محمد الحمار
تنشغل تونس هذه الأيام، في إطار الحوار الوطني وموضوعه المبادرة الرباعية، بالقيام بما يُشبه بيداغوجيًّا تمرين العصف الذهني الذي من شأنه أن يساعد الأطراف المتحاورة على تفريغ ما تختزنه من مشاعر وآراء من أجل إيجاد سبل الوفاق ابتغاء الخروج بالبلاد من عنق الزجاجة.
وإذ اخترنا منهجيا أن لا نتعرض إلى نقاط المبادرة بالتفصيل وأن لا نستعرض معوقات الحوار بشأنها فذلك لأننا خيّرنا أن نصوغ تأليفا لِما نعتبره غاية قصوى يتوجب البدء في تنشيط أسبابها منذ الأيام الأولى من الحوار الوطني. ومن هذا المنظور نرى أنّ المتحاورين مطالبون بالسعي، ولو ضمنيا، إلى تحقيق الاتفاق حول أمرين اثنين على غاية من الاستعجال. الأول هو فلسفة للديمقراطية تناسب مجتمعنا، أما الثاني فهو نظام حكم ديمقراطي يتلاءم مع مجتمعنا (العلاقة بين السلطات على الأخص).
ولأنّ التوصل إلى خيار يرضي الجميع ضمن هاتين المنظومتين أمر ليس بالهيّن، فلا ضير في أن نرصد الصعوبات بهذا الخصوص. ويمكن القول في هذا الصدد إنّ فلسفة الديمقراطية من جهة تختلف من ثقافة إلى أخرى وربما من بلد إلى آخر وهي في السياق التونسي تنحصر في توجهين اثنين: من ناحية، هنالك الديمقراطية المستوردة أي تلك التي تكرس هيمنة البلدان المتقدمة عسكريا واقتصاديا علينا وذلك عبر العولمة الاقتصادية وأدوات تنفيذها الشركات الكبرى. ومن ناحية ثانية هنالك الديمقراطية الأصيلة التي من المفروض أن تتشكل بفضل حس وطني قوي ووعي ذاتي لا لُبس فيه.
كما يمكن القول من جهة أخرى إنّ هنالك نماذج عديدة من نظم الحكم التي سيسعى المجتمع السياسي إلى تدارسها واستشفاف الجيّد منها في إطار الحوار الوطني، لكن في اعتقادنا لا يهم بهذا الشأن إن كان النظام برلمانيا أو رئاسيا أو مزدوجا أو غيره بقدر ما يهم أن يكون الإنسان التونسي (ومن خلاله كل إنسان) هو مركز أي نظام يقع القبول به من طرف مختلف الفرقاء والأطياف في تونس. وتبعا لذلك يُشترط أيضا ألا يتحقق الاتساق بين نظام الحكم و فلسفة الديمقراطية من دون أن تكون الغاية الأولى منه تحرير الإنسان التونسي حتى يصبح قادرا على الإسهام بكل جدّ وجدوى في تطوير بلاده وفي تقدم الإنسانية قاطبة.
في ضوء هذا لم يعد الثنائي فلسفة الديمقراطية ونظام الحكم مسألة إجرائية فحسب وإنما يستدعي الأمرُ حوارا خصوصيا يتضمن عناية فائقة بمنهجية الحوار قبل عنايته بالخيارات المذكورة والمتراوحة بين نموذج ديمقراطي وآخر، ونظام حكم وآخر، سيما أمام رؤية الفرقاء مُكتَفين باستنساخ هذه النظم عن مجتمعات أجنبية وعن أصولها النظرية وذلك من دون بذل جهد إضافي لإطلاق عملية الدمقرطة من داخل الثقافة الخصوصية. وبالتالي فالأمر يتوجب عناية مُركزة بالآليات المسهلة للحوار حول الديمقراطية ونظام الحكم الأفضل لتونس اليوم والغد.
