مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
أثر الدعوة المحمدية في الحرية والمساواة2/3
أثر الدعوة المحمدية في الحرية والمساواة

2/3

للعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور



ومن حرية القول حرية العلم والتعليم، ومظهرها في الإسلام في حالين: الحال الأول: الأمر ببث العلم بقدر الاستطاعة؛ فقد أمرنا ببث القرآن وتعليمه، وببث الآثار النبوية؛ ففي الحديث الصحيح: ’’نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه إلى من ليس بفقيه’’.

وفي خطبة حجة الوداع: ’’ليبلغ الشاهد الغائب’’.

وقد أمر الخليفة الثالث بنسخ المصاحف وأرسل بها إلى أقطار الإسلام، وجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يوما في الأسبوع لتعليم النساء، وأُسِّست المكاتب لتعليم الصبيان من عهد أبي بكر أو عمر، ثم قد وردت أحاديث في فضل العبيد والإماء.

ووراء هذا مرتبة أخرى في العلم والتعليم وهي مرتبة الاستنباط في العلم، فقد دعا الإسلام إليها، وأوجبها على من بلغ رتبة المقدرة عليها في الأحكام الشرعية وهي مرتبة الاجتهاد بمراتبه.

قال علماؤنا: إنها من مشمولات أمر الوجوب في قوله -تعالى-: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) التغابن:16، وغيره من آيات القرآن.

وفي الحديث: ’’من اجتهد وأصاب فله أجران، ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد’’.

وأَيَّةُ حريةٍ للعلم أوسع من هذه؛ إذ جعل الأجر على الخطأ؟

الحال الثاني: تخويل أهل العلم نشر آرائهم ومذاهبهم وتعليمها مع اختلافهم في وجوه العلم، واحتجاج كل فريق لرأيه ومذهبه، وحرصهم على دوام ذلك تطلباً للحق؛ لأن الحق مشاع.

ولقد قال أبو جعفر المنصور للإمام مالك بن أنس: ’’إني عزمت أن أكتب كتبك هذه -يعني الموطأ باعتبار أبوابه- نسخاً ثم أبعث إلى كل مصر من الأمصار بنسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها، ولا يتعدوها إلى غيرها’’.

فقال مالك: ’’لا تفعل يا أمير المؤمنين؛ فإن الناس قد سبقت لهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم من اختلاف أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وغيرهم، وإن ردهم عن ذلك شديد فدع الناس وما هم عليه’’.

ولقد كان في مدة الدولة العبيدية بالقيروان مذهبان متضادان تمام المضادة في أصول الدين وفروعه وهما مذهب المالكية سكان البلاد، ومذهب الإسماعيلية من الشيعة مذهب أهل الدولة، وكان علماء الفريقين ينشرون كتبهم، ويدرسون مذاهبهم لا يصد أحدهم الآخر.

ثم كان نظير ذلك بمصر في عهد انتقال العبيديين إليها، وتأسيس دولتهم الملقبة بالفاطمية.

وشواهد هذا كثيرة في تاريخ المذاهب.

لم يقتصر الإسلام في بذل حرية العلم على المسلمين، بل منح الحرية لأهل الملل الداخلين في ذمته وسلطانه، وقد كان اليهود في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدرسون التوراة في المدارس بالمدينة، وجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى مدارسهم ودعاهم إلى الإسلام كما هو ثابت في الصحيح.

وأما حرية العمل فهي تتعلق بعمل المرء في خُوَيِّصته، وبعمله المرتبط بعمل غيره؛ فحرية العمل في الخويصة مثل تناول المباح والاحتراف بما شاء، ولا يجبر على أن يعمل لغيره إلا إذا تعين عليه عمل من المصالح العامة أو ما فيه حفظ حياء الغير مثل الدفاع عن الحوزة، وحراسة الثغور، وإنقاذ الغريق، وخدمة من تتعين عليه خدمته، وإعطاء الزكاة، ونفقة القرابة.

