د. محمد عبد الشفيع عيسى
لا نفضل تعبير ’’الطبقة السياسية’’، ولكنا نستخدمه مجازاً في هذا المقام للدلالة على مفهوم ’’النخبة’’. فما الذي يدعونا إلى وصف النخبة في مصر بالإفلاس الفكري السياسي؟
هذه النخبة في أغلبها، وخاصة منها الإسلامية والليبرالية، وهما الأعلى صوتاً في مصر بعد ثورة 25 يناير 2011، لا تمتلك مشروعاً للمستقبل، عدا عن أفكار متناثرة لا تصلح لبناء نسيج فكري وسياسي متجانس، على الصعيدين العقائدي والتطبيقي. ونفصل ما أجملناه.
ولنبدأ بتيار ’’الإسلام السياسي’’، وبالأحرى: الحركة السياسية الإسلامية الجديدة، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس طوال السنين الثلاثين أو الأربعين الماضية، وخاصة بعد الانحسار النسبي للفكر القومي العربي عقب العدوان الإسرائيلي في يونيو/ حزيران 1967.
نذكر بهذه المناسبة أننا وإن كنا نفضل تعبير ’’الحركة السياسية الإسلامية الجديدة، إلا أننا سوف نستخدم هنا تعبير ’’الإسلام السياسي’’ لشيوعه في التداول اللغوي الراهن.
وتجدر الإشارة – فيما نرى– إلى أن العصر الحديث قد شهد حركة سياسية إسلامية واسعة، أي حركة ساعية إلى محاولة تأسيس مشروع لبناء دولة أو شبه دولة أو إعادة تأسيسها انطلاقاً من فهم معين للإسلام يقيم رابطة عضوية وثيقة بين الدين والسياسة على الصعيد الاعتقادي والفقهي والتطبيقي. ونميل إلى تقسيم الحركة السياسية الإسلامية في العصر الحديث إلى قسمين: الحركة السياسية الإسلامية القديمة، والحركة السياسية الإسلامية (الجديدة). فأما الحركة السياسية الإسلامية القديمة، فنقصد بها حركات ثلاثة قامت في عدد من البلدان العربية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وكان لكل منها ’’مشروع دولة’’ أو ’’شبه دولة’’، وبالأحرى ’’مشروع كيان سياسي’’. ونقصد هنا من جهة أولى، الحركة الوهابية في ’’شبه الجزيرة العربية’’ بالتحالف مع محمد ابن سعود أمير منطقة ’’الدرعية’’، وقد قدم محمد بن عبد الوهاب نوعاً من التجديد في النسيج التقليدي المتوارث للفكر الإسلامي، انطلاقاً من تراث الفقه الإسلامي لدى ’’ابن حنبل– ابن تيمية’’.
ومن جهة ثانية، هناك ’’الحركة السنوسية’’ في ليبيا، وخاصة المنطقة الشرقية، وقد عملت على ’’التجديد’’ في زمانها، انطلاقاً من ’’الزوايا الصوفية’’.
وأخيراً، ’’الحركة المهدية’’ في السودان، والتي تبلورت كتيار فكري وسياسي من خلال مقاومة الاحتلال البريطاني لهذا البلد العربي في ثمانينات القرن التاسع عشر، وأصبحت من ثم علماً على تكوين فرعي رئيسي داخل المجتمع السوداني، أطلق عليه ’’الطائفة المهدية’’، والتي صارت مناظراً لما يطلق عليه ’’طائفة الختمية’’، وما يزال لهما حضورهما القويّ على الصعيد الاجتماعي والثقافي، والسياسي أيضا، في السودان الشقيق.
وكدنا نضع جمال الدين الأفغاني ضمن الإطار التاريخي للحركة السياسية الإسلامية الجديدة، بدعوته إلى الجامعة الإسلامية في ثماننيات القرن التاسع عشر، باعتبارها محاولة لتجديد كيان الدولة العثمانية على أساس الرابطة الإسلامية الجامعة، إلا أنه من الأوفق اعتبار هذه المحاولة بادرة تاريخية مبادِرة على صعيد تجديد الفكر الإسلامي الحديث.
ولكن الانطلاقة العملية للحركة السياسية الإسلامية الجديدة في العصر الحديث بدأت بتأسيس ’’جماعة الإخوان المسلمين’’ عام 1928 بمدينة الإسماعيلية – مهد ’’معسكرات الإنجليز’’ – قائمة على الربط الوثيق بين الدين والسياسة في أبعادها الوطنية والاجتماعية العامة – بدءً من مقاومة الاحتلال البريطاني والمشاركة في حرب فلسطين 1948 وفي أعمال الفدائيين على قناة السويس عام 1951 وصولاً إلى الطموح السياسي للسعي إلى المشاركة بالغلبة في بنية السلطة عقب ثورة 23 يوليو 1952.
بيْد أن جماعة الإخوان المسلمين لم تنتج فكراً يتكافأ مع االوزن المنسبي الثقيل في ’’السياسة العملية’’.. بل إنه يمكن القول إن ’’الفكر الإسلامي الحديث’’ في معناه العريض قد تطور خارج الإسلام السياسي كله، منذ نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر بدءً من الشيخ حسن العطار ثم رفاعة رافع الطهطاوي في كتابه (نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز) وجزء منه (الدولة الإسلامية – نظامها وعمالاتها) وانتهاء بمدرسة جمال الدين الإفغاني (وتلميذه محمد عبده) في سبعينات وثمانينات القرن التاسع عشر، وعبد الرحمن الكواكبي صاحب (أم القرى) و(طبائع الاستبداد)، ثم الإمام محمد عبده مرة أخرى عند توّلى موقع الإفتاء في مصر في مطلع القرن العشرين، ومحمد رشيد رضا الذي بدأ موالياً لفكر (الإمام) ثم تحول بعد زوال الخلافة العثمانية إلى نصير للربط العضوي بين الدين والسياسة من خلال مفهوم ’’الخلافة’’، وفقاً لكتابه الصادر بهذا العنوان عام 1922. وأعدّ عبد الرازق السنهوري من بعد ذلك أطروحته للدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة ليون في فرنسا حول (فقه الخلافة وتطورها لتكون عصبة أمم شرقية) عام 1926.
هذا، ولقد تمت كتب (الإسلاميات) جميعاً من خارج تيار الإسلام السياسي المتمثل في ’’الإخوان المسلمين’’، ولا نذكر الإسلام وأصول الحكم) لعلي عبد الرازق الصادر عام 1925، ولكنا نعني كتب الأربعينات والخمسينات لكل من مصطفى عبد الرازق وأحمد أمين وعباس العقاد وطه حسين ومحمد حسنين هيكل وخالد محمد خالد. بل وما لنا لا نذكر أعمال وكتابات بعض ’’المنشقين’’ عن ’’الإخوان المسلمين’’ - من الخمسينات إلى الثمانينات من القرن المنصرم - وخاصة الشيخ أحمد حسن الباقوري ثم محمد الغزالي والدكتور أحمد كمال أبو المجد والدكت - ور عبد العزيز كامل والشيخ يوسف القرضاوي، بالإضافة إلى د. محمد البهي، والشيخ محمود شلتوت والشيخ محمد أبو زهرة، بل و(عيسى عبده) وغيرهم كثير، دون أن ننسى كتاباً محدثين من طراز المستشار طارق البشري. أما في داخل ’’الإسلام السياسي المصري’’ وخاصة ’’الإخوان المسلمين’’ فلم يكن ثمة إنتاج فكري واضح، سوى لمحات متنوعة بادئة من أعمال عبد القادر عودة حول (التشريع الجنائي الإسلامي)، ومنتهية بالتفسير الذي قدمه سيد قطب (في ظلال القرآن) ثم الكتيب المثير للجدل (معالم في الطريق) والمأخوذة أفكاره في مجملها من أعمال أبو الأعلى المودوي وخاصة فيما يتعلق بفكرة ’’الحاكمية’’ و’’الأمة الإسلامية وقضية القومية’’.
