مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب
2014/08/27 18:42
د. حسن حنفي
الجمعة, 13 ديسمبر 2013
أصبح موضوع «حقوق الإنسان» موضوعاً شائعاً مثل موضوع المرأة والديمقراطية والأقليات والإرهاب. تتناقله الألسن، أفراداً وجماعات. يدور بين النخبة بصرف النظر عن اتجاهها، إسلامية كانت أم علمانية، ليبرالية أم اشتراكية، قـُـطرية أم قومية.

وقد فرض أخيراً كمقرر دراسي بالجامعات المصرية من أجل تطويرها أي من أجل تغريبها بوجه عام باسم التطوير والجودة، ومن نفس النظم الجامعية والسياسية التي تنتهك حقوق الجامعات، حرية الرأي وحرية الانتخابات لاتحاد الطلاب واتحاد الأساتذة، ولتعيين المعيدين الجدد بضرورة موافقة أجهزة الدولة، ومنع المظاهرات الطلابية، وغلق أسوار الجامعات! ومع ذلك تكثر جمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان القـُـطرية والإقليمية والدولية. ويزداد نشاطها. وتصدر بياناتها وتمولها المنظمات الدولية لتقويتها. ويستعمل ملف حقوق الإنسان لابتزاز الحكومات والنظم السياسية التي لا تتبع سياسات الدول الكبرى. وتحدد الحكومات نشاطها وقد توقف نشطاءها لما تنشره أحياناً في تقاريرها.

ويزهو الغرب بأنه حضارة حقوق الإنسان. ففيها تم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مرتين. الأولى إبان الثورة الفرنسية بإضافة «المواطن» في أواخر القرن الثامن عشر حتى أصبح ضمن مواثيقها. والثانية بعد الحرب العالمية الثانية ونهاية النازية والفاشية وموت ما يقرب من أربعين مليوناً من الأوروبيين موتاً جماعياً بدك المدن وأفران الغاز. فالغرب هو الذي أعطى العالم مفهوم حقوق الإنسان منذ القرن الثامن عشر بعد أن كان قد أثبت وجوده ثلاثة قرون قبل ذلك منذ الإصلاح الديني في القرن الخامس عشر وإثبات حرية المسيحي، وحرية الإيمان ضد توسط الكنسية بين الإنسان وربه، ثم في القرن السادس عشر عندما أصبح الإنسان مركزاً للكون عند فلاسفة عصر النهضة مثل جيوردانو برونو ونشأة النزعة الإنسانية عند إراسموس، ثم «أنا أفكر إذن أنا موجود» عند ديكارت في القرن السابع عشر، ثم فلسفة التنوير في القرن الثامن عشر، العقل والحرية والعدل والمساواة والطبيعة والتقدم. في حين أن الحضارات غير الغربية أعطت البشرية وهدتها إلى فكرة الخلق.

ومن مظاهر ضعف بعض الحضارات غير الغربية أنها ليست لديها ميتافيزيقا للإنسان بل ميتافيزيقا للسلطان أو الملك أو الزعيم أو القائد أو الإمام، مع أن حقوق الإنسان في الغرب أيضاً لها مظاهر ضعفها في الأسس النظرية وفي الممارسات العملية. فهي حقوق الإنسان الفرد وليس المجتمع. حقوق الأفراد وليست حقوق الشعوب. فالدفاع عن حقوق الإنسان لا يتضمن بالضرورة الدفاع عن حقوق الشعوب، وحقوق الإنسان الغربي الأبيض وليست حقوق الإنسان من حيث هو إنسان، الإنسان الأسمر والأسود والأصفر، تصنيف الإنسان طبقاً للون البشرة. وهي حقوق ليست عامة بل حقوق مزدوجة، قد تنطبق في نظر بعض الغربيين على إنسان دون آخر، على الإسرائيلي دون الفلسطيني، والأمريكي الأنجلوساكسوني الأبيض البروتستانتي (الواسب) وليس الأمريكي الأسود (الأفريقي) أو الملون (الإسباني).

