نتشرت خلال الألفية الجديدة دعوة أطلقها الغرب وتبناها التغريبيون العرب، لأن يكون هناك إسلام وسطي، وذلك بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م، التي احتشدت عقبها جيوش العالم لمواجهة الإرهاب، الذي كان مرادفاً لدى الغرب لمسمى الإسلام والمسلمين.
إسلام وسطي بمفهوم غربي
وهذه الدعوة لا تعني العودة إلى وسطية الإسلام الذي تعد الوسطية أبرز سماته، فهذا بلا شك أمر محمود وفريضة على المسلمين أن يرجعوا إلى وسطية الإسلام، بعد أن حاد كثير من المسلمين عن سمته هذه، ما بين الغلو والإجحاف، بين التشدد والتساهل.
لكن هذه الدعوة التي أطلقها الغرب وأذنابه من العرب، تعني استصدار نسخة جديدة من المنهج الإسلامي، بمعنى أن يتم تعديل المنهج وتطويع نصوصه بما يوافق القيم الغربية ويتناغم مع الحضارة الغربية ويسير في فلكها، ويسير كذلك في ركب مؤسسات المجتمع المدني.
الاستشراق المعاصر والإسلام الوسطي
وقبل أن يتهمنا القارئ بالخضوع لنظرية المؤامرة، نعرج على مؤسسات الاستشراق الحديث ودورها في هذه الدعوة، ونعني بهذه المؤسسات المراكز البحثية المبثوثة في أمريكا خاصة، التي تخدم صانع القرار في تحديد سياسة الدولة تجاه العالم الإسلامي، وهي امتداد للاستشراق القديم، وأبرزها مؤسسة راند، ومؤسسة كارنيجي، ومعهد بروكنجز، وغيرها.
عملت الولايات المتحدة بقوة، بعد أحداث 11 سبتمبر، على إحداث تغيير في نسيج الإسلام، ووكلت إلى هذه المؤسسات البحثية مهمة إمداد القيادة السياسية بتحديد الفئات التي ينبغي أن تُدعم لتغيير المنهج الإسلامي وفق المصالح الأمريكية.
من أبرز التقارير التي أصدرتها مؤسسة راند بعد 11 سبتمبر، وتحديداً في عام 2003م، من أجل إسلام وسطي يتناغم من طموحات الغرب، كان تقريراً بعنوان «إسلام حضاري ديمقراطي.. شركاء وموارد وإستراتيجيات».
يصنف التقرير العالم الإسلامي من المنظور الغربي، ويضع بالنهاية توصيات مفادها ضرورة دعم الإدارة الأمريكية لمن أسماهم بالمجددين، وهم العصرانيون والتنويريون في العالم الإسلامي، ودعم من أسمتهم بالعلمانيين المعتدلين، وهم الذين يرون فصل الدين عن شؤون الحياة وحصره في النطاق الشخصي –لا العلمانيين الراديكاليين أصحاب المزاج اليساري- إضافة إلى تعزيز الوجود الصوفي.
يلاحظ على الفئات التي نصح التقرير بدعمها، أنها صالحة لتعميم نسخة جديدة من الإسلام مغايرة لما عليه الأصل، فالتنويريون يحترفون السطو على النص الإسلامي بالإنكار، أو التأويل، أو زعم معارضته للعقل، أو التشكيك في السند، أو ادعاء عدم صلاحيته لهذا الزمان، ونحو ذلك من أدواتهم التي يهدفون منها إلى إسلام وسطي بالمفهوم الغربي.
وأما العلمانيون فعملهم على الاختزال والتهميش والإقصاء للمنهج الإسلامي، بحصره في النطاق الشخصي والعلاقة بين العبد وخالقه بعيداً عن شؤون الحياة، وهو مسلك يصلح أرضية خصبة لتطويع الإسلام ونصوصه للوسطية المنشودة غربياً.
وأما التيار الصوفي، فهو تيار انسحابي انعزالي، يحصر الدين في التزكية والوصول إلى حالات المكاشفة والفناء ونحو ذلك مما تضمنته قائمة المصطلحات الصوفية، وهو تيار ذابت فيه فلسفات قديمة دخيلة، كفلسفة وحدة الوجود والحلول والاتحاد، وهذا بدوره يكفل تهاوي الحدود الفاصلة بين المنهج الإسلامي وغيره من المناهج، ويترتب على ذلك ظهوره كإحدى الفئات المعبرة عن الإسلام الوسطي.