خارج تيار ’’الإسلام السياسي’’ أيضاً، وخارج مصر، كانت هناك أعمال في البداية ضمن الفكر الإسلامي (الهندي – الباكستاني) لكل من محمد اقبال وأبو الحسن الندوى، كما انبثق شلال عظيم الشأن للفكر الإسلامي المعاصر في الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين ومطالع القرن الحادي والعشرين على أيدي المفكرين المغاربة بالذات، وخاصة في المغرب (الأقصى) حيث عبد الله العروي، صاحب الإسهام المبكر نسبيا في ’’الإيديولوجية العربية المعاصرة’’، ثم محمد عابد الجابري مع زملائه الكُثر بجامعة الملك محمد الخامس وجامعات المغرب الأخرى، وخاصة د. علي أومليل، ومحمد وقيدي، وسالم يفوت، وسعيد بن سعيد، وعبد الإله بلقزيز، ومصطفى حنفي، وكمال عبد اللطيف، وصولاً إلى جيل الشباب مثل محمد الشيخ. ومن الجزائر محمد أركون (مع التقدير البالغ للرائد الكبير مالك ابن نبي). ومن تونس: أعمال تبدأ من هشام جعيط وتصل إلى عبد المجيد الشرفي. ونشير إلى محمد فهمي جدعان من الأردن، ومؤرخ الفلسفة الكبير حسين مروة من لبنان، وكذا أعمال في التاريخ العربي والإسلامي العام لعبد العزيز الدوري وعلي الورديمن العراق.
ولا ننسى من مصر كلا من د. حسن حنفي و محمد عمارة (في مراحله الفكرية الأولى) ود. محمود اسماعيل.
وإذن فقد بنى (الهرم الأكبر) للفكر الإسلامي المعاصر، من خارج تيار الإسلام السياسي وجماعة الإخوان المسلمين ونظرائها في العالم الإسلامي الكبير، ولولا كتابات لأبي الأعلى الموردي وسيد قطب وشذرات لحسن الترابي في وقت سابق، لقلنا إن ذلك التيار لم ينتج فكراً ذا بال أصلاً. بيد أنه، من ناحية أخرى، ازدهرت بعض أجنحة المدارس (السلفية) في اجتهادها ’’الجهادي’’ المنشق أصلاً عن ’’الإخوان المسلمين’’ في إطارها العريض منذ آخر الستينات، فالسبعينات وحتى الآن، بدءً من الجماعة المسماة (التكفير والهجرة) في مطلع السبعينات بمصر، ثم كل من جماعة ’’الجهاد’’ و’’الجماعة الإسلامية’’ في (الجامعات) المصرية من السبعينات والثمانينات إلى التسعينات من القرن المنصرم. ولقد أبدع التيار الجهادي في الفكر مرتين: المرة الأولى بالتنظير للعنف والعنف المسلح في مواجهة الحكومات القائمة بالعالم الإسلامي، وخاصة في المنطقة العربية، والذي وصل إلى ذروته باغتيال بعض رموز الحكم في مصر بالذات، من وزير الأوقاف محمد الذهبي مروراً بالرئيس السادات وانتهاءً برئيس مجلس الشعب (رفعت المحجوب) بالإضافة إلى اغتيال أو التهديد باغتيال رموز فكرية وسياسية متنوعة. والمرة الثانية التي وقع ولمع فيها الازدهار الفكري للتيار الجهادي ذى الجذر السلفي العام، والمنشق سياسياً عن فكر ’’الإخوان’’، تحققت بمناسبة ما سمى بفكر (المراجعات) لكل من ’’تنظيم الجهاد’’ و’’الجماعة الإسلامية’’ من داخل السجون المصرية في أواخر التسعينات، ومطالع القرن الجديد.
عدا عن ذلك، فلم ينتج تيار الإسلام السياسي (الرسمي) وخاصة (الإخوان المسلمون) فكراً إسلامياً ذا شأن أو شأو، كما أشرنا، إذ ظل يقتات على ما تبقى من فكر الأستاذ سيد قطب ومن قبله: وصايا الإمام حسن البنا. وفي قلب هذا الفراغ الفكري الكبير والذي لم يقتصر على مسائل السياسة والاقتصاد والاجتماع، وإنما امتد إلى مجال الفكر الاعتقادي، و إلى مجال الفقه وأصول الفقه، وكلاهما الساحة ’’الأثيرة’’ للفكر الإسلامي (التقليدي) بوجه عام. وهنا ظهرت الاتجاهات السلفية لتسد الفراغ العميق وتملأ الفضاء الفسيح، فاعتلى أعلامها منابر المساجد، وبرزوا في المحافل الفكرية (الدعوية) بل وتقدموا ليقدموا الزاد الفكري الضروري من الاجتهادات الاعتقادية والفقهية لشباب (الإخوان المسلمين) أنفسهم.
وكان الظهور السياسي ’’للسلفيين’’ في مصر عقب ثورة 25 يناير 2011 هو الحدث الأهم في تاريخ التيار السلفي ضمن التيار العريض للإسلام السياسي في مصر، وإن انشّق عنه تيار جهادي يؤمن بالعنف والعنف المسلح طريقاً لتحقيق الهدف السياسي المتمثل في استبدال الحكومات وفق منهج (الحاكمية) تذرعاً بالمفهوم (القطبي الأثير) حول (جاهلية القرن العشرين) وما يتبعه بالضرورة من (التكفير).
وربما نستمد الدليل على ما نقول حول عقم (الإخوان المسلمين) فكرياً في المرحلة الراهنة، من غياب ’’الموقف’’ في القضايا الكبرى ذات الأهمية، سواء على المستوى الاستراتيجي أو المستوى ’’التكتيكي’’ على النحو التالي:
1- على المستوى ’’الاستراتيجى’’ إذا صحّ هذا التعبير، وبرغم رفع شعار ’’الإسلام هو الحل’’، فإنه لم يتحدد موقف تيار ’’الإسلام السياسي’’ عموماً، و’’الإخوان المسلمين’’ خصوصاً، من المسائل ذات طابع الإلحاح العقائدي والتطبيقي، ومنها:
أ- مراجعة الموقف من ’’الشرعية’’، ومتى يحل الخروج على ’’الحاكم’’ وعلى ’’الإمام’’، ويرتبط بذلك: ما حدود الطاعة؟ ومتى يمكن أو يجب التحلل من ’’البيعة’’؟
ب- مراجعة فقه ’’الشريعة’’، وخاصة من زاوية أصول الفقه بالتركيز على موقع ’’الاجتهاد’’. ويرتبط بذلك موضوع ’’الأحكام الشرعية’’ وما الظروف الواجب أخذها في الاعتبار، من حيث الضرورة ومن حيث النطاق.
