عانى الشعب الفلسطيني من وطأة الاحتلال الإسرائيلي لعقود عديدة، بداية من عام 1948 -وهو ما يُطلق عليه تاريخ النكبة- إلى يومنا هذا. وتلك المعاناة ممتدة ومتجذرة في كيان كل فلسطيني؛ فالمواطن الفلسطيني إما أسير في سجون الاحتلال، أو ضحية مباشرة للتعذيب وسوء المعاملة، أو ضحية غير مباشرة جراء فقد أحد من أهله أو جميعهم على أيدي أفراد جيش الاحتلال الإسرائيلي أو المستوطنين، أو هو من الشتات لاجئ في دول الجوار، أو في غيرها من الدول التي قبلت بعض المُهَجرين الفلسطينيين، أو جثة هامدة تقبع في القبور الفردية أو الجماعية نتيجة جرائم قوات الاحتلال الإسرائيلية وما ارتكبته ومازالت ترتكبه من مجازر. ويبدو أنّ ارتكاب المجازر يُشكل عقيدة أو منهجاً في أسلوب عمل قوات الاحتلال الإسرائيلية بدءاً من مذبحة دير ياسين عام 1948، مروراً بمذبحة بحر البقر في أبريل عام 1970، ومجزرة صبرا وشاتيلا في سبتمبر 1982، ومجزرة قانا الأولى في أبريل 1996، ومجزرة قانا الثانية في يوليو 2006.
ولم تكتف السلطات الإسرائيلية بذلك، بل إنها كانت تتعمد من خلال العديد من الإجراءات والخطوات طمس الهوية الفلسطينية، ونزع ملكية الفلسطينيين لمنازلهم وممتلكاتهم، لإجبارهم على النزوح، أو تحويلهم إلى مقيمين يمكن إنهاء إقامتهم بذرائع قانونية شتى وإجراءات اتخذتها سلطات الاحتلال، مثل مصادرة الأراضي، وحفر الأنفاق تحت الأقصى، وزيادة وتيرة الاستيطان وإنشاء الوحدات الاستيطانية. وهناك أيضًا قائمة أخرى مُروعة من انتهاكات القانون الإنساني الدولي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلية في عدوان أكتوبر 2023 على قطاع غزة.
وكعادة مصر، فإنها لم تقف متفرجة على ما يُرتكب من مجازر في حق أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، بعد أنْ تبيّن أنَّ الأمر تعدى مجرد الرد على هجوم حماس في 7 أكتوبر إلى تَعًمُد ارتكاب مذابح جماعية في حق المدنيين من أبناء الشعب الفلسطيني الذين سقط منهم آلاف القتلى والجرحى معظمهم من النساء والأطفال، في قصف غاشم من قوات الاحتلال الإسرائيلية للأعيان المدنية بما فيها المستشفيات والمدارس وأماكن العبادة ومخيمات اللاجئين، على نحو تعدى حدود مبدأ الدفاع عن النفس الذي تتشدق به السلطات الإسرائيلية وداعموها، لكي يرقى لارتكاب أبشع الجرائم الدولية، خاصة القتل العمد للمدنيين، واستخدام الذخائر المحرمة دوليًا، وجريمة الإبعاد القسري للسكان المدنيين.
تناقش هذه الدراسة الجريمة الأخيرة، مع بيان الأبعاد القانونية والسمات الأساسية لها، وكذا الآليات القانونية المتاحة للتصدي لها، باعتبارها من الجرائم ذات الأثر المباشر على الأمن القومي المصري، خاصة أنَّها لم تقتصر على مجرد الإبعاد القسري للسكان المدنيين من شمال قطاع غزة وإجبارهم على النزوح لجنوب القطاع، بل تعدى الأمر إلى ظهور نية حقيقة لتهجيرهم إلى دول الجوار. ومن الواضح أنَّ القيادة السياسية في مصر
قد أدركت خطورة هذا المخطط الإجرامي منذ البداية على النحو الذي يتضح من البيانات الرسمية الصادرة عن وزارة الخارجية المصرية.
وتجدر الإشارة قبل الخوض في هذه الجريمة الخطيرة التنويه لمسألة غاية في الأهمية، وهي أنَّ العديد من الباحثين والأكاديميين قد ينجرفون وراء الجوانب الإنسانية تاركين جوهر المشكلة الأساسي، وهي أنَّ إسرائيل دولة احتلال يضع عليها القانون الدولي التزامات صارمة بشأن الأراضي التي تحتلها، وأنَّ هناك حقوقاً أساسية للشعب الفلسطيني يجب أنْ تكونَ دائماً تحت بصرنا، يُطلق عليها في أروقة الأمم المتحدة وقرارات الشرعية الدولية «حقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف»(1)، وتتمثل في ثلاثة حقوق رئيسية: أولها، الحق في تقرير المصير دون تدخل خارجي. وثانيها، الحق في الاستقلال والسيادة الوطنيين. وثالثها، الحق في العودة إلى دياره وممتلكاته التي شُرِّد منها، بما يُطلق عليه «حق العودة»، وهو يعني أساسًا حق اللاجئين في العودة لديارهم وأراضيهم.
وفي سياق تدليلي على ارتكاب الوقائع المسندة إلى قوات الاحتلال الإسرائيلية أو إلى المسئولين عنها، سوف يتم التركيز بصفة أساسية على التصريحات الصادرة من منظمات الأمم المتحدة وما جاء بالقرارات الدولية ذات الصلة.
أولاً: الأبعاد القانونية لجرائم الإبعاد القسري للسكان في غزة
هناك شبه إجماع بين كافة المتابعين للوضع في غزة - باختلاف تخصصاتهم - أنَّ الوصف القانوني للإجراءات التي يقوم بها جيش الاحتلال الإسرائيلي تجاه السكان في غزة، حسبما وردت بالنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية هو «الترحيل أو الإبعاد القسري للسكان» Deportation or Forcible Transfer of Population.
ويمكن تعريف مصطلح الإبعاد القسري للسكان بأنَّه «نقل الأشخاص المعنيين قسرًا من المنطقة التي يوجدون فيها بصفة مشروعة بالطرد أو بأي فعل قسري آخر دون مبررات يسمح بها القانون الدولي»(2). ووفقًا لقضاء المحاكم الدولية، فإنَّ جريمة ترحيل السكان تعني نقل السكان إلى خارج حدود الدولة المعنية، بينما تعني جريمة إبعاد السكان إزاحتهم من المنطقة التي يقيمون بها إلى منطقة أو مناطق أخرى داخل الحدود الوطنية لذات الدولة (وهو ما يُطلق عليه لفظ «النزوح» Displacement) باستخدام وسائل قسرية، مثل استهدافهم بالأعمال العسكرية، أو قطع إمدادات الغذاء ومستلزمات الحياة اليومية عنهم(3). ومن أمثلة الوسائل القسرية التي تُستخدم لإجبار السكان على النزوح تدمير منازلهم والقتل العمدي وإحداث إصابات جسيمة بهم، وهي الوسائل التي يستخدمها جيش الاحتلال الإسرائيلي تحديدًا لإبعاد السكان عن الأماكن التي يقيمون بها.
ومن منظور القانون الدولي لحقوق الإنسان، فإنَّ حظر هذا النوع من الأفعال الإجرامية يرمي إلى ضمان حق الأفراد والمجموعات في العيش في مجتمعاتهم وبيوتهم والتمتع بممتلكاتهم في أمان.
وقد وضع المجتمع الدولي -في حقيقة الأمر- إطارًا قانونيًا محكمًا لمواجهة جرائم الإبعاد القسري والتهجير للسكان؛ حيث يجد الحظر بإبعاد وتهجير السكان المدنيين أساسه في المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب، والتي تنص في فقرتها الأولى على أنَّه «يحظر النقل الجبري الجماعي أو الفردي للأشخاص المحميين أو نفيهم من الأراضي المحتلة إلى أراضي دولة الاحتلال أو إلى أراضي أي دولة أخرى، محتلة أو غير محتلة أيًا كانت دواعيه».
وقد حددت المادة سالفة الذكر في فقراتها التالية شروط الإخلاء الكلي أو الجزئي لمنطقة محتلة، على النحو الآتي:
- إذا اقتضى ذلك أمن السكان أو لأسباب عسكرية قهرية، على ألا يترتب على عمليات الإخلاء نزوح الأشخاص المحميين إلا في إطار حدود الأراضي المحتلة، ما لم يتعذر ذلك من الناحية المادية.
- يجب إعادة السكان المنقولين إلى مواطنهم بمجرد توقف الأعمال العدائية في هذا القطاع.
- على دولة الاحتلال التي تقوم بعمليات النقل أو الإخلاء هذه أنْ تتحقق إلى أقصى حد ممكن من توفير أماكن الإقامة المناسبة لاستقبال الأشخاص المحميين، ومن أنَّ الانتقالات تجري في ظروف مُرضية من وجهة السلامة والشروط الصحية والأمن والتغذية، ومن عدم تفريق أفراد العائلة الواحدة.
