مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2021/01/24 06:36
"يحيى السماوي" أمير شعراء المعارضة
   مَن قال: إنَّ "يحيى السماوي" أحد شعراء ابن قتيبة، أوْ خرج مِن "المفضليّات"، أو تسلَّلَ مِن طبقات بن سلام؛ فما ظَلَم!
  إنه أديب شجاع، لا يؤمن بالطائفية ولا المذهبيّة، ولا يَعرف التحزُّب ولا العنصرية ... إنه عاشق للعروبة، ومُتيّمٌ بالعراق إلى ما لانهاية!  
  إنه شـاعر فذ، مسكون بهموم وطنه، ومتدلّه به إلى حد الجنون، اصطلى بنيران "طاغية البعث" وتلظّى بسعيره، وقضى في سجون العراق قرابة عشرين عاماً، ثم استطاع الهرب من السجن بأعجوبة أثناء انتفاضة العراقيين إبان حرب تحرير الكويت، أيْ: أثناء أزمة الخليج الثانية سنة 1991؛ وأخذ يتنقّل من بلدٍ إلى بلد هرباً بدينه ونفسه!
   الحقّ يقال: بأنه لا يوجد شاعر أرّقَ "طاغية البعث" وألهبَ ظهره بسياط شِعره، وأطلقَ عليه خيلَ قصائده مثل "السماوي"!
   فها هو "الشاعر" يصبّ جام غضبه على الطغاة الحاكمين بأمرهم، إذْ يقول في قصيدة (آهـٍ على وطنٍ شُلّ الصباح به):

فأرض "دجلة" عندي عن مصائبها
مدائنٌ أصبحتْ للناس مقبرةً
وأيُّ حاكم لؤمٍ بات يحكمنا
.....................................
وا ضيعةَ المجدِ يا "هارون" قدْ ثُكِلَتْ
تناسل السلُ والطاعونُ في دمها
صار العراقُ، عراق الخير مقبرةً
 على المنابر جُهّال بلا لغةٍ
أنا من الشعب فردٌ لا حقوق لهُ


 
  ما لا يُقالُ، فماذا يكتبُ القلمُ؟
وأنهُرٌ ماؤها مما يُراقُ دمُ!
وقدْ تساوى لديهِ الدِينُ والنغمُ
.....................................
بغدادُ بعدكَ، واستشرى بها السقمُ
كأنّها امرأةٌ في رحمها عُقمُ!
للطيبين، وجنّاتٍ لمن هدموا
وفي المساجد مَنْ عاثوا ومَنْ أثموا
ضاعتْ حقوقي لمّا ضاعتْ القيمُ


 
 

وما كان ينبغي لنا أن نسمع عن هذا الشّاعر لوْ لم يهرب من السجن، وقد تساءلتْ –يوماً– إحدى الأديبات: لماذا لم نقرأ لهذا الشّاعر من قبل؟ فأجابها بقصيدة بعنوان (أُختــــــاه) بثَّ فيها مرارة شكواه، وما لاقاهُ من العنت والجور في زنازين الطغاة، إذْ يقول فيها: 



أختاهُ -جُرحي منكِ يعتذرُ ..
قد كان لي حقلٌ وحنجرةٌ ...
أختاهُ: لوْ تدرينَ أيّ فتىً
بستانه: كوخٌ، وموطنه:
وطنٌ تقاسمَ عشبهُ نَفَرٌ
يتفاخرون بعار سطوتهم
عجباً على الجلاّد: قدْ هُزِمتْ


 
   والشّعرُ، والقنديلُ، والوترُ
وبروضتي يتعانقُ الشجرُ..
هذا الذي برغيفهِ غدروا
زنزانةٌ، ورحيقه الضجرُ
مُتعسّفٌ، وفُراته نفرُ!
وأنا بوشْمِ القيْدِ أفتخِرُ!
كفّاه، والمقتولُ منتصِرُ!