ج- مراجعة نظرية الدولة في الإسلام، وخاصة فيما يتعلق بالخلافة أو الإمارة، وهل هي من تمام الدين؟ وما اشتراطات الحاكم في الإسلام؟
2- على المستوى اللحظي أو التكتيكي – إذا صّح التعبير– فإن هناك قضايا ذات إلحاح عملي قوى في الوقت الراهن، ولم يقدم (الإخوان المسلمون) بالذات موقفاً سياسياً، ودع عنك اتخاذ موقف فكري أصيل، تجاه بعض هذه القضايا ومن أهمها:
أ- قضايا مرتبطة بالدستور المصري، وقد ثارت بمناسبة إعداد الدستور (المعطل) لعام 2012 ثم عند إعداد الدستور الجديد بعد 30 يونيو 2013، وفي مقدمتها طبيعة الدولة، وهل هي مدنية، أم مدنية بمرجعية إسلامية، أم هي دينية عامة، وإلى أي مدى، وما العلاقة إذن بين الدين والدولة بما فيه من اتصال وانفصال – حسب تعبير ابن رشد؟ ولم نجد بمناسبة هذه القضية سوى عبارات عامة لا تقدم تأصيلاً فكرياً للموقف الذي بدا أنه مهمين على التوجه العام لجماعة ’’الإخوان المسلمين’’ (دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية).
ب- الموقف من المادة رقم (219) في الدستور (المعطل) والمعروفة بالمادة المفّسرة للمادة الثانية من الدستور، وخاصة حول عبارة (.. مصادر الفقه المعتبرة في مذاهب ’’أهل السنّة والجماعة’’)، وبصفة أخص ما يتعلق من ذلك بالتفارق السنّي- الشيعى.
ج- الموقف من ’’العنف المسلح’’ المنتشر في كثير من ربوع البلاد، انطلاقا من سيناء، باسم ’’الجهاد’’، وربما تحت رايات ما يسمى بالسلفية الجهادية. وماذا يعني الجهاد ومتى يحل أو يكون حراما؟
د- يتصل بما سبق، العقم الفكري، إذا صح التعبير، والذي بدت عليه جماعة ’’الإخوان المسلمين’’ أثناء فترة الحكم (30-6-2012، 30-6-2013) سواء فيما يتعلق بموضوع المشاركة الشعبية في السلطة في مواجهة النزوع إلى ’’احتكار السلطة’’ من قبل ’’الجماعة’’، أو ما يتعلق بالمجال الاقتصادي والاجتماعي، وما يتصل به من الموقف الاعتقادي والتطبيقي إزاء الموقف من (المرأة)، وأدوارها المحددة في السياسة والمجتمع، بدءً من (الولايات العظمى) وانتهاءً بالعلاقات الأسرية. وقد بدت المحصلة الختامية للعقم الفكري لجماعة ’’الإخوان المسلمين’’ بالذات خلال فترة الحكم، من خلال غياب ’’مشروع للتقدم’’ اقتصاديا واجتماعيا، على قاعدة سياسية ثقافية راسخة، سوى ما ورد في البرنامج الانتخابي ﻟ’’حزب الحرية والعدالة’’ في الانتخابات البرلمانية لعام 2012، وما جاء فيما سمى ﺑ’’مشروع النهضة’’، وكلاهما لا يتضمن مشروعاً حضارياً متكاملا بالمعنى الذي تفرضه تحديات الواقع، وضرورات المستقبل.
مما سبق، يمكن التوصل إلى اثبات الفرضية التي سقناها في بداية المقال حول إفلاس النخبة السياسية المصرية ممثلة هنا في تيار ’’الإسلام السياسي’’ عامة، و’’جماعة الإخوان المسلمين’’ خاصة، بمعنى عدم توفر مشروع محدد لبناء المستقبل.
ولقد فصّلنا في هذا الجانب نظراً لعظم مسئولية ’’التيار’’ و’’الجماعة’’ المذكورة، بوصفها الأكثر تنظيماً بين القوى السياسية في مصر، ولكونها تولّت مسئولية الحكم منفردةً أو شبه منفردة خلال عام كامل، مما يجعل من الممكن تقييم التجربة بقدر من الموضوعية وعلى أساس تجريبي، وهو ما يدعو إلى ضرورة القيام بجهد بالغ الضخامة لمراجعة ما فات، والنقد الذاتي العميق، والتأسيس للمساهمة في تجديد الفكر الإسلامي بصورة حقيقية خلال الفترة القادمة.
ولكن ماذا عن التيارات الأخرى؟ فلنشر بإيجاز إلى ذلك، على النحو التالي:
أولا: التيار (الليبرالي) أو الموسوم بذلك. وعدا عن ’’الفقر النظري’’ المميز للفكر (الليبرالي) على المستوى التاريخي والدولي، بالمقارنة مع الفكر الاشتراكي والماركسي على سبيل التحديد، فإن ذلك التيار أكثر فقراً على المستوى العربي عامة، بما في ذلك مصر.
ولا نستطيع القول بأن هناك فكرا متبلوراً تماماً على المستويين النظري والعملي لما يمكن أن يطلق عليه (التيار الليبرالي العربي أو المصري)، وإنما يمكن القول بوجود ميل أو نزوع Tendency باتجاه ما نستطيع التعبير عنه ﺑ(روح الليبرالية) التي يمكن مقاربتها من خلال (روح الحرية الفردية). ولقد كان هذا النزوع من أكبر المحركات للاحتجاجات الشعبية المواكبة لثورة 25 يناير 2011، انطلاقا من مواجهة (احتكار السلطة) في بنية النظام السياسي (المباركي)، وخاصة بفعل تغّول المؤسسة الأمنية في العلاقة مع المواطنين الآمنين ذوي ’’الحق الطبيعي’’ في الكرامة الإنسانية، وعلى قاعدة من المساواة القانونية بين الناس، والعدالة في توزيع الفرص، وفي مقدمتها فرص التشغيل وكسب الدخول.
ويمكن القول إن ذلك النزوع إلى تأكيد ’’الحريات الفردية’’ قد تم التعبير عنه في مجال الحركة السياسية بعد ثورة 25 يناير، عبر الممارسات المتنوعة لشرائح عريضة من الشباب، متمثلة بصفة خاصة فيما يلى: -
1- المواجهة التكتيكية للمؤسسات الأمنية والعسكرية، من خلال التظاهر وأعمال الاحتجاج الموجهة إلى الرموز الكبرى للنظام السابق على الثورة فيما أطلق عليه البعض (الدولة العميقة)، وفي مقدمتها مقّرات الحزب الحاكم، و وزارة الداخلية، ومبنى ماسبيرو للإذاعة والتليفزيون (حيث قوة الإعلام الحكومي)، ومبنى مجلس الوزراء (المطل على شارع ’’القصر العيني’’)، ولا يستثنى مبنى ’’وزارة الدفاع’’.
2- حرية التعبير بالكلمة وبالرسم (الجرافيتي) وبالنقش والكتابة على الحوائط والجدران، وغير ذلك.
3- تأكيد حق ’’التظاهر’’ و’’الاعتصام’’ و’’الإضراب’’ كأسلحة فعالة في مواجهة انتهاكات السلطة القائمة أيا كانت.
4- في المجال الاقتصادي: الدعوة إلى ما يسمى (الاقتصاد الحر) ممثلاً في الاعتماد على قوى السوق – قوى العرض والطلب– كآلية لتشغيل النظام الاقتصادي وإطلاق حرية الحركة للقطاع الخاص كمحرك رئيسي لعملية النموّ.
