مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2024/11/30 14:50
سؤالٌ بِدْعِيٌّ، وطريقةٌ بِدْعِيِّةٌ
 
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه أجمعين.
وبعد: 
فقد ابتلينا في هذا العصر بهذه الفوضى الفكرية التي تعصف بالمجتمعات الإسلامية، والتي امتطاها الجهال والمنحرفون فتصدروا على جهلٍ، وكتبوا بغير علمٍ؛ فكذبوا على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وملأوا الأوراق سواداً والقلوب شكوكاً، وأفسدوا ولم يصلحوا وضلوا وأضلوا. 
 
إن تصدر الجهال للقول على الله بغير علم هو آفة الآفات وعلة العلل في مسيرة العاملين للإسلام. 
 
إن هذا الفهم السقيم أدى إلى الفرقة والقطيعة والتناحر والتشرذم والإخلال بحقوق وواجبات الأخوة الإسلامية، وترك النصرة الواجبة للمستضعفين من المسلمين؛ بل وفَرحِ البعض بالمصائب التي تحلُّ بالمسلمين، أو بالجماعات والحركات الإسلامية، وما أفضى إليه من قيام البعض بتضليل الأمة والتبديع والتفسيق والتكفير بغير حقٍ، وإخراج كثيرٍ من المسلمين من دائرة أهل الإسلام، وما تبعه من استحلال الدماء والأعراض والأموال، والغلو في الدين، والتعصب والبغي على المخالف، وعقد الولاء والبراء على أساس الانتماء إلى شيخٍ أو طريقةٍ أو جماعةٍ أو حركةٍ أو حزبٍ أو سلالةٍ أو قبيلةٍ. 
وكذلك الوقوع في علماء الإسلام، والتطاول على الأئمة الأعلام الذين تلقت والأمة علمهم بالقبول. 
 
وسأقتصر الحديث هنا على بدعةٍ ناشئةٍ عند نبتةٍ جاهلةٍ جعلت فهمها السقيم هو الدليل على الحق ومعيار الصواب. 
 
هذه البدعة العصريةُ لها صورتان: 
 
الصورة الأولى:
تأتي بصيغة السؤال، فيقول قائلهم: (ما مذهب السلف في مسألة كذا وكذا؟)، وهو يريد بذلك فهمه للمسألة، أو فهم شيخه الذي تلقى عنه. 
 
الصورة الثانية:
تأتي بصيغة الخبر، حيث يقول بعض المحسوبين على العلم إذا ذكر فهمه في مسألةٍ شرعيةٍ: (مذهب السلف فيها كذا). 
 
التوضيح:
إن السؤال بقولك: ما مذهب السلف في كذا؟ 
أو قولك ومذهب السلف في هذه المسألة كذا بهذا الفهم بدعةٌ منكرةٌ. 
نعم إن هذا سؤال بدعيٌ، وطريقةٌ بدعيةٌ لا تصدر إلا من جاهلٍ لا علم له بالمنهج الشرعي في التلقي والاستدلال على منهج السلف الصالح؛ لأن الأحكام الشرعية المُتعبد بها لها صورتان لا ثالث لهما: القطع و الظن، وبتعبيرٍ آخر: اليقين، و الرجحان. 
 
فإما أن يكون الحكم المسؤول عنه متفقاً عليه أو مختلفاً فيه، ولا صورة ثالثة؛ لأن الأحكام الشرعية قسمان: قطعية أو ظنية. 
 
الصورة الأولى للحكم الشرعي:
أن يكون قطعياً متفقاً عليه، وهذا النوع من الأحكام ليس مذهباً لأحدٍ من المسلمين، ولكنه دينٌ مشتركٌ بين جميع المكلفين، ولا يسوغ فيه الخلاف، ولذلك لا يصح في هذا النوع من الأحكام السؤال عن مذهب السلف فيها. 
 
إن الأحكام القطعية المتفق عليها ليست مذهباً لأحدٍ ولا يجوز الاختلاف فيها؛ لأنها عين الحكم الشرعي. 
 
الصورة الثانية للحكم الشرعي:
أن يكون ظنياً أي: مسألةً اجتهاديةً.
والمسائل الاجتهادية، تدور بين الراجح والمرجوح، والراجحُ فيها غير متعينٍ في قولٍ من الأقوال؛ فكل مجتهد يعتقد الرجحان في قوله، والمرجوحية في قول غيره من المجتهدين، ومتى ترجح لدى المجتهد قول غيره تحوَّل إليه. 
 
إن الرجحان مظنونٌ في اعتقاد المجتهد؛ لذلك فإن الراجح والمرجوح لا يخرجان عن مذاهب السلف. 
 
فإن اختلف السلف في مسألةٍ على قولين، فالقولان مذهب للسلف، وإن كان فيها ثلاثة أقوال، فالثلاثة كلها مذاهبٌ للسلف. 
 
ولذلك فإن كل مجتهدٍ يقول: رأيي صوابٌ يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأٌ يحتمل الصواب؛ لأن الصواب غير متعينٍ في المسألة الاجتهادية في قولٍ من الأقوال في علم المجتهدين؛ لأنه لو تعين الصواب لخرجت المسألة عن كونها اجتهاديةً وصارت قطعيةً. 
 
ومن هنا نعلم أن كل مجتهدٍ مأجورٌ، وأن الثواب في مسائل الاجتهاد يدور بين الأجر والأجرين. 
 
وفي المسألة الاجتهادية لا نعلم فيها صاحب الأجر من صاحب الأجرين، ولا يعرف ذلك إلا في علم الله، ولو علمنا صاحب الأجرين لخرجت المسألة عن كونها ظنية، وأصبحت قطعيةً لا يسوغ فيها الخلاف. 
 