في ضوء ما تقدم هنالك سؤال يطرح نفسه: هل المجتمع السياسي في بلدنا واعٍ بمثل هذه الضرورة وهل أنّ سلوك الفرقاء إلى حد الآن دال على استخدامهم لمنهجية حوارية سليمة؟ إنّ الذي لفت انتباهنا في هذا الباب هو أنّ الأطراف المعنية تتناول حاليا مسألة الانتقال الديمقراطي وكأنه شكل بلا مضمون. وهذا مما أضفى الكثير من الغموض على المفاهيم الديمقراطية وكثيرا من التعثر في كيفية تطبيق المبادئ المتصلة بها. وأكبر دليل على ذلك وجود المغالبة عوضا عن الوفاق كمنطق مسيطر على سير المشاورات والمفاوضات في الأوساط السياسية إلى حدّ زمن انطلاق الحوار الوطني وعبر فعالياته الأولى.
لكن في الوقت الذي نعيب فيه على كل الأطراف وقوفها من بعضها بعضا وقفة الخصم للخصم بشأن قضية حيوية مثل الديمقراطية وتوخيها منهج المغالبة الجاهلة، كنقيض للوفاق، نُشيد بمنطق المغالبة العلمية وهي بالضرورة تلك التي تفضي إلى الوفاق.
و يتميز الصنف الأول من المغالبة بانبعاثه من رؤية ديمقراطية ’’خرفانية’’ ومصدرها الأساس هو رأس المال وثقافته ومن ثمة رغبة أصحابه، وأيضا الراغبين في اكتسابه، في السطو على التفكير الشعبي عبر فرض آراء ومواقف على الحزب الآخر ولو كانت المادة المفروضة هجينة وتدور عموما في الفلك ذي القابلية للاستعمار و للهيمنة الامبريالية. وهذا الصنف ساري المفعول، مرئي ومسموع، منذ اندلاع ’’الربيع العربي’’ في ربوعنا وتدور فعالياته على حلبة ’’حوار الصم’’ بين الأحزاب السياسية حسب قاعدة البقاء للأفضل الدروينية.
كما أنّ هذا الصنف رديء وغير مُجدٍ، لا لأنه لا يتميز بالتنافس من أجل نيل رضا الشعب، ولكن لأنّ التنافس الذي يحركه ليس مرسٍ على قاعدة صلبة ومشتركة ألا وهي قاعدة الاتفاق حول تعريف للثورة حسب السياق التونسي والعربي الذي من المفترض أنها حدثت ضمنه. والدليل على رداءة هذا الصنف من المغالبة وعلى عدم جدواه هو اندماج المكونات اليسارية مع مكونات المحافظة الرأسمالية داخل نسق تتحكم به هذه الأخيرة حيث إننا لم نسجل أي تميّز واضح للمكوّن اليساري على الخارطة السياسية مقارنة بصورة المكوّن اليميني المحافظ والمندمج ضمن السياسية العالمية المهيمنة، ناهيك أن نسجل أيّ تموقعٍ لليسار كنقيض فكري لليمين.
أما الصنف الثاني من المغالبة فمن المفترض أن يتميز، في حال وجوده، بانبثاقه عن تصور ديمقراطي مصدره الرغبة في التحرر الإنساني من الاستبداد. وهو نظريا من مشمولات الفكر والحركة اليساريتين لكنه تطبيقيا يتميز بغيابه. وبالتالي لئن كان هذا الصنف هو الأرفع فإنه للأسف ما زال عزيزا على جانب كبير من نخبنا المثقفة و سياسيينا، سيما التي تدعي اليسارية منها، إلى درجة أنّ من يحنّ إليه، ناهيك أن يدرجه في سُلم أولوياته، يعتبر كائنا بدائيا.
وليس غياب المد التحرري و لا المناضلين اليساريين هو المسؤول عن الافتقار إلى مغالبة علمية وإنما غياب التصورات لمنوال اجتماعي واقتصادي يساري تحرري منبثق عن منهجية ومضمون علميين يصنعان الفارق بين تقدمية يسارية منشودة ومحافظة يمينية مشئومة هو المسؤول عن هذا الانزلاق.
من هذا المنطلق، وطالما أنّ المسألة الدينية دائما حاضرة، حببنا أم كرهنا، سواء كان حضورها في الخطاب الشعبي أو في انعكاسه على الخطاب السياسي (وجود حزب النهضة الإسلامي كأكبر الأطراف الحاكمة)، هنالك واجب مغيّب كان من الأجدر بالنخب أن تستوعبه ثم تُولِيه العناية القصوى وتدرجه في برامجها التنفيذية ألا وهو الواجب المتمثل في ضرورة توضيب الحس الديني، فكرا ومعاملات، وذلك بتحريكه شيئا فشيئا نحو يسار السياسة.
