محمَّــــد عبد الشّافي القُوصي؛
"ســورةِ القــدر" شغلتْ العلماءَ والفقهاء وأرباب البيان في البحث عن كنوزها البلاغية، ومقاصدها الشرعية، وإشاراتها الخفيَّة التي تتأبَّى على مدارك البشر!
وقد انشغل بها أصحابُ الرسولِ طويلاً، كما انشغل العلماءُ والدعاةُ على مر العصور بالشرح والتفسير، والوعظ والترغيب، والتنبيه والتذكير، والتحدِّي بما جادت به هذه السورة المُحكَمة.
إنها السورةُ المُكوَّنة من خمس آيات، وثلاثين كلمة، و( 114) حرفا، كأنها عقود الجُمان.
فقد حملتْ السورةُ العديد من أوجه التحدِّي، وتضمنتْ شتى ألوان الإعجاز، اللغوي، والصوتي، والبياني، والرقمي، والغيْبي، والعلمي، والتقابلي، والنفسي ...إلخ.
هذا؛ ويتجلَّى "الإعجاز البياني" في سورة القدر: أنَّ آيات السورة الخمس بتأليفها العجيب، ونظْمها البديع؛ ذات أسلوب يَجرِي على نسقٍ واحد من السموِّ في جمال اللفظ، وعمق المعنى، ودقَّة الصياغة، وروعة التعبير، وإحاطته بكل ما يخص هذه الليلة: مِن شرفها، وأحوالها، وما نزل فيها من هدايات الوحي، وتنزُّل الملائكة، وما يحدث فيها من مقادير العباد.
- من خصائص أسلوب السورة: أن معانيها مصاغة بحيث يصلح أن يُخاطَب بها الناسُ كلهم على اختلاف مداركهم وثقافتهم، وعلى تباعد أزمنتهم وبلدانهم، ومع تطوُّر علومهم واكتشافاتهم. فالآية تعطي كل إنسان معناها بقدر ما يفهم، وأنَّ كل واحد يستفيد منها معنًى وراء الذي انتهى عنده علمه!
- من خصائص أسلوب السورة؛ وقوع ظاهرة "التكرار" الذي ينطوي على معانٍ بلاغية كالتفخيم، والتعظيم، والترغيب، والتجسيم والتصوير، كقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْر. لَيْلَةِ الْقَدْرِ خير...}.
- من خصائص أسلوب السورة: صياغتها المُحكمة، فالجملة فيها مؤلَّفة من كلمات وحروف وأصوات يستريح لتألُّفها السمع والصوت والمنطق، ويتكوَّن من تضامِّها نسق جميل ينطوي على إيقاع رائع ... فألفاظها البديعة، وموافقة بعضها بعضًا في اللطف والبراعة، ممَّا يتعذَّر على البشر ويمتنع!
كما نجد الجملة القرآنيَّة فيها تدلُّ بأقصر عبارة على أوسع معنى متكامل، قد يعجز الإنسان التعبير عنه إلاَّ بأسطُر وجُمل كثيرة، دون أن تجد فيه اختصاراً مُخِلاًّ، أوْ ضعفًا في الأدلَّة.
كذلك؛ إخراج الجملة القرآنية للمعنى المجرَّد في صورة حسيَّة، ببثِّ الرُّوح والحركة فيها، كقوله تعالى: (سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ). فقد صوَّر هذا المعنى حال الليلة في مظهر من الحركة المحسوسة الدائرة بين عينيك؛ حيث البهجة والسرور، والأمن والسلام يعم أرجاء البسيطة!
تجلّيات الإعجــــاز اللُّغـــــوي
يتجلَّى الإِعجاز اللغوي في سورة القدر من عدة وجوه:
الأول: الكلمة في السورة مسوقة في موقعها المناسب؛ لتؤدي المعنى المراد، وتتلاءم من الناحية اللفظية والمعنوية مع ما قبلها وما بعدها، كقوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ. سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}. فلوْ استبدلت كلمة بكلمةٍ مرادفة لها، ما بلغتْ في التعبير مبلغ الكلمة التي نزل بها القرآن!
