محمد الحمّار
تمهيد
هل صحيح، كما قال بعضهم قبل عقود أنّ ’’العرب لا يقرؤون وإذا قرؤوا لا يفهمون وإذا فهموا لا يطبقون’’؟(1) لنفترض أنّ هذا الحكم صحيح، ولنرَ من خلال التطرق إلى الإشكالية التي يطرحها والتي تتمثل في العلاقة بين ’’القراءة’’ و’’الفهم’’ و’’الحداثة’’ (التطبيق الناجع والناجح) ما الذي يحول دون العرب والتقدم.
ستكون البداية بمعاينة التخلف بخصوص مسألة ’’كيف نتقدم؟’’. في هذه المعاينة تتداخل عوامل مختلفة نخص بالذكر منها التاريخ والتكوين المعرفي والتعليمي. في خطوة أولى سنكشف عن أجزاء المعاينة الثلاثة مع التلميح إلى ما ينبغي تصحيحه فيها. ثم سنحاول شرح العلاقة بين الأوجه الثلاثة التي تتشكل منها المعاينة وذلك من أجل استقرار الرأي على منهجية مناسبة لتناول المسألة ومن ثمة محاولة الإجابة عن سؤال ’’كيف يتسنى للعرب أن يجتازوا العقبة التي تنتصب أمامهم على طريق التقدم؟’’
التحديات الثلاثة
تنقسم معاينة التخلف إلى ثلاثة محاور كل واحد منها يستبطن تحديا مستقبليا. وهي على النحو التالي:
أ. عدم قدرة العرب على ترجمة المعارف و العلوم من اللغات الأوروبية
هذا مما لا يختلف حوله اثنان. لكن هل أنّ الترجمة هي الوسيلة الأوحد لاقتحام عصر الحداثة العربية؟
ب. عزوف العرب عن المطالعة
هذا أيضا مما لا ينكر صحته أحد. وهو مرتبط بضعف المنظومة التربوية والتعليمية. لكن هل أنّ تطوّر الوسائل المعرفية يتوقف على المطالعة؟
ج. نهاية التاريخ وموت السياسة عالميا
هذه عقيدة أطلقها الأمريكي فرنسيس فوكوياما منذ أوائل التسعينات من القرن الماضي عقب التحولات الديمقراطية لسنة 1989، تاريخ دمج شرق وغرب أوروبا ونهاية الحرب الباردة. إنّ هذه العقيدة عامل جديد ينضاف إلى قضية تخلف العرب. وبالتالي فإنّ التغاضي عن هذا المعطى كلما تعلق الأمر بإصلاح الفكر السياسي لدى العرب يعتبر قفزا في المجهول.
خطر الخلط بين الغاية والوسيلة
يبدو أنّ حالة الجمود الناجمة عن استشراء هذه العلل الثلاثة زادت لا فقط في حظوظ تأبيد هذه الأخيرة وإنما مع مرور الزمن ومع تراكم الفشل زادت أيضا - وهو الأخطر- في تعنّت النخب المثقفة العربية في النظر إلى هذه المسائل بأسلوب تقليدي وسطحي وساذج، فضلا عن توليدها للإحباط لدى الشباب والناشئة، من أصحاب الشهادات العليا ومن طلبة ومن تلاميذ.
لمّا نقول إنّ الأسلوب الذي تتوخاه النخب في التعاطي مع مثل هذه العلل ساذج فذلك لأنه خطّيّ أي لم يتجاوز العلاقات السببية التقليدية ولم يقتحم المجال ما بعد الحداثي الذي تعيشه فيه الإنسانية اليوم. هذا مما يعني أنّ النخب متشبثة بتصور أنّ الأشياء المفقودة (ترجمة، تعليم راق ومطالعة، سياسة فعالة وغيرها) ما زالت هي نفس المداخل إلى حل المشكلة الحضارية مثلما كان الأمر في العصر العباسي (ما يعرف ﺑ’’العصر الذهبي’’ للحضارة الإسلامية) لمّا عاشت الأمة ’’حركة الترجمة’’ الذي تمّت خلالها ترجمة علوم الطب والرياضيات والفلك والفلسفة والنقد والموسيقى من الإغريقية، والأدب من الفارسية ومن السريانية إلى العربية، ثم لاحقا ضمن ’’مدرسة طليطلة’’ بالأندلس (ق 12 م) التي عرفت حركة ترجمة من العربية إلى اللاتينية والعبرية - ثم إلى اللغات الأوروبية- وكانت أصلا في انطلاق النهضة الأوروبية.
على عكس الموقف اليائس الذي يبدو أنّ أصحابه ينتظرون توفر ظروف مماثلة لظروف العصور المجيدة السابقة نعتقد أنّ التقدم المعرفي الذي بلغته البشرية يمَكننا في هذه الحقبة من إدراك أنّ الأشياء المفقودة (وسائل مثل الترجمة والمطالعة والفكر السياسي) إنما هي كذلك لأنّ صلاحيتها انتهت فعليا. وقد انتهت هذه الأخيرة لا لأنّ المجتمع المعني بمسألة الارتقاء والتقدم لا يعرف إليها سبيلا أو لا يستطيع الارتقاء والتقدم إلا بواسطتها وإنما هي انتهت إلى حين لأنّ هنالك - افتراضا- شروط بديلة فرضها العصر. فلنحاول تقصي الأمر عسى أن نحدد ما جدّ من شروط.
لو توقفنا هنيهة عند الثلاثي ’’ترجمة (العلوم خاصة)/ مطالعة/ علم وفكر سياسي/’’ وقدّرنا الدور الذي كانت تلعبه في عملية التغيير نحو الأفضل لما وجدنا صعوبة في تصنيفها بمثابة وسائل للتغيير لا غايات بحد ذاتها. أما الغاية فهي بلوغ مرتبة عالية من الحياة الكريمة. لكن المؤسف أنّ النخب، ومن ورائهم كل المعنيين بالمعرفة، يتعاملون معها وكأنها غايات: يبكون على أطلال العصور الذهبية للترجمة، ينظمون معارض الكتاب ومهرجانات المطالعة من دون البحث عن الأسباب العميقة لتدهور هذه المهارة، و يركزون على التعددية الحزبية ظنا منهم أنها الطريق الوحيدة – الضرورية الكافية- لتطوير السياسة.
فيبدو أنّ الفاعلين العرب في المجالين الفكري والثقافي في هذا العصر لم يستوعبوا الدرس من حقيقةِ ما جرى في الماضي. الحقيقة هي أنّ المجتمعات العربية قديما لم تكن لتُفلح في تطوير حياتها، السياسية والعلمية والثقافية، بفضل وسائل نافذة مثل الترجمة والدراسة الكُتُبية والمطالعة لو لم تكن مدعومة في عملها بعامل التجربة الميدانية بوصفها وسيلة الوسائل. فالفكر التجريبي هو الذي يحدد المائز بين هذا المجتمع وذاك، هذه الثقافة وتلك، هذا العصر وذاك، وهو بالتالي الذي يحدد الحاجيات الخصوصية لمجتمع بعينه ولثقافة بعينها ترغب في تحقيق الارتقاء وذلك بالتناسب مع نواميس التطور في عصره.
نستنتج من هذا أنّ وسائل التغيير نحو الأفضل تستلزم المراجعة من مجتمع لآخر ومن ثقافة لأخرى، ناهيك من عصر لآخر. وسواء أسمينا التغيير ’’تقدما’’ أو ’’لحاقا بركب الحضارة’’ أو ’’إقلاعا حضاريا’’ أو’’نهضة’’ أو ’’نهوضا’’ أو ’’حداثة’’ أم فصّلناه لنطلق عليه اسم ’’الانتقال السياسي’’ أو ’’الانتقال الديمقراطي’’ وهلمّ جرا، فلا يتحقق من دون وسائل تلبي شروط الزمان والمكان.
لو يتم استخدام وسائل غير متسقة مع المجتمع والثقافة والعصر، قد تسطو صورة الوسائل على صورة الغاية وهي المتمثلة في التغيير نحو الأفضل فتتحوّل الوسيلة إلى غاية وتكون النتيجة تغييرا لا محالة، لكنه تغيير نحو الأسوأ. ذلك أنّ انتهاء صلاحية الوسيلة بالإضافة إلى انعدام القدرة على تحيينها سيكون مبعثا على الهوس بالوسيلة مع – بطبيعة الحال- استبعاد الغاية. وهذا الذي قد يكون حصل في ذهن نخبنا في عصر دولة الاستقلال. لقد ضيعوا الوسيلة والغاية معا بموجب الالتصاق بالوسيلة وذلك جراء انعدام الخبرة الميدانية عن طريقة تناولهم للعلاقة مع واقع متجدد كل يوم، بل كل ساعة.
إذن لقد تغيرت الظروف بحلول الخلط مكان وضوح الرؤية. فهل في ظل هذا الخلط بين الوسيلة والغاية، نأمل أن يكون لنا سياسيون متبصرون وأكاديميون نافذون ومترجمون متفوقون وفتيان وفتيات يطالعون؟ إنّ هذا الخلط قد تسبب، لدى المفكر والأكاديمي والإعلامي والسياسي، في توطيد الإهمال الذي طال المتغيرات التاريخية والثقافية وبالتالي في عدم التمكن من رصد المتطلبات الجديدة لبلوغ الغاية الموءودة، غاية النهوض والتقدم والارتقاء.
بهذا المنطق وحسب حالة التخلف التي نحن عليها في هذه الحقبة يمكن أن نخلص إلى أنّ الثقافات التابعة – في المجتمعات العربية من باب أولى- مطالبة باستبدال الوسائل لا باستبعاد الغاية كنتيجة للتشبث المرَضي بالوسيلة وخلطها بالغاية. فماذا عسى أن يمهد لترجمة العلوم و وللتحصيل الكُتبي ولتطوير علم وفكر السياسة؟ ما هي الشروط البديلة؟
الترجمة المباشرة ﻠ’’الحداثة’’
1. المنهج
من خلال دراستنا للظواهر الاجتماعية من زاوية تفاعلها مع الظاهرة اللغوية نعتقد أننا اهتدينا إلى مقاربة بديلة تبرز من خلالها الشروط البديلة لمجابهة الشواغل الثلاثة تباعا. تتمثل المقاربة في ترجمة ’’الحداثة’’ مباشرة، وبصفة تدريجية من جهة، وميدانية من جهة ثانية، بدلا عن الترجمة الكُتُبية للمعارف و للعلوم (وهذه ترجمة غير مباشرة لأنها تعنى بمحصول معرفي نهائي وجاهز للاستعمال، صادرٍ عن عقل ناطق بلغة غير العربية). ونعني بذلك تعريب ’’الحداثة’’، علما وأننا نفترض أنّ هذا الصنف من الترجمة يشكل المحور الرئيس الذي يرتكز عليه الشاغلان الاثنان الآخران – شاغل التحصيل الأدبي من خلال الكتب، وشاغل الارتقاء بالسياسة- حيث إنّ الترجمة (باتجاهيها الاثنين، ترجمة الكتب والترجمة المباشرة موضوع هذا البحث) تطال كل المجالات المعرفية ودون إقصاء، بما فيها مجالَي الأدبيات والسياسة بالإضافة إلى سائر المعارف والعلوم.
بعد أن توصّلنا إلى تجميع الشروط الثلاثة في شرط واحد (ترجمة الحداثة) و قبل التعرف على تفاصيل المقاربة، حريّ أن نميّز بين صنفين من الحداثة. أولا، الحداثة كما وردت علينا من الغرب وهي بمثابة الفلسفة النائبة عن التنوير الأوروبي الأمريكي التي تتداخل فيها عناصر كثيرة على غرار التصنيع والعلمانية والعقلانية والتي ترتبط عضويا بالرأسمالية، فلسفة وممارسة. هذا الصنف، لا يعنينا كثيرا في هذا البحث ولو أنه عامل مؤثر بقوة في الواقع العربي المعيش بكل تجلياته – فهذا أمرٌ مفروغٌ منه - لكنه يعنينا بوصفه نموذجا لا ينبغي على العرب والمسلمين أن يستنسخوه بل يتوجب عليهم أن يولّدوا نموذجهم المتأصل في ثقافتهم. بالمحصلة، ما يهمنا هو كيفية توليد النموذج الجديد أكثر من التوسع في وصف النموذج الغربي المسيطر على الإنسانية حاليا.
