تبادل كل من معالي الشيخ صالح الحصين ومعالي الدكتور غازي القصيبي -رحمهما الله- كتاباً أجنبياً مثيراً للانتباه حول العلاقات الدولية -كما أخبرني الحصين بذلك-، وكان القصيبي قد ترجم هذا الكتاب إلى العربية ونشرته دار تهامة، وهو بعنوان (العلاقات الدولية) من تأليف الأمريكي جوزيف فرانكل، ومثار الاستغراب الكبير حول الكتاب عند الشخصين أو أحدهما أن يكون هذا الكتاب كتاباً تعليمياً للطلاب في الولايات المتحدة الأمريكية! وفيه ما يتعارض مع المفهوم السائد لدى بعض المثقفين: أن العلاقات الدولية تحكمها الأخلاق والقِيَم والأعراف الدبلوماسية النظيفة، وليست (المصلحة الخاصة، والقوة!) فضلاً أن تكون مفاهيم هذه العلاقات الدولية بهذه الصورة مقرراً دراسياً! وربما أن هذا ما أراده القصيبي وعناه بقوله في تقديمه لكتاب فرانكل: «وقد رأيت أن الأمانة تقتضي أن أترك آراء المؤلف كما أوردها دون تغيير أو تعليق، على أن من المهم أن أشير هنا إلى أن هذه الآراء لا تمثل سوى وجهة نظر الكاتب، وأنني لا أقره على بعضها»([1]).
وقد يكون كتاب فرانكل سبباً رئيساً أو أحد الأسباب الدافعة لتأليف الحصين كتاباً بعنوان (العلاقات الدولية بين منهج الإسلام ومنهج الحضارة المعاصرة)، والمفكر الحصين يصعب عليه وهو الغيور للعدل والعدالة الدولية أن يتجاوز مثل هذه المفاهيم الكبيرة والخطيرة على العالم في السلم والحرب دون التعليق عليها أو التأليف عنها، فكان تأليف الحصين لكتابه (العلاقات الدولية) المطبوع بعدة طبعات ولغات أخرى، ومنها طباعة مكتبة العبيكان، وعمل فيه بأسلوب المقارنة، وربما المفاضلة بين ما ورد في كتاب فرانكل من جهة وبين تشريعات الإسلام والتطبيقات في التاريخ الإسلامي من جهة أخرى حول العلاقات بين الأمم والدول، وحول طبيعتها وما الذي يجب أن يحكمها بين الدول، وهو ما جعل من مادة كتابه موضوعات معرفية ثرية لكل المهتمين بهذه العلاقات أو من القُرَّاء عنها، أو الدارسين والباحثين فيها، وللحصين كذلك إضافات متممة على كتابه العلاقات الدولية، وذلك في كتابه الآخر (التسامح والعدوانية بين الإسلام والغرب)، حينما أفرد الفصل السابع كاملاً عن العلاقات الدولية.
وإيراد بعض النصوص مما كتبه الحصين والتعليق على بعضها كافٍ لإبراز هذه المعلومات المعرفية عن هذه القضية الكبيرة (محور الموضوع)، وقد نَقَلَ الحصين في كتابيه عن فرانكل ما يكشف مخاطر إقصاء الأخلاق والعدالة عن العلاقات فيما بين الدول! ومما قاله: «بالرغم من استناد السياسيين الدائم إلى القيم الخلقية، وإلى القانون الدولي في تبرير سلوكهم في العلاقات الدولية المعاصرة، فإن الواقع كما هو معروف، وكما تقرره الكتب المدرسية المؤلفة في مادة العلاقات الدولية أن العلاقات المعاصرة سواءً في حالة السلم أم الحرب تقوم على أساس المصلحة القومية والقوة، ولا تقوم على أساس الأخلاق أو القانون إذا لم يتفق أي منهما مع المصلحة القومية والقوة. وينقل الأستاذ جوزيف فرانكل في كتابه المدرسي (العلاقات الدولية) عن الدكتور رينولد تيبر قوله: "إن البشر بدلاً من أن يَمُدُّوا قواعدهم الأخلاقية لتشمل السياسة الدولية، ينزعون إلى استخدام السياسة الدولية للتنفيس عن نزاعاتهم اللاأخلاقية"»([2]).
