كتب الشيخ الأزهري عبد المتعال الصعيدي (ت: 1966م) في كتابه "الحرية الدينية في الإسلام -1956م" معقبًا على منتقده: "…وها هو الشيخ عيسى منون ينظر في كتاب "المحلى" لابن حزم، وهو من غلاة الظاهرية، ومن أشد الناس طعنًا في الأئمة الأربعة، فلا يمنعه هذا من النظر فيه، ولا من الاستناد على بعض أقواله، مع أنه لو فعل هذا قبل نحو خمسين سنةً لم يُغفر له، بل ما أظن أنه كان يستبيحه لنفسه؛ لأنهم كانوا يحرمون النظر في مثل هذه الكتب كما يحرمون النظر في كتب الفلسفة" (ط: 2012، ص102-103 ). لم يكن ما كتبه الشيخ عبد المتعال الصعيدي استثناءً في وصف التحولات الفكرية، والانتقائية التي يمارسها بعضُ المتعصبين في توظيف النصوص والأفكار في الحملة على الخصوم، فقد كتب نظير هذا الكلام كثيرون آخرون، يصفون مواقفَ متشنجة اتخذها مخالفوهم ثم آلت الحال بهم إلى أن يقولوا بأقوالهم، أو أن يُتَّهموا بما اتهموا به أقرانهم بالأمس.
هذه الدورات من التحولات الفكرية متوالية تحدث وتتكرَّر في غير مكان، وتؤثر فيها متغيرات الزمان والثقافة والمناهج والعلاقات والسياسات، وأمور أخرى، وقد تحدث طوعًا أو كرهًا، علمًا وتعمقًا، أو سياسةً أو نفاقًا، لكن الثابت الذي يدعو للقلق أن الجانب العلمي والمعرفي لم يعد – في الغالب – هو الموجِّه لهذه التحولات، بل لم تعد معظم مؤسسات العلم في العالم العربي تستقطب أعلامًا من شأنهم أن يصدحوا بما يؤمنون به، خوفًا من الاستبدادَيْن السياسي (الذي يخونهم) والديني (الذي يكفِّرهم أو يُجَهِّلهم)، فيعلو في مكانهم صوت المداهنين والمنافقين، وتضيع الأجيال حائرةً بحثًا عن الحقيقة أو اكتشافًا للذات، متنقلةً بين الأفكار والمذاهب والأديان أو هاربةً منها جميعًا، وهم ضحايا غياب المنهج والحرية في التربية والمجتمع، والتعليم والبحث العلمي، وبطبيعة الحال في السياسة.
كلٌّ يتمترس بجماعته ويستند في موقفه من مخالفيه بالمقايسة إلى مألوفٍ استقرَّ عليه تقليدًا ولم يخضعه للنقد والمراجعة.
إن ظاهرة التكفير وما دونها من التبديع والتضليل والاتهام بالزندقة، ما هي إلا نتاج منظومة من التعليم الشرعي المغلق ما تزال تُدرس في المعاهد والجامعات، فلا تزال كتب جامعية تُدرَّس في كليات الشريعة بعضها ذات اتجاه سلفيٍّ وأخرى ذات اتجاه أشعريٍّ تصف رجال الإصلاح في العصر الحديث (الأفغاني – محمد عبده – الكواكبي – رشيد رضا…) بالعملاء والمخرِّبين للدين، وفي بعض الكليات – وربما في المقرر نفسه – يدرس الطلاب أنفسهم ضلال وابتداع وربما تكفير نظرائهم في الكلية الأخرى، واللائحة واسعة فيما يمكن أن تشمله مبررات تلك التهم، كل اتجاه نحو الآخر، كالأشعرية والسلفية والصوفية والمجسمة والمبتدعة، وحديثًا العقلانيون، المتعصرنون والمجددون والمتعلمنون…، والقائمة تطول لتفاصيل مما يُبَرَّرُ به رمي هذه التهم أو تلك، والتي تقوم في معظمها على جهل مركَّب بالأفكار المتداولة خارج النسق المألوف لديهم، فكلٌّ يتمترس بجماعته ويستند في موقفه من مخالفيه بالمقايسة إلى مألوفٍ استقرَّ عليه تقليدًا ولم يخضعه للنقد والمراجعة، في إعراضٍ فاضح عن جملةٍ من الأُسس والقواعد الراسخة في العلوم الإسلامية، كالأمر بالتبيُّن قبل إطلاق الأحكام، ومعرفة حجج الخصوم قبل نقضها، وعدم الحكم بلازم المذهب، واحترام الاختلاف، وعقديًّا حسْن الظن بالآخرين، وعدم تكفير أهل القبلة، والتمسُّك بالاحتمال النافي في المسألة المتعلِّقة بالكفر إذا كان لها تسعة وتسعون احتمالًا للكفر واحتمال واحد لنفيه، وأن يحمل الكلام على محملٍ حسن، وغير ذلك من الضوابط المنثورة التي تحذِّر من التكفير، والتي ربما يدرِّسها في أحيانٍ كثيرة ممارسو التكفير والإقصاء ومنظِّروه أنفسهم، وربما كانوا هم من ضحاياه أيضًا، مما يفقد هذه المعايير والقواعد قيمتها وأهميتها.