من هنا يأتي صنف الحداثة التي سنبحث عنها والتي نرغب في بنائها بوصفنا عربا ومسلمين في غالبيتنا. هذا الصنف، لا نملك منه في يومنا هذا أيّ شيء يُذكر، أيّ شيء ممنهج ومهيكل ووظيفي. ولعلّ اكتساب الملكات والقدرات والمهارات التي مكّنت العقل في العالم المتقدم من بلوغ درجات من الرقيّ بدءا بالتنوير ومرورا بالصورة الصناعية وغيرها من المراحل الموالية وانتهاءً إلى حقبة ما بعد الحداثة التي يمر بها العالم الآن، لعل هذه العناصر هي التي سنحتاج إليها لتحقيق حداثة عربية متأصلة وأصيلة. وهو ما سنُعنى به من خلال الأجزاء المختلفة لهذا البحث.
وفي ما يلي عرض للمقاربة:
في ضوء ما سبق نرى أنّ ترجمة الحداثة - أو تعريبها– هي ترجمة للحس الحداثي الذي بواسطته سيكون العقل العربي قادرا على إحداث سلوك اجتماعي وثقافي متميز ونافذ. هذا الصنف من الترجمة لا يتطلب أن يكون مجتمع المعرفة متملكا لفنّ الترجمة بمثابة شرط مبدئي، وإنما يتطلب ’’توليد وتحويل’’ الحداثة عبر اللغة، مع الحرص بالموازاة مع ذلك على التمكن من العلوم والمعارف عبر المسالك المتعارفة - المدرسية والجامعية والأكاديمية.
لكننا لا نعني بذلك تحويلا وتوليدا لغويا بحتا أو في داخل اللغة الواحدة، مثلما وصف هذا المبدأ المعروف وطبّقهُ مكتشفُه العلامة نعوم تشومسكي، وإنما سنُخرج المبدأ على النحو التالي:
أولا: نخرجه من الإطار اللغوي الصرف ليكون قابلا للتطبيق في مجال الشاغل المنهجي الذي نرنو إلى صياغته (ترجمة الحداثة).
ثانيا: نخرجه من إطار اللغة الواحدة لنطبقه في مجال العلاقة بين لغتين اثنتين أو أكثر من أجل تحويل وتوليد البنى والمعاني وما كل ما يصلح من معطيات تحديثية، وذلك انطلاقا من اللغة الأجنبية الحمّالة لتلكم البنى ثم ضخّها في داخل اللغة العربية الراغبة في اكتسابها لكي تتقصاها هذه الأخيرة وتطوعها لحاجيات الناطقين بها، وذلك بناءا على أنّنا نعتبر أنّ اللغة الأجنبية الحية هي المانحة (في هذا العصر) لأصول التحديث والعصرنة، وأنّ اللغة العربية هي اللغة المستفيدة منها.
إنّ الخلفية النظرية التي نرتكز عليها، والتي تشكل الفكرة التشومسكية محورها الأساس، هي الآتية:
أ. إن كانت الأداة الابستيمولوجية للنظرية التشومسكية، ألا وهي ’’النحو الكلي/ التوليد/ التحويل’’، ناجعة في تفسير الظواهر اللغوية في مستوى اللغة الواحدة – علما وأنّ ما ينطبق على اللغة الواحدة ينطبق على سائر اللغات–، لِمَ لا تكون هذه الأداة ناجعة أيضا في مستوى العلاقة بين لغتين اثنتين أو أكثر؟
ب. إن كانت الثلاثية نفسها مطبقة على اللغة، ما المانع في أن تطبّق على صورة ’’الحداثة’’ بوصفها صورة لغوية لمضمون علمي وثقافي حيّ ومعاصر؟
من هذا المنظور، إن كان ’’التوليد’’ حسب تشومسكي ’’استنباطا لمستوى لغوي من مستوى لغوي أعلى منه’’(2) فسيكون توليد الحداثة الذي نمهد له ’’استنباطا لمستوى حداثي (عربي/ كوني) من مستوى حداثي (غربي/ كوني) أعلى منه. وإن كان ’’التحويل’’ ’’عملية نقل المستوى العميق لجملة ما إلى مستواها الظاهر (...) للكشف عن المعاني الضمنية لهذه الجملة، أو هو إماطة اللثام عن البنى العميقة حتى تتكشف البنى السطحية’’(3) فسيكون تحويل الحداثة عملية نقل المستوى العميق للحداثة – وهو المستوى الذي تتمتع به البلاد المتقدمة علميا وتكنولوجيا- إلى مستواها الظاهر للكشف عن المعاني الضمنية للحداثة. وإن كان ’’دور النحو التوليدي، التحرك داخليا من العمق إلى السطح اعتمادا على القوانين المحققة لهذا التحول’’(4) فسنستعمل هذا النحو للتحرك داخليا في وسط ’’الأداء الكلامي’’ للغة الأجنبية الحمالة لمعاني الحداثة من عمق اللغة الأجنبية إلى سطحها اعتمادا على القوانين اللغوية المحققة لتحوّل المعنى من هذه اللغة إلى اللغة العربية.
2. الهدف
بكلام آخر، نعتزم تجريب تحويل وتوليد الحداثة من اللغة الأجنبية الغربية (المصدر) نحو اللغة العربية (لغة الوصول، الهدف) وذلك بهدف الارتقاء التدريجي باللغة العربية من نظام لا يعكس - سوى بصفة جزئية وغير ممنهجة - المستوى المعرفي والعقلي والذكائي للعصر الحالي إلى نظام مواكبٍ للحداثة ومنتج لها- أو، بصيغة أخرى، نهدف إلى تمكين الناطق باللغة العربية من الاستفادة من اللغة الأجنبية باتجاه كسب القدرة على بث خطاب يحتوي على مضامين ومعانٍ ومدلولات ومفاهيم ذاتية تكون معبرة عن شخصية حداثية وأصيلة في الآن ذاته.
أما الفائدة التي نرنو إلى كسبها من هذا التمشي فهي لا شيء غير اختصار المسافة الحضارية والزمن الحضاري اللذين يفصلان بين العرب والدول المتقدمة. مع العلم أنّ توقُعَنا بأنّ هذا التمشي كفيل بأن يوفّر على الإنسانية، ومن باب أولى على العرب (لا على سبيل إقصاء الآخر – الأمريكي اللاتيني أو الإفريقي أو الآسيوي- وإنما من باب انتماء منجز هذا البحث إلى الثقافة العربية الإسلامية)، يوفر عليهم الجهد والوقت لكي يكتسبوا المعارف والعلوم وينكبّوا على البحث العلمي.
كما أنه ليس من باب الصدفة أن فائدة اختصار المسافات منصوص عليها في نفس النظرية التشومسكية حيث إننا نستند من خلال هذه التطبيقة التي نحن بصدد التوسع فيها إلى واحد من الاستنتاجات التي أفرزتها أعمال تشومسكي لمّا يقول: ’’إن الكمّ (المعرفي) الذي عليك أن تعرفه في مجالٍ ما، لا يرتبط على الإطلاق بنجاح المجال. بل ربما كان الارتباط بينهما عكسيا لأن بقدر ما هنالك نجاح، بمعنى من المعاني، ما يتوجب عليك أن تعرف أقل. ما عليك إلا أن تفهم. عليك أن تفهم أكثر، ولكن ربما أن تعرف أقل’’.(5)
لو حَوصلنا الهدف من تطبيق هذه المقاربة وحوّلنا كلام تشومسكي إلى كلام ينطبق على ما نحن بصدد تخطيطه سنقول ما يلي:
أ. بصف خَطّيّة وإجمالية:
إن كان العرب يرغبون في المسك بناصية المعارف والعلوم، ليس المهم أن يطالعوا الكتب المتضمنة لهذه الأخيرة ولا أن يعربوها. لكن المهم هو أن يفهم العرب ماذا يريدون من العصر الذين يعيشون فيه. فإن تبين لهم ذلك لم يعد من المهم التفكير في اعتبار غياب الترجمة للمادة العلمية والمعرفية وانحسار المطالعة في عداد المشكلات، لأنّ وضوح الهدف سوف يذلل الشعور بهذا النقص لدى العرب وذلك باتجاه تسريح الاحتقان وفتح الباب أمام الناشئة لتعاطي الترجمة والمطالعة بصفة طبيعية، استجابة لشرط الرقي والتقدم الذي أصبح مُدرَكًا.
ب. بصفة مفصلة ومدققة:
بفضل الترجمة المباشرة للحداثة سيكون بإمكان العرب الاستفادة على الواجهات الثلاث المتصلة، التي انطلقنا منها:
أولا: الاستغناء عن الهواجس المتعلقة تباعا بالتخلف المنجرّ عن غياب الترجمة، وعن انحسار الرغبة في المطالعة والتثقيف الكُتُبي، وعن تخلف العلم و الفكر السياسيَين.
ثانيا: توفير الوقت والجهد، والأهم، خوض غمار التجربة التقدمية الوطنية على أسس صلبة والدخول إلى بيوت الحكمة والعقلانية من أبوابها.
ثالثا: حريّ بالساهرين على التعليم والتربية والبحث العلمي أن يصبح الإنتاج الكلامي للناطقين بالعربية انعكاسا – في الزمن الواقعي- للنجاح في توليد المعرفة العلمية عبر العقل العربي، لا للنجاح (أو للفشل على حدّ سواء) في ترجمة الأدب المكتوب والمتضمن للمادة المعرفية والعلمية بصفتها منتوجا لعقل الآخر.
3. العراقيل ومنافذ الخروج
أ. علاقة التعريب باللغة الأجنبية
لكن في الطريق إلى تحقيق ترجمة أصول الفكر التحديثي الغربي عبر الأداء اللغوي و بالطريقة التي شرحناه، تُطرح مشكلة نبسطها كما يلي: هل تعني الاستفادة من اللغة الأجنبية تبجيل تعلّم اللغة الأجنبية على تعلّم اللغة العربية الأُمّ؟ هل أنّ طبيعة ’’المضمون’’ اللغوي للناطق العربي سيتغيّر بمجرد انتقال هذا المتكلم العربي بين سياق استعمال اللغة العربية و سياق النطق باللغة الأجنبية (وذلك طبعا لمّا يحصل الانتقال في الاتجاهين الاثنين)؟
في محاولة لفك اللغز نبدأ بتوضيح أنّ الترجمة المباشرة للحداثة تشترط، فضلا عن التمكن من اللغة (الأجنبية) المصدر، القدرة على التعبير عن الشأن الذاتي عبر تلك اللغة حتى يسهل في مرحلة موالية مرور المضمون اللغوي من اللغة الأجنبية إلى اللغة العربية فتكون صيرورة هذه الأخيرة حداثية أي حمالة، لا للفكر السياسي السائد، ولا لمكونات مختلف الاختصاصات العلمية السائدة، وإنما للمداخل المعرفية للعلوم بأنواعها المتعددة والمختلفة. من ثمة تفتح البصائر مباشرة على المجال العلمي المعني بالاقتحام وينقدح الإبداع - التحويل والتوليد- ويقع تجنّب التقليد والاستنساخ.
نستنتج مما تقدم أنّ تطوير اللغة العربية حتى تتمكن من بلوغ مستوى الحداثة العلمية إنما هو وثيق الارتباط بسيطرة المتكلم العربي على اللغة الأجنبية. وهذا مما يفرض على أهل الذكر العناية بتعليم هذه الأخيرة لكن بطريقةٍ تضمن الربط بين هذا التعليم وتعليم اللغة العربية الأُم.
في سياقٍ متصل، إنّ الربط بين اللغة الأجنبية واللغة العربية، تعليما وتعلما وتكلما وكتابة، أمر ضروري ومفيد لكن ليس بالأمر الهيّن. أما ما يبرر صعوبة تحقيقه فيتمثل في أنّ اللغة الأجنبية تثير توجهين إيديولوجيين اثنين في المجتمع العربي: توجه تغريبي واستلابي يمثله التيار الفكري والسياسي الفرانكوفوني (في تونس)، ووجه انطوائي رجعي يمثله جانب من الإسلاميين وجانب من العروبيين والقوميين (في تونس أيضا) الذين يعتبرون تعلم اللغة الفرنسية – وربما أية لغة أجنبية أخرى- ضربا من ضروب الاستسلام للغزو الثقافي وللتبعية متعددة الأبعاد.
إننا نعتبر إجمالا أنّ أولئك وهؤلاء مخطئون في تقدير المسألة اللغوية. ويبرز سوء التقدير الذي يغذي الفرانكفونيين في أنهم متشبثون بتدريس الفرنسية كأنها لغة رسمية ثانية (ولو أنه ليس هنالك نصا رسميا في هذا الغرض) مع حرصهم على مواصلة تدريس العلوم بواسطتها إن لم نقل على تطوير التخاطب والكتابة بواسطتها.
