العلاقة بين مقاصد الشريعة وأصول الفقه
د. نعمان جغيم(1)
ملخص
هذا البحث دراسة في واقع وآفاق العلاقة بين علم أصول الفقه ومباحث مقاصد الشريعة، وذلك من خلال النظر في طبيعة مباحث كل من علم أصول الفقه ومقاصد الشريعة، والنظر في إمكانية استقلال مباحث مقاصد الشريعة بعلم مستقل، وتوابع ذلك وآثاره في علم أصول الفقه. وقد قام منهج البحث على استعراض وتحليل عمل الشاطبي في كتابه الموافقات، وابن عاشور في كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية، وآراء بعض الباحثين المعاصرين في العلاقة التي ينبغي أن تكون بين أصول الفقه والمقاصد. وخلص البحث إلى أن علم أصول الفقه لا يمكنه الاستغناء عن مباحث المقاصد التي ينبغي أن تكون الروح الذي يسري فيه، والخيط الذي ينظم مباحثه.
مقدمة
الحديث في المقاصد الشرعية وإعمالها في الاجتهاد بشقيه النظري والتنـزيلي ليس كشفا معاصرا في العلوم الشرعية، وإنما هو صحوة من العقل المسلم، وعودة بمناهج تفسير النصوص والاجتهاد إلى أصولها التي سار عليها أعلام السلف الصالح. وقد برز اهتمام المعاصرين من علماء المسلمين بالبحث في مقاصد الشريعة في مطلع القرن الماضي، حيث تم نشر كتاب الموافقات للشاطبي مع عدة تعليقات عليه، ثم ألّف الشيخ محمد الطاهر بن عاشور كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية اقتفاء لأثره، وأطلق فيه الدعوة إلى تأسيس علم خاص بالمقاصد. وكذلك وضع علال الفاسي كتابا بعنوان: مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها. ثم ظهرت بعد ذلك دراسات عدة حول مقاصد الشريعة.[2]
وقد أثارت دعوة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور لاستقلال مقاصد الشريعة بعلم مستقل إشكالية حول المنحى الذي ينبغي أن يأخذه التأليف في مقاصد الشريعة: هل هو السير بها نحو الاستقلال أم إدماجها في علم أصول الفقه؟ وهذا البحث محاولة لدراسة هذه الإشكالية. وسيعتمد البحث المنهج الوصفي لرصد ما هو مطروح في الساحة العلمية عن العلاقة بين مباحث مقاصد الشريعة وعلم أصول الفقه، والمنهج التحليلي لتقييم تلك الأطروحات والترجيح بينها.
طبيعة مقاصد الشريعة
يقتضي البحث في العلاقة بين مباحث مقاصد الشريعة ومباحث أصول الفقه الحديث أوَّلا عن طبيعة مباحث مقاصد الشريعة، لنتمكَّن بعد ذلك من تحديد نقاط التقاطع والتمايز بين هذين النوعين من المباحث.
فإذا نظرنا في مباحث المقاصد في الإطار الذي وضعها فيه الشاطبي نجدها تتوزع بين محورين: أحدهما قصد الشارع، والثاني قصد المكلَّف. وهذا تقسيم منطقي جامع؛ لأن العلاقة في الأحكام الشرعية بين الشارع والمكلَّف؛ فالشارع لم يضع الشريعة عبثا، وإنما وضعها لتحقيق مقاصد معينة. والمكلَّف في امتثاله أو مخالفته لأحكام تلك الشريعة ينطلق من قصود معينة.
وقد أدرج الشاطبي تحت المحور الأول أربعة أنواع، هي:
1. ’’قصد الشارع في وضع الشريعة’’؛[3] ومجمل ما جاء فيه بيان لكون الشارع إنما وضع الشريعة لتحقيق مصالح الخلق بمراتبها الثلاث: الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات، وحديث في العلاقة بين المصالح والمفاسد، ومراتب كل منهما.
2. ’’قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام’’؛[4] وهو بحث في بعض طرق وضوابط فهم النصوص القرآنية.
3. ’’قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها’’،[5] وهو حديث عن خصائص التكاليف الشرعية وعلاقتها بالمكلَّف، من حيث القدرة على الالتزام، والمشقة الناتجة عن التكليف.
4. ’’قصد الشارع في دخول المكلَّف تحت أحكام الشريعة’’،[6] وهو حديث عن العلاقة بين قصد الشارع من شرع الأحكام وقصد المكلَّف عند تطبيق تلك الأحكام والالتزام بها، حيث ينبغي على المكلَّف، حتى يصح التزامه، أن يكون قصده تبعا لقصد الشارع لا مناقضا له. وعن علاقة الأحكام الشرعية بحظ المكلَّف وأثر ذلك في صحة الالتزام، وطريقة تنفيذه. وعن عموم الشريعة لجميع المكلفين ولجميع أفعالهم وجوانب حياتهم ومرجعيتها في كل ما يعنّ لهم.
أما المحور الثاني فهو ’’مقاصد المكلَّف في التكليف’’،[7] وفيه تفصيل الحديث عن مقاصد المكلَّف في القيام بالتكاليف الشرعية، وعلاقة ذلك بقصد الشارع.
وسيأتي بيان أن النظر في هذا المباحث يُظهر أن غالبها يتقاطع مع مباحث علم أصول الفقه، وبذلك يمكن إدراجها ضمنه.
أما محمد الطاهر بن عاشور فقد نحى في كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية منحى آخر في تقسيم مباحث مقاصد الشريعة، حيث قسّمها إلى قسمين:
القسم الأول: مقاصد عامة
وهي ’’المعاني والحِكَم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها...’’،[8] وأورد منها: 1ـ كون الشريعة مبنيَّة على الفطرة؛ بمعنى موافقة جميع أحكامها لما تقتضيه فطرة الإنسان السليمة، وقصد تلك الأحكام إلى حفظ تلك الفطرة وصيانتها من كل خرق أو اختلال.[9] 2ـ كون الشريعة مبنيَّة على السماحة؛ وهي التَّوسُّط بين التضييق والتساهل، فهي راجعة إلى الاعتدال والعدل والتوسط.[10] 3ـ قصد الشريعة إلى حفظ نظام الأمة الإسلامية وتحقيق الصلاح في جميع مجالات الحياة الإنسانية، واستدامة ذلك الصلاح. ويكون ذلك بتحقيق صلاح الإنسان القائم على ذلك النظام.[11] 4ـ اتّصاف الشريعة بالعموم من حيث الأشخاص والأزمان والأماكن،[12] وتساوي الناس في شمول أحكام الشريعة لهم، إلا لعارض يقتضي إعفاء البعض من عموم التشريع.[13] 5ـ أن الشريعة الإسلامية لم تشتمل على ما فيه نكاية بأتباعها، فهي قاصدة طريق التيسير والرفق.[14] 6ـ أن الشريعة ليست قاصدة إلى تغيير جميع عوائد البشر، بل سارت على تغيير ما كان منها فاسدا، وتقرير ما كان منها من باب المعروف.[15] 7ـ ابتناء الأحكام الشرعية على المعاني والأوصاف لا على الأشكال والأسماء،[16] وقبول ما تبيَّن منها ابتناؤه على معنى معقول القياس عليه.[17] 8ـ إبطال الشريعة للتحيّل على أحكامها،[18] وسدها ذرائع الفساد،[19] لأن في كليهما إبطال لمقاصد الشارع من شرع الأحكام. 9ـ أن الشارع قصد إلى تجنُّب التفريع في أحكام المعاملات في وقت التشريع تحقيقا للمرونة في هذا المجال، وتجنُّبا لما قد ينتج عن التفصيل من حرج على الأجيال التي تأتي في المستقبل.[20]
القسم الثاني: مقاصد التشريع الخاصة بأنواع المعاملات بين الناس
واستهلَّ هذا القسم بمقدمة عن انقسام الأحكام الشرعية إلى مقاصد ووسائل،[21] وأن المقصد الشرعي الجامع لأحكام المعاملات بين الناس هو تعيين أنواع الحقوق لأنواع مستحقيها رفعا لأسباب النـزاع والشجار.[22] ثم تحدَّث بالتفصيل عن مقاصد أحكام العائلة،[23] ومقاصد التصرفات المالية،[24] ومقاصد الشريعة في المعاملات المنعقدة على الأبدان،[25] ومقاصد أحكام التبرعات،[26] ومقاصد أحكام القضاء والشهادة،[27] والمقصد من العقوبات.[28]
وسيأتي بيان أن مباحث المقاصد بهذه الطريقة التي صاغها ابن عاشور قد تتمايز عن مباحث أصول الفقه في كثير منها، وبناء عليه يمكن أن يتحقق لها الاستقلال الذي يدعو إليه.