الثاني: أن الكلمة مسوقة في موقعها المناسب بحيث تعطي بمدلولها ما تلقيه من ظلال المعنى المراد بكماله وتمامه، ولوْ استبدلت بغيرها ما استفيد المعنى المراد. وقد تجد كلمة في السورة تُعبِّر عن معنى يعجز البشر عن التعبير عنه إلا بِعِدَّةِ كلمات، مثل كلمة (وَمَا أَدرَاكَ).
أيضاً؛ من الخصائص المتعلِّقة بجمال المفرَدَة القرآنيَّة: جمال وقعها في السمع، واتِّساقها الكامل مع المعنى، واتِّساع دلالتها لِما لا تتَّسع له عادةً دلالات الكلمات الأخرى من المعاني.
يقول تعالى في فضل ليلة القدر وشرفها: {خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} ففي هذه الكلمات المعدودة؛ عبَّر عن معانٍ كثيرة، وفضائل جليلة، حتى حار المفسِّرون في الوصول إلى كُنْه "الألف شهر"!
تجلّيات الإعجــاز الصوتـــي:
من شواهد الإعجاز الصوتي في سورة القدر: ديناميكية الأداء الصوتي، وتنقُّله بين مقاطع مختلفة من الأداء؛ مما يثير الشجن والأمل والفرح لدى السامع، ولوْ لم يكن يعرف العربية.
ومن شواهد الإعجاز الصوتي: "الفاصلة القرآنية" التي تأتي أواخر الآيات، وهي التي تماثلت حروف رويّتها في الحرف الأخير، مثل:(الْقَدْرِ، شَهْر، أَمْرٍ، الْفَجْر).
أيضاً؛ ما نجده في حروف المد بأنواعه، كالتي تبدو في(إِنَّا)، (وَمَا أَدْرَاكَ)، (الْمَلَائِكَة). فكلها ذات موسيقى صوتية عجيبة، تخلب اللُّب، وتجذب الأسماع، وتثير الأفهام، وتُدهش الأذهان؛ فتحرِّضها على مزيد من الاستماع، ومزيد من الإقبال نحو الخطاب الربَّاني الآسِر.
تجلّيات الإعجــاز العلمــي:
يتجلَّى الإعجاز العلمي في سورة القدر في عدة مواضع، منها: قوله تعالى (سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) أيْ: هيَ أمنٌ وسلام مِن كل شر –كما قال المفسِّرون- ومصداقاً لذلك؛ فقد ورد في الحديث النبويّ الشريف: (ليلة القدر ليلة بلجاء، لا حر ولا برد، لا تضرب فيها الأرض بنجم، صبيحتها تخرج الشمس بلا شعاع، وكأنها طِست، كأنها ضوء القمر). وفي صحيح مسلم عن أُبيّ بن كعب: (أنَّ النبيe أخبر أماراتها؛ أنها تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها). وفي حديث ابن عباس عن النبيe قال: (ليلة القدر ليلة طلقة لا حارة ولا باردة، تصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة). وقد جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والبيهقي وغيرهما عن عبادة بن الصامت: "مِن أماراتها؛ أنها ليلة بلجة صافية ساكنة، لا حارة ولا باردة، كأنَّ فيها قمراً ساطعا، لا يُرمى فيها بنجم حتى الصباح".
كل هذه الأمارات التي وردتْ في الأحاديث النبوية؛ شارحة لكلمة (سلام) وكاشفة لدلالاتها؛ في حاجة إلى الوقوف أمامها طويلاً، وسبْر أغوارها، واستنباط مراميها.