ليس المطلوب تبرير حقوق الإنسان في الإسلام كنموذج للحضارة غير الغربية. وليس المطلوب الدفاع عنها وإثبات وجودها بصياغة مواثيق أخرى مثل «حقوق الإنسان في الإسلام» التي صاغتها اللجنة الإسلامية الأوروبية إحساساً من المسلمين الأوروبيين بالنقص فيما يتعلق بحقوق الإنسان أمام الأوروبيين على الأقل على المستوى النظري وإعلان المواثيق. ليس المطلوب هو صياغة ميثاق لحقوق الإنسان في الإسلام تقوم على قراءة المواثيق الغربية في النصوص واقتباس آيات تتفق معها. فهذه مجرد «أسلمة» للمواثيق الغربية، ونسيان لآيات أخرى قد لا تتفق مع المواثيق الغريبة. إنما المطلوب هو الفكر النقدي، والاعتراف بما هو سلبي في الثقافة الموروثة. فلا توجد حضارة كاملة. فكل حضارة اختيار لمنظور، ودفاع عن بؤرة.

وعلى المستوى العملي، ليس المطلوب تبرئة النص من انتهاكات حقوق الإنسان المحتملة في التطبيق بل المطلوب الدفاع عن حقوق الإنسان في الواقع اعتماداً على النص أو بتأويل له. المطلوب هو ضمان حقوق المواطن الرئيسية في الحياة العامة، في التعليم والعلاج والإسكان والمواصلات والعمل ورعاية كبار السن والمعوقين. فما هو الأساس النظري الذي يمكن الاستناد إليه في ثقافة ما زالت تتمركز حول الذات الثقافية؟ وما هي التشريعات العملية التي يمكن سنها حتى لا تنتهك حقوق الإنسان؟

فإذا كانت عقيدة الإسلام الأولى «التوحيد» الذي يتساوى أمامه الجميع، فهل يمكن اعتباره أساساً نظرياً لحقوق الإنسان؟ وإذا كان القدماء قد صاغوا اجتهاداتهم في نظريات تجديدية، أشاعرة ومعتزلة، فهل يمكن إعادة تأويلها بحيث تصبح أساساً نظرياً لحقوق الإنسان؟ تأويل لها بإرجاعها إلى أساسها الإنساني. أولاً بوجود الوعي الذاتي الذي طالما بحث عنه الفلاسفة في كل حضارة، سقراط في الحضارة اليونانية «اعرف نفسك بنفسك»، و«الإيمان» أو «في داخلك أيها الإنسان تسكن الحقيقة» لأوغسطين في الحضارة المسيحية «أنا أفكر إذن أنا موجود» في بداية العصور الحديثة عند ديكارت وكانط، و«الأنا تضع نفسها حين تقاوم» عند فشته، و«الوجود الذاتي» عند فلاسفة الوجود المعاصرين. فالإنسان موجود ولا يمكن نفيه أو إعدامه أو إلغاؤه أو التنكر له. والمطلوب هو إيجاد الأدلة على وجود الإنسان. وهي تجربة إنسانية، إحساس داخلي، بداهة حسية لا تحتاج إلى إثبات. وليس الوجود الجسدي في لحظة الميلاد أو التكوين في لحظة الخلق، بل هو الوجود التاريخي، الجوهري الثابت. هو الأول كما هو الحال في تجربة الحب الأول، وكما يقول الحبيب لحبيبته «أعرفك من زمان». ويتصف بالبقاء كما يتعاهد الحبيبان أنهما سيظلان معاً إلى الأبد.