قد يَتوسلُ الديني السياسي ليوقع بخصمه الديني بتهمٍ سياسية-دينية، وهكذا يُمتَهن الدين.
والأسوأ مما ذُكِر أن تُداس كل المعايير الأخلاقية والعلمية والمنهجية، وتحل محلَّها الأهواء الشخصية والسياسية، فيتدخل السياسي ليوظِّف الديني ضد بعض من يبغضه السياسي، فيحاربه دينيًّا ليتخلَّص من خصومته السياسية، ومعظم أحكام الردَّة في التاريخ كانت من هذا النوع، وقد يَتوسلُ الديني السياسي ليوقع بخصمه الديني بتهمٍ سياسية-دينية، وهكذا يُمتَهن الدين، فتثار حرماته والحمية عنه عندما يمكن أن يلحق بالدفاع عنها أذى بخصم فكريٍّ أو سياسيٍّ، وبالمقابل عندما تنتهك حرمات الدين بواسطة المتسلِّط السياسي يشرع صاحب الشأن الديني بالتأويل والتبرير أو الانكفاء والعزلة واتقاء الفتنة في مواجهة انتهاكاتٍ صارخة لأشد المحرَّمات في الإسلام كالقتل والظلم والفساد وسفك الدماء، وكذلك لا تظهر حمية المستبد السياسي تجاه الدين إلا حيث يمكن توظيفه لمصالحه أو لقمع خصومه.
هذه الظاهرة ليست بجديدة وليست استثناءً، فلها مصاديقُ منذ القرون الأولى، فمنذ محنة الإمام أحمد بن حنبل وإلى أحدث المحاكمات الفكرية في العصر الحديث كان التوظيف الديني-السياسي المتبادل حاضرًا بقوة، يعبث به أصحاب المصالح من الطرفين، ومثلها أحكام الكفر والردَّة التي أُطلقت على أفراد بأعيانهم عبر التاريخ، فكان اتهامهم دون غيرهم مرتبطًا بما لهم من خصومة دينية أو سياسية، فكم من معارك فكرية انتهت إلى خلاف لفظي، أو سوء فهم، أو تبنَّى فيها الخصم قولَ المتهم، وتراصت لاحقًا كتب الخصوم (مؤمنين ومُكَفَّرين) في رفٍّ واحد، وتسلَّلت نصوصها لتتزاحم في كتبٍ مستجدَّة تصنع أفكارًا جديدة تتجاوزهما أو توفق بينهما في وئامٍ وسكينةٍ لم يدركها المتدارئون بها من قبل أو من بعد.