ويبرز سوء التقدير الذي يغذي الآخرين - من إسلاميين وعروبيين وبعض أطياف اليسار– في تجسيد انطوائهم على الذات في حرصهم على تطوير اللغة العربية دون سواها، وذلك من دون حتى التفكير في الفوائد من وراء تطوير تعليم اللغات الأجنبية (خير مثال على هذا الموقف من نص الفصل 38 – النص الأولي- من الدستور التونسي والجدل الكثير الذي أثاره في مطلع السنة الجديدة 2014).(6)
بالمحصلة، لئن نعتبر أنّ البلدان العربية التي كانت مستعمَرة من طرف قوى عسكرية واقتصادية وثقافية عانت ومازالت تعاني من الغزو الثقافي عبر نشر اللغة الأجنبية فيها من طرف المستعمِر، فإننا نعترض على أن تكون هذه الحقيقة حجة على رفض تعليم اللغات الأجنبية في البلدان العربية وبالتالي نؤمن بأنّ المسالة اللغوية لا بدّ أن تغادر مجال الارتجال لتقع تحت طائلة البحث العلمي والتخطيط كي لا تبقى حجر عثرة أمام النخب العلمية - والسياسية– على طريق الاهتداء إلى الحل.
ب. في توحيد المواقف حول الانفتاح
إننا واثقون من أنّ موقف المتوجسين من اللغة الأجنبية، مثَله مَثل موقف المبهورين بها، لا يستطيع الصمود أمام موقف المنطق من المسألة:
إنّ ما يميّز الغزو الثقافي عبر اللغة – الذي نشجع على مقاومته– عن الانفتاح عبر اللغة على الثقافات الأخرى وعلى العلوم التي تسيطر عليها – وهو هدف نعمل من أجل تحقيقه- هو أنّ الغزو بواسطة اللغة بمثابة انفتاح قسري بينما الانفتاح الحقيقي يتطلب حدا أدنى من الشعور بضرورة الذود عن السيادة الوطنية والقومية وعن الثقافة التي تستبطنها وبالتالي حدا أدنى من القدرة على أخذ القرار المستقل.
على عكس أتباع التعريب الذين قد يكونون مستنكفين عن التشجيع على تطوير تعليم اللغات، ناهيك أن يروا الصلة - التي بينّاها- بين التعريب وهذا التعليم، يتبين منطقيا أنّ عامل الغزو الثقافي بواسطة اللغة وما أسفر عنه من اغتراب لدى الشعب العربي عموما وخاصة في المستعمرات القديمة لفرنسا مثل تونس، بإمكانه أن يشكل العامل الناقص الذي من شأنه أن يلبي الشرط الأساس لما أسميناه ترجمة مباشرة للحداثة.
من هذا المنظور، نرى أنّ موقف هؤلاء ’’الروافض’’ من المفترض أن يخدم هدف الانفتاح الحقيقي وذلك بانضمامهم – المأمول- عن طواعية إلى التمشي القاضي بتعلم اللغة الأجنبية، اللهم إلا إذا كانوا فعلا غير راغبين في الانفتاح.
وهنا نأتي إلى أولئك المستلبين المغالين في الانبهار بالغرب. ففي ضوء عامل الانفتاح، بوصفه مبدءا ملزِما (للفئتين)، نرى أنّ النخب المستلبة التي تمثلهم وتؤجج مشاعرهم مُطالَبةً من جهتها بتعديل موقفها باتجاه الإقرار بأهمية اللغة الأصلية (العربية) في حركة التغيير نحو الأفضل لِما يوفره هذا الرمز الثقافي الأمّ من صون لاستقلالية الذات والقرار. فمن دون استقلالية لن يكون الانفتاح سوى هروب من الذات.
بالمحصلة، على قدر ما أنّ النخب العربية المنكفئة على الذات مدعوة - تبعا لمبدأ الانفتاح- لتعديل موقفها باتجاه الإقرار بأنّ تطوير اللغة الأصلية رهنٌ بتعلم اللغة الأجنبية والسيطرة على ما تحتويه من عوامل صالحة لإثراء اللغة الأصلية (العربية)، ما أنّ النخب العربية المتفرنسة (في تونس وما شابهها) مدعوة هي الأخرى لتعديل موقفها - تبعا لنفس المبدأ- لكن باتجاه الإقرار بأنّ اللغة العربية كانت وما تزال في الأصل لغة منفتحة على كل الثقافات، وإن هي لم تبرهن على انفتاحها في الحقبة الحالية فذلك مردّه انغلاق الناطقين بها لا انغلاقٌ في تركيبتها وروحها.
ج. تحويل اللغة من أداة للغزو الثقافي إلى أداة للتأصيل
ما من شك في أنّ الشعب العربي، مثل شعوب أمريكا اللاتينية وشعوب آسيوية وإفريقية عديدة، ترغب في اللحاق بركب الحضارة و في البحث عن السبل الصحيحة لبلوغ هذه الغاية. وهي بلدان قام فيها المستعمر بصولات وجولات بفضل لغته على غرار الإسبانية والبرتغالية والهولندية والانجليزية فضلا عن الفرنسية والإيطالية (ليبيا) في شمال إفريقيا. وما من شك، في المقابل، في أنّ ’’انفتاح’’ تلكم الشعوب على ثقافة المستعمر عبر تلكم اللغات قد أضرّ بها أكثر مما نفعها. وبمجرد التفكير في الانفتاح من زاوية البحث عن منفذ للخروج من المأزق الذي تجد فيه هذه الشعوب نفسها اليوم، وبمجرد الوعي بأنّ الانفتاح المفروض فرضا هو المسيطر على المنافذ المؤدية إلى الانفتاح الطبيعي - غرّب البعض واغتصب الثقافة المحلية في نظر البعض الآخر، كما شرحنا آنفا-، فإنّ هذا الانفتاح لم يلبِّ رغبة هذه المجتمعات في اكتساب الحداثة وبلوغ التقدم. وهذا مما يستوجب التخطيط المحكم لمنوال التحرر من التخلف.
في سياق التفاعل مع المسببات التي ذكرناها إنّ المهم أن نعرفه لتبيين العلاقة بين اللغة الأجنبية والاستعمار هو لماذا أول ما يلجأ إليه المستعمر الأجنبي، فرنسيا كان أم بريطانيا أم برتغاليا أم هولنديا أم بلجيكيا أم إسبانيا أم أمريكيا هو نشر لغته في البلد المستعمَر.
إنّ المستعمر يبث، عبر بث لغته في المجتمع المستعمَر، عاداته وتقاليده ونمط عيشه وأفكاره ومواقفه، وكل ذلك لا من أجل التلاقح الحضاري والتبادل الثقافي ولكن من أجل استعباد العباد وذلك بإغوائهم وإرغامهم على أن يتبعوا مضامين اللغة الأجنبية وفي الوقت نفسه ترسيخ نموذج سياسي يخدم مصالح المستعمِر وربما فرض الهيمنة العسكرية عليه. بينما لمّا نضع نصب أعيننا أنّ تعلّم الشعب العربي للّغاتِ الأجنبية إنما المراد منه التبادل الثقافي والخبراتي في مجالات الحياة والعمل كافة، نعاين التضارب السافر بين غاية العرب من جهة وغاية المستعمر من جهة أخرى. ولمّا نعلم أنّ الاستعمار بواسطة اللغة ما زال ساري المفعول، في تونس وفي كل الوطن العربي (وفي أوطان كثيرة أخرى)، ندرك أنّ التخطيط لسياسة لغوية أضحى مسألة دفاع شرعي عن الوجود الثقافي والحضاري العربي.
فالثقافة العربية تعيش أزمة وجود هي الآن في ذروة تأثيرها على حياة العرب أفرادا ومجتمعات. بهذا المعنى، من المفترض أن تتدحرج قضية الانغلاق/ الانفتاح إلى درجة تقل أهمية على سُلم اهتماماتنا أمام قضية تخلفنا في مجال المعارف والعلوم وعدم الاستطاعة في مجال كسب حداثة عربية تكون خير محرك لاستتباب الأمان الوجودي لدى العرب وبالتالي خير محرّك للانفتاح الطبيعي والبنّاء.
د. الرهان على تعلم اللغة الأجنبية
إنّ اللغة الأجنبية متوفرة في مجتمعاتنا العربية في العصر الراهن، سواء عبر المقررات المدرسية أو في وسائل الإعلام أو في النشريات والكتب الأدبية. وهذا واقع لا يمكن أن نجانبه أو نحيد عنه أو أن نجتثه. فما المانع من أن تتبنّى تونس أو غيرها اللغة الفرنسية (أو الانجليزية أو غيرها من لغات التقدم)، طبعا ليس كما تبنته إلى حدّ اليوم - من دون منهج سوَى المنهج الذي يفتح طريق الاستعمار مجددا أمام القوى المهيمنة عالميا- وإنما طبقا لمنهج تحرري بالدرجة الأولى يُعنى بتطهير العقل من مخلفات الاستعمار الثقافي قبل أن يضطلع بمهمة تحويل الحداثة وتوليدها أي تعريبها؟
لكن هل أنّ التبنّي يعني التخاطب باللغة الفرنسية (أو غيرها من لغات الحداثة) بمضمون عربي أم التخاطب باللغة العربية بمضمون فرنسي (أوروبي، غربي، حداثي)؟ هذا هو السؤال المركزي لتأصيل الحداثة في اللغة - أي العقل وفي الواقع.
منطقيا لكي يكون التأصيل ناجحا لا بدّ أن يتمّ الانطلاق (في تحويل وتوليد القيم الحداثية) من الجذر العقلي المنتج للحداثة (اللغة الأجنبية) على أن يكون المضمون المعبّر عنه عبر اللغة العربية مضمونا حداثيا أيضا. بالمحصلة، عمليا لن يتوفر الزاد الحداثي الذي سيموّن العربية بمضمون حداثي إذا لم يكن الناطق باللغة العربية مُجيدا للغة الأجنبية.
للحسم النهائي في هذه الإشكالية نقدّر أنّ هنالك عنصر ناقص لاستكمال الخطة التحررية. لنلخص الإشكالية ثم لنواجه النقص:
- ملخص: نلاحظ من جهة أن ليس انعدام الصلة (افتراضا) بين لغتين اثنتين (أو أكثر) هو العائق أمام هذا الإنجاز. والدليل الذي يوفره العلم للتدليل على ذلك هو أنّ اللغات كافة تشترك في ما بينها في ما يعرف ﺑ’’النحو الكلي’’. كما نلاحظ من جهة أخرى أن لا خوف لا على اللغة العربية ولا على اللغة الأجنبية من فقدان أصالتها وذلك تبعا لأنّ كل لغة لها ’’نظام داخلي’’ أو ما يسمى ﺑ’’البنية العميقة’’ وأنّ كلاها حريصة على الاختلاف (شكلا) عن الأخرى لأنها تذعن لقانونها الذاتي علاوة على قبولها بالتماهي مع سائر اللغات بموجب قانون ’’النحو الكلي’’ المشترك بينها.
- الإشكالية والعنصر الناقص: هذا من الناحية الوظيفية أي من حيث الكفاءة اللغوية والكفاءة التواصلية. أما العائق فيتمثل في معرفة كيف سيتوصل الناطق باللغة العربية أن ينتج خطابا يكون حمالا لمضمون حداثي مترجم مباشرة من اللغة الأجنبية لكن متعايشا بالضرورة مع المضمون الأصلي (قيم وأحاسيس وتراث ومخيال ومفاهيم وغيرها) ويكون خطابا أيضا محافظا على الميزات المورفولوجية والمعجمية للعربية. بعبارة أخرى، يتمثل العائق في تجنب التعاطي الشكلي مع اللغتين - المصدر والهدف- سيما وأنّ المطلوب ليس فقط تلافي السقوط مجددا في التبعية اللغوية والثقافية وإنما التمكين الحداثي للغة العربية لكي تصبح لغة العلم.