وإذا كان هذا الوعي الذاتي في دائرته الثانية يتصف بأوصاف منها: العلم، والحياة، والكلام، والإرادة، فإنها بتأويل إنساني قد تصبح أيضاً من أسس حقوق الإنسان. أولًا، العلم أي حق الإنسان في المعرفة والتعلم ضد الجهل والأمية وحجب المعلومات. فالمعرفة للجميع متاحة للبشر كحق طبيعي لا أسرار فيها ولا احتكار، للبعض دون البعض الآخر. لذلك جعل الأصوليون العقل أحد المقاصد الكلية للشريعة. ثانيا، القدرة، والعلم هو العلم النافع، العلم القادر على تغيير حياة البشر لما هو أفضل، العلم الذي تصحبه قوة، علم الأقوياء وليس علم الضعفاء ضد العجز والضعف والاستكانة والسلبية والاستسلام وهو ما يُعبر عنه بتعبير Knowledge and Power. ثم إن العلم والقوة كلاهما مظهران للحياة ضد الموت والجوع والجفاف والتصحر والمرض والوباء والزلازل والبراكين والفيضانات وجميع أنواع الكوارث الطبيعية. وجعل الأصوليون الحياة أحد مقاصد الشريعة. فهما صفتان للعلم الإنساني ليس عن طريق شبكات المعلومات بل هما صفتان للكائن الحي، للإنسان صاحب العقل النظري والعقل العملي.

ثم يأتي الكلام والإرادة ليؤكد على أن العلم مرتبط بالحواس والسمع والبصر. هو العلم الحسي التجريبي وليس فقط العلم النظري الاستدلالي. السمع لنقل تجارب الآخرين. والبصر لمشاهدة الآيات والعلامات والظواهر الطبيعية. والكلام أي العلم للتبليغ. كما يسمع بالأذن ويُرى بالبصر، ويُبلغ باللسان. فلا يوجد علم صامت كما يقول الصوفية. ولا يوجد علم سري يحتفظ به أحد لنفسه دون أن يبلغه للغير. أما الإرادة فتعني العلم الموضوعي المجرد عن الهوى والذي يعبر عن حقائق موضوعية وليس أهواء بشرية. العلم لا شأن له بالرغبات والنزوات والميول. فهذه تأتي وتذهب، تشتد وتضعف. العلم نسق موضوعي، ينقله جيل عن جيل سابق.

*******

العقل الغربي... وحقوق الإنسان

إذا كانت للوعي الذاتي تسميات كثيرة فإنه بتصنيفها إلى وعي بالذات ووعي بالعالم ووعي بالإنسان يمكن معرفة بعض حقوق الإنسان. فالوعي بالذات يظهر في حوالي ثلثي التسميات. وباقي الأسماء تدل على بعض القيم الإنسانية مثل السلام. والوعي بالعالم هو وعي بالكون وبالطبيعة. وعلاقة الوعي بالإنسان هي علاقة الوعي بذاته. وهي باقي التسميات يمكن قسمتها إلى عقل نظري، وعقل عملي، وملكة للحكم طبقاً لأقسام العقل الثلاثة الشهيرة عند كانط. تشير إلى حق الإنسان في التفكير وحقه في الفعل والممارسة، وحقه في إصدار الأحكام. فالعقل النظري يشير إلى حق الإنسان في المعرفة عن طريق الحس والتجربة والإحصاء. والعقل العملي يشير إلى العطاء والإحسان والكرم والمنفعة والإرشاد. وتتجلى نظرية القيم في الأسماء التي تشير إلى ملكة الحكم. ومجموعها هو ما سماه الصوفية «الإنسان الكامل».

والعيب في الإنسان. فقد أخرج أهم قيمه وفضائله وصفاته من الداخل، وقذفها إلى الخارج. ثم شخصها وحولها إلى رمز بسبب عجزه عن تحقيقها في الواقع. أخرج نفسه وروحه وأحشاءه من الداخل إلى الخارج، من الذات إلى الموضوع. فهي ليست صفات في الخارج معلقة على مشجب يسمي ذاته، بقدرما هي صفات في الداخل، كمالات الإنسان التي يحققها، وحقوقه التي يدافع عنها، وأهدافه التي يسعى إلى تحقيقها. فإذا فعل كان هو الإنسان الكامل وإن لم يفعل كان هو الإنسان المتعيّن الذي يبحث عن حقوقه. وقد كانت فيه دون أن يعلم ثم أخرجها لعجزه. يكمل بها نقصه، ويقوي بها عجزه، ويعزي بها نفسه.