أما الشيخ عبد الله بن بيه فيقسم المقاصد إلى: مقاصد كونية، ومقاصد تشريعية. أما المقاصد الكونية فهي المقصد من خلق الكون والإنسان، وهي أعلى من مقاصد التشريع.[29] وأما المقاصد التشريعية فتتشعّب إلى إلى ثلاث شُعب: أولها المقاصد العامة الكبرى التي ترجع إليها الشريعة، وثانيها المقاصد الخاصة بباب من أبواب الفقه أو مجال من مجالاته، وثالثها المقاصد الجزئية، وهي مقصد الشارع في كل حكم على حدة. والمراد عنده بالنظرية المقصدية هو ملاحظة المعنى (الحِكْمة والمقصد) في فهم الشرع واستنباط الأحكام الشرعية.[30]
أما طه عبد الرحمن فيرى أن موضوعات المقاصد الشرعية ينبغي أن تتوزع على ثلاثة محاور: هي المضمون الدلالي للنصوص الشرعية، والمضمون الشعوري والإرادي، والمضمون القيمي.[31]
وهذا التقسيم ـ مع أنه لا يبعد في مضمونه عن تقسيمات الشاطبي وابن عاشور وابن بيه إذا أخذت مجتمعة ـ إلا أنه من الناحية التنظيرية يبدو لي أكثر شمولا وضبطا. وسوف أختاره لرسم إطار عام لموضوعات مقاصد الشريعة حسب التفصيل الآتي:
المحور الأول
المضمون الدلالي للنصوص الشرعية، أي مدلول الخطاب الشرعي والمراد منه. فأوَّل ما يُفهم من الحديث عن مقاصد الشارع هو التعرُّف على معاني النصوص الصادرة من الشارع، سواء في القرآن الكريم أو السنة النبوية؛ لأن إدراك مقصود الشارع من خطابه هو مفتاح كل شيء في العلاقة القائمة بين الخالق والمخلوق، وفي التفاعل بين الوحي ومبلِّغه من جهة والمؤمنين بهذا الوحي من جهة أخرى. سواء كان ذلك المقصود أمرا جزئيا مستفادا بشكل مباشر من نص جزئي، أو كان حكما عاما مستفادا بطريق إجراء الخاص مجرى العام بناء على دليل يفيد ذلك، أو بطريق الاستقراء. وسواء كان المقصود المستفاد من النصوص متعلقا بشكل مباشر بتصرف المكلَّف إزاء هذا المقصود فعلا أو تركا أو تخييرا، أو كان متعلقا بالحِكَم والغايات التي شرع من أجلها حكم من الأحكام.
المحور الثاني
المضمون الشعوري والإرادي، وهو الذي يعود إلى العلاقة بين قصد الشارع من وضع الشريعة وقصد المكلَّف من الامتثال لها. بمعنى النظر إلى مدى التطابق بين الغاية التي يُفْهم (من النصوص والتصرفات الشرعية) أن الشارع قاصد إلى تحقيقها من شرع حُكْم من الأحكام، والطريقة التي ينفّذ بها المكلَّف ذلك الحكم. فلا نتوقف عند النظر إلى الصور والأشكال التي يؤدي بها المكلَّف الأحكام والتصرفات الشرعية فنقبلها بمجرد الموافقة الظاهرية، وإن كانت في الواقع لا يراد بها تحقيق قصد الشارع، بل يتعدى الأمر إلى النظر في قصد المكلَّف من قيامه بذلك الفعل أو التصرف ومدى تطابق ذلك مع قصد الشارع من شرع ذلك التصرف.
المحور الثالث
المضمون القيمي للأحكام والتصرفات الشرعية. وهي الأمور التي تمثل منظومة القيم الإسلامية التي تشمل الحِكَم والغايات العامة التي من أجلها خلق الله تعالى الإنسان،
واستعمره في هذا الكون وسخره له، وأرسل إليه الرسل وأنزل الوحي وشرع الشرائع، ثم الحِكَم والغايات الخاصة بجزئيات الشريعة وتفاصيلها.
والحديث عن منظومة القيم الناظمة للأحكام والتصرفات الشرعية (التي تمثل الجزء الأكبر من مباحث المقاصد) لا ينبغي أن يقصر على مجال الأحكام الفقهية الجزئية، كما هو عليه الحال الآن، حيث مازال البحث في موضوع المقاصد مركزا على مباحث الفقه وأصوله. بل ينبغي توسيعه ليشمل مقاصد الشرع في جميع مجالات الحياة العلمية والعملية، بدءا من مقاصد الخلق والاستخلاف في الأرض، إلى المقاصد الشرعية في العلوم بشقيها: الطبيعية والتقنية، والإنسانية والاجتماعية. فالبحث والتنظير لهذه المقاصد هو الذي يحقق للدين بعده الشمولي، وحاكميته على جميع مجالات المعرفة والعمل. فيصبح المسلم مستشعرا لمقاصد خلقه واستخلافه، ويصير الباحث العلمي مدركا للأطر المقاصدية التي يسير فيها بحثه العلمي، ويكون العامل محكوما بالمقاصد الشرعية عند تنزيل المعرفة النظرية على الواقع العملي. وبذلك تبلغ فكرة المقاصد مداها استشعارا، وتنظيرا، وتطبيقا.
أما عن طبيعة المضمون المعرفي للمقاصد، فهي المبادئ والقواعد التي تحدد مقاصد الشرع العامة والخاصة. وهي مستنْبَطَة من النصوص الشرعية وفق المنهجية الأصولية الفقهية، سواء من آحاد النصوص الشرعية، أو باستقراء مجموعة من النصوص والأحكام والمعاني لنستخلص منها مقصدا مشتركا يحدد لنا المعاني القيمية التي قصدها الشارع من تلك النصوص أو الأحكام. فالمقاصد في واقعها نتاج العملية الفقهية وثمرتها، ولكنها من جهة أخرى تُسخدم فيما بعد لتوجيه العملية الفقهية وضبطها.
فالهدف من البحث في المقاصد هو الاستعانة بها على حُسْن فهم النصوص والأحكام الشرعية، ووضع موجِّهات وضوابط لعملية الاجتهاد الشرعي بنوعيه الاستنباطي والتنزيلي.
وههنا مسألة ذات صلة بهذا الموضوع ينبغي التطرق لها، وهي: هل يمكن اتخاذ ’’القواعد المقاصدية’’ أساسا لاستنباط الأحكام بعيدا عن الرجوع إلى النصوص أو القياس؟ والجواب أن موقع ما يُطلق عليه ’’القواعد المقاصدية’’ لا يختلف عن موقع القواعد الفقهية؛ فهي في أصلها ضوابط تكشف عن معاني مستنبَطة من النصوص وتجمعها في قواعد عامة تعين الفقيه وتوجِّهه في عملية الاستنباط، كما أنها يمكن أن تستخدم في بعض الحالات في استنباط بعض الأحكام، والحُكْم على بعض الوقائع، خاصة فيما لا يوجد فيه نص خاص.[32] ولكنها لا يمكن أن تكون بحال من الأحوال أساسا وحيدا للاجتهاد بعيدا عن النصوص وما يتعلق بها وفق المنهجية الأصولية الفقهية الثابتة. فعملية الاجتهاد في الحكم على واقعة جديدة قضية متعددة الأبعاد، وليست أمرا بسيطا بحيث يحكم عليها مباشرة في ضوء قاعدة من القواعد المقاصدية أو الفقهية. ففضلا عن النظر في تمشّي الحكم على الواقعة مع القواعد والمقاصد العامة للشريعة، ينبغي النظر في عدم معارضته للمقاصد الخاصة ذات العلاقة بالواقعة، والنظر في احتمال كون الواقعة يتجاذبها أكثر من قاعدة أو مقصد للترجيح بأيها تُلْحَق، ثم النظر في إمكان كون هذه الواقعة محلّ استثناء، لأن استثناء بعض الجزئيات من القواعد العامة مسلك أصيل راعاه الشارع في التشريع، ثم النظر فيما يؤول إليه تطبيق ذلك الحكم في الواقع: هل يحقّق مقاصد الشارع أم لا؟ ولا يتحقّق هذا الأمر إلاّ بالنظر في النصوص والقواعد على السواء، والتعامل معها وفق المنهجية الأصولية الفقهية للوصول إلى الحكم المناسب. وإلا، فإن الأمر سيؤول إلى العبث بالنصوص والمقاصد الشرعية، ولا يكون الأمر عندئذ استنباطا وفقا للمقاصد الشرعية، ولكن وفقا لمقاصد وأغراض من يريد وضع أحكام توافق هواه. فمثلا إذا زعم شخص أن الشارع قاصد إلى التيسير على الناس (وهو مقصد حقيقي)، وبناء عليه فإن إلغاء عقوبة الإعدام (القود في القصاص) واستبدالها بالسجن يكون متمشيا مع مقاصد الشارع، ناسيا أن التيسير على الجاني هنا فيه تعسير كبير على المتضررين من الجناية وعلى المجتمع عموما. فهذا استغلال لمقصد من مقاصد الشارع في النظر إلى القضية من جهة واحدة، مع إهمال الجهات الأخرى، والنظر السليم يقتضي النظر إلى الأمور من جميع الجهات للترجيح بين المصالح والمفاسد المحتملة، هذا فضلا عن أن مثل هذا الرأي فيه إلغاء لنص قرآني صريح، وهو أمر مخالف للمقصد الأول من مقاصد الشريعة، وهو أن الشريعة إنما وُضِعَت لغرض الالتزام بها.