... تلك أهم الأبعاد التي يمكن استنباطها حول ’’النزعة الليبرالية’’ في ساحة السياسة المصرية بعد ثورة يناير، وخاصة بين الشباب؛ وبرغم أهميتها فإنها لا تكفي لتشكيل لَبِنات مشروع حضاري مستقبلى حقيقى، وبعضها لا يمثل أكثر من ’’وهم’’ في ميزان العلم، وهذه حال دعوى (الاقتصاد الحر) غير القادرة على تشكيل رافعة للبناء التنموى بالمعايير العالمية، في غيبة عن الوظيفة التنموية للدولة، والدور المحوري للمنهجية التخطيطية.
ثانيا اليسار المصري: في مقابل ما يمكن أن يطلق عليه ’’اليمين الديني والليبرالي’’، يشير تعبير ’’اليسار’’ إلى القوى الاجتماعية الساعية إلى التغيير الجذرى للواقع الراهن بهياكله الاقتصادية والاجتماعية، وبناه السياسية والثقافية، سعياً إلى بناء مستقبل أفضل.
ويمكن القول إن اليسار يضم ثلاثة تيارات فرعية: أولها التيار الاشتراكي الخالص، إذا صّح هذا التعبير، متمثلاً، من الناحية السياسية المباشرة، في حزب ’’التجمع الوطنى التقدمى الوحدوى’’ وما انبثق عنه من تشكيلات سياسية يتصدرها في الوقت الراهن ’’التحالف الشعبي الاشتراكي’’ و’’الحزب الاشتراكي المصري’’، بالإضافة إلى فصائل متنوعة تتفاوت انتماءاتها الإيديولوجية في الإطار العام للفكر الاشتراكي.
أما التيار الفرعي الثاني فهو التيار الناصري، سواء منه الشق المجّسد تنظيمياً من خلال أبنية حزبية (وخاصة ’’الحزب العربي الاشتراكي الناصري ’’و ’’حزب الكرامة’’) أو شبه حزبية (وخاصة المؤتمر الناصري العام)، والشق غير المجّسد تنظيمياً عبر قواعد جماهيرية راسخة في الريف والحضر، وإن تمت محاولات لمقاربتها مؤخراً عبر ما يسمى ’’التيار الشعبي’’. ومن حول التيار الناصري، رافد أصغر حجماً وأقل تأثيراً من الناحية العملية، برغم امتلاكه للعمق الفكري، رافد قومي عربي يقاسم التيار الناصرى ثوابته العروبية ويقينه بالدور التاريخي للزعيم الخالد جمال عبد الناصر. ومن حول التيار الاشتراكي الخالص والتيار الناصري والقومي، يتخلق نزوع وطني – قومي تقدمي، يصعب تلمسه تجريبياً ولكن له حضور قوي، صراحةً أو ضمناً، على ساحة السياسة والثقافة المصرية، وخاصة في أوساط الجماعة الأكاديمية في العلوم الاجتماعية من الاقتصاد إلى السياسة وعلم الاجتماع، وفي الإنسانيات من الفلسفة والأدب.
ويمكن القول إن اليسار المصري في الشق الاشتراكي الخالص قد برهن على أنه أكثر التيارات قدرة على بناء مشروع فكري متماسك، من حول الفكرة الاشتراكية القائمة على مفهوم التنمية الشاملة وعلى المنهجية التخطيطية. وقد استطاع الشق الاشتراكي الخالص من اليسار المصري بالمشاركة مع ممثلى النزوع الوطني – القومي التقدمي والفكر الناصري أن ينجز أعمالاً فكرية رائدة في مجال بحث المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لمصر، وتقديم حلول مفصلة لها، لم يلتفت إليها صانعو القرار خلال الأربعين عاماً السابقة على ثورة 25 يناير في ظل حقبة (السادات– مبارك). وأوضح الأمثلة على ما نقول: الأعمال الفكرية الكبرى التي أنتجها ’’المؤتمر العلمي السنوي للاقتصاديين المصريين’’ في رحاب الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والإحصاء والتشريع، منذ أواخر السبعينات إلى مطلع التسعينات من القرن المنصرم، تحت رعاية إعلام كبار يتقدمهم محمد زكي شافعي وإسماعيل صبري عبد الله، وبمساعدة رعيل تال بالغ الكفاءة والإخلاص من طراز ’’رمزي زكي’’.
ولا يفوتنا أن نشير إلى الجهد الأكاديمي المثابر لبعض المؤسسات البحثية المصرية في المجال الاقتصادي والاجتماعي، وخاصة ’’معهد التخطيط القومي’’ و’’المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية’’ ومؤسسات أصغر حجماً وذات تأثير كبير مثل ’’مركز البحوث العربية’’ بقيادة الأستاذ حلمي شعراوي. أما في مجال العلوم الأساسية والتطبيقية، فهناك ’’المركز القومي للبحوث’’ والمعاهد المتخصصة المرتبطة بأكاديمية البحث العلمي، ولا ننسى ’’مركز البحوث الزراعية’’، وجميعها برهنت على طابعها الوطني العام، وارتباطها بالقضايا الأساسية للتطور العلمي والتكنولوجي في مصر. وعموماً، فقد استطاع اليسار المصري في إطاره العريض، يسانده جمهور أكاديمي أوسع نطاقاً، أن يقدم ما يمكن اعتباره ’’قماشة’’، تصلح أن تكون أساساً لصياغة مشروع حضاري مستقبلي كامل الأركان لمصر بخاصة، والوطن العربي بعامة.
غير أن كل هذا لا يعفي اليسار المصري من النقص الذي ظهر لدى ’’التيار الاشتراكي الخالص’’ من خلال الإخفاق في ربط الفكر الاشتراكي بالواقع المجتمعي ربطاً وثيقاً، في الأرياف والحواضر المصرية المختلفة؛ وظهر مثل ذلك النقص لدى التيار الناصري، عبر الفشل في ربط مفهوم العدالة الاجتماعية بالفكرة القومية– العروبية، بحيث فقد موطن تميزه الأساسي عن غيره من التيارات السياسية في مصر، إلى جانب أمور عديدة أخرى، علما بأن التيار القومي العربي قدم إسهاما معتبرا جدا في مجال طرح صيغة فكرية متجانسة وبالغة الرقي، هي وثيقة (المشروع الحضاري النهضوي العربي) التي أعدها مركز دراسات الوحدة العربية، بعد مجهود مكثف طوال عشر سنوات على الأقل.
وفي جميع الأحوال، فإن اليسار المصري، برغم الازدهار الفكري النسبي، قد اتسم بقدر من ’’الإفلاس السياسي’’، إذا صح هذا التعبير، متجسّداً في انقطاع صلات الربط مع جماهيره العريضة، وخاصة من الشباب في الأرياف والحواضر. ومن أقوى الأدلة على ذلك، فقدان زمام المبادرة في ’’ميدان التحرير’’ إبان ثورة 25 يناير رغم المشاركة الريادية في أحداثه العظام الجسام، ثم من بعدها مباشرة، مقابل هيمنة الليبراليين والإسلاميين على نحو ما جرى بعد ذلك، مما هو معروف خلال الفترة الماضية.
وبهذا كله يمكن أن يتبدى واقع ’’الإفلاس السياسي’’ للنخبة المصرية باتجاهاتها المختلفة، من إسلامية وليبرالية ويسارية، اشتراكية خالصة أو ناصرية، وهى الفرضية التي بدأنا بها، وانتهينا إليها، وذلك هو مأزق الحركة الوطنية المصرية، فما المخرج؟ غير أن هذا حديث آخر..!
