مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2021/12/07 18:44
أُحدّثكم عن الدكتور "محمــد عمارة"
محمَّــد عبد الشَّــافي القُوصِــي؛
    (90 عاماً) مرت على ميلاد المفكّر الإسلامي الكبير (محمــــد عمارة)!
فما بين تاريخ ميلاده (8 ديسمبر 1931م) وتاريخ وفاته (28 فبراير 2020م) رحلة كفاح قاسية، ومسيرة جهاد شاقة؛ أثمرتْ، وأينعتْ، وأظهرتْ للدنيا أحد أعلام الفكر الميامين!
إنه الدكتور (محمد عمارة) الذي عرفناه عن قُرب، وصاحبناه طويلاً، وحاورناه كثيراً، وجلسنا أمامه في الندوات والمؤتمرات المختلفة ... فتعلّمنا منه الصبر على البحث والاطلاع، والصلابة والثبات على الحقّ، وعبقريّة الردّ، وإفحام الخصوم!
    لقد مات أستاذنا الكبير في العام الماضي (عام الحزن)! الذي رحل فيه جيل الأساتذة، وفرسان الدعوة، وسدنة الفكر، وحرّاس الشريعة، وفي مقدمتهم: محمد كمال إمام، ومحمد عبد الفضيل القوصي، ومحمود حمدي زقزوق، وطه جابر العلواني، وعبد الحميد أبو سليمان!
   هذا الجيل المستنير هم ورثة مالك بن نبي، وعبد الحميد بن باديس، ومحمد عبده، ورشيد رضا، وغيرهم من (جيل الروّاد)!
   لقد خاض الدكتور (محمد عمارة) سلسلةً طويلة من المعارك مع الماديين واليساريين والشعوبيين، وأفحم العلمانيين وإخوانهم من "الرضاعة"!    
     وإنّ مسيرته مملوءة بالعبر والعظات التي ينبغي أن يستفيد منها الناس، كيْ يواصلوا مسيرتهم في دروب الحياة المتعرجة، وأزقتها الموحشة، ومطباتها الكثيرة، وأزماتها المتكررة، وصراعاتها المحتدمة!
   لقد رفض الوظيفة، بلْ أخبرني –يرحمه الله- أنه كان يدعو اللهَ ألاَّ يكون "موظفاً" لأنه يكره حياة الرقّ والعبودية، ويرفض أن يوضع اسمه في كشوف "الموظّفين" الأشقياء، إنما كان يأمل أن يجد اسمه مكتوباً على المراجع والمؤلفات، ويتصدر واجهات المكتبات ودور النشر العالمية ... وقد تحقّقَ بالفعل ما تمنّاه!
    في إحدى حواراتي معه؛ قال لي: إنه في شبابه كان يقرض الشعر، وفاز بالجائزة الأولى في القصة. وأأنّ أول كتاب ألّفه وهو طالب عن "مؤامرات أمريكا ضد وحدة العرب"! وأنه حمل السلاح بعد إلغاء معاهدة 1936، وشارك في المقاومة الشعبية بمنطقة القناة أثناء العدوان الثلاثي علي مصر في عام 1956.
    ذات مرة؛ سألته عن منهجه في التأليف؟ فقال: مشروعي الفكري قائم على دعامتين أساسيتين هما: إظهار تفوق وعظمة الإسلام كشريعة وعقيدة وعبادات ومعاملات على ما سواه من النظريات والفلسفات الأخرى قديمة كانت أو حديثة، والرد على الأفكار والأيديولوجيات المضادة أو المناوئة للإسلام .. لذلك اهتم كثيراً بفكرة المقابلة والبديل الإسلامي للنموذج الغربي مثل كتاباتي عن: "الإسلام وفلسفة الحكم"، و"الإسلام وأصول الحكم"، و"الإسلام هو الحل"، وغيرها من الكتب التي ردّ بها على سفلة العلمانيين ودعاة التغريب!
   وسألته –أضاً- من هو العدو الأول للإسلام حالياً؟
  فقال: إن أوطان عالمنا المعاصر، هي بالنسبة للإسلام المعاصر، داران: دار استجابة، استجابت شعوبها لدعوة الإسلام، وأصبحت تكوّن أوطان الأمة الإسلامية، بشعوبها وقبائلها وقومياتها المتميزة، ودار دعوة، لم تستجب شعوبها لدعوة الإسلام، فظلت على شرائعها الدينية السابقة، أو على وثنيتها أو إلحادها المادي.. مع وجود أعداد مئات أو آلاف أو ملايين استجابوا للإسلام من بين أبناء هذه الشعوب.
  ونظرة الإسلام إلى هذه الشعوب، التي لم تستجب بعد لدعوته ليست النظرة إلى العدو، فضلاً عن أن يكون العدو الأول.. وإنما هي النظرة "لأمة الدعوة" التي يعرض المسلمون عليها الإسلام، تاركين لها حرية الاختيار، وفقاً للقاعدة القرآنية (لا إكراه في الدين).
    أمّا العدو الأول للإسلام، فهو ذلك الذي يناصب الإسلام وأمته وعالمه العداء، جاعلاً منه ومن أمته وعالمه العدو الأول، وموجهاً إلى المسلمين آليات أحلافه العسكرية ومؤامرات مؤسساته السياسية، وضغوط منظماته الاقتصادية، وانحلال ثقافته وإعلامه.