بعد الحديث عن طبيعة مباحث مقاصد الشريعة، ننتقل إلى الحديث في ضوء ذلك عن الخيارات الممكنة لتأسيس العلاقة بين مقاصد الشريعة وأصول الفقه، حيث يمكن حصرها في ثلاثة، هي: خيار جعل مقاصد الشريعة مبحثا من مباحث أصول الفقه، وخيار بناء علم الأصول على المقاصد، وخيار إفراد المقاصد بعلم مستقل.
جعل مقاصد الشريعة مبحثا من مباحث الأصول
الخيار الأول هو جعل مقاصد الشريعة قسما من أقسام علم الأصول، تضاف إلى أقسامه المعروفة: الحكم، والأدلة، ودلالات الألفاظ، والاجتهاد...إلخ. وهو خيار يعترض عليه الدكتور طه عبد الرحمن ويراه خطأ منهجيا، معللا ذلك بأن ’’ما تناوله علم المقاصد بالبحث هو جملة ما يختص بالنظر فيه علم الأصول بحسب وضعه الاصطلاحي’’.[33]
ويبدو للباحث أن محذور هذا الخيار أنه يُبقي الأقسام الأخرى من أصول الفقه على جفافها وفقرها إلى البعد القيمي والخلقي، حيث إن الكثير منها في حاجة إلى توسيع وتطوير، حتى تصبح دراسته تسير في اتجاه البحث في المضامين القيمية للنصوص والأحكام الشرعية، بدلا من قصر التركيز على المسائل اللغوية والكلامية. وفضلا عما سبق، فإن هذا الخيار يوقعنا في مشكلة منهجية؛ حيث إننا إذا أعطينا البحث في المقاصد حقه ومداه فإن ذلك يؤدي إلى تضخّم الجزء الخاص به بشكل قد يطغى على الأجزاء الأخرى، وينتج عنه خلل منهجي وتضخّم في مباحث الأصول. وإذا أردنا تجنب هذا الخلل المنهجي بتحديد المباحث التي تدرس في هذا القسم بالقضايا الأساسية في المقاصد، فإن ذلك يؤدي إلى تحجيم هذه المباحث الحيوية وتضييق نطاق البحث فيها، ومن ثَمّ التقليل من فوائدها، وهو أمر سلبي غير مرغوب فيه.
وقد يبدو لأول وهلة أن هذا الخيار هو مسلك الشاطبي، حيث خصص للمقاصد الجزء الثاني من كتاب ’’الموافقات’’، بسط فيه القول فيها. ولكن بما أن الشاطبي لم يكن يرمي من وراء تأليف الموافقات إلى وضع كتاب متكامل في أصول الفقه يشمل جميع أبواب هذا العلم بشكل مرتَّب، بل كان قصده تأصيل بعض المسائل الأصولية، وإعادة النظر في أخرى، وإضافة الكثير من المسائل إلى هذا العلم، ومنها مقاصد الشريعة، والدعوة إلى صياغة جديدة لعلم الأصول يكون عماد منهج البحث فيه الاستقراء، والخيط الناظم الذي يربط مباحثه والروح التي تسري فيه المقاصد الشرعية، فإنه من العسير أن ننسب إلى الشاطبي أنه بإفراده جزءا من الموافقات للمقاصد الشرعية يكون قد سار في اتجاه جعلها جزءا مستقلا من أجزاء هذا العلم.
ويبدو للباحث أن هذا الإفراد اقتضته ضرورة الريادة في التنظير لمباحث المقاصد، بقصد الإبراز والتوسُّع في البيان والاحتجاج والإثبات، وإن اقتضى ذلك شيئا من الاستطراد والإطناب، والتوسُّع في إيراد الشواهد. وهذا شأن العمل التأسيسي، إذ قد يحتاج صاحبه إلى طول نفس في الشرح والاستدلال بقصد البيان والإقناع، خاصة إذا كان المؤلف يتوقع إنكارا ومعارضة لما يؤسس له، وهو الأمر الذي كان يخشاه الشاطبي كما تحدث عن ذلك في مقدمة الكتاب.
وفضلا عما سبق، فإن النظر في كتاب الموافقات يدل على أن الشاطبي قد بناه على ما تقرر لديه من نتائج البحث الطويل في مقاصد الشريعة منهجا ومضمونا.
فمن حيث المنهج، نجد المنهج الاستقرائي، الذي عده الشاطبي أفضل منهج للبحث في المقاصد الشرعية، حاضرا بقوة في جميع أجزاء الكتاب،[34] وكذلك الأمر في البحث عن الكليات وتحديد العلاقة العضوية التكاملية بينها وبين الجزئيات.
ومن حيث المضمون، يظهر بجلاء الربط بين المقاصد الشرعية وجملة كبيرة من مسائل علم الأصول.
ففي كتاب الأحكام يظهر أثر المقاصد في البحث الأصولي عند الشاطبي، حيث أعطى تلك الأحكام بُعْدا مقاصديا قيميا، بعد أن كانت في كتب الأصول مباحث مصبوغة بالصبغة القانونية الصّرفة. فنجده عند حديثه عن الأحكام التكليفية الخمسة يربطها ربطا مباشرا بالمقاصد، فيذهب إلى أن تلك الأحكام إنما توصف بالحرمة والكراهة والوجوب والندب باعتبار قصد المكلف إلى فعلها، فإن لم يوجد قصد منه إلى فعلها ’’كان مجردها في الشرع بمثابة حركات العجماوات والجمادات، والأحكام الخمسة لا تتعلق بها عقلا ولا سمعا’’.[35]
ثم يربط بين تقسيم الأحكام الشرعية إلى مراتب مختلفة باختلاف المصالح الناشئة عن الامتثال للأوامر واجتناب النواهي، والمفاسد الناشئة عن مخالفة ذلك. فمما يعتبر في تقسيم الأوامر إلى وجوب وندب تفاوت المصالح الناشئة عن التزامها والمفاسد الناتجة عن تركها، وكذلك الشأن في النواهي؛ جُعِل منها الحرام والمكروه بناء على تفاوت المضار الناتجة عن الوقوع فيها.