من جانبه؛ أكدَّ البروفيسور/ عبد الباسط السيد -رئيس المجمع العلمي لهيئة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنَّة- أنه قد ثبت علمياً لدى خبراء "وكالة ناسا": أن الأرض ينزل عليها في اليوم الواحد من 10 آلاف- 20 ألف شهاب، من العشاء إلى الفجر، غير أن "ليلة القدر" لا ينزل فيها أيّ شعاع. وقال: بأنَّ العالِم الأميركي "كارنار" قال: نعرف في وكالة ناسا ليلة القدر، منذ 10 سنوات، لكنهم أخفوا الكلام حتى لا تثبت الإعجاز في القرآن الكريم!!
ومن تجلّيات الإعجاز العلمي في قوله: (سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ): أيْ: لا يستطيع الشيطانُ أن يتصرف فيها بسوء، ولا أن يصيب أحداً بأذى؛ لأنها ليلة سالمة من الآفات، وسالمة من البلايا والرزايا –كما يقول السادة العلماء- أليس هذا يحتاج إلى بحث علمي عميق ومُفصَّل، لتجلية هذه الإشارات؟!
وقوله تعالى: (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) يعني استغرقَ الليل كله، لمْ يبقَ فيه لحظة واحدة. وقال العلماء: ليلة القدرِ تنتهي بطلوعِ الفجرِ لانتهاءِ عملِ الليلِ به.
ولايزال هناك جدل واسع حول كلمة (مَطْلَعِ) فكيف يمكن تحديد "المطالع" على وجه التحديد؟
لا شكَّ أن كل هذه المسائل، تحتاج إلى اجتهاد علمي واسع؛ لكشف أسرارها الدفينة.
تجلّيات الإعجــاز النفســي:
إنَّ طريقة التصوير التي يتبعها القرآن في التعبير، لها تأثير بالغ في وصول المعاني إلى النفس بشتى الوسائل، لأنَّ المعاني إذا عرضت في صورتها التجريدية خاطبت الذهن فقط، أمَّا إذا عُرِضت بالأسلوب التصويري فإنها تخاطب الذهن والحس والوجدان، وتصل إلى النفس من منافذ شتى: من الحواس بالتخييل، ومن الحس عن طريق الحواس، ومن الوجدان المنفعل بالأصداء والأضواء، ويكون الذهن مَنْفذاً واحداً من منافذها الكثيرة إلى النفس، لا مَنْفذها المفرد الوحيد.
نعم؛ إنَّ "القرآن" يتعامل مع النفس الإنسانية بديناميكية لا نظير لها، ونعني بها حركة القرآن في الإنسان بين العقل والعاطفة، وما يثيره من كوامن الفكر، ودفعها في دروب الخير والفلاح، ولم يجتمع هذا التأثير في النفس البشرية وتوجيهها وتهذيبها والسمو بها في أقل وقت ممكن كمثل ما اجتمع للقرآن الكريم.
هذا؛ ويتجلى الإعجاز النفسي في سورة القدر: من خلال إعطاء الحركة لِما مِن شأنه السكون، وخلع الحياة على المواد الجامدة والظواهر الطبيعية والانفعالات الوجدانية؛ فتصبح كأنها أشخاص بارزة لها عواطفها وخلجاتها النفسية. والحركة فيها تتجلى في مستويات كثيرة، أهمها:
- ديناميكية البناء اللغوي، ونقصد بها استخدام أساليب تثير الحركة والانتباه في ذهن الإنسان، وتَكرار لبعض الجمل، مثل: "ليلة القدر" لشرف المُسمَّى، وزيادة الإيضاح، كما حفلتْ السورة باستغلال طاقات اللغة، ليبنى من خلالها الإعجاز، وتكييف اللغة وفقاً لأغراض السورة.
- ديناميكية الأداء الصوتي، وهي تنقُّلها بين مقاطع مختلفة وأساليب متعددة من الأداء الصوتي؛ مما يثير البهجة والأمل والفرح لدى السامع، ولوْ لم يكن يعرف العربية.
- ديناميكية البعد الوجداني، ونعني بها حركة الآيات في كيان الإنسان؛ أيْ: حركتها بين العقل والعاطفة، وما تثيره من كوامن الفكر والخيال والإبداع.