لا نفضل تعبير ’’الطبقة السياسية’’، ولكنا نستخدمه مجازاً في هذا المقام للدلالة على مفهوم ’’النخبة’’. فما الذي يدعونا إلى وصف النخبة في مصر بالإفلاس الفكري السياسي؟
هذه النخبة في أغلبها، وخاصة منها الإسلامية والليبرالية، وهما الأعلى صوتاً في مصر بعد ثورة 25 يناير 2011، لا تمتلك مشروعاً للمستقبل، عدا عن أفكار متناثرة لا تصلح لبناء نسيج فكري وسياسي متجانس، على الصعيدين العقائدي والتطبيقي. ونفصل ما أجملناه.
ولنبدأ بتيار ’’الإسلام السياسي’’، وبالأحرى: الحركة السياسية الإسلامية الجديدة، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس طوال السنين الثلاثين أو الأربعين الماضية، وخاصة بعد الانحسار النسبي للفكر القومي العربي عقب العدوان الإسرائيلي في يونيو/ حزيران 1967.
نذكر بهذه المناسبة أننا وإن كنا نفضل تعبير ’’الحركة السياسية الإسلامية الجديدة، إلا أننا سوف نستخدم هنا تعبير ’’الإسلام السياسي’’ لشيوعه في التداول اللغوي الراهن.
وتجدر الإشارة – فيما نرى– إلى أن العصر الحديث قد شهد حركة سياسية إسلامية واسعة، أي حركة ساعية إلى محاولة تأسيس مشروع لبناء دولة أو شبه دولة أو إعادة تأسيسها انطلاقاً من فهم معين للإسلام يقيم رابطة عضوية وثيقة بين الدين والسياسة على الصعيد الاعتقادي والفقهي والتطبيقي. ونميل إلى تقسيم الحركة السياسية الإسلامية في العصر الحديث إلى قسمين: الحركة السياسية الإسلامية القديمة، والحركة السياسية الإسلامية (الجديدة). فأما الحركة السياسية الإسلامية القديمة، فنقصد بها حركات ثلاثة قامت في عدد من البلدان العربية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وكان لكل منها ’’مشروع دولة’’ أو ’’شبه دولة’’، وبالأحرى ’’مشروع كيان سياسي’’. ونقصد هنا من جهة أولى، الحركة الوهابية في ’’شبه الجزيرة العربية’’ بالتحالف مع محمد ابن سعود أمير منطقة ’’الدرعية’’، وقد قدم محمد بن عبد الوهاب نوعاً من التجديد في النسيج التقليدي المتوارث للفكر الإسلامي، انطلاقاً من تراث الفقه الإسلامي لدى ’’ابن حنبل– ابن تيمية’’.
ومن جهة ثانية، هناك ’’الحركة السنوسية’’ في ليبيا، وخاصة المنطقة الشرقية، وقد عملت على ’’التجديد’’ في زمانها، انطلاقاً من ’’الزوايا الصوفية’’.
وأخيراً، ’’الحركة المهدية’’ في السودان، والتي تبلورت كتيار فكري وسياسي من خلال مقاومة الاحتلال البريطاني لهذا البلد العربي في ثمانينات القرن التاسع عشر، وأصبحت من ثم علماً على تكوين فرعي رئيسي داخل المجتمع السوداني، أطلق عليه ’’الطائفة المهدية’’، والتي صارت مناظراً لما يطلق عليه ’’طائفة الختمية’’، وما يزال لهما حضورهما القويّ على الصعيد الاجتماعي والثقافي، والسياسي أيضا، في السودان الشقيق.
وكدنا نضع جمال الدين الأفغاني ضمن الإطار التاريخي للحركة السياسية الإسلامية الجديدة، بدعوته إلى الجامعة الإسلامية في ثماننيات القرن التاسع عشر، باعتبارها محاولة لتجديد كيان الدولة العثمانية على أساس الرابطة الإسلامية الجامعة، إلا أنه من الأوفق اعتبار هذه المحاولة بادرة تاريخية مبادِرة على صعيد تجديد الفكر الإسلامي الحديث.
ولكن الانطلاقة العملية للحركة السياسية الإسلامية الجديدة في العصر الحديث بدأت بتأسيس ’’جماعة الإخوان المسلمين’’ عام 1928 بمدينة الإسماعيلية – مهد ’’معسكرات الإنجليز’’ – قائمة على الربط الوثيق بين الدين والسياسة في أبعادها الوطنية والاجتماعية العامة – بدءً من مقاومة الاحتلال البريطاني والمشاركة في حرب فلسطين 1948 وفي أعمال الفدائيين على قناة السويس عام 1951 وصولاً إلى الطموح السياسي للسعي إلى المشاركة بالغلبة في بنية السلطة عقب ثورة 23 يوليو 1952.
بيْد أن جماعة الإخوان المسلمين لم تنتج فكراً يتكافأ مع االوزن المنسبي الثقيل في ’’السياسة العملية’’.. بل إنه يمكن القول إن ’’الفكر الإسلامي الحديث’’ في معناه العريض قد تطور خارج الإسلام السياسي كله، منذ نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر بدءً من الشيخ حسن العطار ثم رفاعة رافع الطهطاوي في كتابه (نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز) وجزء منه (الدولة الإسلامية – نظامها وعمالاتها) وانتهاء بمدرسة جمال الدين الإفغاني (وتلميذه محمد عبده) في سبعينات وثمانينات القرن التاسع عشر، وعبد الرحمن الكواكبي صاحب (أم القرى) و(طبائع الاستبداد)، ثم الإمام محمد عبده مرة أخرى عند توّلى موقع الإفتاء في مصر في مطلع القرن العشرين، ومحمد رشيد رضا الذي بدأ موالياً لفكر (الإمام) ثم تحول بعد زوال الخلافة العثمانية إلى نصير للربط العضوي بين الدين والسياسة من خلال مفهوم ’’الخلافة’’، وفقاً لكتابه الصادر بهذا العنوان عام 1922. وأعدّ عبد الرازق السنهوري من بعد ذلك أطروحته للدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة ليون في فرنسا حول (فقه الخلافة وتطورها لتكون عصبة أمم شرقية) عام 1926.
هذا، ولقد تمت كتب (الإسلاميات) جميعاً من خارج تيار الإسلام السياسي المتمثل في ’’الإخوان المسلمين’’، ولا نذكر الإسلام وأصول الحكم) لعلي عبد الرازق الصادر عام 1925، ولكنا نعني كتب الأربعينات والخمسينات لكل من مصطفى عبد الرازق وأحمد أمين وعباس العقاد وطه حسين ومحمد حسنين هيكل وخالد محمد خالد. بل وما لنا لا نذكر أعمال وكتابات بعض ’’المنشقين’’ عن ’’الإخوان المسلمين’’ - من الخمسينات إلى الثمانينات من القرن المنصرم - وخاصة الشيخ أحمد حسن الباقوري ثم محمد الغزالي والدكتور أحمد كمال أبو المجد والدكت - ور عبد العزيز كامل والشيخ يوسف القرضاوي، بالإضافة إلى د. محمد البهي، والشيخ محمود شلتوت والشيخ محمد أبو زهرة، بل و(عيسى عبده) وغيرهم كثير، دون أن ننسى كتاباً محدثين من طراز المستشار طارق البشري. أما في داخل ’’الإسلام السياسي المصري’’ وخاصة ’’الإخوان المسلمين’’ فلم يكن ثمة إنتاج فكري واضح، سوى لمحات متنوعة بادئة من أعمال عبد القادر عودة حول (التشريع الجنائي الإسلامي)، ومنتهية بالتفسير الذي قدمه سيد قطب (في ظلال القرآن) ثم الكتيب المثير للجدل (معالم في الطريق) والمأخوذة أفكاره في مجملها من أعمال أبو الأعلى المودوي وخاصة فيما يتعلق بفكرة ’’الحاكمية’’ و’’الأمة الإسلامية وقضية القومية’’.