هنا أصبحت أمامنا إشكالية من صنف جديد: من ناحية أولى، لكي تتزود اللغة العربية بالكفاءة التحديثية - إن جاز التعبير- على الناطقين بها أن يتقنوا اللغة الأجنبية. من ناحية ثانية، لكي تتزود اللغة العربية بالكفاءة التأصيلية - إن صحّ التعبير أيضا- على الناطقين بها أن يوجدوا الأفكار والتصورات الكفيلة بتشكيل مضمون لغوي متين يكون ضمانة لهم ضد التفسخ والاغتراب الثقافيين. من ناحية ثالثة، نلاحظ أنه لا مناص من أن يكون المضمون اللغوي لدى الناطقين بالعربية المستعملين للُغةٍ أجنبية هو نفسه مضمون اللغتين - مصدر الحداثة وهدف التأصيل- أثناء أدائهم لعملية التخاطب والكتابة. لكن - وهنا يبرز الإشكال- من أين للعرب القدرة على التزود بالكفاءة التحديثية وبالكفاءة التأصيلية، ناهيك أن يوحدوا بين الكفاءتين وأن يستجيبوا لضرورة النطق بلغتين اثنتين متوازيتين، أو أكثر، إن لم تكن قدرة مستلهمة من مصدر وحدوي وتوحيدي؟ فما هو العامل الذي من المفترض أن يسمح برفع هذا التحدي؟
اللغة عقيدة للتغيير
من المعلوم أنّ الله عز وجل هو المصدر الأصلي للتوحيد. وقد شرحنا في أكثر من حيّز سابق كيف أنّ اللغة من الوحي وأنّ الكلام سبيل إلى بلوغ التقوى شكرا للخالق على تكرمه على الإنسان بنعمة اللغة للتواصل مع بعضهم بعضا، أفرادا كانوا أم جماعات أم شعوبا أم قبائل: ’’الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ القُرْآنَ، خَلَقَ الإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ البَيَانَ’’ (الرحمن: 1- 4)؛ ’’ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا * إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ * إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ’’ (الحجرات: 13)
كما أنّ اللغة، وهي التي أثبت العلم أنّها وسيلة للتفكير فضلا عن كونها أداة تواصل واتصال، بإمكانها أن توظَّف بمثابة عقيدة للتغيير لدى المؤمنين فرديا ومجتمعيا، تغيير ما بالنفس حتى يغيّر الله ما بالقوم تبعا لقوله جل وعلا: ’’إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ’’ الرعد: 11) حيث إنّ التغيير (نحو الأفضل) من آثار التفكير (المتدبر والعقلاني).
لكن هل أنّ كل العرب بل هل أنّ كل البشر مؤمنون بالله وبالقرآن الكريم وبسنّة رسوله حتى ينصرف المؤمنون دون غيرهم إلى توظيف اللغة في مشروع التغيير نحو الأفضل واللحاق بركب الحضارة، سيما أنّ هذا المشروع مشترك ووحدوي؟ أم أنّ هنالك إمكانية لإقامة جسر معرفي بين هؤلاء وأولئك لكي يتحقق التوحد حول الوسيلة قبل توظيفها بصفة تشاركية من أجل غاية الارتقاء المشتركة؟
للإجابة نعتقد أنّ الجسر المعرفي الناقص متوفّر. وتتمثل هذه الآلية في أنّ اللغة بحدّ ذاتها، وحتى في نظر الذين لا يؤمنون بالقرآن الكريم، إنما هي نفسها أصلٌ لمجموعة من العلوم تتراوح بين الألسنيات والعلوم العقلية والإناسة وغيرها. وهذه العلوم تتدخل في استنباط الأوجه العديدة والمختلفة للّغة ولفلسفة اللغة.
بهذا المعنى تكون اللغة وسيلة بيد البشر أجمعين ليزدادوا فَهما لذواتهم ولعلاقتهم بالكون وبالمجتمع وببعضهم بعضا وليحموا بها أنفسهم وليطوروها ويجعلوا منها عامل قوة ووحدة. واللغة، بموجب قدرتها أيضا على توصيف حتى العلوم التي لا تتصل بها عضويا (رياضيات، فيزياء، علوم الحياة والأرض، وهلم جرا) فهي آلية علمية تتميز عن سائر العلوم بأنها تحمل في باطنها قدرة توحيدية عجيبة. أليست مثل هذه القدرة هي التي يحتاجها العرب اليوم؟ أليست اللغة، بواسطة عِلمها، قادرة على أن تسهل الاتحاد بين عربيّ مسلم وعربيّ مؤمن لكنه غير مسلم، وبين عربيّ مسلم لكنه غير مؤمن، بناءا على أنّ علم اللغات، مثل كل علم، ليس خاليا من الأخلاق (و’’الوحدة’’ من الأخلاق) بل ’’إنّ العلوم تزوّد فعلا بعادات الشرف والإبداع والتعاون’’(7)
الخاتمة
نخلص إلى أنّ التحدي الأكبر بشأن الترجمة المباشرة لميكانزمات التحديث والعصرنة والرقي يتمثل في تناول مسألة تطوير اللغة العربية (التعريب) على محك العلاقة بين هذه اللغة الأُمّ واللغة - أو اللغات- المستعملة في بلد عربي بعينه. وهذا مما يستوجب عدم الاستنقاص أبدا من الأهمية البالغة – المحورية– لدور اللغات الأجنبية وتعليمها.
إنّ التشديد على الدور المركزي للغات الحية في تطوير العقل واللغة العربيين وتمكينهما من صناعة حداثة عربية يعود إلى كَون اللغات الحية متمرسة، على امتداد القرون الأخيرة، على مواكبة التطور المعرفي والعلمي وبالتالي فهي تحمل آثارا دقيقة لهذه التجربة. وهذه الأخيرة ليست هبة من الغرب إلى أيّ طرفٍ كان. فبالرغم من أنها تتويج لمسيرة علمية شاركت فيها الإنسانية وبالخصوص الحضارة العربية الإسلامية إلا أنّ الغرب المتقدم لا يهب هذه التجربة لا للعرب ولا لسواهم. لكنها هي التي تهب نفسها إلى مَن يبحث عنها. إنها تهب نفسها في شكل مشهد لغوي سنكروني ثريّ يتوجب على العرب – وعلى غيرهم من الأمم التي لم تلق طريقها بعدُ إلى التقدم الأصيل- التمعن فيه وتفكيك رموزه ثم استخراج النموذج المتناسب مع ثقافتهم وتطلعاتهم وِفقا لمتطلبات العصر وتحدياته.
كما أنّنا نأمل أن يفضي هذا النموذج من الترجمة الذي نقترحه، بفضل الضمانة التي يكفلها منهج التحويل والتوليد الذي يتنفذ بواسطته، إلى توطيد العلاقة بين اللغة العربية واللغة الأجنبية في أبعاد اللغة المتعددة، المضمونية منها والمفهومية وغيرها، لكن على الأخص في البعد التواصلي أي في ما يخص التواصل مع شروط العصر الراهن.
وهذا مما يوَسّع تعامل العرب مع اللغة بصفتها آلية قادرة على تجاوز المجال اللغوي الصرف لتلعب دور المِعول الرئيس في عمليةٍ تتراوح بين مغازلة الأنظمة المعرفية والعلمية الكونية، التي هي الآن تحت سيطرة الغرب، وبين استبطانها التدريجي ومن ثمة توليد حداثة عربية منها.
ونعتقد أنّ يومَ يكون بحَوزة الناطقين بالعربية نظاما تواصليا نافذا، أي مُحكم الصلة بالعصر ومتطلباته، يومئذ يعلن فيه هؤلاء عن استكمالهم لربط أواصر التعامل العلمي مع الطبيعة (عبر المعارف والمناهج والآليات التي سيكونون قد اكتسبوها ووظفوها للغرض). ويومئذ أيضا يكون المضمون اللغوي المنجَزُ من طرفهم متأصلا في الثقافة العربية الإسلامية مع انفتاحه الطبيعي على الآخر، لا منقولا بالتقليد كما هو الحال في يومنا هذا. هكذا يتجسد شيئا فشيئا تحويل المنظومة المعرفية والعلمية من ملكية غربية إلى ملكية عربية.
بالمحصلة، وعلى صعيد الشرط الحضاري الأول، لا يجوز القول إن العرب مطالبون من هنا فصاعدا بالاستغناء عن الترجمة الكُتُبية. لكن غاية ما في الأمر أنّ المرحلة الراهنة تقتضي أن لا تُعتمَد هذه الوسائل أبدا على أنها السبيل الأوحد لأخذ المشعل عن الغرب في المجالين المعرفي والعلمي. على العكس من ذلك فإنّ المرحلة تحثّ على صقل مهارة التمييز بين ما يتوجب تعريبه من كتب علمية كونية، والانكباب على تطوير التعاطي مع المعارف والعلوم وتطوير التبادل الثقافي بما يشمله من تبادل في كافة مجالات النشاط الإنساني.
كما أنّ المرحلة الراهنة، على صعيد الشرط الثاني، لا تحجّر القيام بمساعٍ لتطوير تمرين المطالعة إلا أنها تستنكر اللجوء إلى البكاء على الموت – المؤقت- الذي أصاب هذا النشاط المفيد، وتحثّ على إذكاء الرغبة في المطالعة. وكذلك على صعيد الشرط الثالث، فإنّ المرحلة لا تجرّم العمل السياسي بواسطة الوسائل والفكر المتاح للعرب الآن بل غاية ما في الأمر أنها لا تبيح التشبث بتعاطي السياسة بمنآى عن سائر العلوم وإنما تحثّ على تحوير علم السياسة وتطوير فكرها.
بالنهاية، إنّ ارتباط داعي بلوغ التقدم اللغوي بِداعي تملّك المعارف والعلوم ونقل ملكيتها من الغرب إلى العرب من ناحية، وارتباط هاذين الهدفين الاثنين بالهدف الأكبر المتمثل في بلوغ الأمان الاجتماعي و الازدهار الاقتصادي والتقدم العلمي والتكنولوجي والرقي الحضاري، من ناحية ثانية، هو ما يشكل السياق العام الذي أسماه الراسخون في العلم ’’حياة التفكير’’(8) التي تعوز الثقافة العربية الإسلامية المعاصرة مما يجعل المنتمين إلى هذه الثقافة يتواكلون على حياة النص الديني من دون مراعاة ضرورات الاستجابة لشروطه. وبالتالي لعل ارتقاء الأداء اللغوي، بمختلف فروعه والأهداف المتصلة به، أن يسهم في صقل الشخصية الوطنية القُطرية في الوطن العربي، ومن ثمة في توحيد الشخصية العربية الإسلامية، وفي توحيد الصف عبر وحدة الكلمة.
********
المراجع:
(1) موشي ديان، وزير الحرب الإسرائيلي في السنوات الستين من القرن الماضي.
(2) (3) (4) منقول عن هشام الدركاوي في ’’النحو التوليدي التحويلي: المرجع والمفهوم’’، منشور على موقع ’’صوت العربية’’، بتاريخ 1-8-2010.
(5) ذكره كريس نايت في دراسة بعنوان ’’نعوم تشومسكي: سياسة أم علم؟’’ (باللغة الانجليزية)، نشرت على موقع ’ولت ناكست دجورنل’ وعلى موقع ’ليبكوم’ بتاريخ 12-8-2012.
http://libcom.org/history/noam-chomsky-politics-or-science
(6) ينص الفصل 38 على أنّ التعليم إلزامي إلى سن السادسة عشرة. تضمن الدولة الحق في التعليم العمومي المجاني بكامل مراحله وتسعى إلى توفير الإمكانيات الضرورية لتحقيق جودة التربية والتعليم والتكوين كما تعمل على تجذير الناشئة في هويتها العربية الإسلامية وعلى ترسيخ اللغة العربية ودعمها وتعميم استخدامها.
فبالرغم من أنّ هذا الفصل يرضي المعربين والإسلاميين إلا أنه أثار ثائرة شقا آخر: فقد وصف الأستاذ عياض بن عاشور (أستاذ القانون الدستوري ونجل الشيخ المجدد محمد الفاضل بن عاشور وحفيد العلامة المصلح الطاهر بن عاشور) هذا الفصل باﻠ’’كارثي’’ ’’ووضح أن الفصل المذكور يحمل نظرة أحادية وهو دعوة إلى الانغلاق الحضاري والثقافي، لأنه لم ينص على الانفتاح على الحضارات الأخرى ولا على اللغات. واعتبر أنّ يوم 7 جانفي (يناير) هو يوم أسود في تاريخ تونس لأنه تمت المصادقة على هذا الفصل. ’’، نشر على موقع ’’الجريدة’’ بتاريخ 7-1-2014.
http://www.aljarida.com.tn
(7) نعوم تشومسكي. المصدر رقم (5). في ما يلي النص الأصلي:
“In fact, the amount that you have to know in a field is not at all correlated with the success of the field. Maybe it’s even inversely related because the more success there is, in a sense, the less you have to know. You just have to understand; you have to understand more, but maybe know less.”.. Interview with James Peck, p. 17.
(8) العبارة للشيخ الزيتوني الطاهر الحداد. ذكره الأستاذ الصغير في ’’الزيتونة: شيوخا وتعليما في نظر الحداد’’؛ جريدة ’’المغرب’’ بتاريخ 11-4-2013 ص 8.