- ديناميكية البعد المكاني والحركة الكونية، ونعني بها تنقُّل السورة في الحديث عن أماكن تنزُّل القرآن المتباعدة بين السماء والأرض؛ مِمَّا يُحرك ذهن الإنسان نحو شتى بقاع المعمورة، وأجرام الكون وعالَم الغيب والشهادة، فكأنه موجود في كل مكان.
تجلّيات الإعجــاز الغيبــي:
يتجلّى "الإعجاز الغيبي" في سورة "القدر" في مواضع عديدة؛ إذْ يطرح أموراً غيبية، تصول فيها عقول البشر وتجول، منها: قوله تعالى (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ).
في هذه الآية تباينت الأقوال؛ فقال بعضهم: المراد بإنزاله فيها؛ إنزاله كله جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، استناداً لقول ابن عباس: أُنزِل القرآنُ في ليلة القدر جملةً واحدة إلى السماء الدنيا، وكان بمواقع النجوم. وكان الله تعالى ينزله على رسولهe بعضه في أثر بعض.
وقال آخرون: أُنزِل القرآنُ جملة واحدة حتى وضع في بيت العزة في السماء، ونزل به جبريل عليه السلام على مُحمَّدe بجواب كلام العباد وأعمالهم. وذهب غيرهم إلى أنه أنزل في ليلة القدر جملة واحدة، ثمَّ أُنزِلَ على مواقع النجوم رسلاً في الشهور والأيام. وكون النزول بعد في ثلاث وعشرين. وقال ابن حجر في شرح البخاري: إنه أُنزِلَ جملةً واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا. فلا يبعد القول بأنَّ السفرة هناك نجَّموه لجبريل في الليالي المذكورة.
أيضاً، يتجلى الإعجاز الغيبي في تسمية (ليلة القدر) ذاتها:
فمعنَى "ليلةِ القَدْرِ" عند جمهور العلماء؛ أيْ: ليلةُ تَقْديرِ الأُمورِ وقَضائِها، والقَدْرُ بمعنى التَّقْدِير.
فما هي الأمور التي تُقدَّر في تلك الليلة؟ وما هي الأشياء التي يقع عليها التقدير دون غيرها؟ وهل هي خاصة بالأمور الخيرية فقط؟ أمْ أنها تشمل الخير والشر معاً؟ وهل تخص أهل الأرض أمْ أهل السماء؟ وهل تسري على الأحياء والأموات جميعاً؟
تعالوا نستمع إلى ما قاله الإمام القرطبي في تفسيره؛ عن ابن عباس: يُكتَب من "أُم الكتاب" في ليلة القدر ما يكون في السنة من موت وحياة ورزق ومطر حتى الحج، يقال: يَحجّ فلان ويحجّ فلان. ثم يُسلَّم ذلك إلى مدبِّرات الأمور، وهم أربعة من الملائكة مدبرات الأمور، جبريل وإسرافيل وميكائيل وملك الموت. فليلة القدر؛ يقدِّر اللهُ -سبحانه- فيها مقادير الخلائق مما يكون في العام؛ لأنَّ التقادير أنواع:
أ- التقدير الأزلي: منها تقدير قدَّرَه الله -سبحانه- قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة؛ كما ثبت عن النبيe.
ب- التقدير العُمري: ثم قدَّر الله -جلَّ وعلا- على العبد التقدير العمري، وذلك أنه إذا كان في بطن أمه، وتمَّ له مائة وعشرون يومًا، بعث الله -جلَّ وعلا- الملك، فنفخ فيه الروح، ثم كتب رزقه وعمله وأجله، وشقيًّا أوْ سعيدًا، وهذا التقدير العمري لكل إنسان.
ج- التقدير الحولي: ثم بعد ذلك يأتي التقدير الحولي، وهو الذي ينزله الله -سبحانه- في ليلة القدر؛ قال تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدخان: 1-5].
د- التقدير اليومي: ثم بعد ذلك يأتي التقدير اليومي، وهو ما يحدثه الله -جلَّ وعلا- في اليوم؛ كما قال سبحانه: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29].
