مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
التجديد الثقافي.. قراءة في الواقع والمأمول
محمد بن صالح الدحيم

إذا كان المنشود هو المجتمع الراشد، فإن المجتمعات سواء (تكوّنت أو تكوّمت) فقد انطوت على خزائن من الثقافات فيها الصحيح والغلط وما هو مختلط منهما، وستكون مخرجات تلك المجتمعات ونتاجها من صميم تلك الثقافات.
ومن هنا تكمن ضرورة الثقافة واستحقاقها للاهتمام.
وكبوابة للإصلاح فإن تجديد الثقافة هو العمل الكبير الذي يقدمه المصلحون لتلك المجتمعات.
ليس بالصواب أن يبدأ الإصلاح بإلغاء الخصوصيات الثقافية وفرض ثقافات جديدة ومحدثة، لكن الطريق يبدأ بقراءة الثقافات الموجودة، وكيف تكونت أو تكومت، وما هي مصادرها وما هي تأثيراتها؛ أي أنه لابد من فهم ثقافة التجديد قبل تجديد الثقافة، ذلك لأن الوسائل المغلوطة في الخطاب أو الممارسة ستوصل إلى نتائج سيئة وخاطئة، حتى ولو كانت بنوايا حسنة، وقد جرّبت المجتمعات العربية كمًّا هائلاً من تلك الممارسات، واستمعت إلى أصخب الخطابات، لكن شيئاً إلى الأمام لم يسر، بل إن تلك الأدوات والوسائل أعادت المراحل، وكرست عقليات العجز والكسل والمهانة، وتوجهت إلى الاعتماد على الغير بصفته نموذج الحضارة وأسلوب الحياة؛ أي أن فقداً للثقة قد حصل، ولك أن تتصور الحال بعد فقدان الثقة!

لماذا التجديد الثقافي؟
قد يكون هذا السؤال ليس مهما كسؤال، لكن الأهمية في أجوبة كثيرة كانت تحاول الرد على هذا الاستفهام.
نحن نرى أن التجديد ضرورة ملحة لـلدواعي الآتية:
1- لدينا إرث ثقافي كبير وهام وتحتاجه الحياة اليوم وإلى الأبد.
2- إن هذا الإرث الثقافي مر بعصور متخلفة متراجعة أضفت الجمود والتقليد على كل المعارف.
3- إن الإفاقة من تلك الحالة جاءت متأخرة، في حين أن غيرنا قد سبق في العلوم النظرية والتطبيقية.
4- إن الإفاقة المتأخرة لم تكن شمولية ولا يزال يصاحبها تعقيدات وعوائق وكتل جليدية لم تذب حتى اللحظة.
5- إن بعض ممارسات التجديد جاءت ناقصة لا تمثل مشروعاً صامداً وقوياً وتكاملياً تراكمياً، وهي تدور بين عفو الخاطر وردود الأفعال.
6- إن الإرادة السياسية لا تزال غير داعمة لمسار التجديد بقدر ما يحتاجه من دعم، ولا تزال تحسب حساباتها وفقاً لمصالحها ومخاوفها.
7- ضعف أو انعدام الثقة في الذات العربية والإسلامية لحمل مبادرة التجديد والتقدم بها للحياة، في حين أن الاتكاء على الغير والسير في ركابه والاستجابة لمطالبه هو مصدر الثقة عند البعض.
8- التحوّلات العالمية السريعة والقوية والخطيرة، والعيش في عصر معلوماتي لا محدودية له، كل ذلك حتم خيار التجديد وليس إلاّ التجديد، وأنا قد عمدت إلى جعل هذا السبب هو الأخير بخلاف الذين يقدمونه أولاً؛ لأنه في الحقيقة يمثل سبباً ونتيجة في آن واحد، فقد جعلنا أمام واقع مختلف، وجعل هذا السبب هو الدافع الرئيس سيجعل المشروع التجديدي ردة فعل في أكثر أحواله، ونحن نريد أن يكون الدافع الأهم هو الإيمان بقوة ثقافتنا وبقدراتنا وحاجتنا الذاتية، وما تحدده مصالحنا ورؤيتنا.