ويناقش الحصين في كتابه هذا أن العلاقات الدولية حينما تُذكر معها قضية (الأخلاق الدولية) من قِبل دول القوة يكتنفها غموض العبارة، أو عدم الوضوح للمصطلح، بل وصعوبة تحديد هذه المناورات بالأخلاق قائلاً: «إن من الواضح أن الأخلاق كثيراً ما تُستَدعى وبأسماء مختلفة، لا لشيء إلا لإضفاء قَدرٍ من الاحترام على المصالح الأنانية للدولة، كما أن اللجوء إلى الأخلاقية تبرير شائع مُريح في يد الطرف الذي يُعارض الحقوق القانونية لطرفٍ آخر»([3]).
بل إن الحصين يقرر نتيجة مناقشته لأفكار هذه العلاقات الدولية وممارساتها لدى الغرب مما يتنافى مع قِيَم التحضر والحضارة قائلاً: «من الطبيعي أن تكون العلاقات الدولية مؤسسَّةً في هذا المنهج -حقيقة وواقعاً- على المصلحة الوطنية والقوة»([4]).
ولم يكتفِ الحصين بنقولاته من فرانكل حول هذه العلاقات الدولية وما يحكمها، وأثرها السلبي على بقية دول العالم، فالمصالح الوطنية (الخاصة) و(القوة) هي ما يؤدي للحروب والصراعات والدمار وزراعة الكراهية، بل إنه يسرد نقولات صريحة عن غربيين آخرين ينتقدون هذه المنهجية الغربية بعلاقاتها، ومن ذلك نقله عن الفيلسوف الفرنسي جاك ماريتان: «لقد أفصح عَالَمُ الإنسان الحاضر عن الشَّر، وفاض به حتى حطَّم ثقتنا، كم من جريمة شهدناها لا يعوِّضها أي عقاب عادل… لقد اتجه العِلم والتقدم نحو دمارنا. إن الروح الوثنية التي تشرَّبتها حضارتنا ساقت الإنسان إلى أن يجعل هدفه القوة، والقدرة على الكراهية، في حين أن المثل السياسي الأعلى يجب أن يكون العدل»([6]).
ويقول الحصين معلقاً: «إذا كانت الحقيقة الواقعة كما يرى جاك ماريتان (إن الغرب فقد الإيمان بالإنسان)، فلا بد لتهيئة العالم الغربي لقبول تغيير منهجه السياسي اللاأخلاقي، أن يعاد إليه الإيمان بالإنسان كمطلب أولي للتغيير»([7]).
وقد أوضح الحصين بكتابه (العلاقات الدولية) اختصار المفيد من القول عن واقع ونتائج هذه العلاقات الدولية غير الأخلاقية وغير الحضارية وخطر هذه العلاقات على دول العالم في ظل الهيمنة الغربية وقوتها بقوله: «شهد القرن المنصرم حربين عالميتين خلال خمسة وعشرين عاماً، واستهل القرن الحالي بحربين عالميتين خلال خمسة عشر شهراً [أفغانستان والعراق]، لم يكن الزمن هو الفارق الوحيد بين حربي القرن المنصرم وحربي القرن الحالي... لكن صفة مشتركة برزت بين الحروب الأربعة، قيام التحالف الدولي بعمليات عسكرية لا تقتضيها الضرورة الحربية، وإنما اقتضاها التنفيس عن الحقد والاستجابة لداعي الكراهية والعدوانية والرغبة في الانتقام»([8]).
ويخرج الحصين بنتيجة واضحة أن (المصالح الخاصة والقوة) هي ما يحكم العلاقات الدولية بين الأقوياء على حساب غيرهم وهو ما يُوضِّح أكثر عن حقيقة الحضارة الغربية، وذلك بقوله: «إن الحقيقة الواقعية هي أن العلاقات الدولية في الحضارة المعاصرة ترتكز أساساً إن لم يكن كلياً على المصلحة الوطنية، والقوة، وليس على القانون والأخلاق. ويقرر جوزيف فرانكل: أن المصلحة الوطنية هي (المفتاح الأساسي) في السياسة الخارجية، ويرتد هذا المفهوم -في جوهره- إلى مجموع القيم الوطنية»([10]).