وكل هذه الآراء، مجرد اجتهادات علماء ومفسِّرين، وليس كلاماً مقطوعاً به.
أيضاً، يتجلى الإعجاز الغيبي في قوله تعالى: (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا):
فقد تباينت آراء المفسِّرين حول المقصود بالروح؟ وكيف يكون نزول الملائكة؟ وأين يستقرون؟
فـــ(الروح) عند الجمهور هو "جبريل"، وقد خُصَّ بالذِّكر لزيادة شرفه، مع أنه النازل بالذِّكر.
وقال كعب، ومقاتل: المقصود بـــ"الروح" طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا في تلك الليلة. وقيل: حفَظَة على الملائكة كالملائكة الحفَظَة علينا. وقيل: أرواح المؤمنين ينزلون لزيارة أهليهم. وقيل: الرحمة كما قرئ: «لا تيأسوا من روح الله»، وقيل: ينزلون إليها للتسليم على المؤمنين. وقيل: لأن الله تعالى جعل فضيلة هذه الليلة في الاشتغال بطاعته في الأرض، فهم ينزلون إليها لتصير طاعاتهم أكثر ثواباً. وقال عصام الدين: يحتمل أن يكون تنزلهم لإدراكها؛ إذْ ليس في السماء ليل. وقيل: المراد تنزُّلهم إلى السماء الدنيا، تنزُّلهم عن مراتبهم العليّة من الاشتغال بالله تعالى والاستغراق بمطالعة جلاله -عزَّ وجل- ليسلِّموا على المؤمنين. وقيل: إن المراد بالملائكة عليهم السلام جميعهم، وأنهم ينزلون فوجاً فوجا، فمِن نازل وصاعد. وفي التعبير بـ«تنزَّل» المفيد للتدريج، وقيل: إنهم لكونهم أنواراً لا تزاحم بينهم. ومن العلماء مَن خصَّ الملائكة ببعض فِرقِهم، وهم سكان سدرة المنتهى، أو بعض منهم.
ومن تجليات الإعجاز الغيبي في سورة القدر؛ ما يتعلق بموعد الليلة ذاتها:
فاختلاف "المطالع" –كما يقول العلماء: يلزم القول بتعددها في رمضان، وكونها "وِتراً" من لياليه عند قوم، و"شفعاً" عند آخَرين، فلا يصح إطلاق القول بأحدهما، وكذا لا يصح إطلاق القول بأنها ليلة كذا كليلة السابع والعشرين أوْ الحادي والعشرين مثلاً من الشهر على ذلك أيضا. بلْ لا يصح إطلاق القول بأنَّ وقت التقدير وتنزل الملائكة ليلة؛ فالليلة عند قوم نهار في الجهة المسامتة لأقدامهم وهي قد تكون مسكونة ولوْ بواسطة سفينة تمر فيها، وربما يكون زمان الليل عند قوم بعضه ليلاً وبعضه نهاراً عند آخرين كأهل بعض العروض البعيدة عن خط الاستواء، بل قد تنقضي أشهر بليل ونهار على قوم ولم ينقضِ يوم واحد في بعض العروض، بلْ لا يصح أيضاً إطلاق القول بأنها الليلة الأولى أوْ الأخيرة من رمضان؛ إذْ الشهر دخولاً وخروجاً مختلف بالنسبة إلى سكان البسيطة. وأجاب بعض بالتزام أن ما أطلق من القول فيها ليس على إطلاقه، فيكون القول بوتريتها بالنسبة إلى قوم وبشفعيتها بالنسبة إلى آخرين، وهكذا القول بأنها ليلة كذا من الشهر وبالتزام أنها ليلة بالنسبة إلى قوم نهار بالنسبة إلى آخَرين.