التجديد الثقافي بين الأصالة والمعاصرة:
هل يمكن تجديد الثقافة العربية الإسلامية على الرغم من مكوناتها ذات الخصوصية والارتباط الوثيق بالهوية؟ بمعنى هل يمكن تجديد الثقافة، وفي الوقت نفسه نحافظ على هويتنا ونتعايش عالمياً؟
إن الثنائية بين الأصالة والمعاصرة شكّلت حاجزاً كبيراً أمام مجتمعاتنا العربية والإسلامية، لكنها عند التأمل ليست ثنائية خانقة -كما يتوهمها البعض- بل هي من الثنائيات التكاملية، لكن الاختناق إن وُجد فهو في سوء الفهم وقصور العقل عن إدراك المعنى، أو أن يكون مردّ ذلك إلى حداثة التجربة؛ لأن الجمود الفكري الذي غطى -ولسنوات طويلة- قد سلب العقول وظيفتها وعطّلها من دورها.
في الندوة التي نظمتها منظمة (الإسيسكو) تحت عنوان: (ثقافة التغيير بين التأصيل والتجديد) أجاب الدكتور سعيد بن سعيد العلوي عميد كلية الآداب بجامعة محمد الخامس بالمغرب بجواب يكشف عن عدم تعارض الأصالة مع المعاصرة في عملية التجديد، ولكن على أساس الالتزام بثلاثة شروط:
1- التسليم بوجوب التغيير وحتميته في سيرورة التحديث؛ أي الإيمان بأنه ضرورة لا محيد عنها، كما يعبر الفقهاء بقولهم: (تَحْدُثُ للناس أقضية بقدر ما يحدثون من الفجور).
2- لا بد من التجديد الديني الحق على أساس الالتزام بشروط هذا التجديد، ومن يقوم به ومن يحق له الحديث عنه.
3- شرط المصالحة مع الذات، وذلك لأن الإسلام قد أصبح اليوم موضوع جدل كبير، وأن هناك خلطاً كبيراً في المفاهيم بين الإسلام والمسلمين والإسلاميين، وسواء كان هذا الخلط مقصوداً أو غير مقصود فإنه يشكل جناية على الإسلام.
وأعتقد أن هذه الشروط التي ذكرها الدكتور ’’بن سعيد’’ تشكل الضمانة للهوية في دخول المعاصرة، ويبقى الذين يجاهدون في غير عدو خارج المعادلة، وعلى المهتمين بالإصلاح والتجديد السير قدماً في مراحل الطريق وعلى الله قصد السبيل.