ليس هذا ’’يسرنة’’ للإسلام حيث إنه لا ينبغي أن يكون هنالك إسلاما يساريا وإسلاما يمينيا، ولا يسارا إسلاميا لمجابهةٍ مزعومةٍ ليمين إسلامي (موجود فعلا و نعتبره نشازا) ولكنّ ما نقترحه إنما هو تقريب طبيعي (أي علمي) لليسار السياسي، فكرا وممارسة، من الإسلام. كما أنّ المقترح ليس دعوة لأسلمة اليسار (على غرار أسلمة السياسة التي نشجبها) وإنما هي دعوة مُلحة لإعادة تعريف مفاهيم التحرر والثورة حسبما يتمثله المواطن التونسي المتطلع إلى الحرية و إلى الانعتاق من كل الأنظمة الاستبدادية، بما فيها النظام الديني المتمثل بشريا في الأصولية والسلفية والإخوانية وغيرها.
في سياق متصل، بالرغم من أننا لا نؤمن بتسييس الدين ولا بأسلمة السياسة إلا أننا نؤمن أن اليسار السياسي مخطئ في أخذه الواقع الثقافي، نعني الواقع المذهبي والإيديولوجي المتناقض مع الطبيعة من جهة ومع النص الديني المصدري من جهة ثانية، وكأنه حجة على الإسلام وعلى الصورة التي من المأمول أن يكون عليها المسلمون مستقبلا. فالمطلوب من اليسار في مرحلة أولى هو تطبيعه (من ’’الطبيعة’’) في محاولة لتطهير ما تكدس لديه من ثقافة خاطئة.
لذا فبقدر تمسكنا باستبعاد فرص الاستبداد باسم الدين ما ننوه بأهمية الدين في دعم القوى اليسارية التقدمية مستقبلا. والسبب في ذلك هو أنّ الإسلام (فكرا) واليسار (فكرا) تجمعُهُما صفةُ عدم التماثل مع ما قبح من السائد والمعروف والمشهور والبائد، وهي صفة موَلدة بامتياز لعدم الاستسلام لقوى الاستبداد، مؤسساتية كانت أم بشرية. و بمقتضى هذه الرابطة المتينة بين اليسار والإسلام لن يكون من الصعب تجسيد الوفاق عبر واقعٍ متحوّل مع أنه مشوب بعلامات الاستبداد. فالعلم هو الفيصل بين فكرٍ رجعي ومغالٍ في المحافظة وآخر تقدمي قد يكون هو بدوره مغالٍ (في الحداثة).
أما الخيط الرابط و الذي من شأنه تحريك الجهد العلمي في قضية إيجاد الوفاق من عدمه فيتلخص في ضرورة توحيد القول والفعل حيث إنّ استحالة الوفاق بين الفرقاء في المحافل السياسية ناجمة إلى حدّ كبير عن حالة النفاق المتمخضة دوما عن قولٍ وفعلٍ لم تطالهما العين الرقيبة للعلم. وهل من علمٍ صالحٍ لهذا الغرض من حيث إمكانية تسهيله لاسترداد التوازن بين النظري والميداني وبين الإنشائي والفعلي غير العلم الفطري والطبيعي سيما ما يسمية نعوم تشومسكي ﺑ’’البيداغوجيا الراديكالية’’؟
بالمحصلة إنّ الأرضية المشتركة بين فكرٍ سياسي تقدمي وفكرٍ إسلامي متحرر من شأنها أن تفيد لا فقط المناضل اليساري المؤمن وإنما أيضا اليميني المؤمن الذي مازال غير مدركٍ لأهمية مراجعة ما فسد من عقائده أو مازال بصدد إنجاز ذلك، وكذلك المواطن غير المؤمن وحتى غير المسلم (وبلادنا تعجّ بكل هذه الأنماط)، لكي يشترك جميعهم في تبنّي توجهات تقدمية، تتمثل في تحيين الوازع العلمي ومن ثمة في تبديل الخطاب من سجِلّ النفاق والفرقة إلى سجِلّ الوفاق والوحدة.