خارج تيار ’’الإسلام السياسي’’ أيضاً، وخارج مصر، كانت هناك أعمال في البداية ضمن الفكر الإسلامي (الهندي – الباكستاني) لكل من محمد اقبال وأبو الحسن الندوى، كما انبثق شلال عظيم الشأن للفكر الإسلامي المعاصر في الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين ومطالع القرن الحادي والعشرين على أيدي المفكرين المغاربة بالذات، وخاصة في المغرب (الأقصى) حيث عبد الله العروي، صاحب الإسهام المبكر نسبيا في ’’الإيديولوجية العربية المعاصرة’’، ثم محمد عابد الجابري مع زملائه الكُثر بجامعة الملك محمد الخامس وجامعات المغرب الأخرى، وخاصة د. علي أومليل، ومحمد وقيدي، وسالم يفوت، وسعيد بن سعيد، وعبد الإله بلقزيز، ومصطفى حنفي، وكمال عبد اللطيف، وصولاً إلى جيل الشباب مثل محمد الشيخ. ومن الجزائر محمد أركون (مع التقدير البالغ للرائد الكبير مالك ابن نبي). ومن تونس: أعمال تبدأ من هشام جعيط وتصل إلى عبد المجيد الشرفي. ونشير إلى محمد فهمي جدعان من الأردن، ومؤرخ الفلسفة الكبير حسين مروة من لبنان، وكذا أعمال في التاريخ العربي والإسلامي العام لعبد العزيز الدوري وعلي الورديمن العراق.
ولا ننسى من مصر كلا من د. حسن حنفي و محمد عمارة (في مراحله الفكرية الأولى) ود. محمود اسماعيل.
وإذن فقد بنى (الهرم الأكبر) للفكر الإسلامي المعاصر، من خارج تيار الإسلام السياسي وجماعة الإخوان المسلمين ونظرائها في العالم الإسلامي الكبير، ولولا كتابات لأبي الأعلى الموردي وسيد قطب وشذرات لحسن الترابي في وقت سابق، لقلنا إن ذلك التيار لم ينتج فكراً ذا بال أصلاً. بيد أنه، من ناحية أخرى، ازدهرت بعض أجنحة المدارس (السلفية) في اجتهادها ’’الجهادي’’ المنشق أصلاً عن ’’الإخوان المسلمين’’ في إطارها العريض منذ آخر الستينات، فالسبعينات وحتى الآن، بدءً من الجماعة المسماة (التكفير والهجرة) في مطلع السبعينات بمصر، ثم كل من جماعة ’’الجهاد’’ و’’الجماعة الإسلامية’’ في (الجامعات) المصرية من السبعينات والثمانينات إلى التسعينات من القرن المنصرم. ولقد أبدع التيار الجهادي في الفكر مرتين: المرة الأولى بالتنظير للعنف والعنف المسلح في مواجهة الحكومات القائمة بالعالم الإسلامي، وخاصة في المنطقة العربية، والذي وصل إلى ذروته باغتيال بعض رموز الحكم في مصر بالذات، من وزير الأوقاف محمد الذهبي مروراً بالرئيس السادات وانتهاءً برئيس مجلس الشعب (رفعت المحجوب) بالإضافة إلى اغتيال أو التهديد باغتيال رموز فكرية وسياسية متنوعة. والمرة الثانية التي وقع ولمع فيها الازدهار الفكري للتيار الجهادي ذى الجذر السلفي العام، والمنشق سياسياً عن فكر ’’الإخوان’’، تحققت بمناسبة ما سمى بفكر (المراجعات) لكل من ’’تنظيم الجهاد’’ و’’الجماعة الإسلامية’’ من داخل السجون المصرية في أواخر التسعينات، ومطالع القرن الجديد.
عدا عن ذلك، فلم ينتج تيار الإسلام السياسي (الرسمي) وخاصة (الإخوان المسلمون) فكراً إسلامياً ذا شأن أو شأو، كما أشرنا، إذ ظل يقتات على ما تبقى من فكر الأستاذ سيد قطب ومن قبله: وصايا الإمام حسن البنا. وفي قلب هذا الفراغ الفكري الكبير والذي لم يقتصر على مسائل السياسة والاقتصاد والاجتماع، وإنما امتد إلى مجال الفكر الاعتقادي، و إلى مجال الفقه وأصول الفقه، وكلاهما الساحة ’’الأثيرة’’ للفكر الإسلامي (التقليدي) بوجه عام. وهنا ظهرت الاتجاهات السلفية لتسد الفراغ العميق وتملأ الفضاء الفسيح، فاعتلى أعلامها منابر المساجد، وبرزوا في المحافل الفكرية (الدعوية) بل وتقدموا ليقدموا الزاد الفكري الضروري من الاجتهادات الاعتقادية والفقهية لشباب (الإخوان المسلمين) أنفسهم.
وكان الظهور السياسي ’’للسلفيين’’ في مصر عقب ثورة 25 يناير 2011 هو الحدث الأهم في تاريخ التيار السلفي ضمن التيار العريض للإسلام السياسي في مصر، وإن انشّق عنه تيار جهادي يؤمن بالعنف والعنف المسلح طريقاً لتحقيق الهدف السياسي المتمثل في استبدال الحكومات وفق منهج (الحاكمية) تذرعاً بالمفهوم (القطبي الأثير) حول (جاهلية القرن العشرين) وما يتبعه بالضرورة من (التكفير).
وربما نستمد الدليل على ما نقول حول عقم (الإخوان المسلمين) فكرياً في المرحلة الراهنة، من غياب ’’الموقف’’ في القضايا الكبرى ذات الأهمية، سواء على المستوى الاستراتيجي أو المستوى ’’التكتيكي’’ على النحو التالي:
1- على المستوى ’’الاستراتيجى’’ إذا صحّ هذا التعبير، وبرغم رفع شعار ’’الإسلام هو الحل’’، فإنه لم يتحدد موقف تيار ’’الإسلام السياسي’’ عموماً، و’’الإخوان المسلمين’’ خصوصاً، من المسائل ذات طابع الإلحاح العقائدي والتطبيقي، ومنها:
أ- مراجعة الموقف من ’’الشرعية’’، ومتى يحل الخروج على ’’الحاكم’’ وعلى ’’الإمام’’، ويرتبط بذلك: ما حدود الطاعة؟ ومتى يمكن أو يجب التحلل من ’’البيعة’’؟
ب- مراجعة فقه ’’الشريعة’’، وخاصة من زاوية أصول الفقه بالتركيز على موقع ’’الاجتهاد’’. ويرتبط بذلك موضوع ’’الأحكام الشرعية’’ وما الظروف الواجب أخذها في الاعتبار، من حيث الضرورة ومن حيث النطاق.