وفي تناوله لمسائل المباح ركز على دور المباح في تحقيق مقصد عمارة الأرض، وذلك بالتأكيد على مسألة أن ترك المباح غير مطلوب ولا مقصود للشارع، بل إن الشارع قاصد إلى الإذن في التمتع بالمباحات واستثمارها في عمارة الأرض. وهو بذلك يرفض الاتجاه الصوفي الذي يدعو إلى ترك المباحات قدر الإمكان والتجرد من الدنيا بحجة أن الاشتغال بها يصرف عن النوافل من العبادات وفعل الخيرات،[36] ويعترض على هذا بكونه لا يمثل حقيقة الزهد، فالزهد ليس في ترك المباحات بإطلاق، وإنما هو بترك الحرام.[37]
وفي حكمه على الموقف من المباحات، يوظف الشاطبي المقاصد ليخلص إلى أن المباح إذا كان مطلقا فحكمه التخيير المطلق بين الفعل والترك، أما إذا كان طريقا إلى غيره، فإن حكمه يكون حكم ذلك الغير، فإذا كان ذريعة إلى محرم صار محرما، وإذا كان لابد منه لأداء واجب أخذ حكم الوجوب، وهكذا.[38] وذلك بناء على أن أحكام المباح لها اقتضاءان: اقتضاء أصلي قبل طروء العوارض، وهو الذي عبّر عنه بالمباح المطلق، واقتضاء تبعي مع اعتبار التوابع والإضافات، يتلبس فيه المكلف بتصرف مباح في أصله لكنه يؤول به مآلا مختلفا، فيتغير الحكم من الإباحة إلى ما يقتضيه ذلك المآل.[39]
ثم ربط أحكام المباح والمندوب والمكروه بالأصول الثلاثة: الضروريات والحاجيات ومكملاتهما. فالمباح يكون مباحا بالجزء مطلوبا ومحبوبا بالكل من جهة كونه خادما لتلك الأصول الثلاثة، وقد يكون منهيا عنه بالجملة ومرغوبا في تركه إذا كان خادما لما ينقض تلك الأصول مع بقائه مباحا بالجزء.[40] والمندوب بالجزء يكون واجبا بالكل، بمعنى أن تركه في بعض الحالات والأوقات أو بعض الأفراد لا ضرر فيه، أما المداومة على تركه إن كان من مندوبات الأعيان أو التواطؤ على تركه من جميع الأفراد إذا كان من مندوبات الكفاية فهو المنهي عنه، بل يجب فعله على الجملة لما في تركه من خروج عن مقاصد الشارع من إظهار شعائر الإسلام وفعل الخيرات والطاعات.[41] ولأن المندوبات من باب المكملات للفرائض والواجبات، فيكون في تركها بالكل إخلال بتلك الفرائض والواجبات، وهو يفضي إلى الإخلال بالضروريات.[42]
وكذلك المكروه بالجزء يكون ممنوعا بالكل، لأن فعله في حالات فردية أو في بعض الأوقات لا ينتج عنه عادة ضرر، أما المداومة على فعله فإنه قد يقود إلى الحرام والتقصير في الواجبات والمسؤوليات، وهو أمر مناقض لمقاصد الشارع. فالمكروهات في حقيقتها خادمة ومكملة لاجتناب المحرمات.[43]
وعند الحديث عن مباحث الحكم الوضعي نجد الشاطبي يربط بين إيقاع الأسباب والشروط والموانع من قبل المكلَّف وبين قصد الشارع إلى ذلك، حيث بيَّن أن ما كان منها راجعا إلى خطاب التكليف أمرا بالفعل أو بالترك (أي التي جُعِلت من جهة أسبابا أو شروطا أو موانع، ومن جهة أخرى هي أحكام تكليفية)، فالشارع قاصد إلى إيقاعه من المكلَّف، وينبغي أن يكون فعل المكلف فيه متوجها إلى تحقيق ما قصده الشارع وطلبه، وأما ما كان منها مقصورا على خطاب الوضع، دون أن يكون له علاقة بخطاب التكليف من وجه آخر، فليس للشارع قصد في تحصيله من حيث هو سبب أو شرط أو مانع ولا في عدم تحصيله، وإنما مقصود الشارع فيه أنه إذا حصل السبب ترتب عليه المسَبَّب، وإذا توفر الشرط لزم عنه المشروط، وإذا حصل المانع ارتفع مقتضى السبب أو الحكم، لأن المانع قد يمنع السبب رأسا فلا حكم، وقد يرفع الحكم ويبقى السبب.[44]
وفي مباحث السبب نجد الصبغة المقاصدية غالبة، حيث أفاض الشاطبي في المسائل التي تحدد العلاقة بين قصد المكلف من إتيان الأسباب، وقصد الشارع من وضعها. ومن ذلك حديثه عن العلاقة بين الأسباب وبين ما ينتج عنها من صلاح وفساد، حيث قرر أن ’’الأسباب الممنوعة أسباب للمفاسد لا للمصالح، كما أن الأسباب المشروعة أسباب للمصالح لا للمفاسد’’.[45] فالأسباب المشروعة ينبغي عند إتيانها مراعاة أن الشارع قاصد منها تحقيق الصلاح للناس، فلا ينبغي استخدامها بطريق مخالف، وما يمكن أن ينتج عنها من مفاسد عارضة، فهو في أصله غير مقصود للشارع، وإنما هو ناشئ عن أسباب أخرى، وكذلك الأمر في الأسباب الممنوعة، فهي منهي عنها لما يترتب عليها من مفاسد، وما قد يعرض في طريقها من مصالح ليس ناشئا عن تلك الأسباب الممنوعة، ولكن عن أسباب أخرى مقارنة لها.[46]
ومنها تقرير عدم صحة قصد المكلَّف إلى إيقاع سبب مشروع لتحقيق أمر يناقض ما قصده الشارع من وراء وضع ذلك السبب، لأن المكلَّف يكون بذلك قاصدا خلاف ما قصده الشارع من ذلك.[47] في حين إذا قصد المكلَّف إلى التسبُّب لتحصيل ما علم، أو ظن أن السبب المشروع وضع لأجله، فإن تسببه يكون صحيحا.[48]
ومنها علاقة السبب المشروع بالحكمة من مشروعيته: فما حكم التسبب في حالات العلم أو الظن بوقوع الحكمة، وفي حالات العلم أو الظن بعدم وقوع الحكمة؟ فالأسباب المشروعة شرعت لتحقيق حِكَم ومصالح، فإذا ظهر ظهورا قاطعا عدم تحقق الحِكْمة والمصلحة، أو ظهر ذلك ظهورا غالبا: فهل يبقى مباشرة السبب مشروعا أم لا؟[49]
وفي مباحث الشرط ربط بين قصد المكلَّف من فعل الشروط وقصد الشارع من وضعها ونتيجة فعل المكلَّف. فإذا قصد المكلَّف من فعل الشروط، أو تركها ما هو داخل ضمن مقاصد الشارع، أو ما لا يناقضها، ففعله صحيح، أما إذا قصد من فعله، أو تركه، إسقاط الحكم الشرعي، ومناقضة قصد الشارع، ’’فهذا عمل غير صحيح، وسعي باطل’’.[50]
وفيما يشرطه الإنسان على نفسه من أفعال، ربط الشاطبي الحكم على صحة تلك الشروط ولزوم الوفاء بها بعلاقتها بالحكمة التي شرع من أجلها ذلك الفعل الذي ربطت به الشروط: فإذا كان الشرط مكملا لحكمة المشروط، وعاضدا له؛ فلا إشكال في مشروعيته. أما إذا كان غير ملائم لمقصود المشروط، ولا مكملا لحكمته، بل هو على العكس مناقض للمقصد من المشروط (كمن اشترط في الزواج عدم النفقة أو عدم الاستمتاع)، فهو شرط باطل بلا شك. أما إذا لم يظهر في الشرط منافاته، ولا صلاحيته لمشروطه، فيفرق بين العبادات والمعاملات، فما كان في العبادات لا يكتفى فيه بعدم المنافاة دون أن تظهر الملاءمة، لأن الأصل فيها التعبد، وما كان في المعاملات فيكتفي فيه بعدم المنافاة لأن الأصل فيها الالتفات إلى المعاني دون التعبد.[51]
أما عن علاقة الموانع بقصد المكلَّف، فإنه إذا توجه قصده إلى إيقاع المانع أو رفعه فينظر: إذا فعله أو تركه من حيث هو داخل تحت خطاب التكليف (أمرا أو نهيا أو إباحة)، فإنه يترتب عليه أثره، وتنبني عليه أحكامه، كمن كان عنده نصاب فاستدان لحاجة فتسقط عنه الزكاة، أما إذا فعله من جهة كونه مانعا قاصدا إلى إسقاط الحكم الشرعي، فعمله غير صحيح. وهل يعاقب بنقيض ما قصد إليه أم لا؟ في المسألة تفصيل ليس هذا محله.[52]
وفي مباحث الصحة والبطلان، ربط الشاطبي بين مفهومي الصحة والبطلان ومقاصد الشارع من شرع العبادات والمعاملات موافقةً ومناقضةً. وكذلك ربط الصحة (بمعنى تحصيل الثواب في الآخرة)[53] في المعاملات بقصد المكلَّف من الفعل، فإن كان قصده من المعاملات موافقة خطاب الشارع كان فعله عبادة يثاب عليها، وإن كان قصده مجرد تلبية رغباته فذاك حظه منها، حيث ترتب عليها آثارها في الدنيا لموافقتها قصد الشارع من شرعها، ولكن لا ثواب له على فعله ذلك.[54]
وفي مباحث الرخصة قرر الشاطبي أن حكم الرخصة الإباحة مطلقا من حيث هي رخصة، بناء على تحديد مقصد الشارع منها، فالرخصة عنده شرعت بسبب المشقة للتخفيف عن المكلَّف ورفع الحرج عنه. وتكون الرخصة بمعنى رفع الحرج، فيكون المكلَّف مخيرا بين الأخذ بالعزيمة والرخصة، فإن أخذ بالرخصة لم يكن عليه حرج، وذلك بشرط أن لا يوجد عامل خارجي يجعل الأخذ بالرخصة لازما.[55]
وفي كتاب الاجتهاد كان الشاطبي متفردا في الحديث عن شروط الاجتهاد، حيث نجده ـ فضلا عما بثَّه في كتابه من حديث عن الشروط التي اشترطها الأصوليون في من يتصدى للاجتهاد ـ أول أصولي يجعل الشرط الأساس في توفر صفة الاجتهاد فهم مقاصد الشريعة على كمالها.[56] كما تحدث عن أهمية العلم بالمقاصد الشرعية في تحديد مآلات الأفعال عند الاجتهاد والإفتاء، كما ارتكز على المقاصد في تقرير مسلك سد ذرائع الفساد، وإبطال الحيل لأن صاحبها قاصد بها مناقضة أحكام الشارع وإبطالها، ومع أنه يتظاهر بغير ذلك، فهو في الواقع ناقض لقواعد الشريعة ومقاصدها.[57]
بناء علم الأصول على المقاصد
الخيار الثاني هو إعادة صياغة علم أصول الفقه بشكل يستوعب كثيرا من مباحث المقاصد ويجعلها جزءا من نسيجه.