إن قَدَر المعرفة – وهو قدر الدين نفسه – أن تُبنى على الاجتهاد والاختلاف، وأن يتنافس فيها الراسخون في العلم، وأن تبنى تصوراتها على مناهج التفكُّر وأُسس النظر، وأن تحكمها آداب الاختلاف وأخلاق العلم، وحيث تم تكوين المتعلِّمين على خلاف ذلك تحوَّل النسبي إلى مطلق، والمذهب إلى طائفة ودين، وتحولت رؤى المتعلِّم لمعارف التراث من تصوره كنزًا فيه الثراء والتنوع إلى كتلة من التناقضات والمشكلات التي تنفي بعضها بعضًا، وهروبًا من هذه التناقضات سيصطفي المتعلِّم من التاريخ العلمي نسبًا يتوهم انسجامه ونقاءه، ولن يكون، وهذا ما ينعكس لدى المتعلِّم أمشاجًا من الرؤى المتنازعة، وإن لم يتدرب على فهم تكونها وطبيعتها ستؤول إلى أحد احتمالين: إمَّا يتابع الانتقاء العبثي أو الاصطفاء المصلحي والتمييز بينها حسب النوازع التي تطارده، وهي صورة التلفيق التي تسود الخطاب الديني التقليدي؛ وإمَّا أن يتفصى من هذه المعرفة تدريجيًّا، أو بشكل عنيف كردة فعل فترمي بالمتمرِّد على الطرف النقيض: إمَّا تطرفًا في الدين نفسه، فينتقي من جماعاته ما يختزل الخطاب والمعرفة الدينية في ظاهرية نصوص منسجمة تتجاهل ما يخالفها أو تُجهِّل من يناقشها؛ وإمَّا تطرفًا ضد الدين (خروجًا منه) أو ضد تراثه (رفضًا له) أو ضد مؤسساته (رفضًا لعلومها وسياستها)، وارتماء في أتون منظوماتٍ فكرية أخرى قد لا تقل عن النابذة سوءًا أو مشكلاتٍ.
هذا ولا يعدم المتابع أسماء ونماذج للمتحولين الهاربين من ضيق (كهنوت الشريعة) الذي يتنازع أقطابه كل ما هو إيجابي من الشعارات والقيم، فكلهم وسطيون ومصلحون ومجددون ومتسامحون…، إلا عند الاقتراب من خطوطهم المذهبية الحمراء، فترتفع الحمية للدين فيجلبون خيلهم ورجلهم على خصومهم دون تعبٍ أو كلل، فإذا تدخَّل ذو السلطة والنفوذ تحوَّلت الحمية تلك إلى هدنة بانتظار جولة أخرى. لقد تفصى كثيرون من تلك المؤسسات، فقلَّة منهم فهموا طبيعتها ومشكلاتها وتعاملوا معها بصدق وحكمة سعيًا إلى الإصلاح والتوازن، وكثيرون توزعوا أشتاتًا: فريق استفزهم ما رأوه تواكلًا ونفاقًا فالتحقوا بجماعات العنف أو السياسة، وآخرون استهجنوا مداراة العامة في معتقداتهم والخرافات المنتشرة فالتحقوا بالسلفية المناوئة للتصوف، وفريق لم يمتلك عمقًا في فهم المنظومة التي يتعلمها فاجتاله كتاب أو مقال كَتبه محترفٌ في انتزاع هذه التناقضات وإبرازها، وآخرون تركوا الإسلام تمردًا أو اقتناعًا لم يروا فيما تلقوه ما يحقِّق السكينة التي ينبغي أن يُبلِّغوها للناس.
العامل النفسي دوره مزدوج، ولا يقدِّم الإجابة عن توسع الظاهرة وانتشارها، وما هو إلا كاشف عن غياب المنهجية في تلقي المعرفة الدينية والتعامل معها.
وفي تحليل حالاتٍ كهذه يحضر دائمًا الربط بالعامل النفسي، وهو عامل لا يمكن إنكاره في الاتجاهين، أعني من يستطيع المتابعة ضمن نمطٍ يكتنف متناقضات؛ إذ لولا نمط من الفصام لَما أمكنه تبريرها سواء فيما بينها أو في إسقاطها على الواقع المعيش، وكذلك في حالة التمرد المعاكسة، فهذه تحتاج شجاعةً وجرأةً قد توفرها لحظة حاسمة يلعب فيها الجانب النفسي دورًا مهمًّا في التساؤل ورفض التلفيق. فالعامل النفسي دوره مزدوج، ولا يقدِّم الإجابة عن توسع الظاهرة وانتشارها، وما هو إلا كاشف عن العامل الموضوعي الأهم، وهو غياب المنهجية في تلقي المعرفة الدينية والتعامل معها، والفصام الأخلاقي في تنزيل القيم التي يتم تعليمها وكيفية ربطها بالواقع، والانتقاء في التعامل مع المصادر وصناعة ماضٍ مثاليٍّ متخيَّل، وقمع التساؤل والنقاش، والفصام عن العصر وأسئلته وتحدياته.