  وإذا كان الغرب قد تجاوز مرحلة التآمر إلى طور الإعلان عن اتخاذه الإسلام وعالمه وأمته عدواً أول -بعد أن فرغ من نزاعه الداخلي- في إطار حضارته الواحدة، مع الشمولية الماركسية، فإنه هو الذي يفرض على المسلمين أن ينظروا إليه نظرتهم إلى العدو.
وبعبارة عالم الاجتماع الإنجليزي "إدوارد مورتيمر" يقول: "فلقد شعر الكثيرون في الغرب بالحاجة إلى اكتشاف تهديد يحل محل التهديد السوفيتي وإمبراطورية الشر الشيوعية، وبالنسبة لهذا الغرض، فإن الإسلام جاهز في المتناول!
وهذا هو الذي أعلنته دراسات وأبحاث كثير من مؤسسات الغرب البحثية والاستراتيجية والسياسية.. بل والمؤسسات الموجهة لآلة الحرب والدمار الغربية  مثل حلف الأطلنطي، على لسان أمينة السابق "ويلي كلايس" ومثل المجلس الوزاري الأوروبي، على لسان السابق "جيانى ديميكليس" ومثل الرئيس الأمريكي الأسبق "نيسكون" الذي دعا الغرب في كتابه (الفرصة السائحة) إلى أن يحدد للشعوب الإسلامية الخيار العلماني، الذي يربط المسلمين بالغرب من الناحية السياسية والاقتصادية! معلناً أن انتصار التيار الإسلامي، الذي يسعى إلى استرجاع الحضارة الإسلامية، وتطبيق الشريعة الإسلامية، واتخاذ الإسلام ديناً ودولة، سيؤدي إلى ردود فعل خطيرة في العالم !
فالذين يتخذون الإسلام عدواً أول، هم الذين يفرضون العداوة على أمة الإسلام، وإذا كان علينا أن نتحاشى المجابهات العدائية ما وجدنا إلى ذلك سبيلاً، فإنّ هذه الجهات تصبح قدراً لا مفر منه إذا كُتب علينا القتال دفاعاً عن الذات الحضارية والهوية الإسلامية لأُمتنا. 
*   *   *
        هذا؛ وقد تألّق "محمد عمارة" في تحقيق العديد من النصوص التراثية مثل: كتاب (رسائل العدل والتوحيد ) وكتاب (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال) لابن رشد. وقد اهتمّ بتراث حركة اليقظة والنهضة في مطلع القرن العشرين، فحقّق الأعمال الكاملة لعدد كبير منهم أمثال: "الطهطاوي" و"الأفغاني"، و"الكوكبي"، و"محمد عبده"، و"قاسم أمين"، و"علي مبارك"، وغيرهم.
   لكن؛ من الوقائع الطريفة في حياة الدكتور "عمارة"؛ أنه في النصف الثاني من عام 1983م، كان الأديب "عبد الرحمن الشرقاوي" ينشر مقالاته في جريدة الأهرام، وأخذت آراؤه  تثير الجدل، ما بين ناقد ومعترض ومهاجم. وكان الشيخ (الغزالي) وقتئذ يعمل أستاذاً في قطر، فأدلى بدلوه في هذه المعركة من موقع الناقد للمنهج اليساري في تفسير تاريخ الإسلام. وقد جّه هجومه الغاضب إلى الذين يُسمّون أنفسهم بـ"تيار اليسار الإسلامي" وذكر منهم "محمد عمارة"!
يقول الدكتور عمارة: لقد فوجئت، لأن هذه ليست حقيقة موقفي الفكري، لكنني لم أغضب ... ثم حدث أن سألني أحد أصدقائي: عن مشاعري حيال هجوم الشيخ الغزالي؟
فأجبته صادقاً: أنني على يقين من أنّ "الشيخ" قد تناولني وهو غاضب، لكنني على ذات الدرجة من اليقين بأنّ غضبته إنما كانت لله ولدينه، وانتصاراً للحق الذي يتغياه .. ولذلك فإنّ حبي للشيخ واعتزازي بفكره وجهاده، لم ولن يتأثر بذلك.
ثم حدث أن تطوّع أحد الشباب، وذهب إلى الشيخ الغزالي، وعرض عليه أن يقرأ عدداً من مقالاتي ... دون أن أدري شيئاً! وما هي إلا أيام، حتى تسلّمتُ خطاباً أثار مظروفه الانتباه، فعلى المظروف عبارة: (المرسل: محمد الغزالي –كلية الشريعة- جامعة قطر)!
ولمّا فتحتُ المظروف وقرأتُ خطاب الشيخ الغزالي، كانت المفاجأة التي هزّت كياني من الأعماق!! حيث وجدتُ نفسي أمام وثيقة لا يكتبها سوى واحد من عظماء الرجال .. فهذا الشيخ الجليل الذي يقع مني موقع الأستاذ من التلميذ .. يراجع نفسه، ويحاسبها، وينقد ذاته، ويعلن لي عن تصحيحه لموقفه مني –لا في إطار هذه الرسالة فقط، وإنما علناً وعلى رءوس الأشهاد!
حقاً إنه رجل أوّاب .. وقد بادرتُ أكتب إليه قائلاً: إنّ أُمةً فيها أمثالك لابدّ منتصرة بإذن الله ... فإن الذي تعلمته من رسالة هذا الشيخ الأواب، أجدني مطالباً أمام ضميري، بأن أروي ما حدث ليتعلم منه الآخرون!
  أخيراً؛ رحم اللهُ الشيخ (محمد عمارة) ونفعنا بعلمه .. وأعلى قدره، وجعل له ذكْراً في الآخرين!
 
أضافة تعليق