وكل ذلك يرجع إلى القسم الثاني في الحقيقة.

وكذلك التصرف في المال عدا ما هو محظور شرعاً، إلا إذا طرأ عليه اختلال التصرف من عَتَهٍ أو سفه، وذلك قيد في الحرية؛ لأنها حرية غير ناشئة عن إرادة صحيحة؛ فألغيت لأجل مصلحته ومصلحة عائلته.

وحكم النساء في حرية التصرف مثل الرجال بحسب ما تسمح به حالتهن من انتفاء المفاسد؛ فلهن التصرف في أموالهن إذا كن رشيدات، ولهن إشهاد الشهود في غيبة أزواجهن.

وكل ذلك لا عهد للعرب ولا لأهل الأديان الأخرى بمثله.

ولهن الخروج لقضاء حوائجهن بالمعروف، ولهن حضور الجمعة والجماعة والعيدين وفي الحديث: ’’ولتخرج العواتق، وربات الخدور، وليشهدن الخيرَ ودعوة المسلمين’’.

وكانت امرأة عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- تخرج إلى صلاة الجماعة وتعرف منه الكراهية فتقول: ’’والله لأخرجن إلا أن تمنعني فلا يستطيع منعها’’.

ومعنى كراهته لذلك أنه يود أنها تترك فضيلة الجماعة؛ لما عرف به من شدة الغيرة، ومعنى قولها له: إلا أن تمنعني أي أن تصرح لي بالمنع وهو لا يستطيع ذلك؛ لأنه رأى أنه ليس من حقه عليها، وكان وقافاً عند كتاب الله.

وللمرأة حق مطالبة الزوج بحسن المعاشرة، وطلب عقوبته على ضد ذلك، ويُحكم لها بالطلاق في أحوال معينة، قال الله -تعالى-: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) (البقرة: 228).

وأما حرية العمل المرتبط بعمل الغير فأصله أنه لا يضر بأحد؛ لينتفع غيره، ولكنه لا يعمل عملاً فيه اعتداء على حق الغير كاحترام الكليات التشريعية، وذلك بالتحقيق من قبيل رعي الحريات المختلفة؛ لأن مرجع أحكام المعاملات إلى حفظ مجموع الحريات.

وكذلك قد تراعى أعمال تجب على المرء لغيره؛ لإقامة المصالح كما تقدم، أو لبث الخير بين الأمة كالإرفاق والمواساة.

حرية العبيد:

سلط الإسلام حقيقة الحرية على حقيقة العبودية؛ قصداً لعلاجها، وإصلاح مزاجها.

إن الرق شيء قديم في المجتمع البشري من قبل التاريخ، وهو أثر تسلط القوي على الضعيف؛ فكان الرقيق معدودينَ كالحيوان يذيقهم سادتهم النكال؛ فلا يرثي لهم أحد، ولا ينتصف لهم قانون، وقد عذب العرب في الجاهلية بعض الرقيق، فعذبت قريش أَمَةً اتهموها بسرقة وشاح جويرية، ثم تبين أن الحدأة اختطفته، ثم ألقته بمكان فكان ذلك سبب إسلام هذه الأمة، وهجرتها إلى المدينة وكانت تقول:
ويومَ الوشاحِ من تعاجيبِ ربِّنا ألا إنَّه من دارةِ الكفرِ نَجَّاني

وقتلت بنو الحسحاس من بني أسد عبدهم سُحيماً الشاعر بتهمة تغزله بابنة سيده.

فمنح الإسلام من الحرية للعبيد ما لم يمنحهم إياه شرع سابق، ابتدأ الإسلام فأبطل معظم أسباب الرق وهي:

1- الاسترقاق الاختياري: كان الأب أو الأم أو الولي يبيع قريبه لمن يصيره مملوكاً له، وكان هذا الاسترقاق مشروعاً في الشرائع القديمة، وقد ثبت في شريعة التوراة حسبما في الإصحاح 21 من سفر الخروج، والإصحاح 25 من سفر اللاويين.