وعليه فالمشكلة مركَّبة والإصلاح مركَّب، وترميم جانب لا يغني عن الآخر، وستسمر الانفجارات والتشققات المعرفية، وستزداد الاضطرابات السياسية المؤثرة فيها، وستحتاج مؤسسات العلم زمنًا لفهم طبيعة التحولات والسيطرة عليها، ولن يكون ذلك إلا بالتكوين المنهجي المعتمد على النقد والتساؤل وحرية البحث وعمق التكوين.
هذه الدورات من التحولات الفكرية متوالية تحدث وتتكرَّر في غير مكان، وتؤثر فيها متغيرات الزمان والثقافة والمناهج والعلاقات والسياسات، وأمور أخرى، وقد تحدث طوعًا أو كرهًا، علمًا وتعمقًا، أو سياسةً أو نفاقًا، لكن الثابت الذي يدعو للقلق أن الجانب العلمي والمعرفي لم يعد – في الغالب – هو الموجِّه لهذه التحولات، بل لم تعد معظم مؤسسات العلم في العالم العربي تستقطب أعلامًا من شأنهم أن يصدحوا بما يؤمنون به، خوفًا من الاستبدادَيْن السياسي (الذي يخونهم) والديني (الذي يكفِّرهم أو يُجَهِّلهم)، فيعلو في مكانهم صوت المداهنين والمنافقين، وتضيع الأجيال حائرةً بحثًا عن الحقيقة أو اكتشافًا للذات، متنقلةً بين الأفكار والمذاهب والأديان أو هاربةً منها جميعًا، وهم ضحايا غياب المنهج والحرية في التربية والمجتمع، والتعليم والبحث العلمي، وبطبيعة الحال في السياسة.
كلٌّ يتمترس بجماعته ويستند في موقفه من مخالفيه بالمقايسة إلى مألوفٍ استقرَّ عليه تقليدًا ولم يخضعه للنقد والمراجعة.
إن ظاهرة التكفير وما دونها من التبديع والتضليل والاتهام بالزندقة، ما هي إلا نتاج منظومة من التعليم الشرعي المغلق ما تزال تُدرس في المعاهد والجامعات، فلا تزال كتب جامعية تُدرَّس في كليات الشريعة بعضها ذات اتجاه سلفيٍّ وأخرى ذات اتجاه أشعريٍّ تصف رجال الإصلاح في العصر الحديث (الأفغاني – محمد عبده – الكواكبي – رشيد رضا…) بالعملاء والمخرِّبين للدين، وفي بعض الكليات – وربما في المقرر نفسه – يدرس الطلاب أنفسهم ضلال وابتداع وربما تكفير نظرائهم في الكلية الأخرى، واللائحة واسعة فيما يمكن أن تشمله مبررات تلك التهم، كل اتجاه نحو الآخر، كالأشعرية والسلفية والصوفية والمجسمة والمبتدعة، وحديثًا العقلانيون، المتعصرنون والمجددون والمتعلمنون…، والقائمة تطول لتفاصيل مما يُبَرَّرُ به رمي هذه التهم أو تلك، والتي تقوم في معظمها على جهل مركَّب بالأفكار المتداولة خارج النسق المألوف لديهم، فكلٌّ يتمترس بجماعته ويستند في موقفه من مخالفيه بالمقايسة إلى مألوفٍ استقرَّ عليه تقليدًا ولم يخضعه للنقد والمراجعة، في إعراضٍ فاضح عن جملةٍ من الأُسس والقواعد الراسخة في العلوم الإسلامية، كالأمر بالتبيُّن قبل إطلاق الأحكام، ومعرفة حجج الخصوم قبل نقضها، وعدم الحكم بلازم المذهب، واحترام الاختلاف، وعقديًّا حسْن الظن بالآخرين، وعدم تكفير أهل القبلة، والتمسُّك بالاحتمال النافي في المسألة المتعلِّقة بالكفر إذا كان لها تسعة وتسعون احتمالًا للكفر واحتمال واحد لنفيه، وأن يحمل الكلام على محملٍ حسن، وغير ذلك من الضوابط المنثورة التي تحذِّر من التكفير، والتي ربما يدرِّسها في أحيانٍ كثيرة ممارسو التكفير والإقصاء ومنظِّروه أنفسهم، وربما كانوا هم من ضحاياه أيضًا، مما يفقد هذه المعايير والقواعد قيمتها وأهميتها.