*التجديد
تنشغل تونس هذه الأيام، في إطار الحوار الوطني وموضوعه المبادرة الرباعية، بالقيام بما يُشبه بيداغوجيًّا تمرين العصف الذهني الذي من شأنه أن يساعد الأطراف المتحاورة على تفريغ ما تختزنه من مشاعر وآراء من أجل إيجاد سبل الوفاق ابتغاء الخروج بالبلاد من عنق الزجاجة.
وإذ اخترنا منهجيا أن لا نتعرض إلى نقاط المبادرة بالتفصيل وأن لا نستعرض معوقات الحوار بشأنها فذلك لأننا خيّرنا أن نصوغ تأليفا لِما نعتبره غاية قصوى يتوجب البدء في تنشيط أسبابها منذ الأيام الأولى من الحوار الوطني. ومن هذا المنظور نرى أنّ المتحاورين مطالبون بالسعي، ولو ضمنيا، إلى تحقيق الاتفاق حول أمرين اثنين على غاية من الاستعجال. الأول هو فلسفة للديمقراطية تناسب مجتمعنا، أما الثاني فهو نظام حكم ديمقراطي يتلاءم مع مجتمعنا (العلاقة بين السلطات على الأخص).
ولأنّ التوصل إلى خيار يرضي الجميع ضمن هاتين المنظومتين أمر ليس بالهيّن، فلا ضير في أن نرصد الصعوبات بهذا الخصوص. ويمكن القول في هذا الصدد إنّ فلسفة الديمقراطية من جهة تختلف من ثقافة إلى أخرى وربما من بلد إلى آخر وهي في السياق التونسي تنحصر في توجهين اثنين: من ناحية، هنالك الديمقراطية المستوردة أي تلك التي تكرس هيمنة البلدان المتقدمة عسكريا واقتصاديا علينا وذلك عبر العولمة الاقتصادية وأدوات تنفيذها الشركات الكبرى. ومن ناحية ثانية هنالك الديمقراطية الأصيلة التي من المفروض أن تتشكل بفضل حس وطني قوي ووعي ذاتي لا لُبس فيه.
كما يمكن القول من جهة أخرى إنّ هنالك نماذج عديدة من نظم الحكم التي سيسعى المجتمع السياسي إلى تدارسها واستشفاف الجيّد منها في إطار الحوار الوطني، لكن في اعتقادنا لا يهم بهذا الشأن إن كان النظام برلمانيا أو رئاسيا أو مزدوجا أو غيره بقدر ما يهم أن يكون الإنسان التونسي (ومن خلاله كل إنسان) هو مركز أي نظام يقع القبول به من طرف مختلف الفرقاء والأطياف في تونس. وتبعا لذلك يُشترط أيضا ألا يتحقق الاتساق بين نظام الحكم و فلسفة الديمقراطية من دون أن تكون الغاية الأولى منه تحرير الإنسان التونسي حتى يصبح قادرا على الإسهام بكل جدّ وجدوى في تطوير بلاده وفي تقدم الإنسانية قاطبة.
في ضوء هذا لم يعد الثنائي فلسفة الديمقراطية ونظام الحكم مسألة إجرائية فحسب وإنما يستدعي الأمرُ حوارا خصوصيا يتضمن عناية فائقة بمنهجية الحوار قبل عنايته بالخيارات المذكورة والمتراوحة بين نموذج ديمقراطي وآخر، ونظام حكم وآخر، سيما أمام رؤية الفرقاء مُكتَفين باستنساخ هذه النظم عن مجتمعات أجنبية وعن أصولها النظرية وذلك من دون بذل جهد إضافي لإطلاق عملية الدمقرطة من داخل الثقافة الخصوصية. وبالتالي فالأمر يتوجب عناية مُركزة بالآليات المسهلة للحوار حول الديمقراطية ونظام الحكم الأفضل لتونس اليوم والغد.