وكعادة المفكر الحصين وعموم المفكرين في التأصيل العلمي للموضوعات، فقد أوضح الحصين مُدخلات موضوع العلاقات الدولية ومخرجاته العلمية والمنطقية وانعكاساتها على التحضر، حيث أساس العلاقات الغربية تحديداً قائمة على منهجية (المصلحة الذاتية والقوة) فضلاً عن الواقع الفعلي والممارسات التي تُصدِّقها، وبالتالي يَسُوق الحصين نتيجة ذات أهمية عن حقيقة الحضارة ومدى تحضُّر الدول التي تعمل بهذه المنهجية بعيداً عن القيم الأخلاقية والمصالح العامة للدول، وذلك بقوله: «وإذا استحضرنا هذه الأمور في الذهن، أمكننا تقييم مدى سلامة وتحضر وإنسانية منهج الحضارة الغربية في العلاقات الدولية، ومدى صلاحية هذا المنهج لإبعاد شبح الفناء والدمار الذي يُهدِّد البشرية في ظل التسابق والتسارع بين الدول في إنتاج وحيازة تقنية الموت. إن المبدأ الذي يرتكز عليه منهج الحضارة الغربية في العلاقات الدولية لا يختلف عن المبدأ الذي يحكم سلوك قاطع الطريق، أو عصابات الجريمة المنظمة، بل سلوك الحيوانات في الغابة»([11]).
وكان الحُصين قد علَّق في كتابه (العلاقات الدولية) على أن هذا المنهج الغربي السائد الفاعل بالحياة المعاصرة مما يُسقط حضارية الغرب، وهو من الدوافع في كتابة كتابه الذي يهتم بالمقارنة بين المنهج المعاصر في العلاقات الدولية، والمنهج الذي جاء به الإسلام قبل أربعة عشر قرناً.
والحصين في كتابيه يناقش المثالية والواقعية الممكنة في إمكانية تطبيق منهج الإسلام في العلاقات الدولية، وهذا مما يستحق عرضاً آخر عن أقواله واختياراته، لكنه ذَكَرَ خلاصة مفيدة ختم بها فصل العلاقات الدولية من كتابه (التسامح والعدوانية) وذلك حول قدرة الإسلام على ترويض البشرية عن نزعاتها العدوانية أياً كانت ديانتها، وفيها قال: «الإنسان هو الإنسان، سواءً كان خارجاً من ظلمات القرون الوسطى في أوروبا، أم متخرجاً من جامعة M.I.T في الولايات المتحدة الأمريكية. المسافة بين التحضر والوحشية قصيرة، يسهل على الإنسان أن يتخطاها، ما لم يتربَّ في ظل ثقافة قادرة على أن تُروِّض الطبيعة العدوانية في داخله. ولن تكون الثقافة قادرة على ذلك إلا إذا كان التسامح والنفور من الظلم والعدوان جزءاً من طبيعتها. لقد مَلَكَ الإسلام هذه القدرة التي وَصَفَها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (بُعثت بالحنيفية السمحة)»([13]).
وسوف تبحث البشرية عن بديل حضاري للعلاقات يقوم على المصالح العامة للدول، وقوة الاتفاقيات واحترامها فيما بين الدول مما يحقق العدالة الدولية، لا سيما بعد ظهور بوادر الفشل على الأرض في أسس هذه العلاقات الدولية الغربية الخطيرة على السلام.