وما يحدث في الإنسان بإخراج أحشائه من البدن ودفعها إلى الخارج وتأملها فيعيش بلا ماهية يحدث أيضاً في النص عندما يُدفع خارج الزمان والمكان، من المتعيّن إلى غير المتعيّن، ويصير خارج الزمان والمكان.

وقد نزل الوحي منذ البداية في الزمان والمكان حكماً تحول بعد ذلك إلى نص مدون، هو القرآن الكريم. كانت الأحكام في البداية لها «أسباب نزول» كقوله جل من قائل (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ)، (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ)، و(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ)، و(يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَنفَالِ). وأتى الحكم جواباً على سؤال. صحيح أن الأصوليين قالوا بعد ذلك بخصوص السبب وعموم الحكم من أجل إطلاق الأحكام. ومع ذلك الأحكام مشروطة بأسبابها. وهذا لا يقلل من عموم الوحي في شيء.

أما الأسئلة التي لا ينتج عنها أثر عملي وفائدة عاجلة فلا إجابة عليها، (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إلا قَلِيلاً). ويبدو أن العجز عن معرفة أسباب الأحكام وسبرها قد يدفع لعدم تبصرها ودفع النص خارج المكان وإطلاق الحكم. ويحدث نفس الشيء بالنسبة للناسخ والمنسوخ. فالحكم نزل في زمان. وإذا تغير الزمان تغير الحكم تشديداً أم تخفيفاً. تشديداً مثل حالة الخمر على ثلاث درجات، وتخفيفاً مثل تحليل الرفث إلى النساء ليلة الصيام أو الحساب طبقاً للأفعال الظاهرة وليس للأفعال الباطنة. فالأحكام الشرعية موقوتة بزمانها ومكانها. فإذا تغير المكان والزمان تغيرت الأحكام. هكذا فعل عمر رضي الله عنه في سهم المؤلفة قلوبهم عندما قوي الإسلام ولم يعد في حاجة إليهم. وكذلك فعل في إيقاف حد السرقة عام الرمادة.

ومن ذلك الحكم على أحد بأنه مؤمن أو كافر أو مشرك أو عاصٍ أو منافق، والشق على قلوب الناس. فليس للإنسان إلا الظاهر، والله يتولى السرائر. كما تتعدد مفاهيم الإيمان وشروطه ومدى صلة العمل به. فليس لأحد تكفير أحد، والمجتمع يعاني من انتشار جماعات التكفير التي تحكم على المخالفين في الرأي بالتكفير، وتوقيع الحد على «الكافر» بالقتل. ويتم ذلك غيلة فتسفك دماء الأبرياء. وأمام العاصي والمنافق والفاسق، إن وجدوا، طريق الاستغفار والتوبة والله غفور رحيم يقبل التوبة من عباده. وإذا كانت في قول أحد شبهة فإنه يحمل تسعة وتسعين منها على محمل الإيمان واحتمال واحد فقط على محمل الشبهة.

ويجد الإسلام نفسه في موقف الدفاع تجاه الحدود واتهامها، من قبل بعض الغربيين، بأنها تعدٍ على حقوق الإنسان الجسدية. والحدود تعني العقوبات. والعقوبات للردع والتخويف. مع أن الشريعة أيضاً تطلب درء الحدود بالشبهات. والتعزير في يد الإمام للتخفيف أو للتشديد طبقاً لطبيعة الموقف. وإذا كانت الواجبات مقرونة بالحقوق، فلا واجب دون حق، ولا حق دون واجب، وعرف الإنسان واجباته بالنسبة للأوامر والنواهي فأين حقوقه؟ أين حقوقه في بيت المال للتعليم والعلاج والسكن والتأمين ضد البطالة قبل أن تقطع يد السارق؟ أين حقه في الزواج المبكر وإعانة بيت المال وعدم الإثارة في الأفلام وبعض أجهزة الإعلام والإغراءات في الأندية والطرق والحفلات الخاصة كي يطبق حد الرجم؟ الأوامر والنواهي واجبات فأين ما يقابلها من حقوق؟