ج- مراجعة نظرية الدولة في الإسلام، وخاصة فيما يتعلق بالخلافة أو الإمارة، وهل هي من تمام الدين؟ وما اشتراطات الحاكم في الإسلام؟
2- على المستوى اللحظي أو التكتيكي – إذا صّح التعبير– فإن هناك قضايا ذات إلحاح عملي قوى في الوقت الراهن، ولم يقدم (الإخوان المسلمون) بالذات موقفاً سياسياً، ودع عنك اتخاذ موقف فكري أصيل، تجاه بعض هذه القضايا ومن أهمها:
أ- قضايا مرتبطة بالدستور المصري، وقد ثارت بمناسبة إعداد الدستور (المعطل) لعام 2012 ثم عند إعداد الدستور الجديد بعد 30 يونيو 2013، وفي مقدمتها طبيعة الدولة، وهل هي مدنية، أم مدنية بمرجعية إسلامية، أم هي دينية عامة، وإلى أي مدى، وما العلاقة إذن بين الدين والدولة بما فيه من اتصال وانفصال – حسب تعبير ابن رشد؟ ولم نجد بمناسبة هذه القضية سوى عبارات عامة لا تقدم تأصيلاً فكرياً للموقف الذي بدا أنه مهمين على التوجه العام لجماعة ’’الإخوان المسلمين’’ (دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية).
ب- الموقف من المادة رقم (219) في الدستور (المعطل) والمعروفة بالمادة المفّسرة للمادة الثانية من الدستور، وخاصة حول عبارة (.. مصادر الفقه المعتبرة في مذاهب ’’أهل السنّة والجماعة’’)، وبصفة أخص ما يتعلق من ذلك بالتفارق السنّي- الشيعى.
ج- الموقف من ’’العنف المسلح’’ المنتشر في كثير من ربوع البلاد، انطلاقا من سيناء، باسم ’’الجهاد’’، وربما تحت رايات ما يسمى بالسلفية الجهادية. وماذا يعني الجهاد ومتى يحل أو يكون حراما؟
د- يتصل بما سبق، العقم الفكري، إذا صح التعبير، والذي بدت عليه جماعة ’’الإخوان المسلمين’’ أثناء فترة الحكم (30-6-2012، 30-6-2013) سواء فيما يتعلق بموضوع المشاركة الشعبية في السلطة في مواجهة النزوع إلى ’’احتكار السلطة’’ من قبل ’’الجماعة’’، أو ما يتعلق بالمجال الاقتصادي والاجتماعي، وما يتصل به من الموقف الاعتقادي والتطبيقي إزاء الموقف من (المرأة)، وأدوارها المحددة في السياسة والمجتمع، بدءً من (الولايات العظمى) وانتهاءً بالعلاقات الأسرية. وقد بدت المحصلة الختامية للعقم الفكري لجماعة ’’الإخوان المسلمين’’ بالذات خلال فترة الحكم، من خلال غياب ’’مشروع للتقدم’’ اقتصاديا واجتماعيا، على قاعدة سياسية ثقافية راسخة، سوى ما ورد في البرنامج الانتخابي ﻟ’’حزب الحرية والعدالة’’ في الانتخابات البرلمانية لعام 2012، وما جاء فيما سمى ﺑ’’مشروع النهضة’’، وكلاهما لا يتضمن مشروعاً حضارياً متكاملا بالمعنى الذي تفرضه تحديات الواقع، وضرورات المستقبل.
مما سبق، يمكن التوصل إلى اثبات الفرضية التي سقناها في بداية المقال حول إفلاس النخبة السياسية المصرية ممثلة هنا في تيار ’’الإسلام السياسي’’ عامة، و’’جماعة الإخوان المسلمين’’ خاصة، بمعنى عدم توفر مشروع محدد لبناء المستقبل.
ولقد فصّلنا في هذا الجانب نظراً لعظم مسئولية ’’التيار’’ و’’الجماعة’’ المذكورة، بوصفها الأكثر تنظيماً بين القوى السياسية في مصر، ولكونها تولّت مسئولية الحكم منفردةً أو شبه منفردة خلال عام كامل، مما يجعل من الممكن تقييم التجربة بقدر من الموضوعية وعلى أساس تجريبي، وهو ما يدعو إلى ضرورة القيام بجهد بالغ الضخامة لمراجعة ما فات، والنقد الذاتي العميق، والتأسيس للمساهمة في تجديد الفكر الإسلامي بصورة حقيقية خلال الفترة القادمة.
ولكن ماذا عن التيارات الأخرى؟ فلنشر بإيجاز إلى ذلك، على النحو التالي:
أولا: التيار (الليبرالي) أو الموسوم بذلك. وعدا عن ’’الفقر النظري’’ المميز للفكر (الليبرالي) على المستوى التاريخي والدولي، بالمقارنة مع الفكر الاشتراكي والماركسي على سبيل التحديد، فإن ذلك التيار أكثر فقراً على المستوى العربي عامة، بما في ذلك مصر.
ولا نستطيع القول بأن هناك فكرا متبلوراً تماماً على المستويين النظري والعملي لما يمكن أن يطلق عليه (التيار الليبرالي العربي أو المصري)، وإنما يمكن القول بوجود ميل أو نزوع Tendency باتجاه ما نستطيع التعبير عنه ﺑ(روح الليبرالية) التي يمكن مقاربتها من خلال (روح الحرية الفردية). ولقد كان هذا النزوع من أكبر المحركات للاحتجاجات الشعبية المواكبة لثورة 25 يناير 2011، انطلاقا من مواجهة (احتكار السلطة) في بنية النظام السياسي (المباركي)، وخاصة بفعل تغّول المؤسسة الأمنية في العلاقة مع المواطنين الآمنين ذوي ’’الحق الطبيعي’’ في الكرامة الإنسانية، وعلى قاعدة من المساواة القانونية بين الناس، والعدالة في توزيع الفرص، وفي مقدمتها فرص التشغيل وكسب الدخول.
ويمكن القول إن ذلك النزوع إلى تأكيد ’’الحريات الفردية’’ قد تم التعبير عنه في مجال الحركة السياسية بعد ثورة 25 يناير، عبر الممارسات المتنوعة لشرائح عريضة من الشباب، متمثلة بصفة خاصة فيما يلى: -
1- المواجهة التكتيكية للمؤسسات الأمنية والعسكرية، من خلال التظاهر وأعمال الاحتجاج الموجهة إلى الرموز الكبرى للنظام السابق على الثورة فيما أطلق عليه البعض (الدولة العميقة)، وفي مقدمتها مقّرات الحزب الحاكم، و وزارة الداخلية، ومبنى ماسبيرو للإذاعة والتليفزيون (حيث قوة الإعلام الحكومي)، ومبنى مجلس الوزراء (المطل على شارع ’’القصر العيني’’)، ولا يستثنى مبنى ’’وزارة الدفاع’’.
2- حرية التعبير بالكلمة وبالرسم (الجرافيتي) وبالنقش والكتابة على الحوائط والجدران، وغير ذلك.
3- تأكيد حق ’’التظاهر’’ و’’الاعتصام’’ و’’الإضراب’’ كأسلحة فعالة في مواجهة انتهاكات السلطة القائمة أيا كانت.
4- في المجال الاقتصادي: الدعوة إلى ما يسمى (الاقتصاد الحر) ممثلاً في الاعتماد على قوى السوق – قوى العرض والطلب– كآلية لتشغيل النظام الاقتصادي وإطلاق حرية الحركة للقطاع الخاص كمحرك رئيسي لعملية النموّ.