ويكرر الحصين القول على أهمية الوعي بانحراف المبادئ والأسس السياسية الغربية في العلاقات الدولية، وعلى تعزيز الثقة بمنهج الإسلام لتقديم البديل للعالَم قائلاً: «وفي السنوات الأخيرة - وهي سنوات أصبحت فُرصُ الوعي فيها أكبر - مَرَّت المجتمعات الإسلامية بسلسلة من أشنع المظالم ظهرت في صورة من الوحشية والهمجية والتنكر لكل المعاني الإنسانية... مَغْزَى ما سبق أن البيئة الفكرية في العالم الإسلامي مهيَّئة الآن للتعرف على الجانب السلبي للحضارة الغربية، وإدراك خَطَر وخَطَل المبادئ السياسية الغربية في العلاقات الدولية. وأصبح المسلم الآن أكثر استعداداً للثقة بمنهج الإسلام، وأنه طوق النجاة للعالم إذا أراد أن يتغلَّب على قوى الشر»([14]).
وواضح من هذه الأقوال والاستدلالات أن الحصين كان يرى ويدرك فساد الأسس والقوانين التي قامت عليها العلاقات الدولية المعاصرة لزمنه، وكيف أنها لا تؤدي للسلم والسلام والعدالة، وواضح أنه كان يُدرك بصورة مكشوفة أن النظام العالمي القائم على خمس دول لها حق الرفض (الفيتو) لم تعد قادرة على تحقيق الاستقرار والاستمرار، ومن الأولى طرح البديل الحضاري لإنقاذ العالم من نفسه!
وهنا يتأكد (سؤال الحضارة) بإلحاح: هل (المصالح الخاصة) للدول الكُبرى، و(القوة العسكرية) لها تُعدُّ مؤشرات حضارية في نجاح العلاقات بين الدول؟ أم أن هذه من سِمات التوحش والتخلف والعدوانية بحق الآخرين؟
وختاماً لعل من الجدير بالجهات المعنية والأقسام السياسية في الجامعات والمعاهد المتخصصة النظر في اعتماد رؤى وفكر الشيخ الحصين في العلاقات الدولية مقرراً دراسياً، مع الاستفادة مما ورد في كتاب فرانكل وغيره، والله الموفق إلى سواء السبيل.
وقد يكون كتاب فرانكل سبباً رئيساً أو أحد الأسباب الدافعة لتأليف الحصين كتاباً بعنوان (العلاقات الدولية بين منهج الإسلام ومنهج الحضارة المعاصرة)، والمفكر الحصين يصعب عليه وهو الغيور للعدل والعدالة الدولية أن يتجاوز مثل هذه المفاهيم الكبيرة والخطيرة على العالم في السلم والحرب دون التعليق عليها أو التأليف عنها، فكان تأليف الحصين لكتابه (العلاقات الدولية) المطبوع بعدة طبعات ولغات أخرى، ومنها طباعة مكتبة العبيكان، وعمل فيه بأسلوب المقارنة، وربما المفاضلة بين ما ورد في كتاب فرانكل من جهة وبين تشريعات الإسلام والتطبيقات في التاريخ الإسلامي من جهة أخرى حول العلاقات بين الأمم والدول، وحول طبيعتها وما الذي يجب أن يحكمها بين الدول، وهو ما جعل من مادة كتابه موضوعات معرفية ثرية لكل المهتمين بهذه العلاقات أو من القُرَّاء عنها، أو الدارسين والباحثين فيها، وللحصين كذلك إضافات متممة على كتابه العلاقات الدولية، وذلك في كتابه الآخر (التسامح والعدوانية بين الإسلام والغرب)، حينما أفرد الفصل السابع كاملاً عن العلاقات الدولية.