 
 
  
(يحيى السماوي) من أعلى أصوات شعراء المعارضة العراقية، وأكثرهم حنيناً إلى بلده! وقد خلع على "العراق" كثيراً من الألقاب والكُنَىَ، مستلهماً تراثها الزاخر بالأمجاد، وتاريخها الحافل بالمآثر، فتارة يدعوها (أخت هارون) فيقول:
   

يا أخت "هارون" .. ما أنصفتِ هارونا
يا أخت "هارون" هلاّ عُدْتِ عاشقةً
 يا أخت هارون قد جفّتْ حناجرنا
دالتْ علينا صروفُ الدهر وانقلبتْ
فأين منا زمان كان يحسبنا
يا أخت "هارون" لمَّا صرتِ آنيةً
دعوتُ يوماً بوأدِ "البعث" في وطني


 
   فإنّ كأسكِ فاض اليوم غِسلينا
عذراء تلبسُ من ديباج ماضينا؟
 من الصراخ وقدْ ذلّتْ صوارينا
صروحنا فإذا راياتنا الدُّونى!
فيه الطغاةُ -على ظُلم- براكينا؟
لقيحِ "عفلق" صار الزادُ طاعونا!
فجلْجلَ الكونُ -كل الكونِ- آمينا!


 
 
وتارةً يدعوها (بنت جعفر) ويَبثُّ إليها همومه وشكواه، وهموم وطنه الذي هرب منه قسراً: فيقول في قصيدته "لقد أفصحتَ يا قلبي":

طرقتكَ "لُبنى" أمْ دعَتْكَ "لميسُ"
 يا "بنت جعفر" كمْ صرختُ وراعني
ما للعراق اليوم يكظم غيظهُ
بغدادُ؟ ما عادت عروس عروبتي
أخشى على "بغداد" عفّتها، وما
طفح الأسى فغرقتِ يا "ابنة جعفر"
عتبي على موج "الفراتِ" ونخلهِ
 آهٍ على زمنٍ تعثّر صُبحهُ
إنّ الجراح النازفات كثيرةٌ
أفصحْ! لقد أفصحتَ يا قلبي فهلْ


 
  فالليلُ زِقٌّ .. والهمـومُ كـــؤوسُ؟
أنّ الذي سمع الصراخ غلوسُ 
والبغيُ فوق الرافديْن جليسُ؟
وأخو الرذائل في العراق عريس
عرفتْ مطاوعة اللئيمِ عروسُ
 وعلى ضفافكِ أعشب التدليسُ
كيف استكان فعاثَ فيه شَروسُ؟
فاسْتَعبدتْ جمعَ الكرامِ تِيوسُ!!
وأقلّها أن العراق حبيسُ
طرقتكَ "لُبنى"؟ أمْ دعتكَ "لميسُ"؟


 
 
وتارة، نراه يتوجه بالخطاب إلى "هارون الرشيد" شاكياً ما آلتْ إليه عاصمة الخلافة، وكيف تبدّلت الأوضاع وانقلبت رأساً على عقب، فيقول:

هذا عراقُكَ يا رشيدُ .. رغيفهُ
تحت الكراسي في العراق جماجمٌ
للجاهلية، في العراق عقيدةٌ


 
  حَسَكٌ، وكوثرهُ دَمٌ ووحولُ
وعلى الكراسي في العراق مغولُ
و"بني قُريظةَ" محفِلٌ وقبيلُ


 
 
إنه شاعر مسكون بحب وطنه إلى حد الجنون، مع أن الوطن نسيه ونسيَ لونه وملامحه، بسبب الهجرة والاغتراب. إنه ينام ويصحو على همومه وجراحه الغائرة التي نكأها المجرمون، فاستمع إليه؛ وهو يتضجر ألماً في قصيدته (رفقاً بضعفي): 

لوْ كنتُ أعلمُ ما ختامُ حسابي
عندي من القلق المرير قوافلٌ
قبري معي يمشي .. ويمشي بيننا
كل الدروب مشيتها، وفرشتها
ملأتْ حروفُ الحزنِ كل صحيفتي
لوْ يُطْعَنُ المعشوقُ -كنتُ غرستُ في
مَنْ ذا يعلّمني الجحود لعلّني
مَنْ ذا يعلّمني الجحود لعلّني
وطني يُلمْلِمُ حزنه وهمومه
.......................... ...........