في ضوء ما تقدم هنالك سؤال يطرح نفسه: هل المجتمع السياسي في بلدنا واعٍ بمثل هذه الضرورة وهل أنّ سلوك الفرقاء إلى حد الآن دال على استخدامهم لمنهجية حوارية سليمة؟ إنّ الذي لفت انتباهنا في هذا الباب هو أنّ الأطراف المعنية تتناول حاليا مسألة الانتقال الديمقراطي وكأنه شكل بلا مضمون. وهذا مما أضفى الكثير من الغموض على المفاهيم الديمقراطية وكثيرا من التعثر في كيفية تطبيق المبادئ المتصلة بها. وأكبر دليل على ذلك وجود المغالبة عوضا عن الوفاق كمنطق مسيطر على سير المشاورات والمفاوضات في الأوساط السياسية إلى حدّ زمن انطلاق الحوار الوطني وعبر فعالياته الأولى.
لكن في الوقت الذي نعيب فيه على كل الأطراف وقوفها من بعضها بعضا وقفة الخصم للخصم بشأن قضية حيوية مثل الديمقراطية وتوخيها منهج المغالبة الجاهلة، كنقيض للوفاق، نُشيد بمنطق المغالبة العلمية وهي بالضرورة تلك التي تفضي إلى الوفاق.
و يتميز الصنف الأول من المغالبة بانبعاثه من رؤية ديمقراطية ’’خرفانية’’ ومصدرها الأساس هو رأس المال وثقافته ومن ثمة رغبة أصحابه، وأيضا الراغبين في اكتسابه، في السطو على التفكير الشعبي عبر فرض آراء ومواقف على الحزب الآخر ولو كانت المادة المفروضة هجينة وتدور عموما في الفلك ذي القابلية للاستعمار و للهيمنة الامبريالية. وهذا الصنف ساري المفعول، مرئي ومسموع، منذ اندلاع ’’الربيع العربي’’ في ربوعنا وتدور فعالياته على حلبة ’’حوار الصم’’ بين الأحزاب السياسية حسب قاعدة البقاء للأفضل الدروينية.
كما أنّ هذا الصنف رديء وغير مُجدٍ، لا لأنه لا يتميز بالتنافس من أجل نيل رضا الشعب، ولكن لأنّ التنافس الذي يحركه ليس مرسٍ على قاعدة صلبة ومشتركة ألا وهي قاعدة الاتفاق حول تعريف للثورة حسب السياق التونسي والعربي الذي من المفترض أنها حدثت ضمنه. والدليل على رداءة هذا الصنف من المغالبة وعلى عدم جدواه هو اندماج المكونات اليسارية مع مكونات المحافظة الرأسمالية داخل نسق تتحكم به هذه الأخيرة حيث إننا لم نسجل أي تميّز واضح للمكوّن اليساري على الخارطة السياسية مقارنة بصورة المكوّن اليميني المحافظ والمندمج ضمن السياسية العالمية المهيمنة، ناهيك أن نسجل أيّ تموقعٍ لليسار كنقيض فكري لليمين.
أما الصنف الثاني من المغالبة فمن المفترض أن يتميز، في حال وجوده، بانبثاقه عن تصور ديمقراطي مصدره الرغبة في التحرر الإنساني من الاستبداد. وهو نظريا من مشمولات الفكر والحركة اليساريتين لكنه تطبيقيا يتميز بغيابه. وبالتالي لئن كان هذا الصنف هو الأرفع فإنه للأسف ما زال عزيزا على جانب كبير من نخبنا المثقفة و سياسيينا، سيما التي تدعي اليسارية منها، إلى درجة أنّ من يحنّ إليه، ناهيك أن يدرجه في سُلم أولوياته، يعتبر كائنا بدائيا.
وليس غياب المد التحرري و لا المناضلين اليساريين هو المسؤول عن الافتقار إلى مغالبة علمية وإنما غياب التصورات لمنوال اجتماعي واقتصادي يساري تحرري منبثق عن منهجية ومضمون علميين يصنعان الفارق بين تقدمية يسارية منشودة ومحافظة يمينية مشئومة هو المسؤول عن هذا الانزلاق.
من هذا المنطلق، وطالما أنّ المسألة الدينية دائما حاضرة، حببنا أم كرهنا، سواء كان حضورها في الخطاب الشعبي أو في انعكاسه على الخطاب السياسي (وجود حزب النهضة الإسلامي كأكبر الأطراف الحاكمة)، هنالك واجب مغيّب كان من الأجدر بالنخب أن تستوعبه ثم تُولِيه العناية القصوى وتدرجه في برامجها التنفيذية ألا وهو الواجب المتمثل في ضرورة توضيب الحس الديني، فكرا ومعاملات، وذلك بتحريكه شيئا فشيئا نحو يسار السياسة.