- ويجب إخطار الدولة الحامية(4) بعمليات النقل والإخلاء بمجرد حدوثها.
- لا يجوز لدولة الاحتلال أنْ تحجزَ الأشخاص المحميين في منطقة معرضة بشكل خاص لأخطار الحرب، إلا إذا اقتضى ذلك أمن السكان أو لأسباب عسكرية قهرية.
- وأخيرًا، لا يجوز لدولة الاحتلال أنْ تُرحلَ أو تنقلَ جزءاً من سكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلها.
وبالتالي تؤكد أحكام هذه المادة على التزام إسرائيل بوصفها دولة احتلال، بعدم النقل الجبري لسكان غزة إلى الأرض المحتلة أو أي دولة أخرى، وفي حالة الضرورة القصوى، وبغرض حماية السكان، يكون النقل المؤقت في حدود دولة الاحتلال. مما يعني أنَّ النقل الجبري لدولة أخرى غير جائز في كل الأحوال.
لذلك يمنح القانون الإنساني الدولي السكان المدنيين الذين يقبعون تحت وطأة الاحتلال حماية قانونية خاصة. ومما لا شك فيه أنَّ الحصار وفرض ظروف معيشية قاسية على السكان، قد يشكل في حد ذاته أحد الوسائل المستخدمة لإبعاد السكان Transfer أو تهجيرهم Deportation.
ويمكن القول إنَّ الإبعاد أو التهجير القسري للسكان قد يشكل جرائم حرب أو جريمة ضد الإنسانية، وقد يصل إلى حد ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية إذا اجتمعت شروط معينة تُشَكِل في مجملها أركان هذه الجريمة الشنعاء.
1- الإبعاد القسري وتهجير السكان المدنيين كجريمة حرب
تبنت المادة الثامنة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية المتعلقة بجرائم الحرب مضمون ما جاء بالمادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة، فنصت في فقرتها الثانية (أ) (8) على اعتبار قيام دولة الاحتلال، على نحو مباشر أو غير مباشر، بنقل أجزاءٍ من سكانها المدنيين إلى الأرض التي تحتلها، أو إبعاد أو نقل كل سكان الأرض المحتلة أو أجزاء منهم داخل هذه الأرض أو خارجها جريمة حرب. وطبقًا لقضاء المحكمة الجنائية الدولية الصادر عن غرفة المحاكمة التمهيدية، فإنَّه من أهم الأركان الواجب إثباتها لقيام هذه الجريمة إقامة العلاقة بين أفعال الجناة ونتيجتها التي أدت إلى إبعاد أو نزوح السكان المدنيين من المكان الذي يقيمون فيه(5).
ويمكن التأكيد على أنّ فرض الحصار على المدن الفلسطينية وتعمد تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب بحرمانهم من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم، بما في ذلك تعمد عرقلة الإمدادات الغوثية -على النحو المنصوص عليه في اتفاقيات جنيف- يشكل كذلك جريمة حرب وفقًا للفقرة الثانية (ب) (25) من المادة الثامنة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. ويبدو أنَّ هذا النهج يُشكل سياسة دولة وجزءاً من أسلوب عمليات قوات الاحتلال الإسرائيلية. دلالة ذلك ما ورد بتقرير بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق بتاريخ 3 أبريل 2009 من أنه «خلال الفترة التي أفضت إلى الهجوم العسكري الإسرائيلي على قطاع غزة، فرضت إسرائيل حصارا يبلغ حد العقاب الجماعي ونفذت سياسة منهجية وتصعيديه لعزل وحرمان قطاع غزة(6).
2 - الإبعاد القسري وتهجير السكان المدنيين كجريمة ضد الإنسانية
وفقًا للبند (د) من الفقرة الأولى للمادة السابعة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية المتعلقة بالجرائم ضد الإنسانية، فإنَّ إبعاد أو النقل القسري للسكان يُشكل جريمة ضد الإنسانية، إذا ارتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أي مجموعة من السكان المدنيين، وعن علم بالهجوم.
ومن ثَمَّ فيجب لكي تستجمع جريمة الإبعاد القسري والتهجير للسكان أركانها كجريمة ضد الإنسانية أنْ يثبت:
- أنَّ هناك هجوماً موجهاً ضد السكان المدنيين (وهم في حالتنا المطروحة السكان المدنيين في غزة).
- أنْ يكونَ الهجوم واسع النطاق أو منهجي (وهو الأمر الحادث بالفعل ميدانيًا في غزة).
- عملاً بسياسة الدولة، ومن المفهوم أيضًا أنَّ عبارة «سياسة لارتكاب هذا الهجوم» تتطلب أنْ تروج أو تشجع الدولة ارتكاب مثل ذلك الهجوم ضد مجموعة من السكان المدنيين.
وجميع هذه الشروط تستجمع أركانها فيما ترتكبه قوات الاحتلال الإسرائيلية بغزة.
3- الإبعاد القسري والتهجير للسكان المدنيين كجريمة إبادة جماعية
جريمة الترحيل أو الإبعاد القسري يمكن أنْ تتطور لكي تُشكل أيضًا جريمة إبادة جماعية طبقًا للمادة السادسة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية المتعلقة بجريمة الإبادة الجماعية Genocide. وقد عرفت المادة الثامنة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الإبادة الجماعية بأنَّها أفعال القتل الجماعي وإلحاق الضرر الجسدي أو العقلي الجسيم بأفراد الجماعة أو إخضاع الجماعة عمدًا لأحوال معيشية يقصد بها إهلاكها الفعلي كليًا أو جزئيًا أو فرض تدابير تستهدف منع الإنجاب داخل الجماعة أو نقل أطفال الجماعة عنوة إلى جماعة أخرى، متى ارتكبت بقصد إهلاك جماعة قومية أو أثنية أو عرقية أو دينية، بصفتها هذه تكون إهلاكًا كليًا أو جزئيًا. ومن الواضح أنَّ النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية قد تبنى تعريف الجريمة الوارد بالمادة الثانية لاتفاقية منع جريمة إبادة الجنس البشري والعقاب عليها لعام 1948، التي تم الاتفاق عليها بين دول الجمعية العامة للأمم المتحدة في 9 ديسمبر1948(7).
ويثير مفهوم جريمة الإبادة الجماعية مشكلتين رئيسيتين، تتعلق إحداهما بتصنيف الجماعات المستهدفة، والثانية إثبات نية الإبادة. وجوهر تعريف جريمة إبادة الجنس البشري هو وجود النية الخاصة على الإهلاك الكلي أو الجزئي لإحدى الجماعات التي ورد ذكرها على سبيل الحصر وهي الجماعات القومية أو الإثنية أو العرقية أو الدينية. وهذه الشروط متوافرة في سكان غزة باعتبارهم ينتمون لجماعة قومية محددة.
ومن الممكن أنْ تُشكل أفعال كيان الاحتلال أيضًا جريمة «إبادة» كجريمة ضد الإنسانية على النحو الوارد بنص المادة السابعة من هذا النظام، والتي نصت في فقرتها الأولى (ب) على اعتبار «الإبادة» جريمة ضد الإنسانية وعرفتها في فقرتها الثانية (ب) بأنَّها تشمل تعمد فرض أحوال معيشية من بينها الحرمان من الحصول على الطعام والدواء بقصد إهلاك جزء من السكان، وهو نوع من أنواع انتهاكات القانون الدولي الإنساني التي ترتكبها سلطات الاحتلال ضد المدنيين الفلسطينيين. وطبقًا للفقرة الأولى (ج) من المادة السادسة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية تتحقق جريمة الإبادة الجماعية إذا ارتكبت بقصد إخضاع الجماعة عمدًا لأحوال معيشية يقصد بها إهلاكها الفعلي كليًا أو جزئيًا على النحو المنصوص عليه.
وعادة تنظر المحاكم الدولية لتصريحات القادة السياسيين والمسئولين ذات الطبيعة التحريضية لإثبات توافر النية على الإبادة الجماعية. ومما لا شك فيه أنَّ خطابَ الكراهية الدائم الموجه إلى الفلسطينيين مقرونًا بتصريحات العديد من المسئولين الإسرائيليين يُرشح لتوافر هذه النية، ومنها على سبيل المثال وصف وزير الدفاع الإسرائيلي، يواف غالانت، في تصريح صدر عنه بتاريخ 9 أكتوبر 2023 الفلسطينيين بأنَّهم «حيوانات بشرية». وكذلك، تصريح وزير التراث الإسرائيلي عميحاي إلياهو - الصادر عنه بتاريخ 5 نوفمبر خلال مقابلة إذاعية - الذي أعرب فيه عن انفتاحه لفكرة إلقاء إسرائيل قنبلة نووية على غزة. وتتزامن هذه التصريحات التحريضية على ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية للفلسطينيين في قطاع غزة مع حقيقة أنَّ هناك عائلات غزاوية كاملة تم محو أسماء أفرادها من السجلات بعد أنْ أُبيدوا في الهجمات العسكرية الإسرائيلية.