وإيراد بعض النصوص مما كتبه الحصين والتعليق على بعضها كافٍ لإبراز هذه المعلومات المعرفية عن هذه القضية الكبيرة (محور الموضوع)، وقد نَقَلَ الحصين في كتابيه عن فرانكل ما يكشف مخاطر إقصاء الأخلاق والعدالة عن العلاقات فيما بين الدول! ومما قاله: «بالرغم من استناد السياسيين الدائم إلى القيم الخلقية، وإلى القانون الدولي في تبرير سلوكهم في العلاقات الدولية المعاصرة، فإن الواقع كما هو معروف، وكما تقرره الكتب المدرسية المؤلفة في مادة العلاقات الدولية أن العلاقات المعاصرة سواءً في حالة السلم أم الحرب تقوم على أساس المصلحة القومية والقوة، ولا تقوم على أساس الأخلاق أو القانون إذا لم يتفق أي منهما مع المصلحة القومية والقوة. وينقل الأستاذ جوزيف فرانكل في كتابه المدرسي (العلاقات الدولية) عن الدكتور رينولد تيبر قوله: "إن البشر بدلاً من أن يَمُدُّوا قواعدهم الأخلاقية لتشمل السياسة الدولية، ينزعون إلى استخدام السياسة الدولية للتنفيس عن نزاعاتهم اللاأخلاقية"»([2]).
ويناقش الحصين في كتابه هذا أن العلاقات الدولية حينما تُذكر معها قضية (الأخلاق الدولية) من قِبل دول القوة يكتنفها غموض العبارة، أو عدم الوضوح للمصطلح، بل وصعوبة تحديد هذه المناورات بالأخلاق قائلاً: «إن من الواضح أن الأخلاق كثيراً ما تُستَدعى وبأسماء مختلفة، لا لشيء إلا لإضفاء قَدرٍ من الاحترام على المصالح الأنانية للدولة، كما أن اللجوء إلى الأخلاقية تبرير شائع مُريح في يد الطرف الذي يُعارض الحقوق القانونية لطرفٍ آخر»([3]).
بل إن الحصين يقرر نتيجة مناقشته لأفكار هذه العلاقات الدولية وممارساتها لدى الغرب مما يتنافى مع قِيَم التحضر والحضارة قائلاً: «من الطبيعي أن تكون العلاقات الدولية مؤسسَّةً في هذا المنهج -حقيقة وواقعاً- على المصلحة الوطنية والقوة»([4]).
- القوة أساس للعلاقات المعاصرة:
ولم يكتفِ الحصين بنقولاته من فرانكل حول هذه العلاقات الدولية وما يحكمها، وأثرها السلبي على بقية دول العالم، فالمصالح الوطنية (الخاصة) و(القوة) هي ما يؤدي للحروب والصراعات والدمار وزراعة الكراهية، بل إنه يسرد نقولات صريحة عن غربيين آخرين ينتقدون هذه المنهجية الغربية بعلاقاتها، ومن ذلك نقله عن الفيلسوف الفرنسي جاك ماريتان: «لقد أفصح عَالَمُ الإنسان الحاضر عن الشَّر، وفاض به حتى حطَّم ثقتنا، كم من جريمة شهدناها لا يعوِّضها أي عقاب عادل… لقد اتجه العِلم والتقدم نحو دمارنا. إن الروح الوثنية التي تشرَّبتها حضارتنا ساقت الإنسان إلى أن يجعل هدفه القوة، والقدرة على الكراهية، في حين أن المثل السياسي الأعلى يجب أن يكون العدل»([6]).
ويقول الحصين معلقاً: «إذا كانت الحقيقة الواقعة كما يرى جاك ماريتان (إن الغرب فقد الإيمان بالإنسان)، فلا بد لتهيئة العالم الغربي لقبول تغيير منهجه السياسي اللاأخلاقي، أن يعاد إليه الإيمان بالإنسان كمطلب أولي للتغيير»([7]).
وقد أوضح الحصين بكتابه (العلاقات الدولية) اختصار المفيد من القول عن واقع ونتائج هذه العلاقات الدولية غير الأخلاقية وغير الحضارية وخطر هذه العلاقات على دول العالم في ظل الهيمنة الغربية وقوتها بقوله: «شهد القرن المنصرم حربين عالميتين خلال خمسة وعشرين عاماً، واستهل القرن الحالي بحربين عالميتين خلال خمسة عشر شهراً [أفغانستان والعراق]، لم يكن الزمن هو الفارق الوحيد بين حربي القرن المنصرم وحربي القرن الحالي... لكن صفة مشتركة برزت بين الحروب الأربعة، قيام التحالف الدولي بعمليات عسكرية لا تقتضيها الضرورة الحربية، وإنما اقتضاها التنفيس عن الحقد والاستجابة لداعي الكراهية والعدوانية والرغبة في الانتقام»([8]).