فالناظر في علم أصول الفقه يدرك أنه وضع في أصله لبيان مناهج الاجتهاد وضوابطه، سواء في ذلك الاجتهاد القائم على تفسير النصوص أو على القياس. ولكن بعد ذلك تطور ليصبح بمثابة نظرية عامة للفقه الإسلامي؛ فلم يعد يقتصر على الحديث عن مناهج الاجتهاد ومصادر التشريع، بل تعدى ذلك إلى الحديث عن جميع العناصر ذات العلاقة بالتشريع، كما هو الحال في تقسيم الأقطاب الأربعة عند الغزالي: الأحكام (وتشمل: الحكم، والحاكم، والمحكوم عليه، والمحكوم فيه)، والأدلة الشرعية، ووجوه دلالة الأدلة، والمجتهد الذي يستنبط الأحكام من الأدلة ومعه الاجتهاد الذي هو عملية التعامل مع النص أو ما فيه معناه.
ومادام الأمر قد استقر على جعل علم أصول الفقه بهذا النظم، فإنه ينبغي البلوغ به مداه منهجا ومضمونا، حتى تصبح مباحثه ممثلة لنظرية متكاملة للتشريع الإسلامي، تبحث بعمق مصادر التشريع، ومقاصده، وفلسفته، ومناهج الاجتهاد فيه وضوابطه، وتطبيقه على واقع الحياة، والعلاقة بين الشارع والمشرَّع له. ولا شك أن تحقيق هذا الهدف يتعدى المباحث التقليدية لعلم الأصول ليشمل المقاصد وغيرها.
وإذا نظرنا في الإطار العام للمقاصد الذي سبقت الإشارة إليه من جهة، والتقسيمات التي وضعها الشاطبي في كتاب الموافقات للمحاور العامة لمباحث المقاصد من جهة أخرى، يمكن أن نرسم الخطوط العريضة لإعادة صياغة علم أصول الفقه على أساس مقاصد الشريعة بالصورة الآتية:
المحور الأول
وهو المضمون الدلالي للنصوص الشرعية، فإنه لا شك أن هذا النوع من المقاصد لا انفكاك له عن النصوص، بل لا وجود له أصلا دونها، فتحصيله يكون بتفسير النصوص الشرعية، وهو الأمر الذي وضع من أجله علم أصول الفقه. وبناء عليه فإن البحث في هذا النوع من المقاصد إنما هو من صميم اختصاص علم الأصول.
وهذا النوع من المقاصد هو الذي عبّر عنه الشاطبي بـ ’’قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام’’؛[58] وهو بحث في بعض طرق وضوابط فهم النصوص القرآنية. وبغض النظر عن مدى الاتفاق مع الشاطبي في المسائل التي ناقشها ضمن هذا النوع، وعن سعتها وشمولها، فإنها في الأخير تندرج ضمن ضوابط فهم النص الشرعي، التي هي ذات صلة وثيقة بعلم أصول الفقه، إن لم تكن من صلبه. أما موضعها ضمن مباحث الأصول، فإنه على الرغم من أن الشاطبي قد أفردها بالبحث ضمن كتاب المقاصد، إلا أنها بعد تهذيبها وتطويرها تصبح جزءا أساسيا من مباحث كتاب الله تعالى ضمن باب الأدلة الشرعية.
المحور الثاني
وهو المضمون الشعوري والإرادي الذي يعود إلى العلاقة بين قصد الشارع من وضع الشريعة وقصد المكلف من الامتثال لها. وقد تحدث الشاطبي عن هذا النوع في مواضع عدة من كتاب المقاصد، أحدها: القسم الثاني من كتاب المقاصد، وهو ’’مقاصد المكلَّف في التكليف’’،[59] وفيه تفصيل الحديث عن مقاصد المكلَّف في القيام بالتكاليف الشرعية، وعلاقة ذلك بقصد الشارع. والثاني: هو النوع الثالث من القسم الأول ’’قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها’’،[60] وهو حديث عن خصائص التكاليف الشرعية وعلاقتها بالمكلَّف، من حيث القدرة على الالتزام، والمشقة الناتجة عن التكليف. والثالث: هو النوع الرابع من القسم الأول: ’’قصد الشارع في دخول المكلَّف تحت أحكام الشريعة’’،[61] وهو حديث عن العلاقة بين قصد الشارع من شرع الأحكام وقصد المكلَّف في تطبيق تلك الأحكام والالتزام بها، حيث ينبغي على المكلَّف حتى يصح التزامه أن يكون قصده تبعا لقصد الشارع لا مناقضا له، وعن علاقة الأحكام الشرعية بحظ المكلَّف وأثر ذلك في صحة الالتزام، وطريقة تنفيذه، وعن عموم الشريعة لجميع المكلَّفين ولجميع أفعالهم وجوانب حياتهم ومرجعيتها في كل ما يعن لهم.
ومع أن هذه المباحث ليست من صميم علم أصول الفقه بوضعه الأول (مناهج وضوابط الاجتهاد)، إلا أنها أصبحت من صميمه بوضعه الثاني (عندما أصبح نظرية عامة للفقه الإسلامي). وتصير بعض مسائل هذا المحور جزءا مهما من موضوعات الحكم الشرعي، فمسائل ’’قصد الشارع في دخول المكلَّف تحت أحكام الشريعة (من المسألة الأولى إلى السادسة)’’ ومسائل ’’مقاصد المكلَّف في التكليف (المسألة الثالثة، والرابعة، والمسألة العاشرة إلى الثانية عشرة)’’ تندرج في عمومها ضمن مباحث الصحة والبطلان، لأنها بحث في العلاقة بين قصد الشارع من جهة، وهوى المكلَّف في الإتيان بالتكاليف وحظُّه منه من جهة أخرى، وما قد يترتب على ذلك من بطلان بعض الأفعال التي يكون قصد المكلَّف فيها اتباع هواه بإطلاق، أو التحيّل بما هو مشروع لما هو غير مشروع.[62] كما أن له علاقة بمباحث السبب، عند الحديث عن العلاقة بين قصد المكلَّف من التّسبُّب، وقصد الشارع من نصب شيء ما سببا لحكم.
أما مسائل ’’قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها’’ فهي جزء خادم لمباحث المحكوم فيه.
المحور الثالث
وهو المضمون القيمي للأحكام الشرعية، وهي التي جعلها الشاطبي النوع الأول من المقاصد وعبر عنها بـ’’قصد الشارع في وضع الشريعة’’.[63] وهذا النوع من المقاصد تكون مبادئه العامة من اهتمام علم أصول الفقه ضمن مباحث المحكوم فيه، أما التفصيل فيه فيمكن أن يفرد بعلم خاص، يصطلح عليه ’’مقاصد الشريعة’’، أو ’’فقه التشريع الإسلامي’’، وهو المجال الذي تصدق عليه ـ أكثر من غيره ـ دعوة ابن عاشور إلى تأسيس علم خاص بالمقاصد يهدف إلى التفقه في الأحكام الشرعية.
فصل المقاصد عن علم الأصول
الخيار الثالث هو تأسيس علم جديد خاص بمقاصد الشريعة، وفصله عن علم أصول الفقه. وهو الخيار الذي دعا إليه ابن عاشور، وحاول التأسيس له.