ومما يدلل على وجود نية الإبادة الجماعية لدى الجانب الإسرائيلي، قطع وسائل الاتصال عن القطاع، ومنع وسائل الإعلام من نقل ما يحدث به من مجازر، للحيلولة دون جمع الأدلة على ارتكاب تلك المجازر، والتي ترسي نية الإبادة الجماعية.
ثانيًا: السمات الأساسية لجرائم الإبعاد القسري للسكان في غزة
تتسم جرائم الإبعاد القسري للسكان المدنيين في غزة والشروع في تهجيرهم بسمات خاصة، يمكن مناقشة أهمها فيما يلي:
1 - عدم الاكتراث بمبادئ القانون الدولي
الأمر الذي يثير دهشة المتخصصين والخبراء في مجال القانون الدولي عدم مبالاة سلطات الاحتلال الإسرائيلية المتناهية بمبادئ وقواعد القانون الدولي، السارية والمستقرة، التي تَجِدُ مصدرها في قواعد القانون الدولي التعاهدي أو العرفي، سواء ما تعلق منها بمبادئ القانون الدولي لقوانين الحرب التي ينتظمها بصفة خاصة القانون الإنساني الدولي أو مبادئ القانون الدولي لحقوق الإنسان. لذلك بدأت الدول التي تدعم إسرائيل في حربها على غزة في مراجعة مواقفها، بعد أنْ باتت الانتهاكات الجسيمة لمبادئ القانون الدولي سالفة الذكر تضعها في موقف المتواطئ مع إسرائيل.
ومن أكثر مبادئ القانون الدولي المستقرة التي انتهكتها قوات الاحتلال الإسرائيلية في حربها على غزة مبدأ «حدود الدفاع الشرعي» Self-Defense، ومبدأ «التمييز بين المدنيين والمقاتلين» Distinction Between Civilians and Combatants، ومبدأ «الاحتياط» Precaution، ومبدأ «التناسب» Proportionality.
وبالنسبة لتجاوز مبدأ «الدفاع الشرعي»، فقد تجاوز العدوان الإسرائيلي على غزة حدود هذا المبدأ بطريقة سافرة. لذلك فقد شدد بيان وزارة الخارجية المصرية الذي أصدرته عقب «قمة القاهرة للسلام» التي عقدت في القاهرة يوم 21 أكتوبر 2023 - بمشاركة وزراء خارجية عدة دول عربية - على أنَّ حق الدفاع عن النفس الذي يكفله ميثاق الأمم المتحدة لا يبرر الانتهاكات الصارخة للقانون الدولي والقانون الإنساني الدولي. في تصريحه خلال اجتماع منتدى الاتحاد من أجل المتوسط بتاريخ 27 نوفمبر أدان جوزيب بوريل مسئول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي أعمال الجيش الإسرائيلي الانتقامية ومعاناة المدنيين في غزة، مؤكداً أن إسرائيل تجاوزت حد الدفاع عن النفس، وأنه على إسرائيل الامتثال لأحكام لقانون الإنساني الدولي.
أما عن مبدأ «التمييز» فهو أهم المبادئ الأساسية في القانون الإنساني الدولي، ومضمونه أنَّه يجب التمييز بين الأهداف العسكرية والمدنية في العمليات العسكرية في كل الأحوال؛ أي التمييز بين السكان المدنيين والمقاتلين وبين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية، ومن ثَم يجب أن تُوجه القوات المسلحة عملياتها ضد الأهداف العسكرية دون غيرها، على النحو الوارد بالمادة 48 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1949. ومؤدى ما تقدم أن المدنيين هم أشخاص محميون في جميع الأحوال، ومن ثَمَّ، فإنَّ الهجمات المتعمدة على المدنيين والأعيان المدنية في غزة يُشكِلُ انتهاكًا لمبدأ «التمييز».
وفيما يخص مبدأ «الاحتياط» Precaution، وهو من مبادئ القانون الدولي العرفي الراسخة، فيقضي بأنه على أطراف الصراع المسلح اتخاذ الاحتياطات الممكنة أثناء عملياتهم العسكرية التي تعمل على الحد من الخسائر بين المدنيين والمنشآت المدنية. والمسئولية الناشئة عن الالتزام بهذا المبدأ تقع أساسًا على القادة العسكريين. ومن الواضح تمامًا من تتبع سير العمليات العسكرية في غزة وهجمات قوات الاحتلال الإسرائيلية في القطاع أنها لا تأبه إطلاقًا بهذا المبدأ، آية ذلك إحصاءات القتلى والجرحى بين المدنيين، وكم الدمار الهائل الذي لحق بالأعيان المدنية جراء هجمات قوات الاحتلال الإسرائيلية بغزة.
أما بالنسبة لمبدأ «التناسب» Proportionality فتشير الهجمات التي تشنها قوات الاحتلال أنَّها تتم دون مراعاة هذا المبدأ المهم شديد الصلة بقوانين وأعراف الحروب. ولمبدأ التناسب أهمية كبيرة عند تقييم شرعية استخدام القوة المسلحة. ويقتضي هذا المبدأ الموازنة بين المزايا العسكرية المطلوبة والأضرار والخسائر المدنية المتصلة به. ومبدأ التناسب معترف به الآن كقاعدة من قواعد القانون العرفي التي تنطبق في النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية. وفي هذا الشأن أوردت محكمة العدل الدولية في رأيها الاستشاري بحكمها الصادر عام 1996 بشأن شرعية استخدام الأسلحة النووية، في رأى القاضي هيجنز أنَّ «مبدأ التناسب، وإن لم يُوجد ذكر مُحدَّد له، يتضح في الكثير من أحكام البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1949. وبناء عليه، فإنَّه لا يجوز مهاجمة هدف مشروع إذا كانت الخسائر المدنية التبعية لا تتناسب مع المكسب العسكري المُحدَّد الناجم عن الهجوم»(8).
وينطبق شرط التناسب أيضًا على الأعمال الانتقامية التي تشنها الجيوش ردًا على اعتداء وقع عليها أو على رعايا الدولة المعنية. ويعني هذا المبدأ في سياق العدوان على غزة أنَّ هجمات قوات الاحتلال الإسرائيلي على غزة انتهكت حدود قوانين وأعراف الحروب بعدم تناسب ما حدث من اعتداء على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023 مع ردها الانتقامي العدواني الجسيم، وعدم تمييزها في ردها العسكري بين المحاربين والمدنيين، واستخدامها قوة مفرطة غير مبررة وفقًا لأحكام القانون الدولي، بما ترتب عليه سقوط آلاف من الضحايا المدنيين بدون ضرورة عسكرية، بحيث أصبحت الخسائر المدنية التبعية لا تتناسب مع المكسب العسكري المُحدَّد الناجم عن الهجوم. وبطبيعة الحال لا يمكن اعتبار هؤلاء الضحايا من قبيل الضحايا العرضيين أو أنَّهم يندرجون تحت مبدأ «الأضرار الجانبية» Collateral Damage حسبما تروج سلطات الاحتلال الإسرائيلية.
وبالنظر لتبين رؤساء بعض الدول خطورة ما ترتكبه قوات الاحتلال الإسرائيلية من انتهاكات، تراجع الرئيس الفرنسي ماكرون عن موقفه المؤيد لإسرائيل حينما صرح في 9 نوفمبر 2023 -إبان انعقاد المؤتمر الإنساني الدولي حول غزة الذي نظمته الحكومة الفرنسية بالعاصمة الفرنسية باريس- أنَّ «الوضع الإنساني في غزة خطير ويتدهور يومًا بعد يوم، ويجب على إسرائيل حماية المدنيين في حربها على غزة» و»أنَّه لا يمكن أنْ تكون هناك معايير مزدوجة فيما يتعلق بحماية الأرواح البشرية». وطالب الرئيس الفرنسي في كلمته بوقف إطلاق النار في غزة. وخلال اجتماع منتدى الاتحاد من أجل المتوسط، السابق الإشارة إليه، صرح جوزيب بوريل مسئول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي إن نصف قطاع غزة تعرض للدمار بشكل كامل، واصفاً ذلك بأنه أمر غير مقبول.
