري دراسة ومعرفة المؤثرات وما يطرأ داخل النفس من تأزمات نتيجة الصراع بين رغائب مقوماتها الذاتية وعدم توافق اجتماعي، وكذا وظيفته ودوره في الحياة وطاقاته وحدود هذه الطاقة.
2-الإنسان في القرآن:
الإنسان خليفة الله في الأرض (وإذ قال ربك إني جاعل في الأرض خليفة)(البقرة 30). وكلمة خليفة كلمة ضخمة ذات إيحاءات كبيرة، أهمها أن الإنسان ذو أهمية كبيرة بارزة في الحياة، وهو مزود بأدوات الخلافة من علم ومعرفة، وأن دوره أخطر من دور كل الكائنات، وأنه مخلوق للعبادة وعمارة الكون. وأنه مزدوج الطبيعة (وإذ قال ربك إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) وهو بهذه الطبيعة متفرد عن باقي المخلوقات ذات الطبيعة الواحدة والوجهة الواحدة. فقبضة الطين تتمثل في حقيقة الجسد: عضلاته ووشائجه وأعضاؤه وأحشاؤه. ونفخة الروح تتمثل في الجانب الروحي للإنسان تتمثل في الوعي والإرادة والإدراك(1).
3-النفس الإنسانية:
الإنسان, إذن, بعد النفخة طينا بحتا و لا يمكن أن يعود كذلك, ولا هو روح بحت, و لا يمكن أن يكون كذلك. فالعنصران مختلطان ممتزجان مترابطان, يتكون منها كيان موحد, مختلط الصفات, و هي حقيقة تبنى عليها كل أعمال الإنسان و مشاعره و تصرفاته. و الإنسان يحمل, تبعا لهذه الطبيعة, خطوط متقابلة في نفسه, وهي مترابطة مع كل زوج منها رغم التقابل, فهو يحمل الخوف و الرجاء, و الحب و الكره, الحسية و المعنوية, الواقع و الخيال, المعلوم و المجهول, الفردية و الجماعية, و كل خطين متقابلان في الخلقة متضادين في الاتجاه, ومع ذلك فهما مترابطان ترابطا يبلغ أحيانا أن يعملا في نفس الوقت و في ذات المجال .
4-الدوافع و الضوابط :
1- الدوافع:
يقوم كيان الإنسان على دافع حب الحياة و الاستمتاع بها, وهو الدافع الأكبر, و ينقسم دوافع جزئية تظل تتفرع بدورها و تتشعب حتى تصل إلى دقائق صغيرة عميقة . و يشمل هذا الدافع الأكبر فرعين رئيسين هما حفظ الذات و حفظ النوع .
الضوابط:
وهي قوة تولد مع الإنسان كامنة في كيانه, و لكنها لا تظهر كما تظهر الدوافع بل هي بحاجة إلى المساعدة الخارجية ليتم لها النماء و النضج, و إلا بقيت ضامرة لا تؤدي وظيفتها كاملة. فأجهزة الضبط اللاشعورية هي أجهزة بيولوجية من صميم الخلقة و الفطرة, تنشا عنها أجهزة سيكولوجية, و هي تعمل لا شعوريا في الطفولة الأولى ثم تعمل شعوريا بعد ذلك, و تلك هي مهمة التوجيه و التهذيب وهي عميقة ضرورية للإنسان .(1)
5-علم الكون :
يعتبر القرآن الكون كتاب الله المفتوح, و هو مصدر من مصادر المعرفة, و هو مخلوق منضبط بنواميس وقوانين ثابتة لا تتغير ولا تتبدل, وهو مكان عمل الإنسان و عيشه ,ووجهه القرآن إلى البحث في الكون (الم نجعل الأرض مهادا و الجبال أوتادا و خلقناكم أزواجا و جعلنا نومكم سباتا و جعلنا النهار معاشا و بنينا فوقكم سبعا شدادا و جعلنا سراجا وهاجا و أنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا لنخرج به حبا ونباتا و جنات ألفافا )(النبا 6-16)
و الكون ليس له إرادة, لذا فهو منضبط بالقوانين و السنن .
6-الكون و القرءان :
يبصر القرءان الإنسان بالكون من حوله على أنه جملة من المظاهر التي أبدعها الله عز و جل في انتظام و تناسق لغرضين:
الأول, التأمل فيه و التنبؤ إلى مدى دقته و تناسق أجزائه (إن في خلق السماوات و الأرض و اختلاف الليل و النهار و الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس و ما انزل من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها و بث فيها من كل دابة و تصريف الرياح و السحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون) (البقرة 146).
و الثاني, أن تكون هذه المظاهر الكونية كلها مسخرة لخدمة الإنسان و مصلحته و حاجاته فوق الأرض, و أن يكتشف بمقدار ما يتسع له إدراكه و علمه, سننه و قوانينه ليحل مشكلاته و لا يصطدم بها, و يستفيد من خيراته (و سخر لكم ما في السماوات و الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) (الجاثية 12) .
7-تفاعل الإنسان مع الكون :
يعلن القرءان أن الله تعالى خالق الكون و مبدعه و واهب الحياة فيه, و الإنسان عبد الله خلقه الله و سخر له هذا الكون و الحياة و استخلفه فيه, و أطلق يده فيه بحيث يستطيع الإنسان كشف ما فيه من كنوز و خيرات و خدمات و الانتفاع بها لخدمته, فهو يملك طاقات كافية لذلك وهو يعمل على التطوير و الترقية, لقدرة الإنسان على التعلم و اكتساب المهارات و المعارف, و دور الإنسان على الأرض دور ضخم و كبير و له المركز الأول في نظام الكون كله, و بالتالي فله مجال هائل للعمل و الفاعلية و التأثير. و يشير القرآن للإنسان بالتفاعل (هو أنشاكم مـن الأرض واستعمركم فيها)(هود61), وذلك من أجل أن يقوم بدوره في خلافة الأرض و عمارتها باستخدام طاقاتها و خاماتها, و التحليل فيها و التركيب, و التحوير فيها و التعديل (ألم تر أن الله سخر لكم ما في السموات و ما في الأرض)(لقمان20) (1).