قد يَتوسلُ الديني السياسي ليوقع بخصمه الديني بتهمٍ سياسية-دينية، وهكذا يُمتَهن الدين.
والأسوأ مما ذُكِر أن تُداس كل المعايير الأخلاقية والعلمية والمنهجية، وتحل محلَّها الأهواء الشخصية والسياسية، فيتدخل السياسي ليوظِّف الديني ضد بعض من يبغضه السياسي، فيحاربه دينيًّا ليتخلَّص من خصومته السياسية، ومعظم أحكام الردَّة في التاريخ كانت من هذا النوع، وقد يَتوسلُ الديني السياسي ليوقع بخصمه الديني بتهمٍ سياسية-دينية، وهكذا يُمتَهن الدين، فتثار حرماته والحمية عنه عندما يمكن أن يلحق بالدفاع عنها أذى بخصم فكريٍّ أو سياسيٍّ، وبالمقابل عندما تنتهك حرمات الدين بواسطة المتسلِّط السياسي يشرع صاحب الشأن الديني بالتأويل والتبرير أو الانكفاء والعزلة واتقاء الفتنة في مواجهة انتهاكاتٍ صارخة لأشد المحرَّمات في الإسلام كالقتل والظلم والفساد وسفك الدماء، وكذلك لا تظهر حمية المستبد السياسي تجاه الدين إلا حيث يمكن توظيفه لمصالحه أو لقمع خصومه.
هذه الظاهرة ليست بجديدة وليست استثناءً، فلها مصاديقُ منذ القرون الأولى، فمنذ محنة الإمام أحمد بن حنبل وإلى أحدث المحاكمات الفكرية في العصر الحديث كان التوظيف الديني-السياسي المتبادل حاضرًا بقوة، يعبث به أصحاب المصالح من الطرفين، ومثلها أحكام الكفر والردَّة التي أُطلقت على أفراد بأعيانهم عبر التاريخ، فكان اتهامهم دون غيرهم مرتبطًا بما لهم من خصومة دينية أو سياسية، فكم من معارك فكرية انتهت إلى خلاف لفظي، أو سوء فهم، أو تبنَّى فيها الخصم قولَ المتهم، وتراصت لاحقًا كتب الخصوم (مؤمنين ومُكَفَّرين) في رفٍّ واحد، وتسلَّلت نصوصها لتتزاحم في كتبٍ مستجدَّة تصنع أفكارًا جديدة تتجاوزهما أو توفق بينهما في وئامٍ وسكينةٍ لم يدركها المتدارئون بها من قبل أو من بعد.
إن قَدَر المعرفة – وهو قدر الدين نفسه – أن تُبنى على الاجتهاد والاختلاف، وأن يتنافس فيها الراسخون في العلم، وأن تبنى تصوراتها على مناهج التفكُّر وأُسس النظر، وأن تحكمها آداب الاختلاف وأخلاق العلم، وحيث تم تكوين المتعلِّمين على خلاف ذلك تحوَّل النسبي إلى مطلق، والمذهب إلى طائفة ودين، وتحولت رؤى المتعلِّم لمعارف التراث من تصوره كنزًا فيه الثراء والتنوع إلى كتلة من التناقضات والمشكلات التي تنفي بعضها بعضًا، وهروبًا من هذه التناقضات سيصطفي المتعلِّم من التاريخ العلمي نسبًا يتوهم انسجامه ونقاءه، ولن يكون، وهذا ما ينعكس لدى المتعلِّم أمشاجًا من الرؤى المتنازعة، وإن لم يتدرب على فهم تكونها وطبيعتها ستؤول إلى أحد احتمالين: إمَّا يتابع الانتقاء العبثي أو الاصطفاء المصلحي والتمييز بينها حسب النوازع التي تطارده، وهي صورة التلفيق التي تسود الخطاب الديني التقليدي؛ وإمَّا أن يتفصى من هذه المعرفة تدريجيًّا، أو بشكل عنيف كردة فعل فترمي بالمتمرِّد على الطرف النقيض: إمَّا تطرفًا في الدين نفسه، فينتقي من جماعاته ما يختزل الخطاب والمعرفة الدينية في ظاهرية نصوص منسجمة تتجاهل ما يخالفها أو تُجهِّل من يناقشها؛ وإمَّا تطرفًا ضد الدين (خروجًا منه) أو ضد تراثه (رفضًا له) أو ضد مؤسساته (رفضًا لعلومها وسياستها)، وارتماء في أتون منظوماتٍ فكرية أخرى قد لا تقل عن النابذة سوءًا أو مشكلاتٍ.