2 - أن هذه الجرائم تتم في إطار سياسة عامة General Policy لسلطة الاحتلال الإسرائيلي بغرض تهجير السكان
من الواضح أنَّ الرغبة في تهجير السكان الفلسطينيين من أراضيهم وأماكن إقامتهم إلى خارج فلسطين ليست وليدة حرب غزة، بل هي سياسة ثابتة تتبناها العقيدة الصهيونية، عبر تضييق سبل الحياة على الفلسطينيين، أو اختلاق اضطرابات في المجتمع الفلسطيني، وكان أن انتهزت إسرائيل فرصة هجمات السابع من أكتوبر 2023 من حماس لتشن حربها الضروس على القطاع بهدف إبعاد السكان من ديارهم تمهيدًا لتهجيرهم خارج فلسطين. فلم تقف تلك السياسة العامة عند حد الإبعاد القسري بل بدأ مسئولون إسرائيليون يتحدثون صراحة عن التهجير القسري الجماعي للسكان الغزاويين، بهدف تفريغ قطاع غزة من سكانه، من خلال مبادرة قدمها عضوان في الكنيست الإسرائيلي، ورحب بها وأيدها وزير المالية الإسرائيلي سموريتش. وتعقيبًا على تصريحات وزير الشئون الاستراتيجية الإسرائيلي «رون ديرمر» لتشجيع الفلسطينيين في قطاع غزة للهجرة خارج القطاع»، أكد المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية موقف مصر الرافض جملةً وتفصيلاً لأية محاولات إسرائيلية لتهجير الفلسطينيين خارج غزة بشكل طوعي أو قسري(9).
والمشكلة الرئيسة أنَّ المسئولين الإسرائيليين يصرحون بارتكاب الجرائم الدولية دون خوف أو وجل من المسئولية الجنائية الدولية، بما يكرس سياسة الإفلات من العقاب. ويتضح هذا جليًا من تصريحات وزيرة الاستخبارات في حزب الليكود جيلا غملئيل بتاريخ 19 نوفمبر 2023 والتي دعت فيها إلى تهجير سكان قطاع غزة بدلاً من إعمار القطاع. فقد ذكرت أنَّه على المجتمع الدولي تعزيز «إعادة التوطين الطوعي» للفلسطينيين في غزة في مواقع حول العالم. وإدراكًا لخطورة هذه الخطة الممنهجة لتهجير السكان من غزة، بتاريخ 10 ديسمبر 2023 اتهم المُفَوِض العام لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) فيليب لازاريني إسرائيل بتمهيد الطريق لتهجير سكان قطاع غزة جماعيًا إلى مصر عبر الحدود، لكي يتحول ذلك إلى نكبة ثانية للفلسطينيين.
3 - يُستَخدَم لتنفيذها أبشع أنواع الجرائم الدولية The Most Heinous International Crimes
كما سبق وأشرنا فإنَّه من الواضح والمُوَثَق أنَّ قوات الاحتلال الإسرائيلية ترتكب في قطاع غزة أشد الجرائم المُعَرَفة في القانونين الإنساني والجنائي الدولي جسامة لتحقيق أهدافها في الهجوم على القطاع، ومنها أحد الأهداف الغائية وهو إجبار السكان المدنيين على النزوح داخل القطاع، ثم التهجير خارج القطاع. ويمكن إجمال تلك الجرائم في الآتي:
- القتل العمدي للمدنيين لا سيما النساء والأطفال.
- استخدام الذخائر المحرمة دوليًا.
- استهداف الأعيان المدنية من مستشفيات ومدارس وأماكن عبادة وأماكن أخرى للنازحين المدنيين.
- منع المساعدات الإنسانية بهدف تجويع السكان.
ولم تتورع قوات الاحتلال الإسرائيلية عن توسيع وتكثيف هجماتها -خارج إطار القانون الدولي- على نحو يرشح لتوافر مقومات جريمة الإبادة الجماعية، آية ذلك:
أ- تصريحات العديد من القيادات الإسرائيلية أثناء شن الحرب على قطاع غزة بغرضهم المتمثل في محو الغزاويين -وليس فقط حماس- من قطاع غزة.
ب- تصريحات المسئولين الإسرائيليين بسياسات العقاب الجماعي «للحيوانات البشرية» في غزة.
ج- الحصار المطبق لقطاع غزة، ومنع سبل المعيشة الأساسية، واتباع سياسة التجويع.
د- استخدام الأسلحة والذخائر المحرمة دولياً التي لا تفرق في الضحايا بين المدنيين والعسكريين وتحدث أكبر عدد من القتلى.
هـ- الإفراط في استخدام ذخائر واسعة التدمير في مناطق مكتظة بالسكان.
و- الاستهداف المُكثف للأماكن المكتظة بالسكان المدنيين مثل المدارس والمستشفيات وأماكن اللجوء ومعسكرات النازحين.
ز- عدم التوقف عن قذف الأماكن المدنية خاصة المستشفيات رغم الإنذارات العديدة بقتل العديد من المدنيين والأطفال الرضع والمبتسرين بها، والمئات من النساء الحوامل؛ ومرضى الرعاية المركزة.
ح- اتباع سياسة الأرض المحروقة(10)، بتسوية أحياء كاملة بالأرض، وتدمير كافة البنى التحتية بهدف القضاء على مظاهر الحياة بها.
ط- قطع الكهرباء والاتصالات بالقطاع أثناء الاجتياح البري لإيقاع المزيد من الضحايا وعرقلة نقل ما يقع في القطاع من مجازر عن طريق وسائل الإعلام.
ي- العدد الهائل من الضحايا المدنيين، لا سيما النساء والأطفال، الذين يوجدون في مساحات صغيرة، خلال مدة زمنية قصيرة.
ومن المظاهر المميزة للعدوان الإسرائيلي على غزة - التي لم نر لها مثيلاً في أقذر الحروب- أنه لا يستهدف بهجماته حصراً المستشفيات، بل نظام الرعاية الصحية كله، بالخراب والتدمير، بطريقة ممنهجة وعلى نطاق واسع، بدءاً من منع الوقود عن المستشفيات وانتهاء باستهداف الطواقم الطبية بالقتل، مما تسبب في توقف العديد منها عن تقديم الرعاية الصحية جزئياً أو كلياً. ولم تتورع قوات الاحتلال عن مهاجمة المستشفيات ذاتها بالقصف والاقتحام بهدف التأكد من انهيار نظام الرعاية الصحية تماماً، تنفيذاً لغرضه الإجرامي المُبَيَت بمنع سبل الحياة الأساسية في القطاع وتفريغه من ساكنيه، بما يؤكد وجود الإبادة الجماعية، في ظل سياسة واضحة للتطهير العرقي.
4 - تتم باستخدام مفهوم الغدر Perfidy المؤثم دولياً
عرف القانون الإنساني الدولي مفهوم الغدر من خلال اتفاقيات جنيف لعام 1949 وبروتوكولها الأول الإضافي، وهو يُعَرَف طبقًا للمادة 37 من البروتوكول الأول الإضافي المتعلق بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة على النحو الآتي:
«يُعتَبَر من قبيل الغدر تلك الأفعال التي تستثير ثقة الخصم مع تعمد خيانة هذه الثقة وتدفع الخصم إلى الاعتقاد بأنَّ له الحق أو أنَّ عليه التزامًا بمنح الحماية طبقًا لقواعد القانون الدولي التي تطبق في المنازعات المسلحة».
وبالتطبيق على الحرب على غزة، يتمثل الغدر في إصدار القوات الإسرائيلية أوامر إلى السكان المدنيين بالنزوح من شمال إلى جنوب غزة لتجنب القصف، ثم يفاجئ السكان بعد نزوحهم إلى جنوب غزة بقذائف وصواريخ الاحتلال الإسرائيلي تستهدفهم بلا هوادة، بل إنَّ القصف طال الأماكن المخصصة لإيوائهم عن طريق منظمات الإغاثة، فتكرر نزوح العديد من العائلات الغزاوية من منطقة إلى أخرى في قطاع غزة.
وبالتالي، وفقًا للعديد من المنظمات الإنسانية فلم يعد للسكان المدنيين في غزة مكان آمن للجوء إليه. ومن ضمن الروايات المُوَثَقة لأحد النازحين أنَّه اضطر إلى توزيع أولاده في عدة أماكن مع عائلات مختلفة لمحاولة ضمان عدم موتهم جميعًا.
هذا وقد أكد المُفَوِض العام للأونروا أمام مجلس الأمن يوم 30 أكتوبر 2013 أنَّ الكثير من الفلسطينيين قد قتلوا وهم يبحثون عن الأمان بأماكن يحميها القانون الدولي. أكثر من هذا، بتاريخ 11 أكتوبر 2023 وما بعده أسقطت قوات الاحتلال الإسرائيلي العشرات من الفلسطينيين من المدنيين ما بين قتلى وجرحى أثناء نزوحهم من الشمال إلى الجنوب بشارع صلاح الدين الذي كانت أعلنت قوات الاحتلال الإسرائيلية أنَّه ممر آمن.
هذا وقد أكد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش في رسالته الموجهة إلى رئيس مجلس الأمن يوم 7 ديسمبر 2023 قبل نظر المجلس موضوع الحرب في غزة في اليوم التالي -والتي سوف نلقى عليها المزيد من الضوء فيما بعد- أنه «ليس هناك مكان آمن في غزة». وهو الأمر الذي كرره المُفَوِض العام للأونروا في حديث له بتاريخ 13 ديسمبر 2013 أمام المنتدى العالمي للاجئين؛ حيث أكد أنه «لا يوجد مكان تشعر فيه بالأمان في غزة».