تمهيد
هل صحيح، كما قال بعضهم قبل عقود أنّ ’’العرب لا يقرؤون وإذا قرؤوا لا يفهمون وإذا فهموا لا يطبقون’’؟(1) لنفترض أنّ هذا الحكم صحيح، ولنرَ من خلال التطرق إلى الإشكالية التي يطرحها والتي تتمثل في العلاقة بين ’’القراءة’’ و’’الفهم’’ و’’الحداثة’’ (التطبيق الناجع والناجح) ما الذي يحول دون العرب والتقدم.
ستكون البداية بمعاينة التخلف بخصوص مسألة ’’كيف نتقدم؟’’. في هذه المعاينة تتداخل عوامل مختلفة نخص بالذكر منها التاريخ والتكوين المعرفي والتعليمي. في خطوة أولى سنكشف عن أجزاء المعاينة الثلاثة مع التلميح إلى ما ينبغي تصحيحه فيها. ثم سنحاول شرح العلاقة بين الأوجه الثلاثة التي تتشكل منها المعاينة وذلك من أجل استقرار الرأي على منهجية مناسبة لتناول المسألة ومن ثمة محاولة الإجابة عن سؤال ’’كيف يتسنى للعرب أن يجتازوا العقبة التي تنتصب أمامهم على طريق التقدم؟’’
التحديات الثلاثة
تنقسم معاينة التخلف إلى ثلاثة محاور كل واحد منها يستبطن تحديا مستقبليا. وهي على النحو التالي:
أ. عدم قدرة العرب على ترجمة المعارف و العلوم من اللغات الأوروبية
هذا مما لا يختلف حوله اثنان. لكن هل أنّ الترجمة هي الوسيلة الأوحد لاقتحام عصر الحداثة العربية؟
ب. عزوف العرب عن المطالعة
هذا أيضا مما لا ينكر صحته أحد. وهو مرتبط بضعف المنظومة التربوية والتعليمية. لكن هل أنّ تطوّر الوسائل المعرفية يتوقف على المطالعة؟
ج. نهاية التاريخ وموت السياسة عالميا
هذه عقيدة أطلقها الأمريكي فرنسيس فوكوياما منذ أوائل التسعينات من القرن الماضي عقب التحولات الديمقراطية لسنة 1989، تاريخ دمج شرق وغرب أوروبا ونهاية الحرب الباردة. إنّ هذه العقيدة عامل جديد ينضاف إلى قضية تخلف العرب. وبالتالي فإنّ التغاضي عن هذا المعطى كلما تعلق الأمر بإصلاح الفكر السياسي لدى العرب يعتبر قفزا في المجهول.
خطر الخلط بين الغاية والوسيلة
يبدو أنّ حالة الجمود الناجمة عن استشراء هذه العلل الثلاثة زادت لا فقط في حظوظ تأبيد هذه الأخيرة وإنما مع مرور الزمن ومع تراكم الفشل زادت أيضا - وهو الأخطر- في تعنّت النخب المثقفة العربية في النظر إلى هذه المسائل بأسلوب تقليدي وسطحي وساذج، فضلا عن توليدها للإحباط لدى الشباب والناشئة، من أصحاب الشهادات العليا ومن طلبة ومن تلاميذ.
لمّا نقول إنّ الأسلوب الذي تتوخاه النخب في التعاطي مع مثل هذه العلل ساذج فذلك لأنه خطّيّ أي لم يتجاوز العلاقات السببية التقليدية ولم يقتحم المجال ما بعد الحداثي الذي تعيشه فيه الإنسانية اليوم. هذا مما يعني أنّ النخب متشبثة بتصور أنّ الأشياء المفقودة (ترجمة، تعليم راق ومطالعة، سياسة فعالة وغيرها) ما زالت هي نفس المداخل إلى حل المشكلة الحضارية مثلما كان الأمر في العصر العباسي (ما يعرف ﺑ’’العصر الذهبي’’ للحضارة الإسلامية) لمّا عاشت الأمة ’’حركة الترجمة’’ الذي تمّت خلالها ترجمة علوم الطب والرياضيات والفلك والفلسفة والنقد والموسيقى من الإغريقية، والأدب من الفارسية ومن السريانية إلى العربية، ثم لاحقا ضمن ’’مدرسة طليطلة’’ بالأندلس (ق 12 م) التي عرفت حركة ترجمة من العربية إلى اللاتينية والعبرية - ثم إلى اللغات الأوروبية- وكانت أصلا في انطلاق النهضة الأوروبية.
على عكس الموقف اليائس الذي يبدو أنّ أصحابه ينتظرون توفر ظروف مماثلة لظروف العصور المجيدة السابقة نعتقد أنّ التقدم المعرفي الذي بلغته البشرية يمَكننا في هذه الحقبة من إدراك أنّ الأشياء المفقودة (وسائل مثل الترجمة والمطالعة والفكر السياسي) إنما هي كذلك لأنّ صلاحيتها انتهت فعليا. وقد انتهت هذه الأخيرة لا لأنّ المجتمع المعني بمسألة الارتقاء والتقدم لا يعرف إليها سبيلا أو لا يستطيع الارتقاء والتقدم إلا بواسطتها وإنما هي انتهت إلى حين لأنّ هنالك - افتراضا- شروط بديلة فرضها العصر. فلنحاول تقصي الأمر عسى أن نحدد ما جدّ من شروط.
لو توقفنا هنيهة عند الثلاثي ’’ترجمة (العلوم خاصة)/ مطالعة/ علم وفكر سياسي/’’ وقدّرنا الدور الذي كانت تلعبه في عملية التغيير نحو الأفضل لما وجدنا صعوبة في تصنيفها بمثابة وسائل للتغيير لا غايات بحد ذاتها. أما الغاية فهي بلوغ مرتبة عالية من الحياة الكريمة. لكن المؤسف أنّ النخب، ومن ورائهم كل المعنيين بالمعرفة، يتعاملون معها وكأنها غايات: يبكون على أطلال العصور الذهبية للترجمة، ينظمون معارض الكتاب ومهرجانات المطالعة من دون البحث عن الأسباب العميقة لتدهور هذه المهارة، و يركزون على التعددية الحزبية ظنا منهم أنها الطريق الوحيدة – الضرورية الكافية- لتطوير السياسة.
فيبدو أنّ الفاعلين العرب في المجالين الفكري والثقافي في هذا العصر لم يستوعبوا الدرس من حقيقةِ ما جرى في الماضي. الحقيقة هي أنّ المجتمعات العربية قديما لم تكن لتُفلح في تطوير حياتها، السياسية والعلمية والثقافية، بفضل وسائل نافذة مثل الترجمة والدراسة الكُتُبية والمطالعة لو لم تكن مدعومة في عملها بعامل التجربة الميدانية بوصفها وسيلة الوسائل. فالفكر التجريبي هو الذي يحدد المائز بين هذا المجتمع وذاك، هذه الثقافة وتلك، هذا العصر وذاك، وهو بالتالي الذي يحدد الحاجيات الخصوصية لمجتمع بعينه ولثقافة بعينها ترغب في تحقيق الارتقاء وذلك بالتناسب مع نواميس التطور في عصره.
نستنتج من هذا أنّ وسائل التغيير نحو الأفضل تستلزم المراجعة من مجتمع لآخر ومن ثقافة لأخرى، ناهيك من عصر لآخر. وسواء أسمينا التغيير ’’تقدما’’ أو ’’لحاقا بركب الحضارة’’ أو ’’إقلاعا حضاريا’’ أو’’نهضة’’ أو ’’نهوضا’’ أو ’’حداثة’’ أم فصّلناه لنطلق عليه اسم ’’الانتقال السياسي’’ أو ’’الانتقال الديمقراطي’’ وهلمّ جرا، فلا يتحقق من دون وسائل تلبي شروط الزمان والمكان.
لو يتم استخدام وسائل غير متسقة مع المجتمع والثقافة والعصر، قد تسطو صورة الوسائل على صورة الغاية وهي المتمثلة في التغيير نحو الأفضل فتتحوّل الوسيلة إلى غاية وتكون النتيجة تغييرا لا محالة، لكنه تغيير نحو الأسوأ. ذلك أنّ انتهاء صلاحية الوسيلة بالإضافة إلى انعدام القدرة على تحيينها سيكون مبعثا على الهوس بالوسيلة مع – بطبيعة الحال- استبعاد الغاية. وهذا الذي قد يكون حصل في ذهن نخبنا في عصر دولة الاستقلال. لقد ضيعوا الوسيلة والغاية معا بموجب الالتصاق بالوسيلة وذلك جراء انعدام الخبرة الميدانية عن طريقة تناولهم للعلاقة مع واقع متجدد كل يوم، بل كل ساعة.
إذن لقد تغيرت الظروف بحلول الخلط مكان وضوح الرؤية. فهل في ظل هذا الخلط بين الوسيلة والغاية، نأمل أن يكون لنا سياسيون متبصرون وأكاديميون نافذون ومترجمون متفوقون وفتيان وفتيات يطالعون؟ إنّ هذا الخلط قد تسبب، لدى المفكر والأكاديمي والإعلامي والسياسي، في توطيد الإهمال الذي طال المتغيرات التاريخية والثقافية وبالتالي في عدم التمكن من رصد المتطلبات الجديدة لبلوغ الغاية الموءودة، غاية النهوض والتقدم والارتقاء.
بهذا المنطق وحسب حالة التخلف التي نحن عليها في هذه الحقبة يمكن أن نخلص إلى أنّ الثقافات التابعة – في المجتمعات العربية من باب أولى- مطالبة باستبدال الوسائل لا باستبعاد الغاية كنتيجة للتشبث المرَضي بالوسيلة وخلطها بالغاية. فماذا عسى أن يمهد لترجمة العلوم و وللتحصيل الكُتبي ولتطوير علم وفكر السياسة؟ ما هي الشروط البديلة؟
الترجمة المباشرة ﻠ’’الحداثة’’
1. المنهج
من خلال دراستنا للظواهر الاجتماعية من زاوية تفاعلها مع الظاهرة اللغوية نعتقد أننا اهتدينا إلى مقاربة بديلة تبرز من خلالها الشروط البديلة لمجابهة الشواغل الثلاثة تباعا. تتمثل المقاربة في ترجمة ’’الحداثة’’ مباشرة، وبصفة تدريجية من جهة، وميدانية من جهة ثانية، بدلا عن الترجمة الكُتُبية للمعارف و للعلوم (وهذه ترجمة غير مباشرة لأنها تعنى بمحصول معرفي نهائي وجاهز للاستعمال، صادرٍ عن عقل ناطق بلغة غير العربية). ونعني بذلك تعريب ’’الحداثة’’، علما وأننا نفترض أنّ هذا الصنف من الترجمة يشكل المحور الرئيس الذي يرتكز عليه الشاغلان الاثنان الآخران – شاغل التحصيل الأدبي من خلال الكتب، وشاغل الارتقاء بالسياسة- حيث إنّ الترجمة (باتجاهيها الاثنين، ترجمة الكتب والترجمة المباشرة موضوع هذا البحث) تطال كل المجالات المعرفية ودون إقصاء، بما فيها مجالَي الأدبيات والسياسة بالإضافة إلى سائر المعارف والعلوم.
بعد أن توصّلنا إلى تجميع الشروط الثلاثة في شرط واحد (ترجمة الحداثة) و قبل التعرف على تفاصيل المقاربة، حريّ أن نميّز بين صنفين من الحداثة. أولا، الحداثة كما وردت علينا من الغرب وهي بمثابة الفلسفة النائبة عن التنوير الأوروبي الأمريكي التي تتداخل فيها عناصر كثيرة على غرار التصنيع والعلمانية والعقلانية والتي ترتبط عضويا بالرأسمالية، فلسفة وممارسة. هذا الصنف، لا يعنينا كثيرا في هذا البحث ولو أنه عامل مؤثر بقوة في الواقع العربي المعيش بكل تجلياته – فهذا أمرٌ مفروغٌ منه - لكنه يعنينا بوصفه نموذجا لا ينبغي على العرب والمسلمين أن يستنسخوه بل يتوجب عليهم أن يولّدوا نموذجهم المتأصل في ثقافتهم. بالمحصلة، ما يهمنا هو كيفية توليد النموذج الجديد أكثر من التوسع في وصف النموذج الغربي المسيطر على الإنسانية حاليا.