فوضى تعريف الوسطية
بالتوازي مع الرؤية الغربية للإسلام الوسطي، نرى في الداخل الإسلامي فوضوية عارمة إزاء تعريف الوسطية، نتجت عن توصيف الالتزام الشامل بتعاليم الشريعة بالتشدد والغلو.
الوسطية في غمرة هذه الفوضوية تعني الهروب من بعض أو كثير من الواجبات، والتساهل في إتيان المحرمات بدعوى التناغم مع الواقع.
وفي ظل هذه الفوضوية، يظهر الاستناد إلى الشاذ من الأقوال الفقهية وما اشتد ضعفه منها.
وفي ظل هذه الفوضوية تترهل قواعد المصالح والمفاسد وفقه الأولويات والفقه المقاصدي، لتخرج عما وُضعت له بموازين الخير والصلاح، إلى حيز تمييع الأحكام وتطويع النصوص لتوافق الأهواء.
وفي ظل هذه الفوضوية في تعريف الوسطية، يغدو التقارب مع الآخر مقدماً على المحافظة على الإطار العقدي، بدعوى التعايش الإنساني وإرساء السلام والمحبة.
وكذلك جعلناكم أمة وسطاً
المناداة بإسلام وسطي دعوة منقوضة من أساسها، لأنها إيحاء سخيف بأن المنهج الإسلامي لا يتضمن الوسطية، وهي بذلك تفتح الباب على مصراعيه للعبث في أصول الدين والشريعة الغراء لتطويع الدين لمتطلبات السير في ركب القيم الغربية التي وجدت في بلادنا من ينوب عنها ويعمل بالوكالة على اختزال الدين وتهميشه.
الإسلام يتضمن في ذاته الوسطية، وهي سمة دائمة في هذا المنهج، قال الله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (البقرة: 143)، يقول ابن كثير في تفسير الآية: «الوسط هنا: الخيار والأجود، كما يُقال في قريش: أوسط العرب نسباً وداراً، أي: خيرها، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم وسطاً في قومه، أي: أشرفهم نسباً»(1).
ويقول محمد رشيد رضا: «الوسط هو العدل والخيار، وذلك أن الزيادة على المطلوب في الأمر إفراط، والنّقص عنه تقصير وتفريط، وكلُّ من الإفراط والتَّفريط ميْلٌ عن الجادّة القويمة، فهو شرّ ومذموم، فالخيار هو الوسط بين طرفي الأمر، أي المتوسّط بينهما»(2).
وحاصل كلام المفسرين يدل على أن الوسطية تكون باجتماع أمرين:
1- الخيريَّة، أو ما يدلّ عليها كالأفضل والأعدل أو العدل.
2- البينيَّة، سواء أكانت حسِّيَّة أو معنويَّة.
فإذا جاء أحد الوصفين دون الآخر فلا يكون داخلاً في مصطلح الوسطيَّة.
ومثال على الوسطية في الإسلام، الرخص التي وضعها الشارع للعباد، كالجمع بين الصلوات في السفر والبرد والمطر والخوف، وأطلق هذا الجمع للظروف القسرية حتى لا تقع الأمة في الحرج.
وكذلك الفطر في حالات السفر والمرض ثم القضاء، والفطر مع الفدية دون القضاء للمريض الذي لا يُرجى برؤه.
كما تظهر وسطية الإسلام في جعل الأرض كلها مسجداً وطهوراً، فتصح الصلاة في أي بقعة لم يُعلم نجاستها، وتظهر هذه الوسطية في استصحاب البراءة الأصلية، بمعنى أن كل ما في الحياة طاهر إلا ما دل الشرع على تحريمه وهو قليل جداً، وكل ما في الحياة طاهر إلا ما جاء الدليل على نجاسته وهو قليل جداً.
بيان مظاهر الوسطية في المنهج الإسلامي أكثر من أن يحيط بها هذا المقام، ولكن ما نود التأكيد عليه، أن المسلمين ليسوا بحاجة إلى إسلام جديد يتصف بالوسطية، بل عليهم أن يعودوا إلى وسطية الإسلام التي جاء بها.