5- ينطبق عليها مفهوم التطهير العرقي Ethnic Cleansing
من وجهة نظر قانونية، فإنَّ تعمد استهداف الأماكن التي تأوي النازحين من مستشفيات ومدارس ومخيمات -فضلاً عن كونه يشكل جريمة حرب- فإنَّه يؤكد توافر النية الآثمة لتهجير هؤلاء النازحين، بل إنَّه يثير أيضًا شبهة ارتكاب سياسة «التطهير العرقي» Ethnic Cleansing ضد السكان في غزة.
وتتزايد خطورة سياسة التطهير العرقي التي تنتهجها سلطات الاحتلال الإسرائيلية بالنظر لاقترانها بخطاب الكراهية الصادر من ممثلي الجهات الرسمية بالدولة ومن المستوطنين الذين تدعمهم الحكومة الإسرائيلية في هجماتهم على الفلسطينيين وتوفر لهم السلاح والموارد الأخرى.
6 - تستهدف تفريغ قطاع غزة من قاطنيه
المتتبع لوسائل ارتكاب الجرائم أو ما يُطلق عليه «أسلوب أو طريقة العمل» Modus Operandi التي تتبعها قوى الاحتلال الإسرائيلية في ارتكاب جرائمها، سوف يلاحظ أنَّها تعتمد على القصف المكثف ثم الغزو البري لشمال غزة الذي يندفع نحو الجنوب، مع تعمد ترهيب السكان ودفعهم تحت القصف للنزوح الجماعي لمناطق الجنوب، ثم يتبع ذلك قصف مناطق واسعة بالجنوب، لكي ينتهى المطاف بهم في رفح (بالجانب الفلسطيني)، في ظل نية واضحة لإهلاك سكان القطاع والقضاء عليهم ترشح لارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، على النحو الذي أكدنا عليه فيما سبق، الأمر الذي لا يترك مجالًا للمدنيين بعد ذلك سوى الفرار إلى شمال سيناء مصر، أو أي دولة أخرى. وحسبما يبين الشكل رقم (1)، فإن عملية النزوح هذه تتم وفقًا لمخطط ممنهج ومدروس، في إطار استراتيجية لئيمة ترمي إلى تفريغ قطاع غزة من سكانه وتهجيرهم إلى دول الجوار ومن بينها مصر، وهو أمر تصدت له مصر ومازالت تتصدى له بكل قوة. وكما سبق وذكرنا فإنَّه من المُستَغرَب أنَّ المسئولين الإسرائيليين لا يخفون هذه النوايا الإجرامية، مما يفصح عن عدم اكتراثهم بمبادئ القانون الدولي وضربهم بأحكامه عرض الحائط.
واحتسابًا لآثار الإبعاد القسري للسكان المدنيين في قطاع غزة، فقد أكدت وزارة الخارجية المصرية في بيانها الصادر في 21 أكتوبر 2023 إدانة ورفض استهداف المدنيين والبنية التحتية والمنشآت المدنية، مع التركيز على إدانة التهجير القسري الفردي أو الجماعي، وكذلك سياسة العقاب الجماعي التي تنتهجها سلطات الاحتلال الإسرائيلية.
وأكد البيان إدانة أي محاولات لتصفية القضية الفلسطينية على حساب الشعب الفلسطيني وشعوب دول المنطقة، أو تهجير الشعب الفلسطيني خارج أرضه بأي صورة من الصور، باعتباره يُشكل انتهاكًا جسيمًا للقانون الإنساني الدولي، مع التأكيد على ضرورة الالتزام بالعمل على ضمان الاحترام الكامل لاتفاقيات جنيف لعام 1949، بما في ذلك ما يتعلق بمسئوليات سلطة الاحتلال، وإدانة الإغفال المتعمد للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، مع ضرورة تكريس حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وإنهاء الاحتلال.
ومما يحسب للبيان آنف الذكر أنَّه اصطبغ بإطار قانوني قويم، فطالب المجتمع الدولي بتطبيق أحكام القانون الدولي الإنساني على الجميع دون تمييز، مؤكدًا على أنّ التقاعس في توصيف الانتهاكات الصارخة للقانون الدولي الإنساني يعد بمثابة منح الضوء الأخضر لاستمرار هذه الممارسات، بل تورط في ارتكابها، بما يُعد تحذير شديد اللهجة للقوى التي تدعم سلطة الاحتلال الإسرائيلية في حرب الإبادة التي تشنها على الفلسطينيين.
وعلى الرغم من الأعداد الكبيرة للشهداء- بلغ عدد الشهداء من المدنيين الفلسطينيين حتى تاريخ نشر الملف ما يناهز التسعة عشر ألف قتيل، غالبيتهم العظمى من النساء والأطفال- فإنَّ الآلة العسكرية الإسرائيلية لم تكتف بهذا العدد، بل هي ماضية في أعمال القصف والقتل، على الرغم من تحذير المفوض السامي لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة بأنَّ المزيد من الأعمال العسكرية البرية في غزة من الممكن أنْ يترتب عليها قتل المزيد من الآلاف من المدنيين، وقائمة الجرحى تتزايد بمرور كل يوم بل كل ساعة. لذلك، فلم يكن من المستغرب أنْ يعلن الأمين العام للأمم المتحدة في بيان رسمي بتاريخ 28 أكتوبر 2023 بأنَّه فوجئ بالتصعيد الإسرائيلي غير المسبوق بقصف قطاع غزة وتداعياته المُدَمِرَة. كل ذلك في ظل صمت من بعض القوى الغربية الداعمة لإسرائيل وصل إلى عرقلة حدوث هدنة إنسانية، حتى بعد صدور قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة بها، على النحو الذي سوف نعرض له لاحقًا، إلى أن فرضتها المقتضيات السياسية والعسكرية بين الطرفين، بصفة خاصة لتلبية مقتضيات تبادل الرهائن والأسرى.
ومن المهم الإشادة بمواقف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش بشأن الوضع في غزة، والتي كان آخرها مبادرته إلى مخاطبة مجلس الأمن بتاريخ 7 ديسمبر 2023 برسالة ينبه فيها المجلس إلى قيامه بتفعيل المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة لمواجهة خطر شديد يتمثل في انهيار النظام الإنساني في غزة، وحث فيها المجلس على المساعدة في تجنب وقوع كارثة إنسانية داعيًا إلى إعلان وقف إطلاق نار إنساني، وأشار فيها إلى أن أكثر من نصف المباني السكنية في غزة تم تدميره، وأن 80 % من سكان قطاع غزة تم إبعادهم قسراً، في ظل تكدس شديد، وظروف تفتقد لأدنى مقومات الحياة، فضلًا عن انهيار نظام الرعاية الصحية وانتشار الأمراض المعدية، مما سوف يترتب عليه موت العديد من السكان المدنيين لعدم توافر العلاج لهم، وأنه أصبح لا يوجد مأوى للمدنيين للاحتماء من القصف الإسرائيلي، ووصف التهديد الخطير الذي يتعرض له موظفو الأمم المتحدة بـغير المسبوق مُشيرًا إلى مقتل أكثر من 130 منهم، وأعتبر ذلك أكبر خسارة في الأرواح في تاريخ الأمم المتحدة(11). كما طالب في الرسالة بضرورة تطبيق قرار مجلس الأمن رقم 2712 لسنة 2023 بشأن إدخال المساعدات الإنسانية للمدنيين في غزة. وأكد على مسئولية المجتمع الدولي في إنهاء هذه الأزمة الكارثية. وبجلسة مجلس الأمن التي عُقدت اليوم التالي، ردد مضمون ما جاء برسالته مشيراً إلى أن الأحداث في غزة ستؤدى إلى انهيار كامل للنظام العام، وأنه من شأن هذه الأحداث أن تؤدى إلى زيادة الضغط من أجل النزوح الجماعي إلى مصر، وهو ما يؤكد رؤيتنا للخطة الممنهجة التي تتبعها إسرائيل في إبعاد وتهجير السكان. ومما لا شك فيه أن ما ورد بهذه الرسالة يعكس في حد ذاته حجم الدمار وانتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها ومازالت ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلية في غزة، والأضرار الجسيمة التي أصابت القطاع جراء جرائم الاحتلال.