2- والاسترقاق في الجناية: بأن يحكم على الجاني ببقائه رقيقاً، وقد كان هذا مشروعاً حكاه القرآن في قصة يوسف بمصر (قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ) إلى قوله: (لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ).

3- والاسترقاق في الدَّين: وكان مشروعاً عند الرومان أن يأخذ الدائنُ مَدِيْنَهُ إذا عجز عن الدفع فيسترقه، وكذلك كان في شرائع اليونان في عهد سولون الحكيم.

4- والاسترقاق في الفتن والحروب الداخلية: أعني الحروب بين المسلمين فهو ممنوع في الإسلام.

5- واسترقاق السائبة: كما استرقت السيارة من الإسماعيليين يوسف -عليه السلام- حيث وجدوه في الجب (فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً).

وقد عزز الإسلام ذلك بروافع ترفع حكم الرق وهي كثيرة:

- فمنها: أن جعل من مصارف أموال المسلمين اشتراء العبيد، وعتقهم، وإعانة المكاتبين بنص قوله -تعالى-: (وَفِي الرِّقَابِ).

- ومنها: أنْ جَعَلَ عتق العبيد من خصال الكفارات الواجبة ككفارة قتل الخطأ، وتعمد فطر رمضان، والظهار، والحنث.

- ومنها: أن أمر بمكاتبة العبيد وهي التعاقد معهم على مقدار من المال يؤديه العبد منجَّماً فإذا استوفاه صار حرَّاً قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ) النور: 33، حمل كثير من علماء الصحابة ومن بعدهم الأمر في قوله: (فَكَاتِبُوهُمْ) على الوجوب، وحمله الجمهور على الندب.

- ومنها: أن من أعتق جزءاً من عبده أُجْبِرَ على إكمال عتقه إن كان بقيته له، وإن كان لغيره معه فيه شركة قوّم عليه نصيب شريكه، وألزم الشريك ببيع نصيبه للمعتق بالقيمة، وأعتق جميعه.

- ومنها: أن من أولد أمته صارت في حكم الحرة بمعنى أنه لا يجوز له بيعها ولا له عليها خدمة ولا استغلال، وتعتق من رأس تركته بعد مماته.

- ومنها: أن من عاقب عبده عقاباً شديداً، فمثل به أعتق عليه جبراً، أو وجب عليه عتقه دون جبر إذا لم يبلغ حد التمثيل كاللطمة؛ لأن عتقه كفارة الاعتداء عليه كما في الأحاديث الصحيحة وأقوال الأئمة.

- ومنها: كثرة الترغيب في عتق العبيد والإماء.

- ومنها: أَنْ جَعل الفقهاءُ دعوى العتق لا يعجَّز مدعيها، ولا يحكم عليه أن لم يجد بَيِّنة - بحكم قاطع لدعواه، بل له أن يقوم بها متى وجد بينة.

ولقد استخلص فقهاء الإسلام من استقرائهم لأدلة الشريعة، وتصرفاتها في شأن العبيد قاعدة فقهية جليلة وهي قولهم ’’إن الشارع متشوف إلى الحرية’’.

ويضاف إلى هذا تأكيد الوصاية بالعبيد، وفي حديث أبي ذر -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ’’عبيدكم خَوَلُكم[1] إنما هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم؛ فمن جعل أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا يكلفه من العمل ما يغلبه، فإن كلفه فَلْيُعِنْه’’.

وفي حديث آخر وأحسب أنه موجود في بعض روايات خطبة حجة الوداع ’’اتقوا الله في العبيد؛ فإن الله ملككم إياهم ولو شاء لملكهم إياكم’’.

وفي الصحيح نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أن يقول العبد لمالكه: ربي أو سيدي وليقل: مولاي، ونهى المالك أن يقول: عبدي، وأمتي وليقل: فتاي، وفتاتي، وغلامي.