... تلك أهم الأبعاد التي يمكن استنباطها حول ’’النزعة الليبرالية’’ في ساحة السياسة المصرية بعد ثورة يناير، وخاصة بين الشباب؛ وبرغم أهميتها فإنها لا تكفي لتشكيل لَبِنات مشروع حضاري مستقبلى حقيقى، وبعضها لا يمثل أكثر من ’’وهم’’ في ميزان العلم، وهذه حال دعوى (الاقتصاد الحر) غير القادرة على تشكيل رافعة للبناء التنموى بالمعايير العالمية، في غيبة عن الوظيفة التنموية للدولة، والدور المحوري للمنهجية التخطيطية.
ثانيا اليسار المصري: في مقابل ما يمكن أن يطلق عليه ’’اليمين الديني والليبرالي’’، يشير تعبير ’’اليسار’’ إلى القوى الاجتماعية الساعية إلى التغيير الجذرى للواقع الراهن بهياكله الاقتصادية والاجتماعية، وبناه السياسية والثقافية، سعياً إلى بناء مستقبل أفضل.
ويمكن القول إن اليسار يضم ثلاثة تيارات فرعية: أولها التيار الاشتراكي الخالص، إذا صّح هذا التعبير، متمثلاً، من الناحية السياسية المباشرة، في حزب ’’التجمع الوطنى التقدمى الوحدوى’’ وما انبثق عنه من تشكيلات سياسية يتصدرها في الوقت الراهن ’’التحالف الشعبي الاشتراكي’’ و’’الحزب الاشتراكي المصري’’، بالإضافة إلى فصائل متنوعة تتفاوت انتماءاتها الإيديولوجية في الإطار العام للفكر الاشتراكي.
أما التيار الفرعي الثاني فهو التيار الناصري، سواء منه الشق المجّسد تنظيمياً من خلال أبنية حزبية (وخاصة ’’الحزب العربي الاشتراكي الناصري ’’و ’’حزب الكرامة’’) أو شبه حزبية (وخاصة المؤتمر الناصري العام)، والشق غير المجّسد تنظيمياً عبر قواعد جماهيرية راسخة في الريف والحضر، وإن تمت محاولات لمقاربتها مؤخراً عبر ما يسمى ’’التيار الشعبي’’. ومن حول التيار الناصري، رافد أصغر حجماً وأقل تأثيراً من الناحية العملية، برغم امتلاكه للعمق الفكري، رافد قومي عربي يقاسم التيار الناصرى ثوابته العروبية ويقينه بالدور التاريخي للزعيم الخالد جمال عبد الناصر. ومن حول التيار الاشتراكي الخالص والتيار الناصري والقومي، يتخلق نزوع وطني – قومي تقدمي، يصعب تلمسه تجريبياً ولكن له حضور قوي، صراحةً أو ضمناً، على ساحة السياسة والثقافة المصرية، وخاصة في أوساط الجماعة الأكاديمية في العلوم الاجتماعية من الاقتصاد إلى السياسة وعلم الاجتماع، وفي الإنسانيات من الفلسفة والأدب.
ويمكن القول إن اليسار المصري في الشق الاشتراكي الخالص قد برهن على أنه أكثر التيارات قدرة على بناء مشروع فكري متماسك، من حول الفكرة الاشتراكية القائمة على مفهوم التنمية الشاملة وعلى المنهجية التخطيطية. وقد استطاع الشق الاشتراكي الخالص من اليسار المصري بالمشاركة مع ممثلى النزوع الوطني – القومي التقدمي والفكر الناصري أن ينجز أعمالاً فكرية رائدة في مجال بحث المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لمصر، وتقديم حلول مفصلة لها، لم يلتفت إليها صانعو القرار خلال الأربعين عاماً السابقة على ثورة 25 يناير في ظل حقبة (السادات– مبارك). وأوضح الأمثلة على ما نقول: الأعمال الفكرية الكبرى التي أنتجها ’’المؤتمر العلمي السنوي للاقتصاديين المصريين’’ في رحاب الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والإحصاء والتشريع، منذ أواخر السبعينات إلى مطلع التسعينات من القرن المنصرم، تحت رعاية إعلام كبار يتقدمهم محمد زكي شافعي وإسماعيل صبري عبد الله، وبمساعدة رعيل تال بالغ الكفاءة والإخلاص من طراز ’’رمزي زكي’’.
ولا يفوتنا أن نشير إلى الجهد الأكاديمي المثابر لبعض المؤسسات البحثية المصرية في المجال الاقتصادي والاجتماعي، وخاصة ’’معهد التخطيط القومي’’ و’’المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية’’ ومؤسسات أصغر حجماً وذات تأثير كبير مثل ’’مركز البحوث العربية’’ بقيادة الأستاذ حلمي شعراوي. أما في مجال العلوم الأساسية والتطبيقية، فهناك ’’المركز القومي للبحوث’’ والمعاهد المتخصصة المرتبطة بأكاديمية البحث العلمي، ولا ننسى ’’مركز البحوث الزراعية’’، وجميعها برهنت على طابعها الوطني العام، وارتباطها بالقضايا الأساسية للتطور العلمي والتكنولوجي في مصر. وعموماً، فقد استطاع اليسار المصري في إطاره العريض، يسانده جمهور أكاديمي أوسع نطاقاً، أن يقدم ما يمكن اعتباره ’’قماشة’’، تصلح أن تكون أساساً لصياغة مشروع حضاري مستقبلي كامل الأركان لمصر بخاصة، والوطن العربي بعامة.
غير أن كل هذا لا يعفي اليسار المصري من النقص الذي ظهر لدى ’’التيار الاشتراكي الخالص’’ من خلال الإخفاق في ربط الفكر الاشتراكي بالواقع المجتمعي ربطاً وثيقاً، في الأرياف والحواضر المصرية المختلفة؛ وظهر مثل ذلك النقص لدى التيار الناصري، عبر الفشل في ربط مفهوم العدالة الاجتماعية بالفكرة القومية– العروبية، بحيث فقد موطن تميزه الأساسي عن غيره من التيارات السياسية في مصر، إلى جانب أمور عديدة أخرى، علما بأن التيار القومي العربي قدم إسهاما معتبرا جدا في مجال طرح صيغة فكرية متجانسة وبالغة الرقي، هي وثيقة (المشروع الحضاري النهضوي العربي) التي أعدها مركز دراسات الوحدة العربية، بعد مجهود مكثف طوال عشر سنوات على الأقل.
وفي جميع الأحوال، فإن اليسار المصري، برغم الازدهار الفكري النسبي، قد اتسم بقدر من ’’الإفلاس السياسي’’، إذا صح هذا التعبير، متجسّداً في انقطاع صلات الربط مع جماهيره العريضة، وخاصة من الشباب في الأرياف والحواضر. ومن أقوى الأدلة على ذلك، فقدان زمام المبادرة في ’’ميدان التحرير’’ إبان ثورة 25 يناير رغم المشاركة الريادية في أحداثه العظام الجسام، ثم من بعدها مباشرة، مقابل هيمنة الليبراليين والإسلاميين على نحو ما جرى بعد ذلك، مما هو معروف خلال الفترة الماضية.
وبهذا كله يمكن أن يتبدى واقع ’’الإفلاس السياسي’’ للنخبة المصرية باتجاهاتها المختلفة، من إسلامية وليبرالية ويسارية، اشتراكية خالصة أو ناصرية، وهى الفرضية التي بدأنا بها، وانتهينا إليها، وذلك هو مأزق الحركة الوطنية المصرية، فما المخرج؟ غير أن هذا حديث آخر..!