من فقه إنكار المنكر
بقلم / د.خيرية بنت عمر موسى.
أستاذ مساعد بقسم الشريعة ، جامعة أم القرى .
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (1) ،{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا }.(2)
أما بعد:
فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو مناط خيرية الأمة حيث قال تعالى :{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ }. (3)
لكن هذه الشعيرة وإن كانت سمة للأمة الإسلامية بأسرها إلا أنها وظيفة ذات خصوصية إذهي مختصة بذوي الشأن، و تكون أيضا بحسب الإمكان؛ أما كون اختصاص هذه الوظيفة بذوي الشأن فقد بينه معنى قوله تعالى :{ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } . (4)
وأما كونها بحسب الإمكان فقد بينه قوله صلى الله عليه وسلم :[ من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه وإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان] .(5)
وبتأمل ما سبق تقريره يتبين أن هذه الشعيرة التي تميزت بها الأمة هي من فروض الكفاية ، ومع هذا يتعين على جميع أفرادها الإلمام بفقهها ، وسائر ضوابطها التي عني العلماء ببيانها والشأن فيها ليس قاصرا على ما في بطون الكتب ؛ بل تجليه الممارسة وقد تحكمه كثير من المستجدات التي تحتاج إلى تأمل وإعمال فكر ولاغرو أن يغيب فقه هذه الشعيرة عن كثير من العوام وصغار المتعلمين، وأن تزل بعض الأقلام عن إصابة الحق، وإن كانت تنشد الإصلاح.
كما يجب أن نعلم أن هناك صلاحيات ثابتة للمسؤولين قد منحهم المشرع إياها حيث قال صلى الله عليه وسلم :{ كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته ،فالرجل راعٍ في بيته ومسؤول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها}. (6)
على أن تكون صلاحياتهم وحدود مسؤولياتهم وفقا للاستطاعة المذكورة في الحديث السابق ؛ فالتغيير باليد له مفهوم أوسع مما قد يتصوره البعض، إذ اليد تعني القدرة المعنوية والقدرة المحسوسة ، والتي تكون بواسطة العضو المسمى [باليد] .
فالقدرة المعنوية يشترط لها الآتي:
* المسؤولية بأن يكون الشخص الذي يرغب في التغير وإنكار المنكر مسؤولاً في ذلك الموقع الذي حدث به المنكر، فلا يكون متعدياَ لصلاحيات رؤسائه فيعرض نفسه للعقوبة.
* أن لا يترتب على تغييره بيده مفسدة أعظم من مفسدة المنكر الذي يغيره.
والقدرة المحسوسة يشترط لها الآتي:
* أن المنكر لايمكن تغيره بالموعظة (باللسان) فإذا كان يمكن تغييره باللسان فهو أولى ؛ لأن الإنكار باليد لا يخلو الشأن فيه من الإتلاف غالباً.
* العلم بكيفية الإزالة بحيث لا يفضي إلى هلاكه كأن يكون المنكر مصدره جهاز موصولاً بتيار كهربائي ، أو يكون جهاز موضوعا بمكان شاهق يحتاج الوصول إليه إلى خبرة ودُرْبة ،وغير ذلك من مخاطر حسية تنتج من الجهل بطريقة الإتلاف.
*الرفق وعدم التعدي على خصوصيات وممتلكات الآخرين ممن لا مسؤولية لهم أو إعانة على حدوث المنكر.
فإذا اجتمعت لليد القدرة المعنوية والقدرة الحسية وجب الإنكار.
أما الإنكار باللسان فيفتقر اللجوء إليه إلى العلم الشرعي أكثر من غيره من الوسائل ؛ ففي الإنكار باليد لا يلزم ذلك إذ ممكن أن يبلغه العالم بالمنكر مفسدة ذلك المنكر فيكون الواجب في حقه الإزالة لذلك المنكر ، وكذا من اختار أن ينكر بقلبه فيكيفه أن يعلم أن الذي رآه أو سمعه كان منكرا تلزمه البراءة منه؛ بخلاف من سينكر بلسانه فإنه سيقف موقف الواعظ، أو الخطيب الناصح فيلزمه أن يكون عالماً بالآتي:
* أن ما استهجنه واستغربه مخالف لشرع الله أو مما لم يرد عليه دليل،أو أن ما جاء فيه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،أو ليس فيه دليل صحيح مالم يكن من فضائل الأعمال التي أجاز بعض العلماء العمل بها، وإن كانت مستندة على الأحاديث الضعيفة المعتبرة بوجه من الوجوه.
* حال المتلبس بالمنكر وهل هو ممن أسلم حديثا أم لا.
* الأساليب الدعوية والقواعد الشرعية التي يمكن أن يواجه بها أصحاب الأهواء والبدع.
* أن لا يفضي إنكاره إلى مفسدة أعظم من المنكر الذي أراد تغييره .
فإذا كان عالماً بما سبق ولم يكن هناك من هو أعلم منه وأقدر منه على الإنكار، وجب عليه وأثم بالترك.
ويتعين على من اضطر على الإنكار بقلبه أن يغادر مكان المعصية ، وإلا يجالس المتلبسين بها حال عملهم للمنكر فقد قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } (7)، وقوله تعالى:{ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا }. (8)
والله تعالى أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1/ سورة آل عمران آية ﴿102﴾ .
2/ سورة الأحزاب آية ﴿70،71﴾.
3/سورة آل عمران آية ﴿110﴾ .
4/سورة آل عمران آية ﴿104﴾ .
5/ صحيح البخاري .
6/ صحيح البخاري .
7/ سورة الأنعام آية ﴿68﴾ .
8/ سورة النساء آية ﴿140﴾ .