تجلّيات الإعجـــاز الرقمــي:
"الإعجاز الرقمي" أحد ألوان الإعجاز القرآني، وكان أول من قال به: ابن عباس؛ حين ذَكَر فضائل رقم (7) على وجه الخصوص. ويتجلَّى "الإعجاز الرقمي" في مواضع كثيرة في الكتاب العزيز، ومن شواهده في سورة "القــدر": أنَّ عدد كلماتها ثلاثون 30 كلمة، وقد جاءت كلمة (هِـــيَ) العائدة على ليلة القدر رقمها سبع وعشرون! وهذا ما قال به ابنُ عباس.
ولعلَّ هذا الذي جعل سيدنا "أُبيّ بن كعب" يُقسِم قائلاً: (والله إني لأعلم أيّ ليلةٍ هي ليلة القدر اللتي أمرنا الرسول بقيامها؛ هي ليلة سبع وعشرون). أيضاً: تتكون جملة (ليلــة القـدر) من 9 أحرف، وقد تكررت الجملة 3 مرات في السورة، فحاصل ضربها( 3 ×9 = 27 ) حرفاً. وهذا ما قال به الإمام/ القرطبي.
نعــم؛ لوْ لم تكن "ليلة القدر" هي (ليلة 27) ما كان لسيدنا رسول اللهe أنْ يقول لأصحابه الذين الْتمسوها في تلك الليلة: (أرى رؤياكم في العشر الأواخر فاطلبوها في الوتر منها). وآكد الأوتار ليلة سبع وعشرين. وقد ذهب جمهور العلماء إلى أنها الليلة السابعة من تلك الأوتار.
وما كان لسيدنا "أُبيّ بن كعب" أنْ يُقسِم على ذلك! ففي صحيح مسلم عن أُبيّ بن كعب: (أنَّ النبيe أخبر أماراتها أنها تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها).
وأخرج البخاري عن ابن عمر: سأل عمر أصحابَ النبيe عن ليلة القدر؟ فقال ابن عباس: إن ربِّي يحب السبع {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني} [ الحجر: 87]. وأخرج البيهقي عن ابن عباس «أنَّ رجلاً أتى النبيe فقال: يا نبيَّ الله، إني شيخ كبير يشقُّ عليّ القيام، فمرني بليلة لعلَّ الله أن يوفقني فيها لليلة القدر، قال: عليك بالسابعة». وكان عمر بن الخطاب [المُحدِّث المُلهَم] وحذيفة بن اليمان [أمين السر] لا يَشكُّون في أنها ليلة سبع وعشرين. وقال ابن رجب: ومما استدلَّ به مَن رجَّح أنها ليلة سبع وعشرين؛ الآيات والعلامات التي رؤيت فيها قديماً وحديثاً. فهو وقت ضعف البدن، وأوان الاستعداد للنفحات الربانية، والتجليات القدسية.
وأخرج البيهقي عن ابن عباس قال: دعا عمر أصحابَ النبيe فسألهم عن ليلة القدر؟ فاجتمعوا أنها في العشر الأواخر، فقلتُ لعمر: إني لأعلمُ وإني لأظنُّ أيّ ليلة هي، قال: وأيّ ليلة هي؟ قال: سابعة تبقى من العشر الأواخر، قال عمر: ومِن أين علمتَ ذلك؟ قلتُ: خلق الله سبع سماوات وسبع أرضين وسبع أيام، وإنَّ الدهر يدور في سبع، وخُلِقَ الإِنسان من سبع، ويأكل من سبع، ويسجد على سبعة أعضاء، والطواف بالبيت سبع، والجمار سبع ... لأشياء ذكرها.
فقال عمر لأصحابه: أعجزتم أن تقولوا كما قال هذا الغلام الذي لم يجتمع شؤون رأسه، والله إني لأرى القول كما قلت.
أخيـــراً؛ أليس في أسرار هذه السورة وعجائبها؛ دليلاً على أنَّ هذا كلام الله وبيانه؟ أليس في نزول هذه السورة على لسان (أُميّ) أعظم معجزة وأقوى حُجّة وأدلّ برهان على أنه ليس مِن صنع البشر، وإنما هو النور المنبعِث عن شمس العِلم الإلهي، والحُكم الصادر عن المقام الرباني؟!