فإن قال قائل: لماذا لم يبطل الإسلام أصل الاسترقاق، أو يبطل أسباب حدوثه بعد الإسلام فيكون أقطع ليجرثومته[2] وأنفع لتحقيق مقصد الشريعة من التشوف إلى الحرية؟

قلنا: تبين أن الاسترقاق قد بنيت عليه نظم المدنية يومئذ في الخدمة والعمل والزراعة، والفراسة، وأصبح من المتمولات الطائلة، والتجارة الواسعة المسماة بالنخاسة، وانعقدت بسبب ذلك أواصر عظيمة، وهي أواصر الأمومة بين العائلات، وأواصر الولاء في القبائل؛ فإبطاله إدخال اضطراب عظيم على الثروة العامة، والحياة الاجتماعية بأسرها، على أنه ربما يعرض العبيد إلى الهلاك، والذهاب على وجوههم في الأرض لا يجدون من يؤويهم.

ثم لو أبطل الإسلام أسباب الرق في نظامه لكان ذلك ذريعة إلى جرأة أعدائه من العرب وغيرهم على حربه؛ لأن أعظم ما يتوقعه المحاربون من الهزيمة هو الأسر والسبي، فإذا أمنوا منهما لم يعبئوا بالموت وما دونه، وعبر عن ذلك أبو فراس بنزعته العربية بقوله يخاطب سيف الدولة:
ولكنَّني أختار موت بني iiأبي على سروات الخيل غير موسَّد
وتأبى وآبى أن أموت موسَّدا بأيدي الأعادي موت أَكْبَدَ iiأكْمدِ

وقال النابغة في شأن الأسر والسبي:
حذار على أن لا تنال iiمقادتي ولا نسوتي حتى يمتن حرائرا

سد ذرائع انخرام الحرية:

جرى الإسلام على عادته في التشريع وهي أن يشرع الوسائل، ويؤسس القواعد المفضية إلى مقاصده، ثم يحيطها بسد الذرائع التي قد تتسلل من منافذها مفسدات المقاصد، فتعود على أصولها بالإبطال، وتلك هي المُلَقَّبة في أصول الفقه بسد الذريعة.

وهذه الذرائع إنما تتعلق بالقول والعمل؛ فأوجب الإسلام على المسلم أن يريد بكل قول وعمل وجه الله والإخلاص فيه، وترك الرياء، وسمي الرياء بالشرك الأصغر؛ وذلك ليجتنب الناس حب المحمدة الباطلة؛ فإن حب المحمدة قائد إلى الاستعباد الاختياري، ومانع للحرية؛ لأن الافتتان بحب المحمدة يُحَتِّم على صاحبه الخوف من الانتقاد، وغضب الجمهور من الذين لا يفقهون مصلحة من غيرها، ولا يميزون بين الحق والباطل، فإذا َحِمدوا ومجَّدوا أحداً حسبوا فعلهم مزية أنالوها إياه؛ فأصبحوا يمنُّون عليه، ويترقبون منه أن يطيعهم في قضاء ما يشتهون مما يظنونه مصلحة.

والفرض أنهم لا يفقهون؛ فإذا كان ناصحاً أميناً لم يستفزه ذلك إذا علم أن فيه لهم سيئَ العواقب، ولم يغترَّ منهم بتلك الظواهر الكواذب، ولم يَرُقْه السير في عراض المواكب[3].

وقد حكى الله -تعالى- من مواقف الرسل والناصحين من ذلك كثيراً: فحكى عن موسى -عليه السلام-: (قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)) (الأعراف).

فأما إذا فتنته تلك الظواهر الخلاَّبة، فانتفخ عُجْباً، وخشي انحرافاً منهم وسلباً خَصَّ في إدراك الحقيقة، وخادعهم، وواربهم أضاع مصالحهم، وغلب سفههم على رشده، قال -تعالى-: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) (الأنعام:152)، وقال: (فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا) (آل عمران:146).

