لما ذهب مُلْك النعمان بن المنذر، قالت ابنته هند: ” لقد رأيتنا ونحن من أعز الناس وأشده ملكا، ثم ما غابت الشمس حتى رأيتنا من أذل الناس”.
هكذا الأيام دُول، وبذا جادت قريحة أبي البقاء الرندي:
لكل شيء إذا ما تم نقصانُ فلا يغرنّ بطيب العيش إنسانُ
هي الأمور كما شاهدتها دولٌ من سره زمنٌ ساءته أزمانُ
ولئن كان هذا شأن أمتنا وحضارتنا، إلا أنه قد فات وقت التباكي، ومضى زمن النظر إلى الماضي إلا لاستلهام العبرة، لم يعد هناك وقت نهدره في عبارات كان وكان، فالحياة موحشة، والعالم من حولنا بحر فيه السمك والحيتان.
الله الله في الأمة والأوطان، من سيشيد الملك من جديد؟ ومن سيبني المجد من بعد أطلال؟ ومن سيغزل من بعد نكْث؟ لن يقوم على أمرنا سوانا، سيصرخون إذا ما انقرضت الفيلة في افريقيا لكنهم لن يأبهوا لجراحنا، سيذرفون الدمع لانتحار الحيتان على سواحل نيوزيلندا لكنهم لن يلقوا بالا لمصائبنا، قالها الإمام الشافعي: “ما حك جلدك مثل ظفرك، فتول أنت جميع أمرك”.
يا شعوب الإسلام، ويا جماهير العرب، لبوا نداء (واعتصموا)، أما آن الأوان لترص الصفوف، ووضع الكفوف على الكفوف؟
العالم شرع في التكتل وقد علم أن شاردة الغنم مأكولة، وأن الرماح إذا افترقن تكسرت آحادا، ونحن لا نزال في لجة الفرقة الداخلية نخوض، وفي تيه الاختلاف نمضي، فأين المفر؟
ما الذي ينقصنا لتتحد كلمتنا؟ بل ما الذي يمنعنا أن تتحد كلمتنا؟
نعم، تعددت عقائدنا، تنوعت عرقياتنا، اختلفت مشاربنا، وذلك شأن الله في الناس (ولا يزالون مختلفين)، لكن ما الذي يضير الكف أن اختلفت أصابعه طولا وعرضا وسُمكًا، ستبقى جميعها بالكف موصولة، ستظل كلها متكاملة متعاضدة في القبض على الزمام.
بلاد أمتنا تتسع لنا جميعا، تتسع لاختلافاتنا العقدية والمذهبية والإثنية والسياسية، فقط إذا ما اجتمعنا على ذلك القاسم المشترك، رغبتنا في إحياء تلك الحضارة التي انضوينا جميعا تحت لوائها، على اختلاف مشاربنا.
وحتى نضع أنفسنا على هذا الطريق، فلا يسعنا إلا أن نتجرد في قضيتنا، ونضع المصالح العليا لأمتنا في ذروة الاهتمامات، ونتناسى المعارك الجانبية، والانتماءات الجزئية، والسجالات البينية، فأمامنا طريق طويل، لن يسلكه إلا أصحاب بنيان مرصوص، وأجساد اجتمعت على قلب رجل واحد.
فليكن شعارنا التسامح فيما مضى بشعار (لا تثريب عليكم اليوم)، والتعاهد فيما بقي على شعار (ستجدني إن شاء الله من الصابرين).
لن نسلك هذا الطريق إلا إذا نبذنا كل أجندة خارجية، نريدها خالصة، لا مجال فيها لعبث الأيادي الخارجية مهما تلاقت معها مصالحنا الجزئية، فلا خير فيمن يعين أخا على أخيه، فتلك ريح عاد العقيم، وإن خصومنا لن يتمكنوا منا إلا من خلال التسلل عبر الحدائق الخلفية، فلنفسد عليهم كل محاولة رخيصة لزرع الفرقة وتشتيت الصف.
كلماتي ليست إلا بوحًا إلى أصحاب القلوب الحية بالأماني، من قلب مسلمة عاشقة لتراب هذه الأمة، ولا تزايد على حبكم لأمتكم، وتوقن بأن فيكم ومنكم من إذا وزن حبه لأمته بالجبال لرجح بها، ومعًا لنبني أمتنا، ولنكتب التاريخ من جديد، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.