والقصاص عليه خلاف لدى فقهاء القانون. بعض القوانين تحله مثل الشريعة الإسلامية وبعض الولايات الأمريكية وفرنسا وبعض الدول الأوروبية الأخرى. وبعض الدول تمنعه لأنه في نظرها «ضد حقوق الإنسان» الطبيعية في امتلاك جسده مثل سويسرا. بل إن لفظ «الإعدام» لفظ سلبي. فالإعدام ضد الإيجاد. وصورة الشنق صورة سلبية. فمن يتحمل لف حبل حول عنق وترك الجسد يتدلى معلقاً في الهواء حتى ينفصل الرأس عن الجسد؟ قد لا يتقبل العقل في أفقه الضيق القصاص. وقد يعتبره انتهاكاً لحقوق الإنسان، حق الإنسان في الحياة. أما إذا كان القتيل من أهله، ابنه أو ابنته، أبيه أو أمه، أخيه أو أخته، قريبه أو قريبته، فإنه يقبل القصاص عن طيب خاطر إذ لا يستطيع أن يرى القاتل أمامه حياً بعد أن قتل أحداً من أهله. ومع ذلك نظرياً، يظل الجسد حقاً للإنسان في بعض تيارات الثقافة الغربية. ليس لأحد أن يأخذه أو يعدمه إلى درجة قول جابريل مارسيل لبيان أهمية الجسد «أنا جسدي».

وفرق بين القتل والتقتيل. القتل إزهاق الروح أما التقتيل فإنه القتل عدة مرات وبتشف وغيظ وتلذذ. وتختلف كيفياته عند الشعوب القديمة. وإذا كان على الإنسان أن يموت فمن حقه أن يموت بكرامة واحترام.

*******

تجديد مفهوم حقوق الإنسان

يعد قطع اليد عقاباً على جريمة السرقة، وهو عقاب حازم احتراماً لملكية الغير. والهدف منه الردع لشدته. فلا أحد مستعد لأن تقطع يده بسبب سرقة، وأن يُحرم من أداة الفعل المستمر بسبب فعل واحد، والحقيقة أن الحد لا يُطبق إلا إذا توافرت شروطه. وللإنسان حاجات ضرورية من عمل وطعام وسكن وتعليم وعلاج، وله حق في بيت المال، ولا ينبغي أن يكون هناك تفاوت شديد بين الأغنياء والفقراء ما قد يدفع على الحقد والحسد والغيرة. ومسؤولية الدولة رد فضول الأغنياء على الفقراء، (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ). وللسائل حق في أموال الغني غير الزكاة. فالأوضاع الحالية للمجتمع العربي والإسلامي صعبة لكثرة العاطلين والفقراء والمساكين والمعدمين والجياع والمرضى والمحتاجين والمعوزين. والسرقة الآن بالملايين من بعض رجال الأعمال، بالتهرب من الضرائب والاحتكار والعمولات والالتفاف على القوانين النافذة التي تضعها الحكومة من أجل المصلحة العامة. فكيف إذا سرق الشريف يُترك وإذا سرق الفقير يُطبق عليه الحد؟

وهناك عقوبات أخرى أيضاً، ولكن قد تكون ضد حقوق الإنسان إذا أُسرف فيها مثل السجن والتغريب. والتغريب أصبح الآن إرادياً، كل مواطن في بعض الجمهوريات العربية يريد الهجرة خارج وطنه بحثاً عن الرزق أو الأمان. أما الدية والغرامات فهما مقبولتان، فدية القتيل مقبولة شكلاً ولكن القتيل قتيل لا تعوضه الأموال، والغرامة شريعة مدنية تعويض لخسارة لحقت بالآخر.