وقد سقط في هذه المهواة كثير من زعماء الأمم.

وسدَّ ذرائعَ قتل الحرية بالقوة المالية؛ إذ قد يعرض الاستعباد من الحاجة إلى المال، وفي الحديث: ’’تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض’’.

فلذا أبطل الإسلام الربا؛ لأنه طريق واسع لاستبعاد المضطرين، وأبطل عقود الإكراه، وأبطل معظم الشروط التي تشترط على العامل في القراض، والإجارة، والمغارسة، والمساقاة، والمزارعة، وقد أمكن أن تُستخرج قاعدةٌ شرعية لهذه المسائل الممنوعة وهي منع أن يفترص[4] الغني احتياج الفقير إليه، فَيُعْنِتَه لأجل ذلك.

وذرائع فساد حرية القول تكون فيها تقدم، وتكون في حرية العلم بأن نحمل العلماء على تحريف الحقائق؛ لأجل المحمدة الكاذبة، أو لأجل الحصول على مال قليل.

وقد نعى الله ذلك على علماء بني إسرائيل فقال: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) البقرة: 79.

وقال -تعالى-: (فَلا تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً) المائدة:44.

وكان ذلك كله في إرضائهم عامتهم، وحملهم الشريعة على ما يوافق هوى العامة كما أوضحته الآثار وأئمة التفسير.

وتكون -أيضاً- في حرية القضاء؛ فلذلك حرَّم الإسلام الرشوة، وأوجب إجراء أرزاق الحكام وكفايتهم من بيت مال المسلمين بحسب الزمان والمكان.

قال ابن العربي في تفسير قوله -تعالى-: (قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ الْمَالِ) البقرة: 247: ’’ليس من شرط الخليفة ولا القاضي أن يكون غنيَّاً، ولكنه في حكم الإسلام لا يكون إلا غنيَّاً؛ لأنه يأخذ ما يكفيه من بيت المال؛ فغناه فيه’’.

تحصيل:

إذا تبينت ما تقدم من البيان في أنحاء الحرية تَبَيُّنَ الحكيمِ البصير علمت أن الإسلام بذل للأمة من الحرية أوسع ما يمكن بذله في الشريعة جامعةً بين أنواع المصالح بحيث قد بلغ بها حدَّاً لو اجتازته لجر اجتيازها إياه إلى اختلال نظام المدنية بين المسلمين، أو بينهم وبين الأمم المرتبطة بهم اختلالاً قويَّاً أو قليلاً، وذلك الاختلال قد يفضي إلى نقض أصولها، وامتشاق السيوف؛ لتمزيق إهابها.

ومن القواعد المقررة في الحكمة: أن لا عبرة بوجود يفضي إثباته إلى نفيه.

ومن القواعد في أصول التشريع الإسلامي: أن المناسبة التشريعية لا تعتبر مناسبة إلا إذا كانت غير عائدة على أصلها بالإبطال، وأنها تتخرم إذا لزمها مفسدة راجحة أو مساوية.

وبقول راجح أقول: إن ما يتجاوز الحدود التي حدد الشرع بها امتداد الحرية في الإسلام لا يخلو عن أن يكون سببَ فوضى، وخلعٍ للوازع بين الأمة، أو موجب وهنٍ ووقوع في إشراك غفلة ومهاوي خطل سياسي، وتفصيل ذلك يحتاج إلى تحليل وتطويل لا يُعْوِز صاحب الرأي الأصيل.

16/5/1429هـ

[1] الخول: بفتح الخاء المعجمة وفتح الواو الذين يتخولون الأمور، ويصلحونها، وهذا الوصف؛ لبيان مزيتهم.

[2] هكذا في الأصل، ولعلها: لجرثومته، أي أصله (م).

[3] هذا تضمين لقول الشاعر في الشاهد النحوي:
فأما القتال لا قتال لديكم ولكن سيراً في عراض المواكب (م)

[4] يعني يغتنم الفرصة(م).
أضافة تعليق