وقبل عرض وتحليل دعوة ابن عاشور هذه، يحسن العودة إلى تاريخ التأسيس التنظيري للمقاصد للنظر هل وجدت فكرة الدعوة إلى تأسيس علم خاص بالمقاصد قبل هذه الدعوة من ابن عاشور، أم أنها فكرة مستحدثة؟
يرى عبد المجيد الصغير أن ابن عاشور مسبوق في عمله هذا من قِبَل إمام الحرمين الجويني. فالجويني ـ في نظره ـ لم يقم فقط بإبراز المقاصد الشرعية بوصفها مفهوما قائما بذاته، بل يرى أن علم المقاصد:
’’مهيمن على باقي العلوم الشرعية، بل إنه تميز عن سالفيه ومعاصريه بشيئين اثنين: طرحه لأول مرة موضوع مقاصد الشريعة كعلم جديد متميز بقواطع أدلته، وبتجاوزه للخلاف، واستقلاله عن المذاهب الفقهية الفروعية، بل وعن أصول الفقه الظنية نفسها...’’.[64]
كما يذهب إلى أن الجويني سعى لتأسيس علم المقاصد ليكون ’’مرجعية قائمة على اليقين والقطع’’ لتجاوز الأحكام الظنية للفقه وأصوله، ثم جاء الشاطبي بعد ذلك ليطوره.[65] ويربط عبد المجيد الصغير في كتابه الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام مشروع التأسيس لعلم المقاصد بمهمة الإنقاذ السياسي والاجتماعي للأوضاع المتردية التي آل إليها العالم الإسلامي.[66]
والواقع أن الجويني لم يصرح بسعيه إلى تأسيس علم مستقل بالمقاصد الشرعية، ولكنه صرح بأنه يسعى إلى وضع قواعد كلية تتصف باليقين والقطع لأنها مبنية على مقاصد شرعية عامة تتسم بالقطع، ويرى في نفسه أنه أول من يسلك هذا المسلك ويهتدي إلى هذا الطريق.[67]
ويرى الجويني أن تلك القواعد يكون إليها الملجأ حين فساد الزمن، وشيوع الحرام، وغياب أهل الفقه والإفتاء الذين يمكنهم تمييز الحلال من الحرام، واستنباط أحكام للمستجدات. ففي مثل هذه الحال يلجأ العوام إلى قواعد أساسية تمثل أصول الشريعة،[68] وهي الحد الأدنى من الالتزام بالأحكام الشرعية.
وبذلك يتضح أن ما فعله الجويني في كتاب الغياثي هو رسم لمعالم منهج يلجأ إليه عامة الناس في زمن غياب السلطة العلمية لحفظ الضروري من الدين، وهو أمر لا يرقى إلى مرتبة التأسيس لعلم جديد.
ومع ذلك، يذهب عبد المجيد الصغير إلى أبعد من القول بسعي الجويني إلى تأسيس علم مستقل بالمقاصد، ليقول: ’’كانت محاولات الجويني تلمس طريق القطع واليقين وتجاوز علمي الفقه والأصول بداية حقيقية في طريق الوعي بالمقاصد الشرعية الكلية...’’.[69]
وهذا الكلام فيه نظر؛ لأن الجويني لم يسع إلى تجاوز علمي الفقه والأصول، وإنما كان يتحدث عن زمن لا يوجد فيه من يعلم شيئا من الفقه والأصول، فينبغي على من يعيش في هذه الأحوال التمسّك بأصول الدين التي تمثل الحد الأدنى الذي لا يبقى بعده تديُّن، وليس في هذا سعي إلى تجاوز علمي الفقه والأصول. وهو الأمر الذي أشار إليه عبد المجيد الصغير نفسه في نهاية دراسته لكتاب الغياثي، حيث أشار إلى أن ما فعله الجويني ليس تأسيسا حقيقيا لعلم المقاصد، إنما هو ’’تبشير بعلم جديد أقرب ما يكون إلى علم مقاصد الشريعة الكلية الضرورية والقطعية’’.[70]
ومن الناحية العملية على افتراض قيام علم مستقل بمقاصد الشريعة فإنه لا يمكنه أن يكون بديلا عن علمي الفقه والأصول لأمرين: أحدهما: أن الممارسة الفقهية وفق مبادئ علم الأصول تكون في الأحوال العادية والظروف الطبيعية، ويقوم بها من توفرت فيهم شروط تلك الممارسة، أما ما يتحدث عنه الجويني من الاقتصار على القواعد العامة القطعية (أصول الشريعة) فهو حالة استثنائية عند الغياب الكامل لمن له القدرة على الممارسة الفقهية بجميع أنواعها ومراتبها، بما في ذلك غياب القدرة على نقل المذاهب والآراء الفقهية المدونة.
والثاني: أن ما يتحدث عنه الجويني من قواعد كلية قطعية مستمدة من المقاصد العامة للشريعة إنما هي في الواقع ثمرة الممارسة الفقهية، وفرع منها، وهي مشمولة بشكل مباشر أو غير مباشر بمبادئ علم الأصول، وبذلك فهي لا يمكن أن تكون بديلا عنها. ثم إن هناك مباحث من المقاصد متوقفة على مباحث علم أصول الفقه، لا سيما مبحث كشف المقاصد.
وكما لم يكن فن القواعد الفقهية بديلا عن علمي الفقه والأصول، فإنه لا يمكن أن تكون تلك القواعد الكلية المستمدة من المقاصد العامة للشريعة بديلا عنهما. ولا يمنع من ذلك كون هذه القواعد الكلية ’’قطعية ويقينية’’؛ لأن علم أصول الفقه في جوهره يهتم بمناهج تفسير النصوص واستنباط الأحكام، وهذه المناهج قد توصل إلى نتائج قطعية، وقد توصل إلى نتائج ظنية. والمقاصد الشرعية ذاتها فيها القطعي والظني.
أما عن عمل الشاطبي في كتاب الموافقات، فإنه بدأ بالتصريح بأنه يمثل جزءا من أصول الفقه، وليس تأسيسا لعلم جديد، حيث يقول: ’’ثم استخرت الله تعالى في نظم تلك الفرائد وجمع تلك الفوائد، إلى تراجم تردها إلى أصولها، وتكون عونا على تعقلها وتحصيلها، فانظمت إلى تراجم الأصول الفقهية، وانتظمت في أسلاكها السنية البهية’’.[71] ولكن صدرت منه إشارة بسيطة في المقدمة،[72] جعلت عبد المجيد الصغير يذهب إلى أن الشاطبي كان يعتبر محاولته في دراسة المقاصد بمثابة ’’تأسيس لعلم جديد’’،[73] وأن مقاصد الشريعة أصبحت مع الإمام الشاطبي ’’علما نظريا قائما بذاته’’.[74]
بعد هذا، نعود إلى الدعوة الصريحة التي أطلقها الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في مقدمة كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية إلى تأسيس علم خاص يطلق عليه ’’علم مقاصد الشريعة’’،[75] يُعْنَى ببيان ’’حكمة الشريعة العامة ومقاصدها العامة والخاصة’’،[76] وهي القضايا التي يرى ابن عاشور أن المؤلفين في علم أصول الفقه في صورته التقليدية قد قصروا فيها.[77] ويأمل ابن عاشور لهذا العلم أن يحقق ما عجز عن تحقيقه علم أصول الفقه؛ فهو يرى أن علم أصول الفقه عجز عن تحقيق الوحدة الفكرية أو التقارب الفكري بين أصحاب المذاهب الفقهية المختلفة؛ وكيف يتم له ذلك ومعظم مسائله ـ هو في ذاته ـ مختلف فيها بين أصحاب المذاهب المختلفة.[78] ويُرْجِع ابن عاشور عجز علم أصول الفقه عن تحقيق الوحدة أو التقريب بين الآراء الفقهية إلى عجز علماء الأصول ـ على الرغم من محاولة الكثير منهم ـ عن التوصل إلى قواعد يقينية قطعية تكون هي أسس ومبادئ هذا العلم، بحيث ’’يذعن لها المكابر، ويهتدي بها المُشَبَّه عليه’’.[79]
وخلاصة ما يعيبه ابن عاشور على أصول الفقه في أمرين: أحدهما: عدم اهتمامه بالحكمة العامة للشريعة الإسلامية ومقاصدها العامة والخاصة في أحكامها، والثاني: أن أغلب مسائله ظنية مختلف فيها بين أصحاب المذاهب الفقهية المختلفة، ومن ثم فهي لا يمكن أن تكون حَكَمًا يحتكم إليه أولئك الفقهاء في اختلافاتهم لفصل النـزاع بينهم، أو على الأقل للتقريب بين وجهات نظرهم.[80]
وما يعيبه ابن عاشور على أصول الفقه أمر واقع، ولكنه لا ينهض لأن يكون ذريعة إلى تجريده من المباحث ذات الصلة بمقاصد الشريعة وتحجيم دوره. ففيما يخص عدم اهتمامه بالمقاصد الشرعية بالصورة التي استقرت عليها مدوناته، إنما هو قصور في التنظير ناتج عن الجمود الذي أصابه بعد القرن الخامس الهجري، وهو أمر ينبغي تداركه بإعادة صياغته بالصورة التي تحيي فيه ذلك الجانب وتطوره. أما عن مسألة الظنية في مسائله، وعدم قدرتها على فصل الخلافات الفقهية، فإن القول بأن علم الأصول وضع لرفع الخلاف الفقهي أو تقريب شقته ليس على إطلاقه. فذاك كان هدفا واحدا من الأهداف التي دفعت الإمام الشافعي إلى وضع رسالته بناء على رغبة عبد الرحمن بن مهدي في ذلك، وليس هو الهدف الوحيد، ولا كان الهدف الأساس لمن جاء بعد الشافعي في التأليف في الأصول، بل كان الهدف الأساس هو ضبط مناهج الاجتهاد وما يتعلق به، ولذلك كان الخلاف في بعض مسائله بناء على الخلاف في بعض مسالك وضوابط الاجتهاد بين المدارس الفقهية المختلفة.