وهناك أوضاع اجتماعية قضى عليها الزمن وانتهت بفعل التاريخ مثل الرق والغنائم والسبايا. وهي ما زالت موجودة في كتب الفقه، قديماً وحديثاً. وما زال المستشرقون يثيرون حولها العديد من الشبهات حول «الرق في الإسلام»، و«السبايا في الإسلام»، و«تقسيم الغنائم في الإسلام»! فقد انتهى الرق بفعل الزمن، وألغي الرق من حياة الشعوب بعد الحرب الأهلية الأمريكية في القرن التاسع عشر. ومنعت قوانين جنيف لأسرى الحرب أوضاع السبايا والغنائم. فللأسرى حقوق، رجالًا ونساء، منها الحرية كحق طبيعي أولي. والغنائم وهي عتاد الحرب ملك الدولة الغالبة، أما الممتلكات المدنية فتظل في يد أصحابها حتى لو كانوا من المحاربين. ومن الوصايا الشرعية المشهورة عدم قتل النساء والأطفال والشيوخ أو قطع الأشجار وهدم المنازل كما تفعل إسرائيل مع الفلسطينيين اليوم في الضفة والقطاع.

وهناك بعض النظم القديمة أيضاً تجاوزها الزمن بفعل المساواة الأولية بين البشر مثل وصف بعض المواطنين في الدول بأنهم «أهل ذمة». فلم يعد في العصر الحديث التمييز بين المواطنين قائماً طبقاً للدين أو المذهب أو الطائفة. فالكل سواء أمام القانون. بل لقد غالى أحياناً بعض كتب الفقه القديم في التمييز إلى درجة اللباس المميز، وطريقة ركوب الدواب المميزة، والقضاء المستقل، والضرائب المختلفة، ومهما قيل في التسامح واحترام بقية الطوائف فإن بعض التأويلات قد يناقض حقوق الإنسان في زمننا هذا التي تقوم على المساواة بين المواطنين في الوظائف والحياة العامة. وقد يصعب ذلك في قانون الأحوال الشخصية، الزواج والطلاق. ومع ذلك بمرور الزمن قد يتحول إلى قانون مدني صرف، يتساوى أمامه الجميع. فالنظام الاجتماعي في بعض جوانبه يكون تاريخياً، يتطور مع التاريخ وجوداً وعدماً أو إعادة صياغة كما فعلت الشريعة الإسلامية مع الشرائع السابقة ومنها اليهودية. وهي في الأصل أيضاً تشريع من السماء.

ومنها كذلك بعض التأويلات حول وضع المرأة وتشريعاتها التي قد يرى بعض المتنقدين من غير المسلمين أنها لا تتفق مع حقوق الإنسان مهما قيل في تبريرها دون الاعتراف بتاريخيتها وأنها الآن بيد المجتهدين. فقد ساوى الإسلام بين الذكر والأنثى في حق الحياة، (وإِذا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذنْبٍ قُتِلَتْ). وفي بعض الأوضاع الاجتماعية الأخرى يترك التاريخ يدفع بها لنيل حقوقها طبقاً لسنة التدريج في مجتمع عشائري ما زال يرى المرأة وكأنها عورة، حتى لو أُلقي فيها الشعر الرومانسي. فتعدد الزوجات مثلاً وتحديده بأربع بعد أن كان مطلقاً بلا حدود خطوة نحو الزوجة الواحدة خاصة لو كان العدل بينهن مستحيلاً حتى لو حرص الزوج، فالعواطف لا تقسم كمّاً. وفي حياة الرسول، صلى الله عليه وسلم، وقعت الغيرة بين الأزواج. وقد حدد بعض المجددين المحدثين بعض هذه الحالات بزيادة عدد النساء على عدد الرجال في أحد المجتمعات. فالتعدد في هذه الحالة هو أخف الضررين بدلاً من الرهبنة أو الشيوع. وقد يجوز في حالة العقم كما حدث لإبراهيم عليه السلام وزواجه بسارة ثم هاجر برضاها وموافقتها وبحثها. وقد يجوز في حالة المرض عندما تعجز الزوجة عن القيام بأعباء المنزل. وكلها تراوح بين التبرير البعدي والشرعية الأولية.