رهانات التجديد الثقافي:
لا يزال خطاب التجديد الثقافي رهيناً لعوامل كثيرة ومهمة، ولا يمكن له تجاهلها والإغماض عنها ومن ذلك:
1- المؤثرات العالمية والتي تعتمد (القوة والمصلحية والسرعة) في حركاتها، وهذا من أكبر التحديات التي تواجه الخطاب التجديدي، لا سيما وهو يعاني من التأخر الزمني والعقبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمعرفية، مع غياب للعمل المؤسساتي؛ إذ لا يزال في معظمه أعمالاً فردية متقطعة وفاقدة للإستراتيجية البعيدة؛ إذ لا تعتمد على الدراسات والأبحاث.
إن لدى الخطاب التجديدي مهام صعبة للغاية تجاه المؤثرات الدولية، وليست الأولوية هي الصدام مع تلك المؤثرات لصدّ المطامع والمصالح العالمية في المجتمعات الإقليمية، بل إن الأولويةـ ولو من وجهة نظري ـ في البحث عن موقع عالمي مؤثر في التغيرات والتحولات، بدلاً من القعود في مدرجات المتفرجين أو متاريس الممانعين.
إن لدينا في الثقافة العربية والإسلامية منطلقات عالمية ولدينا من الحكمة ما تتوق له البشرية، لكن الكثير من مفكرين ودعاتنا هو في الحقيقة (حامل فقه ليس بفقيه).
إن رسالتنا لها ميزتان: 1- الخاتمية. 2- الخالدية . وهذا هو سر عالميتها. وفيها من الأخلاق ما هو عابر للقارات كالرحمة والعدل...
2- العوائد والطبائع الاجتماعية؛ إذ يشكل التراكم الاجتماعي الكثير من العادات التي ترسخت بمرور الزمن لتكون أشبه بالمعتقدات الدينية، وهذه العادات ـ غير صحيح منها ـ تقف عائقاً في وجه التجديد الثقافي الذي يفترض أنه ليس في برنامجه فقدان المجتمع وخسرانه، بل يسعى إلى التصالح معه، وكسب وده في توازن حكيم يجلب المصلحة، ويدرأ المفسدة، إذ (ليس الفقيه من يعرف الخير من الشر، ولكن الفقيه من يعرف خير الخيرين وشرّ الشرّين) كما يعبر ابن تيمية.
بيدا أن المجتمعات اليوم قد تأثرت كثيراً بالفعل الإعلامي الواسع وتأثرت كثيراً بخطابات متنوعة، وهي الآن لا تتمسك بالممانعة كسابق حالها، بقدر ما تولّد لديها من أسئلة كثيرة وكبيرة، وهي تنشد الأجوبة ولا أجوبة، كما أن الثورة المعلوماتية التي دخلت كل بيت في المجتمع واكبت نشأة جيل جديد يقرأ الحياة من منظور آخر، هو يحتاج إلى شيء من الأصالة ليمازجها مع عصره المتحول؛ فهو أيضاً لديه أسئلة و ينشد أجوبة، لكن أسئلة الجيل الجديد ستكون محرجة؛ لأنه اكتشف بعض زيف الثقافة المتراكمة، وأصبح يسأل ويحاكم في آن واحد، ويجب ألاّ تضيق صدورنا بمحاكماته، بل علينا أن نعود إلى الذات التراثية نصارحها وننقدها ونتجادل معها، وليس يصح إلاّ الصحيح.
3- السياسات والأنظمة التي لا تحدثها إلاً الكوارث والحروب، ولا تسوقها المصالح كطبيعة للسياسة. إن هذه النماذج من السياسات تحبذ اجترار الثقافات القديمة دون إجراءات التحديث؛ لأنها على الأقل قد أمنت شرها وضمنت خيرها بالنسبة لها، ولا أدل على ذلك من مخرجات التعليم بكل مستوياته ومخرجات دور الإفتاء وإفرازات الإعلام.
إن على هذه السياسات أن تدرك قبل غيرها أنه لا ممنوع في عالم الاتصال، وأنه ليس من السياسة في شيء أن تتحدث وتتجدد ثقافة المجتمع دون مواكبة الدولة بأنظمتها ومناهجها، وليس صحيحاً أن السياسة دائماً تعرف مصلحتها؛ فلها ممارساتها الخاطئة وتجاربها الفاشلة، فلا عصمة لها، وهي في خير إن أدركت ذلك.
ونحن ندرك أنه ليس كل السياسة شراً، وأن هناك مناطق في السياسة يمكن التعامل معها وإثراؤها وتحديثها، وهي تنشد المساعدة، وتطلب التعاون؛ فعلى مؤسسات التجديد ألاّ تسرف في إساءة الظن بكل ما هو سياسي، وأن تبحث عن المناطق الخضراء وسط السياسات، وتعمل على مد جسور التعاون وتوسيع الإيجابيات؛ لأننا بحاجة إلى أي إضافة جميلة من أي مصدر كان، وأعتقد في هذا السياق أن ما يُثار حول (مثقف السلطة وسلطة المثقف) قد بولغ فيها واستثمر سياسياً لا فكرياً، وما كُتب فيه لا يخرج عن توصيف مشكلة معظم أجزائها ساكن في الذهن لا يحسّ به العاملون في أرض الواقع.

شروط التجديد:
للنهوض وللتجديد ولكل عمل جاد شروط ينبغي توافرها، فالتجديد ليس سلعة تستورد وليس عملية فورية وليدة لحظة، ولكنه مشروع حياة، لذا فإن شروطه ليست بالتعجيزية، ولكنها إستراتيجية تمنحه الرؤية وتريه الأفق، وهي شروط لديها من المرونة:
أولاً: النظر إلى التجديد الثقافي بصفته سنة الحياة وطبيعة الوجود.
ثانياً: الاستمرارية؛ فالأعمال المبتورة والمؤقتة وسريعة التحضير كلها ليست مشاريع تجديدية، بل هي مجمل ردود أفعال أو سدّ حاجات نفسية.
ثالثاً: الهضم السليم للمعطيات المختلفة والقبول بالتعددية والالتزام بالاعتراف والتعرّف على الآخر؛ إذ ليس من التجديد الإلغاء والإقصاء. ومن هنا فلا بد من توسيع دائرة الثقافة والمثقفين، والابتعاد عن ضيق الأفق المعرفي، ومحدودية المشاركة؛ أي أنه يجب ألاّ يكون المثقف هو المشكلة والعبء على كاهل المجتمع، كما هو حال بعض النخب، وهذا يقودني إلى الحديث عن:

التجديد رسالة المثقف:
إن من المخجل أن يتيه المثقف فلا يدرك قيمة وقدر الثقافة التي يحملها. إنها مسؤولية كبيرة وهي رسالته في الحياة.
لقد غرق البعض في جدليات لا تنتهي، وآخرون بلغوا من الثقافة قمماً، ثم لما أعادوا النظر في واقعهم ارتدّ إليهم البصر خاسئاً وهو حسير، وأُصيبوا بالقلق والحيرة والاكتئاب.
إن المثقف الذي يجعل من التجديد رسالته في الحياة قد اكتسب الثقة اللازمة بنفسه وبمشروعه، و سوف يعمل على تحديد رؤية فكرية واضحة المعالم تبرز منظوره، وتخطط له، وتبتكر أو تتعاون مع وسائل للتنفيذ.
والمثقف صاحب الرسالة يحمل المبادرات الصحيحة، ويفعلها؛ فهو يستثمر الفرص ويعيشها، ولا ينتظر من الآخرين إتاحة الفرصة له؛ لأن ذلك لا يتحقق في عالم مليء بالأعمال والأعمال المعرفية بالذات.