من هنا يأتي صنف الحداثة التي سنبحث عنها والتي نرغب في بنائها بوصفنا عربا ومسلمين في غالبيتنا. هذا الصنف، لا نملك منه في يومنا هذا أيّ شيء يُذكر، أيّ شيء ممنهج ومهيكل ووظيفي. ولعلّ اكتساب الملكات والقدرات والمهارات التي مكّنت العقل في العالم المتقدم من بلوغ درجات من الرقيّ بدءا بالتنوير ومرورا بالصورة الصناعية وغيرها من المراحل الموالية وانتهاءً إلى حقبة ما بعد الحداثة التي يمر بها العالم الآن، لعل هذه العناصر هي التي سنحتاج إليها لتحقيق حداثة عربية متأصلة وأصيلة. وهو ما سنُعنى به من خلال الأجزاء المختلفة لهذا البحث.
وفي ما يلي عرض للمقاربة:
في ضوء ما سبق نرى أنّ ترجمة الحداثة - أو تعريبها– هي ترجمة للحس الحداثي الذي بواسطته سيكون العقل العربي قادرا على إحداث سلوك اجتماعي وثقافي متميز ونافذ. هذا الصنف من الترجمة لا يتطلب أن يكون مجتمع المعرفة متملكا لفنّ الترجمة بمثابة شرط مبدئي، وإنما يتطلب ’’توليد وتحويل’’ الحداثة عبر اللغة، مع الحرص بالموازاة مع ذلك على التمكن من العلوم والمعارف عبر المسالك المتعارفة - المدرسية والجامعية والأكاديمية.
لكننا لا نعني بذلك تحويلا وتوليدا لغويا بحتا أو في داخل اللغة الواحدة، مثلما وصف هذا المبدأ المعروف وطبّقهُ مكتشفُه العلامة نعوم تشومسكي، وإنما سنُخرج المبدأ على النحو التالي:
أولا: نخرجه من الإطار اللغوي الصرف ليكون قابلا للتطبيق في مجال الشاغل المنهجي الذي نرنو إلى صياغته (ترجمة الحداثة).
ثانيا: نخرجه من إطار اللغة الواحدة لنطبقه في مجال العلاقة بين لغتين اثنتين أو أكثر من أجل تحويل وتوليد البنى والمعاني وما كل ما يصلح من معطيات تحديثية، وذلك انطلاقا من اللغة الأجنبية الحمّالة لتلكم البنى ثم ضخّها في داخل اللغة العربية الراغبة في اكتسابها لكي تتقصاها هذه الأخيرة وتطوعها لحاجيات الناطقين بها، وذلك بناءا على أنّنا نعتبر أنّ اللغة الأجنبية الحية هي المانحة (في هذا العصر) لأصول التحديث والعصرنة، وأنّ اللغة العربية هي اللغة المستفيدة منها.
إنّ الخلفية النظرية التي نرتكز عليها، والتي تشكل الفكرة التشومسكية محورها الأساس، هي الآتية:
أ. إن كانت الأداة الابستيمولوجية للنظرية التشومسكية، ألا وهي ’’النحو الكلي/ التوليد/ التحويل’’، ناجعة في تفسير الظواهر اللغوية في مستوى اللغة الواحدة – علما وأنّ ما ينطبق على اللغة الواحدة ينطبق على سائر اللغات–، لِمَ لا تكون هذه الأداة ناجعة أيضا في مستوى العلاقة بين لغتين اثنتين أو أكثر؟
ب. إن كانت الثلاثية نفسها مطبقة على اللغة، ما المانع في أن تطبّق على صورة ’’الحداثة’’ بوصفها صورة لغوية لمضمون علمي وثقافي حيّ ومعاصر؟
من هذا المنظور، إن كان ’’التوليد’’ حسب تشومسكي ’’استنباطا لمستوى لغوي من مستوى لغوي أعلى منه’’(2) فسيكون توليد الحداثة الذي نمهد له ’’استنباطا لمستوى حداثي (عربي/ كوني) من مستوى حداثي (غربي/ كوني) أعلى منه. وإن كان ’’التحويل’’ ’’عملية نقل المستوى العميق لجملة ما إلى مستواها الظاهر (...) للكشف عن المعاني الضمنية لهذه الجملة، أو هو إماطة اللثام عن البنى العميقة حتى تتكشف البنى السطحية’’(3) فسيكون تحويل الحداثة عملية نقل المستوى العميق للحداثة – وهو المستوى الذي تتمتع به البلاد المتقدمة علميا وتكنولوجيا- إلى مستواها الظاهر للكشف عن المعاني الضمنية للحداثة. وإن كان ’’دور النحو التوليدي، التحرك داخليا من العمق إلى السطح اعتمادا على القوانين المحققة لهذا التحول’’(4) فسنستعمل هذا النحو للتحرك داخليا في وسط ’’الأداء الكلامي’’ للغة الأجنبية الحمالة لمعاني الحداثة من عمق اللغة الأجنبية إلى سطحها اعتمادا على القوانين اللغوية المحققة لتحوّل المعنى من هذه اللغة إلى اللغة العربية.
2. الهدف
بكلام آخر، نعتزم تجريب تحويل وتوليد الحداثة من اللغة الأجنبية الغربية (المصدر) نحو اللغة العربية (لغة الوصول، الهدف) وذلك بهدف الارتقاء التدريجي باللغة العربية من نظام لا يعكس - سوى بصفة جزئية وغير ممنهجة - المستوى المعرفي والعقلي والذكائي للعصر الحالي إلى نظام مواكبٍ للحداثة ومنتج لها- أو، بصيغة أخرى، نهدف إلى تمكين الناطق باللغة العربية من الاستفادة من اللغة الأجنبية باتجاه كسب القدرة على بث خطاب يحتوي على مضامين ومعانٍ ومدلولات ومفاهيم ذاتية تكون معبرة عن شخصية حداثية وأصيلة في الآن ذاته.
أما الفائدة التي نرنو إلى كسبها من هذا التمشي فهي لا شيء غير اختصار المسافة الحضارية والزمن الحضاري اللذين يفصلان بين العرب والدول المتقدمة. مع العلم أنّ توقُعَنا بأنّ هذا التمشي كفيل بأن يوفّر على الإنسانية، ومن باب أولى على العرب (لا على سبيل إقصاء الآخر – الأمريكي اللاتيني أو الإفريقي أو الآسيوي- وإنما من باب انتماء منجز هذا البحث إلى الثقافة العربية الإسلامية)، يوفر عليهم الجهد والوقت لكي يكتسبوا المعارف والعلوم وينكبّوا على البحث العلمي.
كما أنه ليس من باب الصدفة أن فائدة اختصار المسافات منصوص عليها في نفس النظرية التشومسكية حيث إننا نستند من خلال هذه التطبيقة التي نحن بصدد التوسع فيها إلى واحد من الاستنتاجات التي أفرزتها أعمال تشومسكي لمّا يقول: ’’إن الكمّ (المعرفي) الذي عليك أن تعرفه في مجالٍ ما، لا يرتبط على الإطلاق بنجاح المجال. بل ربما كان الارتباط بينهما عكسيا لأن بقدر ما هنالك نجاح، بمعنى من المعاني، ما يتوجب عليك أن تعرف أقل. ما عليك إلا أن تفهم. عليك أن تفهم أكثر، ولكن ربما أن تعرف أقل’’.(5)
لو حَوصلنا الهدف من تطبيق هذه المقاربة وحوّلنا كلام تشومسكي إلى كلام ينطبق على ما نحن بصدد تخطيطه سنقول ما يلي:
أ. بصف خَطّيّة وإجمالية:
إن كان العرب يرغبون في المسك بناصية المعارف والعلوم، ليس المهم أن يطالعوا الكتب المتضمنة لهذه الأخيرة ولا أن يعربوها. لكن المهم هو أن يفهم العرب ماذا يريدون من العصر الذين يعيشون فيه. فإن تبين لهم ذلك لم يعد من المهم التفكير في اعتبار غياب الترجمة للمادة العلمية والمعرفية وانحسار المطالعة في عداد المشكلات، لأنّ وضوح الهدف سوف يذلل الشعور بهذا النقص لدى العرب وذلك باتجاه تسريح الاحتقان وفتح الباب أمام الناشئة لتعاطي الترجمة والمطالعة بصفة طبيعية، استجابة لشرط الرقي والتقدم الذي أصبح مُدرَكًا.
ب. بصفة مفصلة ومدققة:
بفضل الترجمة المباشرة للحداثة سيكون بإمكان العرب الاستفادة على الواجهات الثلاث المتصلة، التي انطلقنا منها:
أولا: الاستغناء عن الهواجس المتعلقة تباعا بالتخلف المنجرّ عن غياب الترجمة، وعن انحسار الرغبة في المطالعة والتثقيف الكُتُبي، وعن تخلف العلم و الفكر السياسيَين.
ثانيا: توفير الوقت والجهد، والأهم، خوض غمار التجربة التقدمية الوطنية على أسس صلبة والدخول إلى بيوت الحكمة والعقلانية من أبوابها.
ثالثا: حريّ بالساهرين على التعليم والتربية والبحث العلمي أن يصبح الإنتاج الكلامي للناطقين بالعربية انعكاسا – في الزمن الواقعي- للنجاح في توليد المعرفة العلمية عبر العقل العربي، لا للنجاح (أو للفشل على حدّ سواء) في ترجمة الأدب المكتوب والمتضمن للمادة المعرفية والعلمية بصفتها منتوجا لعقل الآخر.
3. العراقيل ومنافذ الخروج
أ. علاقة التعريب باللغة الأجنبية
لكن في الطريق إلى تحقيق ترجمة أصول الفكر التحديثي الغربي عبر الأداء اللغوي و بالطريقة التي شرحناه، تُطرح مشكلة نبسطها كما يلي: هل تعني الاستفادة من اللغة الأجنبية تبجيل تعلّم اللغة الأجنبية على تعلّم اللغة العربية الأُمّ؟ هل أنّ طبيعة ’’المضمون’’ اللغوي للناطق العربي سيتغيّر بمجرد انتقال هذا المتكلم العربي بين سياق استعمال اللغة العربية و سياق النطق باللغة الأجنبية (وذلك طبعا لمّا يحصل الانتقال في الاتجاهين الاثنين)؟
في محاولة لفك اللغز نبدأ بتوضيح أنّ الترجمة المباشرة للحداثة تشترط، فضلا عن التمكن من اللغة (الأجنبية) المصدر، القدرة على التعبير عن الشأن الذاتي عبر تلك اللغة حتى يسهل في مرحلة موالية مرور المضمون اللغوي من اللغة الأجنبية إلى اللغة العربية فتكون صيرورة هذه الأخيرة حداثية أي حمالة، لا للفكر السياسي السائد، ولا لمكونات مختلف الاختصاصات العلمية السائدة، وإنما للمداخل المعرفية للعلوم بأنواعها المتعددة والمختلفة. من ثمة تفتح البصائر مباشرة على المجال العلمي المعني بالاقتحام وينقدح الإبداع - التحويل والتوليد- ويقع تجنّب التقليد والاستنساخ.
نستنتج مما تقدم أنّ تطوير اللغة العربية حتى تتمكن من بلوغ مستوى الحداثة العلمية إنما هو وثيق الارتباط بسيطرة المتكلم العربي على اللغة الأجنبية. وهذا مما يفرض على أهل الذكر العناية بتعليم هذه الأخيرة لكن بطريقةٍ تضمن الربط بين هذا التعليم وتعليم اللغة العربية الأُم.
في سياقٍ متصل، إنّ الربط بين اللغة الأجنبية واللغة العربية، تعليما وتعلما وتكلما وكتابة، أمر ضروري ومفيد لكن ليس بالأمر الهيّن. أما ما يبرر صعوبة تحقيقه فيتمثل في أنّ اللغة الأجنبية تثير توجهين إيديولوجيين اثنين في المجتمع العربي: توجه تغريبي واستلابي يمثله التيار الفكري والسياسي الفرانكوفوني (في تونس)، ووجه انطوائي رجعي يمثله جانب من الإسلاميين وجانب من العروبيين والقوميين (في تونس أيضا) الذين يعتبرون تعلم اللغة الفرنسية – وربما أية لغة أجنبية أخرى- ضربا من ضروب الاستسلام للغزو الثقافي وللتبعية متعددة الأبعاد.
إننا نعتبر إجمالا أنّ أولئك وهؤلاء مخطئون في تقدير المسألة اللغوية. ويبرز سوء التقدير الذي يغذي الفرانكفونيين في أنهم متشبثون بتدريس الفرنسية كأنها لغة رسمية ثانية (ولو أنه ليس هنالك نصا رسميا في هذا الغرض) مع حرصهم على مواصلة تدريس العلوم بواسطتها إن لم نقل على تطوير التخاطب والكتابة بواسطتها.