.دعوتها
بقلم / د.خيرية بنت عمر موسى.
أستاذ مساعد بقسم الشريعة ، جامعة أم القرى .
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (1) ،{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا }.(2)
أما بعد:
فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو مناط خيرية الأمة حيث قال تعالى :{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ }. (3)
لكن هذه الشعيرة وإن كانت سمة للأمة الإسلامية بأسرها إلا أنها وظيفة ذات خصوصية إذهي مختصة بذوي الشأن، و تكون أيضا بحسب الإمكان؛ أما كون اختصاص هذه الوظيفة بذوي الشأن فقد بينه معنى قوله تعالى :{ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } . (4)
وأما كونها بحسب الإمكان فقد بينه قوله صلى الله عليه وسلم :[ من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه وإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان] .(5)
وبتأمل ما سبق تقريره يتبين أن هذه الشعيرة التي تميزت بها الأمة هي من فروض الكفاية ، ومع هذا يتعين على جميع أفرادها الإلمام بفقهها ، وسائر ضوابطها التي عني العلماء ببيانها والشأن فيها ليس قاصرا على ما في بطون الكتب ؛ بل تجليه الممارسة وقد تحكمه كثير من المستجدات التي تحتاج إلى تأمل وإعمال فكر ولاغرو أن يغيب فقه هذه الشعيرة عن كثير من العوام وصغار المتعلمين، وأن تزل بعض الأقلام عن إصابة الحق، وإن كانت تنشد الإصلاح.
كما يجب أن نعلم أن هناك صلاحيات ثابتة للمسؤولين قد منحهم المشرع إياها حيث قال صلى الله عليه وسلم :{ كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته ،فالرجل راعٍ في بيته ومسؤول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها}. (6)
على أن تكون صلاحياتهم وحدود مسؤولياتهم وفقا للاستطاعة المذكورة في الحديث السابق ؛ فالتغيير باليد له مفهوم أوسع مما قد يتصوره البعض، إذ اليد تعني القدرة المعنوية والقدرة المحسوسة ، والتي تكون بواسطة العضو المسمى [باليد] .
فالقدرة المعنوية يشترط لها الآتي:
* المسؤولية بأن يكون الشخص الذي يرغب في التغير وإنكار المنكر مسؤولاً في ذلك الموقع الذي حدث به المنكر، فلا يكون متعدياَ لصلاحيات رؤسائه فيعرض نفسه للعقوبة.
* أن لا يترتب على تغييره بيده مفسدة أعظم من مفسدة المنكر الذي يغيره.
والقدرة المحسوسة يشترط لها الآتي:
* أن المنكر لايمكن تغيره بالموعظة (باللسان) فإذا كان يمكن تغييره باللسان فهو أولى ؛ لأن الإنكار باليد لا يخلو الشأن فيه من الإتلاف غالباً.
* العلم بكيفية الإزالة بحيث لا يفضي إلى هلاكه كأن يكون المنكر مصدره جهاز موصولاً بتيار كهربائي ، أو يكون جهاز موضوعا بمكان شاهق يحتاج الوصول إليه إلى خبرة ودُرْبة ،وغير ذلك من مخاطر حسية تنتج من الجهل بطريقة الإتلاف.
*الرفق وعدم التعدي على خصوصيات وممتلكات الآخرين ممن لا مسؤولية لهم أو إعانة على حدوث المنكر.
فإذا اجتمعت لليد القدرة المعنوية والقدرة الحسية وجب الإنكار.
أما الإنكار باللسان فيفتقر اللجوء إليه إلى العلم الشرعي أكثر من غيره من الوسائل ؛ ففي الإنكار باليد لا يلزم ذلك إذ ممكن أن يبلغه العالم بالمنكر مفسدة ذلك المنكر فيكون الواجب في حقه الإزالة لذلك المنكر ، وكذا من اختار أن ينكر بقلبه فيكيفه أن يعلم أن الذي رآه أو سمعه كان منكرا تلزمه البراءة منه؛ بخلاف من سينكر بلسانه فإنه سيقف موقف الواعظ، أو الخطيب الناصح فيلزمه أن يكون عالماً بالآتي:
* أن ما استهجنه واستغربه مخالف لشرع الله أو مما لم يرد عليه دليل،أو أن ما جاء فيه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،أو ليس فيه دليل صحيح مالم يكن من فضائل الأعمال التي أجاز بعض العلماء العمل بها، وإن كانت مستندة على الأحاديث الضعيفة المعتبرة بوجه من الوجوه.
* حال المتلبس بالمنكر وهل هو ممن أسلم حديثا أم لا.
* الأساليب الدعوية والقواعد الشرعية التي يمكن أن يواجه بها أصحاب الأهواء والبدع.
* أن لا يفضي إنكاره إلى مفسدة أعظم من المنكر الذي أراد تغييره .
فإذا كان عالماً بما سبق ولم يكن هناك من هو أعلم منه وأقدر منه على الإنكار، وجب عليه وأثم بالترك.
ويتعين على من اضطر على الإنكار بقلبه أن يغادر مكان المعصية ، وإلا يجالس المتلبسين بها حال عملهم للمنكر فقد قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } (7)، وقوله تعالى:{ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا }. (8)
والله تعالى أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1/ سورة آل عمران آية ﴿102﴾ .
2/ سورة الأحزاب آية ﴿70،71﴾.
3/سورة آل عمران آية ﴿110﴾ .
4/سورة آل عمران آية ﴿104﴾ .
5/ صحيح البخاري .
6/ صحيح البخاري .
7/ سورة الأنعام آية ﴿68﴾ .
8/ سورة النساء آية ﴿140﴾ .
.دعوتها