أدري بأنكَ يا عراقُ خذلتني
ودفنتني ظِلاّ لغصن طفولةٍ
عاتبتُ قلبي يا عراقُ .. لأنني


 
  لرجوتُ ربّي أنْ يحين ذهابي!
ضاقتْ هوادجها ببعض عذابي!
طفلان قد رضعا مُضاغ الّصابِ
بلظى ضياعي أوْ رماد شبابي!
وتزيّنتْ بالفاجعاتِ شِعابي
صدر العراق خناجري وجرابي!
أنسى هواه ولعنتي ومصابي؟
سأتوبُ من عشقي فأُوصِدُ بابي؟
ويزورني في الطّيْفِ كالمرتابِ
.......................................

ونسيتَ لون ملامحي وثيابي
خلف الفراتِ وغابتي وهضابي
أدري بقلبكَ لا يطيقُ عتابي


 
 
     هكذا بلغ حُب "السماوي" لوطنه، إنه حُبٌ من نوع فريد، مَلَكَ عليه قلبه وعقله وسمعه وبصره وجميع حواسه، وقد كشف لنا جانباً من هذا الحب الفريد في قصيدته (أنا آخر الأحفاد في مدن الهوى) التي يقول فيها:

أنا آخرُ الأحفاد في مدن الهوى
الحبُّ ميراثي .. فأُمي "عبلةٌ"
و"ابن الملوّح" كان صنو صبابتي
أحزانُ "عُذرةَ" في الهيام ورثتها
أنا آخرُ العشّاق يا كُتب الهوى


 
  لكنّ حظّي في هواي قليلُ
وأبي "كُثيّرُ" والشقيق "جميل"
وجميعنا في عشقهِ مخذولُ
منفاي بيتي، والحبيبُ عذولُ
وأنا -لقنديل الهُيام- فتيلُ!


 
 
أمَّا العجب –كل العجب– فلا يكمنْ في شاعرية "السماوي" فحسب، بلْ في حسّه المرهف، وحدثه الشفّاف، ونبوءته الصادقة، إذْ تنبأ بسقوط نظام البعث بأصنامه وطواغيته، في الوقت الذي كان فيه هذا النظام مدججاً بالسلاح حتى أسنانه، وكانت تحرسه شياطين الإنس والجن من مشارق الأرض إلى مغاربها .. فلنستمع إلى هذه النبوءة التي سجلها -الشاعر- منذ قرابة عقدين من الزمان، في قصيدته "قالت وجرحك جرحي" التي يقول في آخرها:
 

عندي من الحُزْنِ غاباتٌ وأوديةٌ
عشرون دورة شمسٍ ما احتفى وطني
طغى الصفيقُ، ورهطٌ حولهُ خدمُ
مُخَلّعٌ يتباهى في نذالتهِ
......................................
تِهْ يا خبيثُ .. فللأيام ِدورتها


 
  عميقةٌ كظلام الليل تنتظمُ!
يوماً، ولا اقتربتْ من أرضه النّعمُ!
لهُ على أهلنا من غَيّهِ نُظُمُ
فليس يقربهُ -من لؤمهِ- اللؤمُ!
 ....................................
وسوف يُنْتَعلُ الطاغوتُ والصنَمُ!


 
 
لعلَّ قصيدته (الحاخام يخطب في بغداد) واحدة من قصائده الكثيرة، التي أطلق فيها صرخاته المدوية وقذائفه الشعرية في وجه "طاغية البعث" وقد كتب الشاعر هذه القصيدة سنة 1994م -بعد أن ألقى "الطاغية" خطاباً قال فيه: "إنني مازلتُ أمتلك الشجاعة الكافية لتكرار التجربة .. فهنيئاً للعراقيين وللأمة العربية بالانتصارات العظيمة وبالمجد الذي حققناه". أيْ بعد تدمير قوة العراق العسكرية على أيدي قوات التحالف الصليبي! وقد تنبأ –الشاعر- بقرب زوال النظام الدموي البعثي – إذْ يقول:

صبراً سينطفئ الضرامُ
فيمَ العجالةُ يا جياعُ الـ
جيلانِ مرّا والعرا
شعبً لهُ تِبْنُ الحقولِ
يا مقلةَ اسرائيلَ – نامي ...
حاخامُكِ العربيُّ في
 
  ويعمُّ في الأرض السلامُ
ـرافديْن ويا حُطامُ ؟
قيون زادُهُمُ الكلامُ
و"أسرتان" لها الطعامُ
فابنُ عفلقَ لا ينامُ !
بغدادَ حارسُكِ الهُمامُ !


 
 

مقالات اخرى
أضافة تعليق