وكذلك الشهادة، شهادة امرأتين تعادل شهادة رجل، قد تتفق مع وضع المرأة الريفية، من وجهة نظر البعض، وليس بالضرورة في طبيعة المرأة. فالنسيان وتذكير واحدة للأخرى وارد عند المرأة والرجل على حد سواء، من وجهة نظرهم. وقد بلغت المرأة اليوم درجة من التعليم والأهلية والصدارة الاجتماعية بل والوزارة ورئاستها ورئاسة الجمهورية ما لا يستطيع أحد إنكاره. والميراث أيضاً كان الإسلام عادلاً فيه، وفي بعض الحالات تأخذ النساء أكثر من الرجال. والقوامة لا تعني، بالضرورة، السيطرة والإمرة بل تعني المسؤولية في الإنفاق والرعاية. واليوم تكون الحياة الأسرية بالمشاركة في الإنفاق وتبادل الرأي والمشورة مع الكبير والصغير. والحجاب عادة عربية لحماية الرأس من الحر ورمال الصحراء، وكان للرجاء والنساء على حد سواء بل للرجال أكثر كما هو حادث في موريتانيا ودارفور حتى الآن. والنقاب عادة مرتبطة بوضع المرأة في مجتمع الصحراء. ويثير ضجة حتى الآن في المجتمعات الإسلامية لضرورة كشف وجه المرأة للتعرف عليها لتحقيق الشخصية، وفي المجتمعات الأوروبية لأنه ينافي الزي الوطني وعادات المجتمع الجديد الذي هاجر إليه المسلمون.

إن حقوق الإنسان حقوق طبيعية بلا إلزام ولا جزاء وأساسها موجود في الشرائع السماوية. وهو الحق الطبيعي. والمثلية والإجهاض والعري ليست حقوقاً طبيعية. ولا تفهم شريعة السماء فقط باعتبارها واجبات، أوامر ونواهي، بل أيضاً باعتبارها حقوقاً. فالشريعة تأخذ وتعطي. تـُلزم وتحرر. فالشريعة في أحد جوانبها الاجتهادية تاريخية. وهي ليست مناقضة لحقوق الإنسان.

ولا يمحي اللبس حول ما قد يبدو لبعض غير المتدينين تناقضاً بين شرائع السماء وحقوق الإنسان إلا بنضال طويل يحول ثقافة المجتمع من التمركز حول التأويل إلى التمركز حول الواقع، حتى تتغير بنية الثقافة الموروثة المسؤولة عن هذا التناقض الظاهر بين فهم بعض النصوص وحقوق الإنسان. فهي ما زالت في بنيتها ثقافة «سي السيد». وهي في حركتها ثقافة رأسية تتحرك بين الأعلى والأدنى، وليست ثقافة أفقية تتحرك بين الأمام والخلف. ما زالت في حاجة إلى أن تصبح فيها للإنسان قيمة، والأرض أي المصلحة قاعدته الأساسية، والتجربة البشرية أي الفطرة نقطة التقاء بين السماء والأرض.

إن الاجتهاد مفتوح على مصراعيه، ليست له حدود حتى ولو كان في إعادة فهم النصوص وتأويلها حتى لا يصبح النص مانعاً منه أو عقبة أمامه. ولا يُستبعد رأي، ولا يُتهم طريق، ولا يُستهجن فكر. والتفكير علناً خير من التفكير ضمناً. والصوت المعلن خير من الصوت الخافت. والنضال الديمقراطي يقوم على احترام الرأي والرأي الآخر، (وإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).
أضافة تعليق