ويبرز سوء التقدير الذي يغذي الآخرين - من إسلاميين وعروبيين وبعض أطياف اليسار– في تجسيد انطوائهم على الذات في حرصهم على تطوير اللغة العربية دون سواها، وذلك من دون حتى التفكير في الفوائد من وراء تطوير تعليم اللغات الأجنبية (خير مثال على هذا الموقف من نص الفصل 38 – النص الأولي- من الدستور التونسي والجدل الكثير الذي أثاره في مطلع السنة الجديدة 2014).(6)
بالمحصلة، لئن نعتبر أنّ البلدان العربية التي كانت مستعمَرة من طرف قوى عسكرية واقتصادية وثقافية عانت ومازالت تعاني من الغزو الثقافي عبر نشر اللغة الأجنبية فيها من طرف المستعمِر، فإننا نعترض على أن تكون هذه الحقيقة حجة على رفض تعليم اللغات الأجنبية في البلدان العربية وبالتالي نؤمن بأنّ المسالة اللغوية لا بدّ أن تغادر مجال الارتجال لتقع تحت طائلة البحث العلمي والتخطيط كي لا تبقى حجر عثرة أمام النخب العلمية - والسياسية– على طريق الاهتداء إلى الحل.
ب. في توحيد المواقف حول الانفتاح
إننا واثقون من أنّ موقف المتوجسين من اللغة الأجنبية، مثَله مَثل موقف المبهورين بها، لا يستطيع الصمود أمام موقف المنطق من المسألة:
إنّ ما يميّز الغزو الثقافي عبر اللغة – الذي نشجع على مقاومته– عن الانفتاح عبر اللغة على الثقافات الأخرى وعلى العلوم التي تسيطر عليها – وهو هدف نعمل من أجل تحقيقه- هو أنّ الغزو بواسطة اللغة بمثابة انفتاح قسري بينما الانفتاح الحقيقي يتطلب حدا أدنى من الشعور بضرورة الذود عن السيادة الوطنية والقومية وعن الثقافة التي تستبطنها وبالتالي حدا أدنى من القدرة على أخذ القرار المستقل.
على عكس أتباع التعريب الذين قد يكونون مستنكفين عن التشجيع على تطوير تعليم اللغات، ناهيك أن يروا الصلة - التي بينّاها- بين التعريب وهذا التعليم، يتبين منطقيا أنّ عامل الغزو الثقافي بواسطة اللغة وما أسفر عنه من اغتراب لدى الشعب العربي عموما وخاصة في المستعمرات القديمة لفرنسا مثل تونس، بإمكانه أن يشكل العامل الناقص الذي من شأنه أن يلبي الشرط الأساس لما أسميناه ترجمة مباشرة للحداثة.
من هذا المنظور، نرى أنّ موقف هؤلاء ’’الروافض’’ من المفترض أن يخدم هدف الانفتاح الحقيقي وذلك بانضمامهم – المأمول- عن طواعية إلى التمشي القاضي بتعلم اللغة الأجنبية، اللهم إلا إذا كانوا فعلا غير راغبين في الانفتاح.
وهنا نأتي إلى أولئك المستلبين المغالين في الانبهار بالغرب. ففي ضوء عامل الانفتاح، بوصفه مبدءا ملزِما (للفئتين)، نرى أنّ النخب المستلبة التي تمثلهم وتؤجج مشاعرهم مُطالَبةً من جهتها بتعديل موقفها باتجاه الإقرار بأهمية اللغة الأصلية (العربية) في حركة التغيير نحو الأفضل لِما يوفره هذا الرمز الثقافي الأمّ من صون لاستقلالية الذات والقرار. فمن دون استقلالية لن يكون الانفتاح سوى هروب من الذات.
بالمحصلة، على قدر ما أنّ النخب العربية المنكفئة على الذات مدعوة - تبعا لمبدأ الانفتاح- لتعديل موقفها باتجاه الإقرار بأنّ تطوير اللغة الأصلية رهنٌ بتعلم اللغة الأجنبية والسيطرة على ما تحتويه من عوامل صالحة لإثراء اللغة الأصلية (العربية)، ما أنّ النخب العربية المتفرنسة (في تونس وما شابهها) مدعوة هي الأخرى لتعديل موقفها - تبعا لنفس المبدأ- لكن باتجاه الإقرار بأنّ اللغة العربية كانت وما تزال في الأصل لغة منفتحة على كل الثقافات، وإن هي لم تبرهن على انفتاحها في الحقبة الحالية فذلك مردّه انغلاق الناطقين بها لا انغلاقٌ في تركيبتها وروحها.
ج. تحويل اللغة من أداة للغزو الثقافي إلى أداة للتأصيل
ما من شك في أنّ الشعب العربي، مثل شعوب أمريكا اللاتينية وشعوب آسيوية وإفريقية عديدة، ترغب في اللحاق بركب الحضارة و في البحث عن السبل الصحيحة لبلوغ هذه الغاية. وهي بلدان قام فيها المستعمر بصولات وجولات بفضل لغته على غرار الإسبانية والبرتغالية والهولندية والانجليزية فضلا عن الفرنسية والإيطالية (ليبيا) في شمال إفريقيا. وما من شك، في المقابل، في أنّ ’’انفتاح’’ تلكم الشعوب على ثقافة المستعمر عبر تلكم اللغات قد أضرّ بها أكثر مما نفعها. وبمجرد التفكير في الانفتاح من زاوية البحث عن منفذ للخروج من المأزق الذي تجد فيه هذه الشعوب نفسها اليوم، وبمجرد الوعي بأنّ الانفتاح المفروض فرضا هو المسيطر على المنافذ المؤدية إلى الانفتاح الطبيعي - غرّب البعض واغتصب الثقافة المحلية في نظر البعض الآخر، كما شرحنا آنفا-، فإنّ هذا الانفتاح لم يلبِّ رغبة هذه المجتمعات في اكتساب الحداثة وبلوغ التقدم. وهذا مما يستوجب التخطيط المحكم لمنوال التحرر من التخلف.
في سياق التفاعل مع المسببات التي ذكرناها إنّ المهم أن نعرفه لتبيين العلاقة بين اللغة الأجنبية والاستعمار هو لماذا أول ما يلجأ إليه المستعمر الأجنبي، فرنسيا كان أم بريطانيا أم برتغاليا أم هولنديا أم بلجيكيا أم إسبانيا أم أمريكيا هو نشر لغته في البلد المستعمَر.
إنّ المستعمر يبث، عبر بث لغته في المجتمع المستعمَر، عاداته وتقاليده ونمط عيشه وأفكاره ومواقفه، وكل ذلك لا من أجل التلاقح الحضاري والتبادل الثقافي ولكن من أجل استعباد العباد وذلك بإغوائهم وإرغامهم على أن يتبعوا مضامين اللغة الأجنبية وفي الوقت نفسه ترسيخ نموذج سياسي يخدم مصالح المستعمِر وربما فرض الهيمنة العسكرية عليه. بينما لمّا نضع نصب أعيننا أنّ تعلّم الشعب العربي للّغاتِ الأجنبية إنما المراد منه التبادل الثقافي والخبراتي في مجالات الحياة والعمل كافة، نعاين التضارب السافر بين غاية العرب من جهة وغاية المستعمر من جهة أخرى. ولمّا نعلم أنّ الاستعمار بواسطة اللغة ما زال ساري المفعول، في تونس وفي كل الوطن العربي (وفي أوطان كثيرة أخرى)، ندرك أنّ التخطيط لسياسة لغوية أضحى مسألة دفاع شرعي عن الوجود الثقافي والحضاري العربي.
فالثقافة العربية تعيش أزمة وجود هي الآن في ذروة تأثيرها على حياة العرب أفرادا ومجتمعات. بهذا المعنى، من المفترض أن تتدحرج قضية الانغلاق/ الانفتاح إلى درجة تقل أهمية على سُلم اهتماماتنا أمام قضية تخلفنا في مجال المعارف والعلوم وعدم الاستطاعة في مجال كسب حداثة عربية تكون خير محرك لاستتباب الأمان الوجودي لدى العرب وبالتالي خير محرّك للانفتاح الطبيعي والبنّاء.
د. الرهان على تعلم اللغة الأجنبية
إنّ اللغة الأجنبية متوفرة في مجتمعاتنا العربية في العصر الراهن، سواء عبر المقررات المدرسية أو في وسائل الإعلام أو في النشريات والكتب الأدبية. وهذا واقع لا يمكن أن نجانبه أو نحيد عنه أو أن نجتثه. فما المانع من أن تتبنّى تونس أو غيرها اللغة الفرنسية (أو الانجليزية أو غيرها من لغات التقدم)، طبعا ليس كما تبنته إلى حدّ اليوم - من دون منهج سوَى المنهج الذي يفتح طريق الاستعمار مجددا أمام القوى المهيمنة عالميا- وإنما طبقا لمنهج تحرري بالدرجة الأولى يُعنى بتطهير العقل من مخلفات الاستعمار الثقافي قبل أن يضطلع بمهمة تحويل الحداثة وتوليدها أي تعريبها؟
لكن هل أنّ التبنّي يعني التخاطب باللغة الفرنسية (أو غيرها من لغات الحداثة) بمضمون عربي أم التخاطب باللغة العربية بمضمون فرنسي (أوروبي، غربي، حداثي)؟ هذا هو السؤال المركزي لتأصيل الحداثة في اللغة - أي العقل وفي الواقع.
منطقيا لكي يكون التأصيل ناجحا لا بدّ أن يتمّ الانطلاق (في تحويل وتوليد القيم الحداثية) من الجذر العقلي المنتج للحداثة (اللغة الأجنبية) على أن يكون المضمون المعبّر عنه عبر اللغة العربية مضمونا حداثيا أيضا. بالمحصلة، عمليا لن يتوفر الزاد الحداثي الذي سيموّن العربية بمضمون حداثي إذا لم يكن الناطق باللغة العربية مُجيدا للغة الأجنبية.
للحسم النهائي في هذه الإشكالية نقدّر أنّ هنالك عنصر ناقص لاستكمال الخطة التحررية. لنلخص الإشكالية ثم لنواجه النقص:
- ملخص: نلاحظ من جهة أن ليس انعدام الصلة (افتراضا) بين لغتين اثنتين (أو أكثر) هو العائق أمام هذا الإنجاز. والدليل الذي يوفره العلم للتدليل على ذلك هو أنّ اللغات كافة تشترك في ما بينها في ما يعرف ﺑ’’النحو الكلي’’. كما نلاحظ من جهة أخرى أن لا خوف لا على اللغة العربية ولا على اللغة الأجنبية من فقدان أصالتها وذلك تبعا لأنّ كل لغة لها ’’نظام داخلي’’ أو ما يسمى ﺑ’’البنية العميقة’’ وأنّ كلاها حريصة على الاختلاف (شكلا) عن الأخرى لأنها تذعن لقانونها الذاتي علاوة على قبولها بالتماهي مع سائر اللغات بموجب قانون ’’النحو الكلي’’ المشترك بينها.
- الإشكالية والعنصر الناقص: هذا من الناحية الوظيفية أي من حيث الكفاءة اللغوية والكفاءة التواصلية. أما العائق فيتمثل في معرفة كيف سيتوصل الناطق باللغة العربية أن ينتج خطابا يكون حمالا لمضمون حداثي مترجم مباشرة من اللغة الأجنبية لكن متعايشا بالضرورة مع المضمون الأصلي (قيم وأحاسيس وتراث ومخيال ومفاهيم وغيرها) ويكون خطابا أيضا محافظا على الميزات المورفولوجية والمعجمية للعربية. بعبارة أخرى، يتمثل العائق في تجنب التعاطي الشكلي مع اللغتين - المصدر والهدف- سيما وأنّ المطلوب ليس فقط تلافي السقوط مجددا في التبعية اللغوية والثقافية وإنما التمكين الحداثي للغة العربية لكي تصبح لغة العلم.