ثقافة عصر المعلومات:
ألّف الدكتور نبيل علي كتاباً مهماً بعنوان: (الثقافة العربية وعصر المعلومات.. رؤية لمستقبل الخطاب الثقافي العربي).
ولعلي هنا أفيد القارئ الكريم مما سطره الدكتور علي مع بعض المداخلات.
يقرر الدكتور علي: أن الثقافة في عصر المعلومات صناعة قائمة بذاتها، ولم تعد مدينة إلى أحاديث الصالونات وسجال المنتديات ورؤى المقاعد الوثيرة، وتكرار الجدل العقيم حول العموميات والأمور التي صارت في حكم البدهيات من قبيل أصالة ومعاصرة، ثقافة النخبة وثقافة العامة، وتعريب التعليم؛ فقد أصبحت الثقافة هي محور عملية التنمية الاجتماعية الشاملة، كما أصبحت تكنولوجيا المعلومات هي محور التنمية العلمية التكنولوجية.
ومن ثم فإن تناول الموضوع يجب أن يكون مزدوجاً (علاقته بالمعلومات) ومنظومياً ( الرؤية الشبكية الشاملة للتنمية الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية، وتنمية الفكر والإبداع، والتنمية التربوية، والمعتقدات والقيم، والمحافظة على التراث، والتي جعلتها المعلوماتية منهجاً معتمداً).
يتساءل الدكتور علي: ما علاقة الثقافة بتكنولوجيا المعلومات؟
ثم يجيب: إن الثقافة هي ما يبقى بعد زوال كل شيء، والمعلومات هي المورد الإنساني الوحيد الذي لا يتناقص بل ينمو مع زيادة استهلاكه، والثقافة تصنع الموارد البشرية كما هي صنيعتها، والاستيعاب الثقافي للتقانة هو الأساس للتقدم والتنمية.

ثم يكشف عن مؤامرة ضد الثقافة قائلاً:
لقد نجح الاقتصاد متضامناً مع السياسة في التهوين من قدر الثقافة، وعولمة الاقتصاد تقود قافلة العولمة جارة وراءها عولمة الثقافة، فالتكنولوجيا في أحوال كثيرة أسرع من العلم، والعلم أسرع من الاقتصاد، والاقتصاد أسرع من السياسة، والسياسة أسرع من الثقافة؛ أي أن الثقافة في ذيل القافلة، فهي ظاهرة اجتماعية تحتاج إلى وقت طويل حتى تؤتي ثمارها وتترسخ، ولكن السياسات وحركة الاقتصاد والعلم والتكنولوجيا والأسواق تتغير بسرعة. اهـ
والدكتور علي لا يعني بذلك أن الثقافة غير متسارعة. كلا، فلها سرعتها العجيبة عن ذي قبل؛ فالمذاهب الفكرية والاجتماعية سريعة التطور أو التغير حين قلّ دور وسطاء المعرفة، وأصبح بمقدور الطالب تحصيل المعلومة قبل وبشكل أوسع من معلمه وأستاذه.
وهذا يدعو إلى تثقيف المعلمين وتجديد وسائل وطرائق التعليم، وتحديث المعلومة بدل تكرارها.
وحتى المعلومة الشرعية أصبحت متاحة بأكثر من نص، وبأكثر من استدلال، واجتهاد، ورأي، ومذهب، وليس بالإمكان تجاهل التعددية واستعمال الوصايات على العقول.
إن ثقافة عصر المعلومات غيّرت كثيراً من الفهم ووسائله، ويجب أن نستثمر هذا الفتح المعلوماتي استقبالاً وإرسالاً.
وإذا كان الفقه الإسلامي يتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال والأشخاص فإن عصر المعلومة والاتصال المفتوح قد غيّر كل هذه المتحوّلات، فهل تغيّر الفقه والحكم على الأشياء؟! أم لا نزال نقدمها نصوصاً جامدة..!! وليتها نصوص الوحيين.. ولكنها نصوص الفقهاء الذين كانت تلك النصوص متماشية مع واقعهم؛ فعليهم الرحمة وعلينا السلام.
.نوافذ
أضافة تعليق