هذا ولا يعدم المتابع أسماء ونماذج للمتحولين الهاربين من ضيق (كهنوت الشريعة) الذي يتنازع أقطابه كل ما هو إيجابي من الشعارات والقيم، فكلهم وسطيون ومصلحون ومجددون ومتسامحون…، إلا عند الاقتراب من خطوطهم المذهبية الحمراء، فترتفع الحمية للدين فيجلبون خيلهم ورجلهم على خصومهم دون تعبٍ أو كلل، فإذا تدخَّل ذو السلطة والنفوذ تحوَّلت الحمية تلك إلى هدنة بانتظار جولة أخرى. لقد تفصى كثيرون من تلك المؤسسات، فقلَّة منهم فهموا طبيعتها ومشكلاتها وتعاملوا معها بصدق وحكمة سعيًا إلى الإصلاح والتوازن، وكثيرون توزعوا أشتاتًا: فريق استفزهم ما رأوه تواكلًا ونفاقًا فالتحقوا بجماعات العنف أو السياسة، وآخرون استهجنوا مداراة العامة في معتقداتهم والخرافات المنتشرة فالتحقوا بالسلفية المناوئة للتصوف، وفريق لم يمتلك عمقًا في فهم المنظومة التي يتعلمها فاجتاله كتاب أو مقال كَتبه محترفٌ في انتزاع هذه التناقضات وإبرازها، وآخرون تركوا الإسلام تمردًا أو اقتناعًا لم يروا فيما تلقوه ما يحقِّق السكينة التي ينبغي أن يُبلِّغوها للناس.
العامل النفسي دوره مزدوج، ولا يقدِّم الإجابة عن توسع الظاهرة وانتشارها، وما هو إلا كاشف عن غياب المنهجية في تلقي المعرفة الدينية والتعامل معها.
وفي تحليل حالاتٍ كهذه يحضر دائمًا الربط بالعامل النفسي، وهو عامل لا يمكن إنكاره في الاتجاهين، أعني من يستطيع المتابعة ضمن نمطٍ يكتنف متناقضات؛ إذ لولا نمط من الفصام لَما أمكنه تبريرها سواء فيما بينها أو في إسقاطها على الواقع المعيش، وكذلك في حالة التمرد المعاكسة، فهذه تحتاج شجاعةً وجرأةً قد توفرها لحظة حاسمة يلعب فيها الجانب النفسي دورًا مهمًّا في التساؤل ورفض التلفيق. فالعامل النفسي دوره مزدوج، ولا يقدِّم الإجابة عن توسع الظاهرة وانتشارها، وما هو إلا كاشف عن العامل الموضوعي الأهم، وهو غياب المنهجية في تلقي المعرفة الدينية والتعامل معها، والفصام الأخلاقي في تنزيل القيم التي يتم تعليمها وكيفية ربطها بالواقع، والانتقاء في التعامل مع المصادر وصناعة ماضٍ مثاليٍّ متخيَّل، وقمع التساؤل والنقاش، والفصام عن العصر وأسئلته وتحدياته.
وعليه فالمشكلة مركَّبة والإصلاح مركَّب، وترميم جانب لا يغني عن الآخر، وستسمر الانفجارات والتشققات المعرفية، وستزداد الاضطرابات السياسية المؤثرة فيها، وستحتاج مؤسسات العلم زمنًا لفهم طبيعة التحولات والسيطرة عليها، ولن يكون ذلك إلا بالتكوين المنهجي المعتمد على النقد والتساؤل وحرية البحث وعمق التكوين.