ليس هذا ’’يسرنة’’ للإسلام حيث إنه لا ينبغي أن يكون هنالك إسلاما يساريا وإسلاما يمينيا، ولا يسارا إسلاميا لمجابهةٍ مزعومةٍ ليمين إسلامي (موجود فعلا و نعتبره نشازا) ولكنّ ما نقترحه إنما هو تقريب طبيعي (أي علمي) لليسار السياسي، فكرا وممارسة، من الإسلام. كما أنّ المقترح ليس دعوة لأسلمة اليسار (على غرار أسلمة السياسة التي نشجبها) وإنما هي دعوة مُلحة لإعادة تعريف مفاهيم التحرر والثورة حسبما يتمثله المواطن التونسي المتطلع إلى الحرية و إلى الانعتاق من كل الأنظمة الاستبدادية، بما فيها النظام الديني المتمثل بشريا في الأصولية والسلفية والإخوانية وغيرها.
في سياق متصل، بالرغم من أننا لا نؤمن بتسييس الدين ولا بأسلمة السياسة إلا أننا نؤمن أن اليسار السياسي مخطئ في أخذه الواقع الثقافي، نعني الواقع المذهبي والإيديولوجي المتناقض مع الطبيعة من جهة ومع النص الديني المصدري من جهة ثانية، وكأنه حجة على الإسلام وعلى الصورة التي من المأمول أن يكون عليها المسلمون مستقبلا. فالمطلوب من اليسار في مرحلة أولى هو تطبيعه (من ’’الطبيعة’’) في محاولة لتطهير ما تكدس لديه من ثقافة خاطئة.
لذا فبقدر تمسكنا باستبعاد فرص الاستبداد باسم الدين ما ننوه بأهمية الدين في دعم القوى اليسارية التقدمية مستقبلا. والسبب في ذلك هو أنّ الإسلام (فكرا) واليسار (فكرا) تجمعُهُما صفةُ عدم التماثل مع ما قبح من السائد والمعروف والمشهور والبائد، وهي صفة موَلدة بامتياز لعدم الاستسلام لقوى الاستبداد، مؤسساتية كانت أم بشرية. و بمقتضى هذه الرابطة المتينة بين اليسار والإسلام لن يكون من الصعب تجسيد الوفاق عبر واقعٍ متحوّل مع أنه مشوب بعلامات الاستبداد. فالعلم هو الفيصل بين فكرٍ رجعي ومغالٍ في المحافظة وآخر تقدمي قد يكون هو بدوره مغالٍ (في الحداثة).
أما الخيط الرابط و الذي من شأنه تحريك الجهد العلمي في قضية إيجاد الوفاق من عدمه فيتلخص في ضرورة توحيد القول والفعل حيث إنّ استحالة الوفاق بين الفرقاء في المحافل السياسية ناجمة إلى حدّ كبير عن حالة النفاق المتمخضة دوما عن قولٍ وفعلٍ لم تطالهما العين الرقيبة للعلم. وهل من علمٍ صالحٍ لهذا الغرض من حيث إمكانية تسهيله لاسترداد التوازن بين النظري والميداني وبين الإنشائي والفعلي غير العلم الفطري والطبيعي سيما ما يسمية نعوم تشومسكي ﺑ’’البيداغوجيا الراديكالية’’؟
بالمحصلة إنّ الأرضية المشتركة بين فكرٍ سياسي تقدمي وفكرٍ إسلامي متحرر من شأنها أن تفيد لا فقط المناضل اليساري المؤمن وإنما أيضا اليميني المؤمن الذي مازال غير مدركٍ لأهمية مراجعة ما فسد من عقائده أو مازال بصدد إنجاز ذلك، وكذلك المواطن غير المؤمن وحتى غير المسلم (وبلادنا تعجّ بكل هذه الأنماط)، لكي يشترك جميعهم في تبنّي توجهات تقدمية، تتمثل في تحيين الوازع العلمي ومن ثمة في تبديل الخطاب من سجِلّ النفاق والفرقة إلى سجِلّ الوفاق والوحدة.
*التجديد