هنا أصبحت أمامنا إشكالية من صنف جديد: من ناحية أولى، لكي تتزود اللغة العربية بالكفاءة التحديثية - إن جاز التعبير- على الناطقين بها أن يتقنوا اللغة الأجنبية. من ناحية ثانية، لكي تتزود اللغة العربية بالكفاءة التأصيلية - إن صحّ التعبير أيضا- على الناطقين بها أن يوجدوا الأفكار والتصورات الكفيلة بتشكيل مضمون لغوي متين يكون ضمانة لهم ضد التفسخ والاغتراب الثقافيين. من ناحية ثالثة، نلاحظ أنه لا مناص من أن يكون المضمون اللغوي لدى الناطقين بالعربية المستعملين للُغةٍ أجنبية هو نفسه مضمون اللغتين - مصدر الحداثة وهدف التأصيل- أثناء أدائهم لعملية التخاطب والكتابة. لكن - وهنا يبرز الإشكال- من أين للعرب القدرة على التزود بالكفاءة التحديثية وبالكفاءة التأصيلية، ناهيك أن يوحدوا بين الكفاءتين وأن يستجيبوا لضرورة النطق بلغتين اثنتين متوازيتين، أو أكثر، إن لم تكن قدرة مستلهمة من مصدر وحدوي وتوحيدي؟ فما هو العامل الذي من المفترض أن يسمح برفع هذا التحدي؟
اللغة عقيدة للتغيير
من المعلوم أنّ الله عز وجل هو المصدر الأصلي للتوحيد. وقد شرحنا في أكثر من حيّز سابق كيف أنّ اللغة من الوحي وأنّ الكلام سبيل إلى بلوغ التقوى شكرا للخالق على تكرمه على الإنسان بنعمة اللغة للتواصل مع بعضهم بعضا، أفرادا كانوا أم جماعات أم شعوبا أم قبائل: ’’الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ القُرْآنَ، خَلَقَ الإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ البَيَانَ’’ (الرحمن: 1- 4)؛ ’’ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا * إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ * إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ’’ (الحجرات: 13)
كما أنّ اللغة، وهي التي أثبت العلم أنّها وسيلة للتفكير فضلا عن كونها أداة تواصل واتصال، بإمكانها أن توظَّف بمثابة عقيدة للتغيير لدى المؤمنين فرديا ومجتمعيا، تغيير ما بالنفس حتى يغيّر الله ما بالقوم تبعا لقوله جل وعلا: ’’إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ’’ الرعد: 11) حيث إنّ التغيير (نحو الأفضل) من آثار التفكير (المتدبر والعقلاني).
لكن هل أنّ كل العرب بل هل أنّ كل البشر مؤمنون بالله وبالقرآن الكريم وبسنّة رسوله حتى ينصرف المؤمنون دون غيرهم إلى توظيف اللغة في مشروع التغيير نحو الأفضل واللحاق بركب الحضارة، سيما أنّ هذا المشروع مشترك ووحدوي؟ أم أنّ هنالك إمكانية لإقامة جسر معرفي بين هؤلاء وأولئك لكي يتحقق التوحد حول الوسيلة قبل توظيفها بصفة تشاركية من أجل غاية الارتقاء المشتركة؟
للإجابة نعتقد أنّ الجسر المعرفي الناقص متوفّر. وتتمثل هذه الآلية في أنّ اللغة بحدّ ذاتها، وحتى في نظر الذين لا يؤمنون بالقرآن الكريم، إنما هي نفسها أصلٌ لمجموعة من العلوم تتراوح بين الألسنيات والعلوم العقلية والإناسة وغيرها. وهذه العلوم تتدخل في استنباط الأوجه العديدة والمختلفة للّغة ولفلسفة اللغة.
بهذا المعنى تكون اللغة وسيلة بيد البشر أجمعين ليزدادوا فَهما لذواتهم ولعلاقتهم بالكون وبالمجتمع وببعضهم بعضا وليحموا بها أنفسهم وليطوروها ويجعلوا منها عامل قوة ووحدة. واللغة، بموجب قدرتها أيضا على توصيف حتى العلوم التي لا تتصل بها عضويا (رياضيات، فيزياء، علوم الحياة والأرض، وهلم جرا) فهي آلية علمية تتميز عن سائر العلوم بأنها تحمل في باطنها قدرة توحيدية عجيبة. أليست مثل هذه القدرة هي التي يحتاجها العرب اليوم؟ أليست اللغة، بواسطة عِلمها، قادرة على أن تسهل الاتحاد بين عربيّ مسلم وعربيّ مؤمن لكنه غير مسلم، وبين عربيّ مسلم لكنه غير مؤمن، بناءا على أنّ علم اللغات، مثل كل علم، ليس خاليا من الأخلاق (و’’الوحدة’’ من الأخلاق) بل ’’إنّ العلوم تزوّد فعلا بعادات الشرف والإبداع والتعاون’’(7)
الخاتمة
نخلص إلى أنّ التحدي الأكبر بشأن الترجمة المباشرة لميكانزمات التحديث والعصرنة والرقي يتمثل في تناول مسألة تطوير اللغة العربية (التعريب) على محك العلاقة بين هذه اللغة الأُمّ واللغة - أو اللغات- المستعملة في بلد عربي بعينه. وهذا مما يستوجب عدم الاستنقاص أبدا من الأهمية البالغة – المحورية– لدور اللغات الأجنبية وتعليمها.
إنّ التشديد على الدور المركزي للغات الحية في تطوير العقل واللغة العربيين وتمكينهما من صناعة حداثة عربية يعود إلى كَون اللغات الحية متمرسة، على امتداد القرون الأخيرة، على مواكبة التطور المعرفي والعلمي وبالتالي فهي تحمل آثارا دقيقة لهذه التجربة. وهذه الأخيرة ليست هبة من الغرب إلى أيّ طرفٍ كان. فبالرغم من أنها تتويج لمسيرة علمية شاركت فيها الإنسانية وبالخصوص الحضارة العربية الإسلامية إلا أنّ الغرب المتقدم لا يهب هذه التجربة لا للعرب ولا لسواهم. لكنها هي التي تهب نفسها إلى مَن يبحث عنها. إنها تهب نفسها في شكل مشهد لغوي سنكروني ثريّ يتوجب على العرب – وعلى غيرهم من الأمم التي لم تلق طريقها بعدُ إلى التقدم الأصيل- التمعن فيه وتفكيك رموزه ثم استخراج النموذج المتناسب مع ثقافتهم وتطلعاتهم وِفقا لمتطلبات العصر وتحدياته.
كما أنّنا نأمل أن يفضي هذا النموذج من الترجمة الذي نقترحه، بفضل الضمانة التي يكفلها منهج التحويل والتوليد الذي يتنفذ بواسطته، إلى توطيد العلاقة بين اللغة العربية واللغة الأجنبية في أبعاد اللغة المتعددة، المضمونية منها والمفهومية وغيرها، لكن على الأخص في البعد التواصلي أي في ما يخص التواصل مع شروط العصر الراهن.
وهذا مما يوَسّع تعامل العرب مع اللغة بصفتها آلية قادرة على تجاوز المجال اللغوي الصرف لتلعب دور المِعول الرئيس في عمليةٍ تتراوح بين مغازلة الأنظمة المعرفية والعلمية الكونية، التي هي الآن تحت سيطرة الغرب، وبين استبطانها التدريجي ومن ثمة توليد حداثة عربية منها.
ونعتقد أنّ يومَ يكون بحَوزة الناطقين بالعربية نظاما تواصليا نافذا، أي مُحكم الصلة بالعصر ومتطلباته، يومئذ يعلن فيه هؤلاء عن استكمالهم لربط أواصر التعامل العلمي مع الطبيعة (عبر المعارف والمناهج والآليات التي سيكونون قد اكتسبوها ووظفوها للغرض). ويومئذ أيضا يكون المضمون اللغوي المنجَزُ من طرفهم متأصلا في الثقافة العربية الإسلامية مع انفتاحه الطبيعي على الآخر، لا منقولا بالتقليد كما هو الحال في يومنا هذا. هكذا يتجسد شيئا فشيئا تحويل المنظومة المعرفية والعلمية من ملكية غربية إلى ملكية عربية.
بالمحصلة، وعلى صعيد الشرط الحضاري الأول، لا يجوز القول إن العرب مطالبون من هنا فصاعدا بالاستغناء عن الترجمة الكُتُبية. لكن غاية ما في الأمر أنّ المرحلة الراهنة تقتضي أن لا تُعتمَد هذه الوسائل أبدا على أنها السبيل الأوحد لأخذ المشعل عن الغرب في المجالين المعرفي والعلمي. على العكس من ذلك فإنّ المرحلة تحثّ على صقل مهارة التمييز بين ما يتوجب تعريبه من كتب علمية كونية، والانكباب على تطوير التعاطي مع المعارف والعلوم وتطوير التبادل الثقافي بما يشمله من تبادل في كافة مجالات النشاط الإنساني.
كما أنّ المرحلة الراهنة، على صعيد الشرط الثاني، لا تحجّر القيام بمساعٍ لتطوير تمرين المطالعة إلا أنها تستنكر اللجوء إلى البكاء على الموت – المؤقت- الذي أصاب هذا النشاط المفيد، وتحثّ على إذكاء الرغبة في المطالعة. وكذلك على صعيد الشرط الثالث، فإنّ المرحلة لا تجرّم العمل السياسي بواسطة الوسائل والفكر المتاح للعرب الآن بل غاية ما في الأمر أنها لا تبيح التشبث بتعاطي السياسة بمنآى عن سائر العلوم وإنما تحثّ على تحوير علم السياسة وتطوير فكرها.
بالنهاية، إنّ ارتباط داعي بلوغ التقدم اللغوي بِداعي تملّك المعارف والعلوم ونقل ملكيتها من الغرب إلى العرب من ناحية، وارتباط هاذين الهدفين الاثنين بالهدف الأكبر المتمثل في بلوغ الأمان الاجتماعي و الازدهار الاقتصادي والتقدم العلمي والتكنولوجي والرقي الحضاري، من ناحية ثانية، هو ما يشكل السياق العام الذي أسماه الراسخون في العلم ’’حياة التفكير’’(8) التي تعوز الثقافة العربية الإسلامية المعاصرة مما يجعل المنتمين إلى هذه الثقافة يتواكلون على حياة النص الديني من دون مراعاة ضرورات الاستجابة لشروطه. وبالتالي لعل ارتقاء الأداء اللغوي، بمختلف فروعه والأهداف المتصلة به، أن يسهم في صقل الشخصية الوطنية القُطرية في الوطن العربي، ومن ثمة في توحيد الشخصية العربية الإسلامية، وفي توحيد الصف عبر وحدة الكلمة.
********
المراجع:
(1) موشي ديان، وزير الحرب الإسرائيلي في السنوات الستين من القرن الماضي.
(2) (3) (4) منقول عن هشام الدركاوي في ’’النحو التوليدي التحويلي: المرجع والمفهوم’’، منشور على موقع ’’صوت العربية’’، بتاريخ 1-8-2010.
(5) ذكره كريس نايت في دراسة بعنوان ’’نعوم تشومسكي: سياسة أم علم؟’’ (باللغة الانجليزية)، نشرت على موقع ’ولت ناكست دجورنل’ وعلى موقع ’ليبكوم’ بتاريخ 12-8-2012.
http://libcom.org/history/noam-chomsky-politics-or-science
(6) ينص الفصل 38 على أنّ التعليم إلزامي إلى سن السادسة عشرة. تضمن الدولة الحق في التعليم العمومي المجاني بكامل مراحله وتسعى إلى توفير الإمكانيات الضرورية لتحقيق جودة التربية والتعليم والتكوين كما تعمل على تجذير الناشئة في هويتها العربية الإسلامية وعلى ترسيخ اللغة العربية ودعمها وتعميم استخدامها.
فبالرغم من أنّ هذا الفصل يرضي المعربين والإسلاميين إلا أنه أثار ثائرة شقا آخر: فقد وصف الأستاذ عياض بن عاشور (أستاذ القانون الدستوري ونجل الشيخ المجدد محمد الفاضل بن عاشور وحفيد العلامة المصلح الطاهر بن عاشور) هذا الفصل باﻠ’’كارثي’’ ’’ووضح أن الفصل المذكور يحمل نظرة أحادية وهو دعوة إلى الانغلاق الحضاري والثقافي، لأنه لم ينص على الانفتاح على الحضارات الأخرى ولا على اللغات. واعتبر أنّ يوم 7 جانفي (يناير) هو يوم أسود في تاريخ تونس لأنه تمت المصادقة على هذا الفصل. ’’، نشر على موقع ’’الجريدة’’ بتاريخ 7-1-2014.
http://www.aljarida.com.tn
(7) نعوم تشومسكي. المصدر رقم (5). في ما يلي النص الأصلي:
“In fact, the amount that you have to know in a field is not at all correlated with the success of the field. Maybe it’s even inversely related because the more success there is, in a sense, the less you have to know. You just have to understand; you have to understand more, but maybe know less.”.. Interview with James Peck, p. 17.
(8) العبارة للشيخ الزيتوني الطاهر الحداد. ذكره الأستاذ الصغير في ’’الزيتونة: شيوخا وتعليما في نظر الحداد’’؛ جريدة ’’المغرب’’ بتاريخ 11-4-2013 ص 8.