- العلاقات ومدى التحضر والحضارة:
ويخرج الحصين بنتيجة واضحة أن (المصالح الخاصة والقوة) هي ما يحكم العلاقات الدولية بين الأقوياء على حساب غيرهم وهو ما يُوضِّح أكثر عن حقيقة الحضارة الغربية، وذلك بقوله: «إن الحقيقة الواقعية هي أن العلاقات الدولية في الحضارة المعاصرة ترتكز أساساً إن لم يكن كلياً على المصلحة الوطنية، والقوة، وليس على القانون والأخلاق. ويقرر جوزيف فرانكل: أن المصلحة الوطنية هي (المفتاح الأساسي) في السياسة الخارجية، ويرتد هذا المفهوم -في جوهره- إلى مجموع القيم الوطنية»([10]).
وكعادة المفكر الحصين وعموم المفكرين في التأصيل العلمي للموضوعات، فقد أوضح الحصين مُدخلات موضوع العلاقات الدولية ومخرجاته العلمية والمنطقية وانعكاساتها على التحضر، حيث أساس العلاقات الغربية تحديداً قائمة على منهجية (المصلحة الذاتية والقوة) فضلاً عن الواقع الفعلي والممارسات التي تُصدِّقها، وبالتالي يَسُوق الحصين نتيجة ذات أهمية عن حقيقة الحضارة ومدى تحضُّر الدول التي تعمل بهذه المنهجية بعيداً عن القيم الأخلاقية والمصالح العامة للدول، وذلك بقوله: «وإذا استحضرنا هذه الأمور في الذهن، أمكننا تقييم مدى سلامة وتحضر وإنسانية منهج الحضارة الغربية في العلاقات الدولية، ومدى صلاحية هذا المنهج لإبعاد شبح الفناء والدمار الذي يُهدِّد البشرية في ظل التسابق والتسارع بين الدول في إنتاج وحيازة تقنية الموت. إن المبدأ الذي يرتكز عليه منهج الحضارة الغربية في العلاقات الدولية لا يختلف عن المبدأ الذي يحكم سلوك قاطع الطريق، أو عصابات الجريمة المنظمة، بل سلوك الحيوانات في الغابة»([11]).
وكان الحُصين قد علَّق في كتابه (العلاقات الدولية) على أن هذا المنهج الغربي السائد الفاعل بالحياة المعاصرة مما يُسقط حضارية الغرب، وهو من الدوافع في كتابة كتابه الذي يهتم بالمقارنة بين المنهج المعاصر في العلاقات الدولية، والمنهج الذي جاء به الإسلام قبل أربعة عشر قرناً.
- قيم غائبة عن العلاقات الدولية:
والحصين في كتابيه يناقش المثالية والواقعية الممكنة في إمكانية تطبيق منهج الإسلام في العلاقات الدولية، وهذا مما يستحق عرضاً آخر عن أقواله واختياراته، لكنه ذَكَرَ خلاصة مفيدة ختم بها فصل العلاقات الدولية من كتابه (التسامح والعدوانية) وذلك حول قدرة الإسلام على ترويض البشرية عن نزعاتها العدوانية أياً كانت ديانتها، وفيها قال: «الإنسان هو الإنسان، سواءً كان خارجاً من ظلمات القرون الوسطى في أوروبا، أم متخرجاً من جامعة M.I.T في الولايات المتحدة الأمريكية. المسافة بين التحضر والوحشية قصيرة، يسهل على الإنسان أن يتخطاها، ما لم يتربَّ في ظل ثقافة قادرة على أن تُروِّض الطبيعة العدوانية في داخله. ولن تكون الثقافة قادرة على ذلك إلا إذا كان التسامح والنفور من الظلم والعدوان جزءاً من طبيعتها. لقد مَلَكَ الإسلام هذه القدرة التي وَصَفَها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (بُعثت بالحنيفية السمحة)»([13]).