ويطمح ابن عاشور إلى أن يحقق ’’علم مقاصد الشريعة’’ الذي يرنو إلى تأسيسه ثلاثة أمور: أحدها: أن تصبح قواعده ’’أدلة ضرورية، أو قريبة منها’’،[81] بمعنى أن تصبح قواعده ومسائله قطعية، أو قريبة من القطع، ومن ثم تحقيق الأمر الثاني: وهو أن تصبح تلك القواعد الفيصل الذي يفصل بين المذاهب عند اختلافها، أو على الأقل وسيلة إلى إقلال الاختلاف بين فقهاء الأمصار، أما الأمر الثالث: فهو أن تكون نبراسا يهتدي به المتفقهون في الدين، بمعنى أنها تطلع المتفقه على فلسفة التشريع الإسلامي، بمعرفة مقاصده وغاياته.[82]
ولكن الواقع أن مسألة الظنية لا تقتصر على مسائل الأصول، بل تدخل الكثير من مباحث المقاصد وقواعدها. وحتى في القواعد المقاصدية التي تتسم بالقطعية، فإن الظن والاختلاف يدخلها عندما ينتقل الأمر إلى تحقيق مناطها في الواقع.
وواضح من كلام ابن عاشور أنه يرى الفصل الكامل بين علم أصول الفقه و’’علم مقاصد الشريعة’’، ولا يرى داعيا لتطوير علم أصول الفقه، بل يدعو إلى تركه ’’على حاله، تستمد منه طرق تركيب الأدلة الفقهية’’،[83] وتوجَّه العناية الكبرى إلى استنباط وتطوير مبادئ وقواعد ’’علم مقاصد الشريعة’’ لتكون ’’أصولا قطعية للتفقه في الدين’’.[84]
ولكن مع هذه الدعوة فإن ابن عاشور لا يرى ’’علم مقاصد الشريعة’’ بديلا عن علم أصول الفقه، بل يراه مكملا له، حيث تكون وظيفة أصول الفقه تزويد الفقيه بـ’’طرق تركيب الأدلة الفقهية’’، ووظيفة ’’علم مقاصد الشريعة’’ هو التفقه في الدين، والفصل بين الفقهاء في اختلافاتهم، والتقريب بين وجهات نظرهم.[85]
أما عن مصادر استمداد مبادئ وقواعد ’’علم مقاصد الشريعة’’ فيحددها ابن عاشور في مصدرين: أحدهما: مسائل علم أصول الفقه بعد مراجعتها مراجعة نقدية وإعادة صياغتها، ويخص بالذكر منها: ’’مباحث المناسبة والإخالة في مسالك العلة، ومبحث المصالح المرسلة، ومبحث التواتر، والمعلوم بالضرورة، ومبحث حمل المطلق على المقيد إذا اتحد الموجِب والموجَب أو اختلفا’’،[86] والثاني: ’’أشرف معادن مدارك الفقه والنظر’’،[87] وهي المبادئ والقواعد العامة التي تصف مقاصد التشريع الإسلامي وهديه.
أما عن تقييم هذا الخيار، فيرى الدكتور جمال الدين عطية أن فصل المقاصد عن الأصول أمر مضر بالعلمين معا.[88]
ويرفض الشيخ عبد الله بن بيه فكرة استقلال المقاصد عن أصول الفقه، بل يرى الاندماج بينهما ’’اندماج الروح في الجسد’’[89] وأن ’’المقاصد هي أصول الفقه بعينها’’؛[90] لأن للمقاصد أصولا عامة مشتبكة بمباحث الأصول، وأخرى أخص من مباحث الأصول، إلا أنها خادمة لها سواء بالتفصيل والبيان أو بالتكميل. ومع ذلك فهو يُقرّ بأن للمقاصد أصولا كبرى فوق علم الأصول.[91]
ولا يبدو للباحث أن ضررا ما سيلحق بمقاصد الشريعة إذا أُفْرِدت بعلم خاص على الطريقة التي دعا إليها ابن عاشور، حيث إنها ستأخذ جواهر علم الأصول لتضاف إليها مباحث أخرى. إلا أن الفصل على الطريقة التي صوّرها ابن عاشور (بإبقاء علم أصول الفقه على ما هو عليه) سوف يكون لا محالة مُضِرًّا بعلم أصول الفقه. و يكون ذلك الضرر من جانبين: أحدهما: إفقار علم أصول الفقه بتجريده من أجزاء مهمة منه ونقلها إلى ’’علم مقاصد الشريعة’’، والثاني: حرمانه من التطور المنهجي والمضموني الذي توفره له مباحث مقاصد الشريعة. وهذا طريق إلى إضعاف علم أصول الفقه دون إيجاد بديل له يمكن أن يسد مسده.
ولا يرى الباحث خطورة في دعوة ابن عاشور ليس في تأسيس علم خاص بمقاصد الشريعة؛ لأن مقاصد الشريعة بالصورة التي رسمها هو في كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية من خلال الاقتصار على الحديث عن مقاصد التشريع العامة، والمقاصد الخاصة في المعاملات بين الناس يمكنها أن تكوِّن علما مستقلا، ويمكن فصلها في البحث عن أصول الفقه. ولكننا إذا أخذنا مقاصد الشريعة بالإطار الذي وضعه الإمام الشاطبي فإن فصلها عن أصول الفقه لا يكون ممكنا.
ولكن وجه الخطورة يكمن في دعوته إلى إفراغ علم أصول الفقه من جواهره المقصدية، وإبقائه على ما هو عليه.
وبناء على ما سبق يتبين أن دعوة الفصل بالصورة التي دعا إليها ابن عاشور غير مناسبة، لإضرارها بعلم الأصول، ولكن يمكن أن تستبدل بصيغة معتدلة تحقق الفائدة للبحث المقاصدي ولأصول الفقه في آن واحد، وذلك بتحقيق استقلالية نسبية لـ ’’علم المقاصد’’، فلا يُجرَّد علم الأصول من المقاصد، ولا يُحْصر البحث في المقاصد في إطار المباحث الأصولية، وهو الأمر الذي يقترحه بعض الباحثين في هذا الشأن.[92]
خاتمة
في ختام هذا البحث نسجل النتائج والتوصيات الآتية:
1ـ إن مباحث مقاصد الشريعة في مجملها تمثّل روح علم أصول الفقه وجزءا لا يتجزأ منه، وفصلها عنه سوف يضرّ به ضررا بالغا.
2ـ إن إعادة بناء علم أصول الفقه ينبغي أن تتم على المقاصد، حتى يمكن تخليصه من الجمود والجفاف الذي أصابه في عصر الجمود العلمي.
3ـ لا مانع من تأسيس علم خاص بالمقاصد يبحث في تفاصيل مسائلها ويعمل في التنقيب على مقاصد الشارع الخاصة والعامة، وكيفية تطبيق تلك المقاصد في الاجتهاد بشقيه النظري والتنزيلي، وفي تمثُّل تلك الأحكام من قبل المكلَّفين، ليكون هناك استقلال وظيفي للمقاصد يسمح لها بالتطور وتحقيق أغراضها، وفي الوقت نفسه تبقى على علاقة عضوية بأصول الفقه، تقدم له خدمة منهجية وقيمية، وتكون الموجّه لعملية الاجتهاد الفقهي، والبحث العلمي في مجالات العلوم الكونية والاجتماعية.
________________________________________
[1] أستاذ مشارك، رئيس قسم الدراسات العامة، كلية معارف الوحي والعلوم الإنسانية، الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا.
[2] منها ’’نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي’’ لأحمد الريسوني، و’’نظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور’’ لإسماعيل الحسني، و’’مقاصد الشريعة: التشريع الإسلامي المعاصر بين طموح المجتهد وقصور الاجتهاد’’ لنور الدين بوثوري، و’’مقاصد الشريعة الخاصة بالتصرفات المالية’’ لعزالدين زغيبة، و’’مقاصد الشريعة عند ابن تيمية’’ ليوسف أحمد محمد البدوي، وغيرها.