9-الكون و الإنسان بين حضارتين:
في التصور الإسلامي يتفاعل الإنسان مع الكون تفاعلا ايجابيا, فهو يلاحظ السنن و يتعرف عليها بغرض التعامل معها دون مصادمة, فالعلاقة علاقة مسخر و مسخر له نشا كلاهما من مصدر واحد, و العلاقة إذا علاقة انس و صداقة و ارتباط و مصير. و معرفة القوانين و السنن الكونية في سبيل السيطرة عليها و توجيهها وكشف أسرارها للانتفاع بها و تسيير عيشه في الحياة و الإقبال عليها, فالطبيعة في حس المسلم ظواهر العالم المادي المحسوس, وهو جانب له قيمته في أساس كل معرفة إنسانية. و الكون مظهر لإرادة الله أو التعبير عن مشيئته, و الإنسان مطالب بأداء واجب الخلافة و العبادة و التعمير, و المحافظة على البيئة و عدم الإفساد و الاستكبار في الأرض... ومن هن لم تحدث تلك الفجوة بين المسلم والكون, كتلك التي حدثت في النصرانية التي أفضت إلى قيام محاكم التفتيش, ولا ما أفرزته المرحلة التالية لحكم الكنيسة, التي صوت العلاقة بين الإنسان علاقة صراع و تضاد, لا علاقة توافق و انتفاع. إضافة إلى جعل الحضارة الإسلامية الإنسان أغلى و أجل من كل شيء مادي في هذه الأرض و لا يجوز أن تعلو عليه المادة, و إلا تهدر أية قيمة من قيمه الإنسانية لأي سبب كان, لقاء تحقيق أي كسب مادي أو إنتاج أي شيء مادي, كما ترى الحضارة الغربية, فكل الماديات مصنوعة مخلوقة من اجله, من اجل تحقيق وجوده الإنساني, و الإنسان هو الذي يقود الأرض بقيمه و موازينه و ليست وسائل الإنتاج و لا توزيع الإنتاج هي التي تقود الحياة و الإنسان من ورائها, كما صورته المذاهب المادية في الغرب(1).
(1) مقاصد الشريعة الإسلامية في فكر الإمام سيد قطب، د نصير زرواق، دار السلام ط 2006.
(2) المرجع السابق، وأنظر سيد قطب خصائص ومقومات التصور الإسلامي، دار الشروق.
(1)،(2) أنظر المرجع السابق.
(1) المرجع السابق.
(2) المرجع السابق.
(1) المرجع السابق.
(2) المرجع السابق.
(3) المرجع السابق.
(1) المرجع السابق.
(1) عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، ضوابط المعرفة، دار القلم دمشق، الطبعة السادسة 2002.
(1) عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، المرجع السابق
(1) عباس محمود العقاد، التفكير فريضة إسلامية، مطبعة المعارف، طبعة 1979.
(1) حسن حبنكة الميداني، المرجع السابق.
(1) منهج البحث العلمي عند العرب، د جلال موسى دار الكتاب اللبناني، الطبعة الأولى 1972، وأنظر د عبد الرحمان بدوي، دور العرب في تكوين الفكر الغربي، وكالة المطبوعات الطبعة الثالثة 1979.
(2) المنهج الإسلامي، محمد شديد، الشركة المتحدة للتوزيع ببيروت وأنظر معالم الفكر العربي، د كمال اليازجي، دار العلم للملايين، بيروت الطبعة السادسة.وأنظر الجامع في تاريخ العلوم عند العرب، محمد عبد الرحمان مرحبا، منشورات عويدات، بيروت، 1988.
(1) الدكتور كمال اليازجي، المرجع السابق.
(2) د عبد الرحمان مرحبا، المرجع السابق، وأنظر د عبد الرزاق نوفل، المسلمون والعلم الحديث، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 3، 1973، وأنظر أحمد أمين، موسوعة أحمد أمين الإسلامية، دار الكتاب العربي، بيروت ط 10، 1969.
(1) الدكتور محمد عبد الرحمن مرحبا، المرجع السابق
(1) الدكتور عبد الرزاق نوفل، المسلمون والعلم الحديث، دار الكتاب العربي بيروت الطبعة الثالثة 1973.
(2) انظر أحمد أمين، موسوعة أحمد أمين الإسلامية، دار الكتاب العربي بيروت الطبعة العاشرة 1969.
(1) الدكتور كمال اليازجي، المرجع السابق.
(2) الدكتور عبد الرحمن مرحبا، المرجع السابق.
(1) الأستاذ محمد قطب، دراسات في النفس الإنسانية، دار الشروق، بدون تاريخ.
(1) الأستاذ محمد قطب، المرجع السابق.
(1) الأستاذ سيد قطب، في ظلال القرآن الجزء الأول 67-73 طبعة دار الشروق 1999. وخصائص ومقومات التصور الإسلامي، طبعة الشروق 1980.
(1) عبد الرزاق السامرائي، في التفسير الإسلامي للتاريخ، الجزائر دار الشهاب 1990. وسيد قطب، المرجعين السابقين.
الإسلام اليوم