وسوف تبحث البشرية عن بديل حضاري للعلاقات يقوم على المصالح العامة للدول، وقوة الاتفاقيات واحترامها فيما بين الدول مما يحقق العدالة الدولية، لا سيما بعد ظهور بوادر الفشل على الأرض في أسس هذه العلاقات الدولية الغربية الخطيرة على السلام.
ويكرر الحصين القول على أهمية الوعي بانحراف المبادئ والأسس السياسية الغربية في العلاقات الدولية، وعلى تعزيز الثقة بمنهج الإسلام لتقديم البديل للعالَم قائلاً: «وفي السنوات الأخيرة - وهي سنوات أصبحت فُرصُ الوعي فيها أكبر - مَرَّت المجتمعات الإسلامية بسلسلة من أشنع المظالم ظهرت في صورة من الوحشية والهمجية والتنكر لكل المعاني الإنسانية... مَغْزَى ما سبق أن البيئة الفكرية في العالم الإسلامي مهيَّئة الآن للتعرف على الجانب السلبي للحضارة الغربية، وإدراك خَطَر وخَطَل المبادئ السياسية الغربية في العلاقات الدولية. وأصبح المسلم الآن أكثر استعداداً للثقة بمنهج الإسلام، وأنه طوق النجاة للعالم إذا أراد أن يتغلَّب على قوى الشر»([14]).
وواضح من هذه الأقوال والاستدلالات أن الحصين كان يرى ويدرك فساد الأسس والقوانين التي قامت عليها العلاقات الدولية المعاصرة لزمنه، وكيف أنها لا تؤدي للسلم والسلام والعدالة، وواضح أنه كان يُدرك بصورة مكشوفة أن النظام العالمي القائم على خمس دول لها حق الرفض (الفيتو) لم تعد قادرة على تحقيق الاستقرار والاستمرار، ومن الأولى طرح البديل الحضاري لإنقاذ العالم من نفسه!
وهنا يتأكد (سؤال الحضارة) بإلحاح: هل (المصالح الخاصة) للدول الكُبرى، و(القوة العسكرية) لها تُعدُّ مؤشرات حضارية في نجاح العلاقات بين الدول؟ أم أن هذه من سِمات التوحش والتخلف والعدوانية بحق الآخرين؟
وختاماً لعل من الجدير بالجهات المعنية والأقسام السياسية في الجامعات والمعاهد المتخصصة النظر في اعتماد رؤى وفكر الشيخ الحصين في العلاقات الدولية مقرراً دراسياً، مع الاستفادة مما ورد في كتاب فرانكل وغيره، والله الموفق إلى سواء السبيل.
([1]) انظر: تقديم غازي القصيبي، العلاقات الدولية لجوزيف فرانكل، ص9.
([2]) التسامح والعدوانية بين الإسلام والغرب، ص172، وكتاب العلاقات الدولية بين منهج الإسلام ومنهج الحضارة المعاصرة، ص16، نقلا عن جوزيف فرانكل، ترجمة غازي القصيبي ص171
([3]) العلاقات الدولية بين منهج الإسلام ومنهج الحضارة المعاصرة، ص16-17، نقلا عن جوزيف فرانكل العلاقات الدولية، ص169
([4]) المرجع السابق، ص32.
([5]) المرجع السابق، ص20-21، نقلا عن جوزيف فرانكل العلاقات الدولية، ص93
([6]) المرجع السابق، ص85، نقلاً عن جاك ماريتان The Range of Reason P201-202 P195.
([7]) المرجع السابق، ص95.
([8]) المرجع السابق، ص9، 10.
([9]) المرجع السابق، ص33.
([10]) المرجع السابق، ص17، نقلا عن جوزيف فرانكل العلاقات الدولية، ص52.
([11]) التسامح والعدوانية بين الإسلام والغرب، ص176.
([12]) المرجع السابق، ص178.
([13]) المرجع السابق، ص200-201.
([14]) العلاقات الدولية بين منهج الإسلام ومنهج الحضارة المعاصرة، ص93.