يعيش الإنسان منذ بدأت تجاربه الحسية الأولى بين جدلية النجاح والفشل، في قدرته على ملاحقة الضوء تارة، وعلى الوقوف ثابتاً لبضع ثوانٍ.. وفي ذلك يتلخص حال معيشته ونضاله حتى نهاية مرحلة الحياة.
وحين كان الحصاد هو ما يعلق ببصار الإنسان، ويرنو للاستزادة منه، حملت الشريعة الإسلامية -وبحكمة الخالق سبحانه وتعالى- العديدَ من الملامح والأطر التي تقوم على الفكرة ذاتها، بل إن مبدأ الثواب والعقاب والعمل الطيب من أجل النجاة هو حال يعيشه الإنسان المسلم بشكل مستمر، ولذا فإن "وقود" هذا المحرك يتغذى على النظام الأخلاقي والقيمي المنظم له.
وفي هذا السياق، يبدو أن الفكرة الأخلاقية اللصيقة بالنظام أو الفكر أو العقيدة الإسلامية.. شكلت صورةً ثابتة عن الأخلاق، فلم تنل المزيدَ من الحركات الفلسفية المنقبة في سياقها، على الرغم من تغير الحال والزمان الذي جلب معه العديدَ من المظاهر المعاصرة المستحدثة، إن إدراك الفجوة الفلسفية الأخلاقية مقابل الطرح الثري في مجال القيم الإسلامية دعا لبروز التحول الفكري هناك، لا سيما في سياق تناول المشهد الأخلاقي في الزمن المعاصر، وموازاتها الملازمة لمختلف القضايا والتحديات التي يواجهها الإنسان في المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي.. إلخ.
إن الأخلاق التي جاءت لتثبتها وتؤكد عليها الشريعة تضم في وعائها الكبير علاقةً لا يمكن بترها مع الوجود الإنساني في شتى تفاصيله ونواحيه، وهذا ما نجده ثابتاً لدى العديد من المفكرين المسلمين مثل محمد باقر الصدر الذي قرأ أصول الفقه وعلم الكلام والفلسفة، لكن وفق طرح جديد ورؤية مختلفة، كاستجابة لـ«عصرنة العصر» ومجرياته من جهة، وواقع «الانقسام» في مجتمعات العالم الإسلامي.
إن وجود المنهج في إيصال رسالة يمثل مستنداً مهماً لإثبات الفكر وقبل ذلك القدرة على توضيح فحواه، خاصةً حين انقسم منهج الفلسفة الأخلاقية لمنهج مقارن بين الطرح الغربي والإسلامي، وآخر يعرض التركيب القيمي في حلته «الغنية» الموجودة في الفكر الإسلامي ذي الاعتماد على القرآن الكريم والسُنة المطهرة.
وقد اعتمد الصدر على هذا المستند الأخير في تحليل عميق يستند إلى ثوابت أصيلة، وفي اتجاه مختلف عن كل ما قُدم في هذا السياق من إجابات حول المسألة الأخلاقية، سواء في باب «الأخلاق الاجتماعية» أو باب «الأخلاق الوجودية».. مما أضاف طرحاً ابستمولوجياً لا يهمل المنشأ الأخلاقي ودوافعه، ولا يبتعد عن الوسط الذي وجد فيه، لا سيما أنه من غير الدقيق تطبيق «العلوم الجاهزة» والأفكار الناضجة في مجتمع ما على مجتمع ذي ظروف وخصائص مختلفة، وبالتالي فقد شكلت الدراسة الفلسفية الأخلاقية لدى باقر الصدر بوصلةً حاذقة في نظرتها للعالم الإسلامي.
ومع تراكم القراءات التي تشبثت بالنطاق الأخلاقي فإن أفكار محمد باقر الصدر اختلفت في نوعيتها، مما جعلها محطة انطلاق لمن جاء بعده، وقد بدا ذلك في نضوج ما قدم من تنظير اجتماعي واقتصادي، ولكن أيضاً حول المسألة الأخلاقية التي بدت واضحةً ومفهومة في تفسيره لـ«الحكم الشرعي»، إذ جعله تعبيراً شرعياً دقيقاً فيه فحوى فقهية وأخلاقية وروحية ومفاهيمية.
وقد أضاف بشكل واضح في سياق معالجة المشكل الأخلاقي من منظور فلسفي ديني متزن، يجمع بين الميتافيزيقا والحضارة والأخلاق، ابتداءً من إيلاء الاحترام الكافي لعلاقة الإنسان بـ«المثل الأعلى».
إن في الفلسفة متسع للتلاقي الأنيق مع العلوم والفنون التي لا تنفك عن واقع الإنسان ولا تنافسه ولا تلغيه، والعالم بحاجة إلى الفيلسوف الكفؤ، بغية إيجاد العلاقة المتناسقة ومد «يد العقل» نحو الأخلاق إنقاذاً لها من ذلك الاشتباك الذي طالما أربكها بين الدين والعلم.
**نقلاً عن صحيفة الإتحاد