ثالثًا: مراعاة الموقف المصري للأبعاد القانونية المحيطة بجرائم الإبعاد القسري والشروع في تهجير السكان في غزة
المتتبع لتصريحات القيادة السياسية في مصر والبيانات الصادرة عن وزارة الخارجية المصرية سوف يتبين اتفاقها مع روح وأحكام القانون الدولي المنطبقة على الإبعاد القسري والتهجير للسكان. هذا وقد اتخذت مصر عدة مواقف حازمة من اليوم الأول لاستشعار تحركات قوات الاحتلال الإسرائيلية لإجلاء السكان المدنيين في غزة. ونسقت مصر موقفها مع أشقائها العرب، حيث تمكنت المجموعة العربية بتاريخ 27 أكتوبر 2023 من استصدار قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة يحمل عنوان «حماية المدنيين والتمسك بالالتزامات القانونية والإنسانية»، وذلك في إطار الدورة الاستثنائية الطارئة العاشرة للجمعية العامة التي تحمل عنوان «الأعمال الإسرائيلية غير قانونية في القدس الشرقية المحتلة وبقية الأرض الفلسطينية المحتلة»، من خلال إطار قرار الجمعية العام للأمم المتحدة رقم 377/5 الصادر بتاريخ 3 نوفمبر 1950 المعنون «متحدون من أجل السلام»(12). ودعا القرار إلى هدنة إنسانية فورية دائمة ومستدامة تفضي إلى وقف الأعمال العدائية، وتوفير السلع والخدمات الأساسية للمدنيين في شتى أنحاء القطاع فورًا ودون عوائق. ومن أهم ما جاء في القرار -وهو ما يهمنا في هذا السياق- رفض «أية محاولات للترحيل القسري للسكان المدنيين الفلسطينيين». كما دعا القرار أيضًا إلى إلغاء الأمر الذي أصدرته إسرائيل للمدنيين الفلسطينيين وموظفي الأمم المتحدة والعاملين في المجال الإنساني والطبي، بإخلاء جميع المناطق الواقعة في الشمال من وادي غزة والانتقال إلى جنوب القطاع، باعتباره قرارًا يخالف أحكام القانون الدولي. ولتحقيق التوازن في القرار دعا إلى «الإفراج الفوري وغير المشروط» عن جميع المدنيين المحتجزين بشكل غير قانوني، مع المطالبة بسلامتهم ورفاههم ومعاملتهم بشكل إنساني امتثالًا لأحكام القانون الدولي. وصدر القرار بموافقة 120 دولة ومعارضة 14 دولة فقط مع امتناع 45 دولة عن التصويت مما يفصح عن أنَّ هذا القرار يُعبر عن موقف جامع لغالبية دول المجتمع الدولي، بما يرسخ مفاهيم القانون الدولي خاصة في مجال حظر العقاب الجماعي واستهداف الأعيان المدنية ومنع المساعدات الإنسانية وترحيل السكان المدنيين(13).
ولم يتوقف التحرك المصري عند هذا الحد، فبتاريخ 12 ديسمبر 2023 تحركت مصر في إطار المجموعة العربية -التي تتولى رئاستها الدورية حاليًا- لكي تتمكن من استصدار قرارًا من الجمعية العامة للأمم المتحدة خلال ذات الدورة الاستثنائية الطارئة السابقة، يطالب بالوقف الإنساني لإطلاق النار والإفراج الفوري عن جميع الرهائن وضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة -بعدما استخدمت الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) ضد تحرك مماثل في مجلس الأمن- هذا وقد صدر القرار بأغلبية 153 عضوًا ومعارضة 10 وامتناع 23 عن التصويت، مما يعتبر انتصارًا آخرًا للدبلوماسية المصرية والعربية.
ولم تمتثل إسرائيل للقرارين المتقدمين، لأنَّه من الواضح جليًا أنَّ دعاة الحرب والتدمير في إسرائيل لا يبالون بأحكام القانون الدولي وقد عقدوا العزم على الاستمرار في خططهم لاستهداف المدنيين الفلسطينيين بغرض تصفية القضية الفلسطينية، وهو الأمر الذي تقف أمامه القيادة المصرية بالمرصاد مدعومة بجموع الشعب المصري العظيم، وجيشه الباسل.
ومن المستهجن أنَّه في نفس يوم صدور قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الأول ازداد القصف الإسرائيلي الممنهج لقطاع غزة. وقد ترتب على ذلك في اليوم التالي الموافق 28 أكتوبر 2023 أن حذرت مصر -في عبارات صارمة- في بيان صادر عن وزارة الخارجية من التداعيات الإنسانية والأمنية للهجوم البري لقوات الاحتلال الإسرائيلية على قطاع غزة. وأكدت الحكومة المصرية أنَّها تحمل السلطات الإسرائيلية مسئولية انتهاك قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر مساء الجمعة 27 أكتوبر2023، والذي يطالب بالوقف الفوري لإطلاق النار وإنفاذ هدنة إنسانية تحفظ أرواح المدنيين، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع بشكل فورى ودون انقطاع. واعتبرت أنْ ما يحدث من جانب قوات الاحتلال الإسرائيلية هو انتهاك صارخ لأحكام القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي. وكل هذه التحركات المصرية تؤكد مدى اهتمام السلطات المصرية في مصر بالجوانب القانونية المحيطة بالعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.
وفي تاريخ 15 نوفمبر 2023 أصدر مجلس الأمن الدولي للمرة الأولى منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة القرار رقم 2712 بأغلبية 12 صوتًا يدعو إلى «هدنات وممرات إنسانية» في غزة، ويؤكد على ضرورة حماية وإنقاذ الأطفال الذين يتحملون العبء الأكبر جراء الاعتداء المستمر على قطاع غزة. ويهيب القرار بجميع الأطراف الامتناع عن حرمان السكان المدنيين في غزة من الخدمات الأساسية والمساعدة الإنسانية اللازمة لبقائهم على قيد الحياة بما يتفق مع القانون الدولي الإنساني، ويرحب بالعملية الأولية لتوفير الإمدادات الإنسانية للمدنيين في قطاع غزة وإنْ كانت محدودة، كما يدعو إلى توفير هذه الإمدادات لتلبية الاحتياجات للسكان المدنيين وخاصة الأطفال. وأخيرًا طالب القرار جميع الأطراف بالامتثال لالتزاماتها بموجب القانون الدولي.
وقد تُوجت الجهود المصرية بالتصريح الصادر عن لقاء الرئيس عبد الفتاح السيسي مع رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين -في تاريخ 18 نوفمبر 2023 - بالاتفاق على مبدأ عدم التهجير للسكان في غزة.
رابعًا: الآليات القانونية المتاحة لمواجهة الجرائم الدولية الجسيمة في غزة
مما لا شك فيه أنَّ جرائم إسرائيل في غزة، وعدم احترامها للقرارات الدولية الصادرة بشأنها، قد رسخت في يقين المجتمع الدولي صورتها كدولة تعمل خارج الشرعية الدولية. ومن الجدير بالذكر في هذا السياق أنَّ إسرائيل تحتل المرتبة الأولى عالميًا في عدد الإدانات الموجهة لها من هيئات الأمم المتحدة. وإنَّ السؤال الذي يطرح نفسه حتمًا هو «ما هي آليات محاسبة مرتكبي الجرائم الجسيمة في غزة». بصفة عامة فقد أتاح القانون الجنائي الدولي عدة سبل لمحاسبة مرتكبي الجرائم الدولية الجسيمة في غزة، وهي كالتالي:
1 - محاكمة مرتكبي الجرائم الدولية الجسيمة في غزة أمام محاكمهم الوطنية
المقصود هنا المحاكم الإسرائيلية وهو أمر بطبيعة الحالة بعيد المنال، واضعين في الحسبان أنَّ ما ترتكبه القوات الإسرائيلية من جرائم دولية جسيمة في غزة يلقى دعمًا وقبولاً وتبريرًا من القيادات السياسية الإسرائيلية.
2 - محاكمة مرتكبي الجرائم الدولية الجسيمة في غزة أمام المحاكم الوطنية لدول أخرى طبقًا لمبدأ «الاختصاص الجنائي العالمي» Universal Jurisdiction.
يجد هذا المبدأ مصدره في القانون الدولي التعاهدي(14) والعرفي(15)، وهو يخول للدول اختصاصًا عامًا لتجريم وعقاب بعض الأفعال المستهجنة من المجتمع الدولي ككل والتي يعدها ذات أبعاد تمس مصلحة الإنسانية جمعاء(16)، ومن قبيل تلك الأفعال جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية. والمنطق المؤيد لذلك المبدأ هو أنَّ هناك بعض أنواع الجرائم بالنظر إلى طبيعتها الخاصة تؤثر على مصالح الدول جميعًا حتى ولو تم ارتكابها في دولة أخرى أو ضد رعايا أو مصالح دولة أخرى. وهذا المبدأ يتيح لأي دولة أنْ تباشرَ اختصاصها القضائي على بعض أنواع الجرائم الدولية ومرتكبيها وبغض النظر عن مكان ارتكاب الجريمة أو شخصية مرتكبها. وقد استندت إسرائيل نفسها إلى هذا الاختصاص القضائي العالمي عند محاكمتها أحد نازيي الحرب العالمية الثانية المسئولين عن ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية ضد اليهود ويدعى أيخمن وحُكم عليه بالإعدام.