[3] الشاطبي، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي، الموافقات في أصول الشريعة، شرحه وخرج أحاديثه الشيخ عبد الله دراز (بيروت: دار الكتب العلمية، د. ت) ج2، ص7 وما بعدها.
[4] الشاطبي، الموافقات، ج2، ص49-82.
[5] المرجع نفسه، ج2، ص82-128.
[6] المرجع نفسه، ج2، ص128-245.
[7] المرجع نفسه، ج2، ص246-296.
[8] محمد الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، تحقيق ودراسة محمد الطاهر الميساوي (ماليزيا: دار الفجر، عمان: دار النفائس، ط1، 1420هـ/ 1999م) ص183.
[9] المرجع نفسه، ص194.
[10] المرجع نفسه، ص196.
[11] المرجع نفسه، ص200-2001.
[12] المرجع نفسه، ص231-240.
[13] المرجع نفسه، ص241-246.
[14] المرجع نفسه، ص247.
[15] المرجع نفسه، ص249-252.
[16] المرجع نفسه، ص253-255.
[17] المرجع نفسه، ص256.
[18] المرجع نفسه، ص259-267.
[19] المرجع نفسه، ص268-272.
[20] المرجع نفسه، ص296-298.
[21] المرجع نفسه، ص305-310.
[22] المرجع نفسه، ص311-316.
[23] المرجع نفسه، ص317-331.
[24] المرجع نفسه، ص332-353.
[25] المرجع نفسه، ص354-359.
[26] المرجع نفسه، ص360-365.
[27] المرجع نفسه، ص366-380.
[28] المرجع نفسه، ص381-384.
[29] عبد الله بن بيه، علاقة مقاصد الشريعة بأصول الفقه (لندن: مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، 2006) ص90-91.
[30] المرجع نفسه، ص115.
[31] طه عبد الرحمن في كتابه: تجديد المنهج في تقويم التراث (بيروت/ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط1، 1994م) ص98.
[32] انظر ما كتبه الكيلاني في صلاحية هذه القواعد للاستدلال بها في مقام الاجتهاد. الكيلاني، عبد الرحمن إبراهيم، قواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي عرضا ودراسة وتحليلا (الأردن: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، دمشق: دار الفكر، ط1، 1421هـ/ 2000م) ص119-122.
[33] طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، ص97.
[34] انظر للتفصيل في مجالات استخدام الشاطبي للاستقراء في كتاب الموافقات: نعمان جغيم، طرق الكشف عن مقاصد الشارع، ص267-293.
[35] المرجع نفسه، ج1، ص106.
[36] المرجع نفسه، ج1، ص79.
[37] المرجع نفسه، ج1، ص86-87.
[38] المرجع نفسه، ج1، ص80.
[39] انظر حديث الشاطبي عن اقتضاء الأدلة لأحكامها من حيث الأصلية والتبعية: المرجع نفسه، ج3، ص58-63.
[40] المرجع نفسه، ج1، ص90-91.
[41] المرجع نفسه، ج1، ص94.
[42] المرجع نفسه، ج1، ص107-108.
[43] المرجع نفسه، ج1، ص107-108.
[44] المرجع نفسه، ج1، ص202-203، ص212-214.
[45] المرجع نفسه، ج1، ص174.
[46] المرجع نفسه، ج1، ص174.
[47] المرجع نفسه، ج1، ص181.
[48] المرجع نفسه، ج1، ص179.
[49] المرجع نفسه، ج1، ص184-190.
[50] المرجع نفسه، ج1، ص203-208.
[51] المرجع نفسه، ج1، ص210-211.
[52] المرجع نفسه، ج1، ص214-216.
[53] ذكر الغزالي أن مصطلح ’’الصحة’’ في المعاملات يقصد به أن ’’كل سبب منصوب لحكم إذا أفاد حكمه المقصود منه، يقال إنه صحّ، وإن تخلّف عنه مقصوده، يقال إنه بطل، فالباطل هو الذي لا يثمر، لأن السبب مطلوب لثمرته، والصحيح هو الذي أثمر’’. أما مصطلح ’’الصحة’’ في العبادات ففيه اختلاف بين الأصوليين والفقهاء، فهو عند الأصوليين ’’عبارة عما وافق الشرع، وجب القضاء أو لم يجب’’، وعند الفقهاء ’’عبارة عما أجزأ وأسقط القضاء’’، فصلاة من ظن أنه متطهِّر صحيحة في اصطلاح الأصوليين، ’’لأنه وافق الأمر المتوجّه عليه في الحال، وأما القضاء فوجوبه بأمر متجدد’’، ولكن ’’هذه الصلاة فاسدة عند الفقهاء لأنها غير مجزأة’’. الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد، المستصفى من علم الأصول، تصحيح نجوى ضو (بيروت:دار إحياء التراث العربي، مؤسسة التاريخ العربي، ط1، د. ت) ج1، ص94.
[54] الشاطبي، الموافقات، ج1، ص217-223.
[55] المرجع نفسه، ج1، ص229-230.
[56] المرجع نفسه، ج4، ص76.
[57] المرجع نفسه، ج4، ص140.
[58] المرجع نفسه، ج2، ص49-82.
[59] المرجع نفسه، ج2، ص246-296.
[60] المرجع نفسه، ج2، ص82-128.
[61] المرجع نفسه، ج2، ص128-245.
[62] المرجع نفسه، ج2، ص128، 132، 134.
[63] المرجع نفسه، ج2، ص7 وما بعدها.
[64] عبد المجيد الصغير، الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط1، 1415هـ/ 1994م) ص355.
[65] المرجع نفسه، ص398.
[66] المرجع نفسه، ص355. القول بأن الباعث على تأسيس علم المقاصد والخوض فيه منوط بالسعي إلى الإنقاذ السياسي والاجتماعي للعالم الإسلامي، أمر فيه نظر، حيث أنه لا يمكن استبعاد الأسباب العلمية.
[67] الجويني، عبد الملك، غياث الأمم في التياث الظلم، تحقيق عبد العظيم ديب (القاهرة: مطبعة نهضة مصر، 1401هـ) فقرات 559، 659.
[68] مثلا الفقرات: 636، 873. وأبرز القواعد التي ركز عليها: الإباحة الأصلية، والتوسع في قاعدة الضرورة لتشمل الحاجة العامة.
[69] الصغير، الفكر الأصولي، ص443.
[70] المرجع نفسه، ص431.
[71] الشاطبي، الموافقات، ج1، ص16.
[72] ورد ذلك في خطبة الكتاب عند وصف عمله بأنه ’’... قد صار علما من جملة العلوم، ورسما من سائر الرسوم...’’. ج1، ص17.
[73] الصغير، الفكر الأصولي، ص473.
[74] المرجع نفسه، ص445.
[75] ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، ص122.
[76] المرجع نفسه، ص118.
[77] المرجع نفسه، ص118.
[78] المرجع نفسه، ص118.
[79] المرجع نفسه، ص117.
[80] المرجع نفسه، ص118.
[81] المرجع نفسه، ص117.
[82] المرجع نفسه، ص117.
[83] المرجع نفسه، ص122.
[84] المرجع نفسه، ص122.
[85] المرجع نفسه، ص117، 122.
[86] المرجع نفسه، ص119.
[87] المرجع نفسه، ص122. ويذكر منها: ’’لا ضرر ولا ضرار’’، ’’دين الله يسر’’، ’’تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور’’. ص123.
[88] جمال الدين عطية، نحو تفعيل مقاصد الشريعة (دمشق: دار الفكر/ المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1422هـ/ 2001م) ص238.
[89] عبد الله بن بيه، علاقة مقاصد الشريعة بأصول الفقه، ص134.
[90] المرجع نفسه، ص131.
[91] المرجع نفسه، ص134.
[92] انظر: إسماعيل الحسني، نظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور، ص433؛ الريسوني، أحمد، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي (فرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي/ الدار العالمية للكتاب الإسلامي، ط2، 1412هـ) ص315؛ غالية بوهدة، ’’استقلالية مقاصد الشريعة الإسلامية عن علم أصول الفقه بين النظرية والتطبيق’’ ورقة مقدمة للندوة العالمية عن الفقه الإسلامي وأصوله وتحديات القرن الواحد والعشرين: مقاصد الشريعة وسبل تحقيقها في المجتمعات المعاصرة، 8-10 أغسطس 2006م، الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، ضمن أعمال الندوة، ج1، ص302.