مسألة:
لا يجوز الإنكار باليد على المخالف في المسائل الاجتهادية، ولا يقدح بها في دين المخالف أو عدالته، ولا التبديع، ولا التفسيق، ولا التأثيم، ولا الهجر، وكذلك لا يجوز عقد الولاء والبراء على أساس المسائل الاجتهادية. 
 
مسألة:
في المسائل الاجتهادية إنما يُتكلم فيها بالبينات والحجج العلمية، فمن بان له رجحان أحد الأقوال عمل به سواء أكان ذلك باجتهاد إن كان من أهله، أو بتقليدٍ سائغٍ إن كان من العامة. 
 
مسألة:
كل مجتهدٍ يعمل بما ترجح لديه مع وجوب إعذار المخالف له ما دام الخلاف معتبراً. 
 
مسألة: 
المقرر عند علماء الإسلام أن الاجتهاد لا يُنْقَضُ بمثله. 
 
مسألة:
من أراد أن يُلزم الناس بالراجح لديه فقد جعل نفسه مشرعاً من دون الله.
ومن أراد أن يحمل الناس على رأي مجتهدٍ واحدٍ فقد صَيَّرهُ نبياً. 
 
مسألة:
من أراد أن يجيز الخلاف في الحكم القطعي فقد جعل نفسه مشرعاً من دون الله. 
 
مسألة:
لا يجوز أن نخرج القطعي عن قطعيته، ولا الظني عن ظنيته.
فلا ننزل بالقطعي إلى رتبة الظني، ولا نرفع الظني إلى رتبة القطعي. 
 
مسألة:
مثال على السؤال البدعي:
أثر الرعاف وهو الدم الخارج من الأنف على الوضوء:
اختلف فيه العلماء على أقوال: 
 
الأول:
ذهب المالكية والشافعية إلى أن الرعاف غيرُ ناقضٍ للوضوء. 
 
الثاني:
ذهب الحنفية إلى أن الرعاف ناقضٌ للوضوء. 
 
الثالث:
ذهب الحنابلة إلى أن الرعاف ناقضٌ للوضوء إذا كان كثيراً. 
 
فلا يجوز أن يَسأل أحدٌ بقوله ما مذهب السلف، أو ما قول أهل السنة والجماعة في الرعاف هل ينقض الوضوء؟ وهو يريد قولاً بعينه. 
 
فهل يريد السائل مثلاً أن يُخرج المالكية والشافعية من أهل السنة؟! أو يخرج الحنابلة أو الحنفية من أهل السنة؟! 
 
فكل الأقوال هي مذهبٌ لأهل السنة، والمذاهب الأربعة كلها مذاهب أهل الإسلام، وقد تلقتها الأمة بالقبول. 
 
فهذا الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله كان يرى الوضوء من الرعاف والحجامة، فقيل له: فإن كان الإمام قد خرج منه الدم ولم يتوضأ هـل يُصلى خلفه؟، فقال: (كيف لا أصلي خلف الإمام مالك وسعيد بن المسيب). 
 
وصلى الشافعي رحمه الله الصبحَ قريباً من مقبرة أبي حنيفة رحمه الله فلم يقنت -والقنوت عنده سنة- فقيل له في ذلك، فقال: (أخالفه وأنا في حضرته.). 
 
إخواني الفضلاء:
يجب أن نعلم أن الشريعة الإسلامية موضوعةٌ لإخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لمولاه.
وأن الحجة القاطعة والحكم الأعلى إنما هو لشرع الله لا غير.
وأن الأصل في فهم الكتاب والسنة أن يكون على منهج السلف الصالح رحمهم الله تعالى. 
 
ولذلك فإن من الواجب المتعين على العلماء، والعاملين للإسلام جمع كلمة المسلمين على التوحيد، وترشيد المسار وضبط السير بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وفق منهج السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان.
 
والمأمول:
قيام جميع العلماء وكل متبوعٍ مطاعٍ بتربية طلابه ومريديه وتابعيه على الاعتصام بالكتاب والسنة، وفق منهج السلف الصالح، ونبذ التفرق والتحزب على الباطل، وعقد الولاء والبراء على أساس الإسلام لا غير، والرحمة بالمؤمنين. 
 
ثانيا:
إحياء الربانية ويكون بالتربية على الالتزام بالكتاب والسنة، وأداء العبادات واجتناب المحرمات والحرص على المندوبات وترك المكروهات، والإكثار من فعل الخير. 
 
ثانياً:
ضبط المنهج الشرعي في التعامل مع المخالف، والتعاون على البر والتقوى، وترك التعاون على الإثم والعدوان، والتعاون في المتفق عليه، والإعذار في المسائل الاجتهادية. 
 
ثالثاً:
الحفاظ على أخوة الإسلام وإشاعة الألفة بين المسلمين والتناصح المستمر والرفق بالمخالف، ومد جسور التواصل وردم الهوة بين العلماء والدعاة والمصلحين، واستحضار النية الصالحة، بغية الوصول لمرضاة الله. 
 
رابعا:
الاحتكام إلى الدليل والرجوع إلى الكتاب والسنة، والصدور عن فتاوى العلماء من أهل العلم والورع. 
 
سادساً: 
التكامل مع الآخرين و إصلاح ذات البين والبعد عن مواطن الخلاف. 
 
إخواني الفضلاء:
إن هذه الرسالة دعت إليها الضرورة الشرعية لترشيد المسار وجمع الكلمة على الكتاب والسنة، وتوحيد الصفوف، لإعلاء كلمة الله في الأرض حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله. 
 
وإني لأرجو النصح منكم والتوجيه بما تدينون الله به من الوسائل التي تحقق الخير للإسلام والمسلمين. 
 
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
 
 
أضافة تعليق