وفي حقيقة الأمر، فإن ممارسة مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي تتطلب إدماج هذا المبدأ في النظام القانوني الداخلي، وسن القوانين اللازمة لإنفاذه عن طريق سلطات التحقيق والمحاكم الوطنية، فوفقًا لمبدأ الشرعية «لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص». ولما كانت الجرائم الدولية تتطلب توقيع عقوبات جسيمة على مرتكبيها، وهو الأمر الذي لا يُمكن أن يتم إلا في ظل وجود نصوص قانونية، تجرم تلك الجرائم وتَضَعُ العقاب عليها، وتبسط الاختصاص عليها وفقاً لمبدأ الاختصاص الجنائي العالمي. ومن وجهة نظر خبراء القانون الجنائي الدولي، فإنه يمكن النظر للدولة التي تمارس هذا المبدأ لمحاكمة مرتكبي الجرائم الدولية الجسيمة، على أنها تمثل المجتمع الدولي في التصدي لتلك الجرائم الشنعاء. وهناك إجماع بين فقهاء القانون الجنائي الدولي على أن ممارسة هذا المبدأ تسهم في القضاء على سياسات الإفلات من العقاب. وبالتالي فهو من الممكن أن يكون أداة قوية لملاحقة مرتكبي الجرائم الدولية الجسيمة في غزة عند وجودهم في أراضي الدول التي تُطَبق هذا المبدأ.
ومما يُذكر في هذا الشأن أنَّ المحاكم البلجيكية كانت قد لاحقت رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إرئيل شارون عام 2001، بتهمة ارتكابه مجزرة صبرا وشاتيلا في لبنان عام 1982، وفقًا لمبدأ الاختصاص الجنائي العالمي، إعمالاً لأحكام قانون صادر بذلك عام 1993 كان يسمح للمحاكم البلجيكية بالنظر في قضايا الجرائم ضد الإنسانية أيا كان مكان وقوعها أو جنسية مرتكبيها. إلا أنَّ السلطات البلجيكية ألغت بعد ذلك هذا القانون بمقتضى قانون لاحق، وبمقتضى القانون الجديد فإنَّ حق إقامة الدعوى القضائية وفقًا لمبدأ الاختصاص الجنائي العالمي يقتصر على البلجيكيين أو الأشخاص الذين أقاموا في بلجيكا مدة ثلاث سنوات.
وبصفة عامة، فإن الاتجاه التشريعي السائد في الدول التي أنفذت نصوص النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وعاقبت على جريمة الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب في تشريعاتها الوطنية، يتطلب وجود الشخص الذي أرتكب جرائم دولية جسيمة، ولا يحمل جنسيتها على أراضيها، لكي تتمكن من محاسبته وفقًا لمبدأ «الاختصاص الجنائي العالمي المشروط». وحتى في حالة وجود الشخص المعني على أراضي تلك الدول، فإن مفهوم الحصانات السيادية -في بعض الأنظمة القانونية- من الممكن أن يحد من تطبيق هذا المبدأ.
3 - محاكمة الشركاء والضالعين في ارتكاب الجرائم الدولية الجسيمة في غزة وفقًا لأحكام القانون الوطني السارية في دولهم
يمكن لمواطني الدول المعنية اختصام المسئولين في دولهم في حالة تورطهم أو مساهمتهم في ارتكاب الجرائم الدولية الجسيمة أمام محاكمهم الوطنية. ومن الجدير بالذكر في هذا السياق أنَّ مجموعة من المحامين في الولايات المتحدة الأمريكية ممثلين لمنظمة حقوق الإنسان الأمريكية (مركز الحقوق الدستورية) قد قدموا بتاريخ 13 نوفمبر 2023 -عن منظمة الأطفال الدولية «فلسطين»- دعوى قضائية أمام محكمة شمال كاليفورنيا الاتحادية ضد إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، متهمة إياه ووزير الخارجية ووزير الدفاع بالاشتراك والتواطؤ في ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية لسكان قطاع غزة، على سند أنَّ من ضمن مسئوليات إدارة بايدن منع الإبادة الجماعية، بموجب القوانين والأعراف الدولية، وفقًا لصحيفة الدعوى التي قُيدت برقم Case No. 3:23-cv-5829. ومن بين المدعين في هذه القضية بعض المواطنين الأمريكيين من أصول فلسطينية.
4 - محاكمة مرتكبي الجرائم الدولية الجسيمة في غزة أمام المحكمة الجنائية الدولية
هناك ثلاث قنوات لتحريك الدعوى أمام المحكمة الجنائية: أولها، عن طريق الإحالة من مجلس الأمن. ثانيها، عن طريق الشكوى من الدول الأطراف. ثالثها، عن طريق التحريك التلقائي للدعوى من المدعي العام. ومما لا شك فيه أنَّ طريق إحالة الوضع في غزة أو غيرها من الجرائم التي تُرتكب في فلسطين سوف يظل دائمًا مغلقًا بسبب فيتو الدول الداعمة لإسرائيل في مجلس الأمن. ومما يُذكر في هذا الشأن أنَّ فلسطين دولة طرف في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وفي عام 2014 تلقى مكتب الادعاء شكاوى بشأن الجرائم في غزة؛ حيث عرض الأمر على الدائرة التمهيدية الأولى بطلب الإذن بالتحقيق، وفي 5 فبراير 2021 قضت باختصاص المحكمة بهذه الحالة؛ حيث اشتمل قضائها على النقاط الثلاث الآتية:
- أنَّ «فلسطين دولة طرف» في «نظام روما الأساسي».
- أنَّ المحكمة الجنائية الدولية تملك ولاية قضائية إقليمية عليها.
- أنَّ هذه الولاية القضائية «تمتد إلى الأراضي التي تحتلها إسرائيل منذ عام 1967، وبالتحديد غزة والضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية وأنَّ المنطقة المعنية تشمل غزة والضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية.
وإنَّ القضاء المتقدم يعتبر في حد ذاته انتصارًا لدولة فلسطين وخطوة لتحقيق العدالة عما وقع وما يقع في أراضيها من جرائم دولية جسيمة. ومن الجدير بالذكر أنَّه بتاريخ 3 مارس 2021 صرحت المدعية العامة السابقة للمحكمة بأنَّ مكتبها فتح تحقيقًا بالفعل في القضية. وفي تاريخ 17 نوفمبر 2023 -عقب أحداث غزة- تلقى مكتب المدعي العام بالمحكمة الجنائية الدولية إحالة للوضع في دولة فلسطين من خمس دول هي: جنوب إفريقيا، بنغلاديش، بوليفيا، جزر القمر، وجيبوتي. وبالتالي سوف يتم ضم الإحالات الجديدة بما تضمنته من جرائم دولية جسيمة تم ارتكابها من جانب إسرائيل منذ 7 أكتوبر للتحقيق القائم في هذا الشأن. ودعا المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان كافة الجهات الفاعلة ذات الصلة إلى التعاون الكامل مع مكتبه. كما دعا جميع الدول الأطراف في نظام روما الأساسي إلى تزويد مكتبه بالأدوات التي يحتاجها كي يتمكن من تنفيذ ولايته بشكل فعال، في جميع المواقف.
ومن المهم أيضاً النظر في الالتجاء إلى المجلس الدولي لحقوق الإنسان الدولي لتشكيل بعثة أممية مستقلة لتقصي الحقائق في غزة للتحقيق في جرائم العدوان الإسرائيلي بها.
إضافة إلى ذلك، فإن تلك الجرائم الدولية لا تسقط بالتقادم كمثيلاتها من الجرائم العادية، ومن ثم يظل مقترفوها مُعرضين للمحاكمة الجنائية حتى تثبت براءتهم منها.
إجمالًا، يمكن القول إنَّ المجتمع الدولي -سوى بضعة من الدول الداعمة لإسرائيل- قد أجمع على إدانة الأعمال الإجرامية التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة، لا سيما في ظل تجاهلها التام لأحكام القانون الإنساني الدولي خاصة تلك المتعلقة بمبادئ «التمييز» و«الاحتياط» و«التناسب». ويجب أن نضع في الحسبان أن مبادئ القانون الإنساني الدولي، مثل التمييز والاحتياط هي مبادئ أخلاقية قبل أن تكون قواعد مستقرة في قوانين وأعراف الحروب، والدول التي لا تراعي هذه المبادئ في حروبها تفقد مصداقيتها الأخلاقية بالمجتمع الدولي، على النحو الذي ألم بصورة إسرائيل أمام شعوب العالم كافة، والدول التي تحترم مبادئ القانون الدولي لحقوق الإنسان (فعليًا).
وقد أكدت الدراسة -وفقًا لأدلة يقينية- على أنَّ جريمة الإبعاد القسري للسكان من شمال إلى جنوب غزة تتم بأسلوب ممنهج على نطاق واسع وفقًا لسياسة مدروسة من القيادة السياسية الإسرائيلية بما يضع كافة المسئولين عن هذه الجرائم من مخططين ومتواطئين ومنفذين تحت طائلة القانون الجنائي الدولي.
أضف إلى ما سبق، فقد تم التأكيد على خطورة ما ترتكبه قوات الاحتلال الإسرائيلية من أفعال عندما تُرتَكَب بقصد إهلاك جزء من السكان المدنيين أو كلهم، في ظل وجود نية حقيقية للقادة الإسرائيليين لإزاحة السكان الغزاويين تمامًا من قطاع غزة، وتهجيرهم خارج القطاع، والقضاء عليهم، بنية إهلاكهم -إذا استمر وجودهم في القطاع - في حالات قتل متعمد للمدنيين، دون تمييز، ودون توقف لآلة القتل الإسرائيلية رغم سقوط عشرات الآلاف من القتلى والجرحى في مدد زمنية قصيرة، بينهم ما يُجاوز الستة آلاف طفلًا، منهم أطفال حديثو الولادة، طالهم القصف الإسرائيلي في أماكن أعلنت قوات الاحتلال الإسرائيلية مسبقًا أنَّها آمنة، غير عابئة بأنَّها أعيان مدنية تخضع لحماية القانون الإنساني الدولي، مع تكرار واضح لقصف أماكن اللجوء والمستشفيات والمدارس (منها التابعة للأونروا)، في سياق حصار مطبق على قطاع غزة، مع تعمد فرض أحوال معيشية قاسية مثل منع مقومات الحياة اليومية، والتجويع، في إطار سياسة واضحة للتطهير العرقي، ممزوجة بخطاب كراهية سافر يتدنى بسكان غزة إلى درجة «الحيوانات البشرية» على حسب تعبير أحد المسئولين الإسرائيليين، وكل ذلك يرشح لقيام جريمة الإبادة الجماعية بكافة أركانها، ويتعاصر ذلك مع هجمات ممنهجة من قوات الاحتلال والمستوطنين على المدنيين في الضفة الغربية، ليس فقط بنية ترحيلهم، بل بنية القضاء عليهم، وتطهيرهم عرقياً، والقضاء تمامًا على فكرة الدولة الفلسطينية. لذلك يجب التأكيد على ضرورة قيام الجهات الرسمية في فلسطين، ومنظمات حقوق الإنسان الدولية وغير الحكومية العاملة في غزة، بجمع وتوثيق الأدلة على ارتكاب تلك الجرائم، وفقًا لأعلى المعايير المستخدمة في المحاكم الدولية. وقد كشفت الدراسة أن ادعاء إسرائيل بمحافظتها على أرواح المدنيين يناقضه نهج سير عملياتها العسكرية وما تستخدمه فيها من أسلحة وذخائر (البعض منها محرمة دولية) بطريقة مفرطة.
وبطبيعة الحال، من ناحية قواعد المسئولية الجنائية الفردية المنصوص عليها في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، فإنَّ رؤساء الحكومات الداعمين لإسرائيل في ارتكاب هذه الجريمة يتحملون مسئولية المشاركة فيها أيضًا، وإن لم يتم محاسبتهم جنائيًا أمام المحاكم الجنائية المختصة، سواء على النطاق الوطني أو الدولي، فإنَّ التاريخ سوف يحاسبهم على مواقفهم الداعمة لارتكاب الجرائم الدولية الجسيمة. وقد تم التأكيد في مستهل هذه الدراسة أنَّ مواجهة القضايا الإنسانية الناشئة عن العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة لا يجب أنْ تتم بمعزل عن «حقوق الشعب الفلسطيني الأساسية غير القابلة للتصرف».
ومن الجدير بالذكر أنَّ ممارسات قوات الاحتلال الإسرائيلية خلال عدوانها الراهن على قطاع غزة، تتشابه إلى حد كبير مع ممارساتها خلال الحروب المختلفة التي خاضتها مع العرب من تدمير للأعيان المدنية وقتل جماعي للمدنيين. وأخيرًا يجب التأكيد على إنَّ صور أشلاء الأطفال المتناثرة حول المستشفيات بعدَ استهدافها بالقصف المُكَثَف من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلية، ومشاهد الأطفال الرضع الموتى نتيجة توقف أجهزة الرعاية الطبية عن العمل بسبب ممارسات قوات الاحتلال الإسرائيلية، وعجز المجتمع الدولي عن وقف المجازر التي ترتكب في حق المدنيين الفلسطينيين لهي «وصمة عار على جبين الإنسانية»، وأنَّ «أطفال غزة يستحقون ذات النوع من العدالة التي تُمنَح للأطفال في أوكرانيا وغيرها من بلدان العالم المتحضر».
1 - راجع: قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 32/40، الدورة الثانية والثلاثين، الجلسة العامة المعقودة بتاريخ 28 نوفمبر 1977.
2 - أنظر قضاء غرفة المحاكمة بالمحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة:
ICTY, Prosecutor v. Gotovina et al., “Judgement”, IT-06-90-T, 15 April 2001, para. 1738.
3 - أنظر قضاء غرفة المحاكمة بالمحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة:
ICTY, Prosecutor v. Krstić, ‘’Judgement’’, IT-98-33-T, 2 August 2001, para. 521.
4 - طبقاً للمادة التاسعة من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، فإن الدولة الحامية هي الدول الحامية التي تكلف برعاية مصالح أطراف النزاع الناشئ عن الصراعات المسلحة.
5- ICC, Prosecutor v. Ruto, Koshey and Sang,”Decision on confirmation of charges”, ICC-01/09-01/11, 23 January 2012, para. 245.
6 - تم تشكيل البعثة من قبل رئيس مجلس حقوق الإنسان في أبريل 2009 برئاسة القاضي السابق ريتشارد غولدستون، وكانت مهمتها الأساسية «التحقيق في جميع انتهاكات القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي التي ربما تكون قد ارتكبت في أي وقت في سياق العمليات العسكرية التي جرت في قطاع غزة خلال الفترة من 27 ديسمبر 2008 و18 يناير 2009، إما قبل، أو خلال أو بعد».
7 - أنظر للمزيد من المعلومات: عادل ماجد، «المحكمة الجنائية الدولية والسيادة الوطنية»، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية»، القاهرة، 2001، ص 66-68.
8 - راجع: «شرعية التهديد باستخدام الأسلحة النووية،» رأي استشاري، تقارير محكمة العدل الدولية 1996، ص 226، (رأي منفصل للقاضي هيجنز، ص 587).
9 - راجع موقع الصحفة الرسمية لوزرة الخارجية المصري بتاريخ 12 ديسمبر 2023.
10 - تعني سياسة الأرض المحروقة باللغة الإنجليزية scorched earth policy، وهي استراتيجية عسكرية تطبقها في الأصل الجيوش، تهدف إلى تدمير البنية التحتية وكافة مصادر الحياة مثل المأوى، والموارد الطبيعية، والمصانع، والاتصالات، ومنع الطعام وسبل المعيشة الأساسية، وهي سياسية مدمّرة تؤثر على السكان المدنيين وتتركهم في حالة من الجوع والحرمان ويُمكن أن تقترن بسياسات التطهير العرقي وجرائم الإبادة الجماعية.
11 - تنص المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة على أنه «للأمين العام أن ينبه مجلس الأمن إلى أي مسألة يرى أنها قد تهدد حفظ السلم والأمن الدولي».
12 - ينص القرار على أنه: «إذا فشل مجلس الأمن، بسبب غياب الإجماع بين أعضائه الخمسة دائمي العضوية، في ممارسة مسئوليته الأساسية في الحفاظ على السلام والأمن الدوليين، وفي حالة وجود تهديد للسلام، أو خرق للسلام، أو عمل من أعمال العدوان، فإن الجمعية العامة سوف تنظر في المسألة على الفور، بهدف تقديم توصيات ملائمة للدول الأعضاء من أجل اتخاذ تدابير جماعية، بما في ذلك في حالة خرق السلام أو العمل العدواني، واستخدام القوة المسلحة عند الضرورة، للحفاظ على، أو استعادة السلام والأمن الدوليين».
13 - للمزيد من المعلومات عن القرار، راجع موقع منظمة الأمم المتحدة التالي:
https://news.un.org/ar/story/2023/10/1125382
14 - النصوص المشتركة لاتفاقيات جنيف الأربع تتضمن عبارة «كل من الأطراف السامية المتعاقدة سوف تكون ملتزمة بالبحث عن الأشخاص المدعى بارتكابهم، أو إصدار الأمر بارتكاب الانتهاكات الجسيمة المنصوص عليها في الاتفاقيات، وسوف تقدم هؤلاء الأشخاص بغض النظر عن جنسياتهم أمام محاكمها (الوطنية) …»
15- Randall, Kenneth, “Universal Jurisdiction Under International Law”, Texas Law Review, Vol. 66, 1998, p. 131.
16- Heymann, B. Philip et al, “Pursuing Justice, Respecting the Law”, in: Albin Eser and Otto Lagondy, Principels and Procedures for Transnational Criminal Law, Freiburg im Breisgau, 1992, p. 111.
نقلاً عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراجية*