بسم الله الرحمن الرحيم
فجعت اليمن - بأعظم فجيعة في حاضرها - بوفاة فقيهها ومفتيها، وكبير علمائها ، ومفخرة فقهائها ، وزينة صالحيها ، وقرة عينها ، الحبر البحر الإمام ، الحجة شيخ الإسلام، العالم النحرير ، المشهور بالتأصيل والتحرير ، الجهبذ المجتهد ، المحقق المجدد ، المحدث المسند ، العالم المفرد ، إمام أهل السنة سماحة الوالد العلامة القاضي محمد بن إسماعيل العمراني رحمه الله تعالى .
رحل بعد عمر جاوز المائة سنة هجرية ، طال عمره وبارك الله له فيه ، وحسُن فيه عمله ،، وبلغت الأفاق بالعلم شهرته ، وذاع في الناس صيته ، وسار بأحاديثه الركبان ، وفاح عطره في كل مكان ، ووفد إليه طلاب العلم من كل البلدان والأوطان ، والذي يعد من القلة الباقية من كبار العلماء المجتهدين، والمراجع المجددين ، على مستوى الأمة الإسلامية في هذا العصر ,نعم -ويالوجع القلب - لقد رحل نجم سهيل اليماني ، والعالم الراسخ الرباني ، وارث مدرسة الإمام الشوكاني ، ومجدد منهج ابن الوزير والمقبلي و الصنعاني ، المتحرر من التقليد والجمود ، المستقل من كل أشكال العصبيات والحدود ، العالم الموسوعي العالمي .
ويصدق عليه حقا قول الإمام الشافعي في الإمام أبي حنيفة رحمهما الله :
لقد زان البلاد ومن عليها ....إمام المسلمين أبو حنيفة
بأحكام وآثار وفقه ....كآيات الزبور على الصحيفة
فما بالمشرقين له نظير ....ولا بالمغربين ولا بكوفة
فرحمة ربنا أبــدا عليه....مدى الأيــام ما قرئـت صحيفة
ولذلك لا غرابة إذا حزنت على فراقه قلوب أهل اليمن جميعا ، وبكاه الكبار والصغار ، والرجال والنساء ، والقريب والبعيد، وتخرج صنعاء عن بكرة أبيها تشيعه في جنازة مهيبة يندر مثلها ، وإنا لفراقك ياشيخنا وحبيب قلوبنا لمحزونون ولا نقول إلا مايرضي ربنا تعالى ، ونسأله تعالى أن يأجرنا في مصيبتنا ، وأن يخلف على اليمن خيرا .
عجبا من نعشه تحملهُ....فتيةٌ وهو على الكون اشتملْ
جمع العالم في حيزومهِ....أترى العالم في القبر نزلْ
ألا وإن من منة الله علي أن أكرمني بالدراسة على يد فقيدنا وشيخنا العمراني في جامعة الإيمان في صنعاء ، وياله من شرف وفخر أعتز به ، وأشكر الله كثيرا على تلك المنحة .
ومن باب الوفاء لشيخي هذه مشاركة متواضعة وهو جهد المقل ، مقارنةً بما كتب وسيكتب عنه رحمه الله .
وسوف يكون حديثي مركزا على منقبة واحدة من مناقب الشيخ وهي مهمة وفريدة ، وميزة رائعة من ميزاته ، وأدبًا راقيا من آداب العلماء ، وهديا حسنا من هدي الفقهاء ، كان - والله - تاثيرها علي كبيرا ، وكانت من أسباب إعجابي الشديد بشخصيته العظيمة ، وتستحق وبكل جدارة أن نفرد الحديث عنها وننشر أريجها ، استلهاما لدروسها وعبرها ، واتخاذ الشيخ قدوة فيها ، ألا وهي منقبة الإنصاف .
وقد روي عن أبي حنيفة أنه قال : الحكايات عن العلماء ومحاسنهم أحب إلى من كثير من الفقه لأنها آداب القوم وأخلاقهم وشاهده من كتاب الله قوله تعالى : (( لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ).
إني لتطربني الخلال كريمة ....طرب الغريب بأوبة وتلاقِ
ويهزني ذكر المروءة والندى ....بين الشمائل هزة المشتاقِ
فإذا رزقت خليقة محمودة ....فقد اصطفاك مقسم الأرزاقِ
_منقبة الإنصاف
إشتهرت العبارة الذهبية "الإنصاف عزيز "، فهي صفة غالية نادرة ، أغلى من الذهب الإبريز ، وأندر من الكبريت الأحمر كما يقال ، وكما قيل في الحكم القديمة :"الإنصاف أحسن الأوصاف " .
والمقصود بهذه الصفة هنا هو : الإقتصار على الإنصاف العلمي مع من يقع الاختلاف معهم من العلماء ، والعدل مع المخالف وعدم بخسه وغمط فضله ومكانته ، وما أدراك ما هذه الصفة ؟! ومامدى قيمتها ؟!
تلك الخصلة العزيزة التي اشتكى من غيابها وندرتها أهل الزمن الأول ، والعصر الأفضل ، فكيف بمن بعدهم ؟! وكيف بنا نحن في هذا العصر المتأخر ؟! .
ومن نصوص تلك الشكوى الأليمة ماذكره الإمام ابن عبدالبر رحمه الله في جامع بيان العلم وفضله أن ابن وهب سمع الإمام مالك رحمهما الله يقول : «ما في زماننا شيئ أَقَلُّ مِنَ الْإِنْصَافِ»
وهذا ابن القيِّم رحمه الله يقول في كتابه إعلام الموقعين معظما هذه الصفة : "والله تعالى يحبُّ الإنصاف، بل هو أفضل حِلْيَة تحلَّى بها الرجل، خصوصًا مَن نصَّب نفسه حَكَمًا بين الأقوال والمذاهب، وقد قال الله تعالى لرسوله: ﴿ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ﴾ [الشورى: 15]
لا تمش في الناس إلا رحمة لهم ...ولا تعاملهم إلا بإنصافِ
واقطع قوى كل حقد أنت مضمره ....إن زل ذو زلة أو إن هفا هافِ
_صور الإنصاف من سيرة العمراني :
أشرت آنفا أني لاحظت وغيري ممن تتلمذ على يد الشيخ ولقيه أو استمع له ، أنه فريد في التحلي بميزة الإنصاف للموافق والمخالف ، وإن شأنه في ذلك لعجاب ، ومثير للدهشة والاستغراب ، يأسر بها قلوب الجميع ، وكأنه وضع نصب عينيه : فضيلة " أنزلوا الناس منازلهم " فتحقق بها ، "ورذيلة الكبر :بطر الحق وغمط الناس " فخافها وجاهد نفسه في البعد عنها ، فكان لديه إجلال عظيم لأهل العلم ، رغم أنه قد يختلف معهم في بعض الأصول والفروع .
وعلى عجل وحسب علمي بالشيخ ، وعلمي به قليل متواضع ، أذكر ثلاث صور لهذه المنقبة الفريدة من مناقب شيخنا :
1_الصورة الأولى : ذكره أقوال العلماء والمذاهب رغم اختلافه معهم وعلى سبيل المثال الزيدية و علماء السلفية المعاصرة ، وهذه عادته في دروس الفقه حيث لديه حافظة عجيبة في سرد أقوال المتقدمين والمتأخرين ، ومن تحصيل الحاصل أن أشير إلى ذكره لأقوال المذهب الزيدي ، وليس ذلك غريبا عليه فهو ابن البيئة الزيدية ، المتضلع في مذهبهم ، وهو تلميذ لكثير من علمائهم ، على أنه يختلف معهم في الأصول ، وينتقدهم في منهجية التعصب والتقليد ، وهذا من المشهور الذي لايحتاج إلى بيان .
لكن الذي قد يكون غريبا عند البعض خاصة المتعصبين المقلدين أن الشيخ كان يذكر أقوال العلماء المحسوبين على الجانب الآخر ، وهم رموز السلفية المعاصرة ، أو مايسمى "بالوهابية " عند بعضهم ، ولذلك كان بعض المتعصبين ينكرون على الشيخ ذلك ، بل كانوا يتهمونه بأنه " وهابي " كما سمعنا منه في بعض الدروس ، وشاهد بعض طلابه والمقربين منه بعضا من مواقف المتعصبين التي تأذى منها .
فمثلا : كثيرا ماسمعناه يذكر أقوال العلامتين ابن باز وابن عثيمين وغيرهما ، وقد سئل مرة عن فتوى للشيخين ابن باز والعثيمين ما قولك فيهم وفي رأيهم فقال :
أولئك آبائي فجئني بمثلهم...إذا جمعتنا ياجرير المجامع
وقد ذكر هو نفسه لقاءه مع الشيخ ابن باز في الحج وذكر بعض طلابه أنه كان له صداقة خاصة معه وملاطفة ومداعبة بينهما ، وشيئ من الاختلاف أثناء بعض النقاشات العلمية ، مع تقدير وإجلال من الطرفين لبعضهما رحمهما الله وجمعنا بهما في جنات النعيم .
- وأيضا من المعروف عنه ذكر أقوال الإمام الألباني رحمه الله وحفظه لكثير من أحكامه على الأحاديث من حيث التصحيح والتضعيف ، وسوف أذكر له موقفا في الثناء عليه والدفاع عنه في الصورة التالية .
2_الصورة الثانية : ثناؤه على العلماء ودفاعه عنهم : اشتهر عنه عفة لسانه وتقديره لأهل العلم ورده على من يذكرهم بسوء ويتعرض لهم بجرح وثلب ، بل يصل أحيانا إلى درجة الغضب كما رأينا في الفيديو الذي يقدم فيه أحدهم سؤالا عن طائفة من الشباب تزهد في العلماء وتنتقصهم ومنهم الألباني وأنهم يرونه ليس محدثا ولاعالما ولا فقيها ؟!
فيجيب الشيخ العمراني بطريقة غاضبة ويقول :
من هذا الذي يقول ذلك ؟! ثكلته أمه ، وعدمته عشيرته !هذا الرجل مغفل أو متعصب !!
ثم قال أكثر من مرة : الألباني أمير المؤمنين في الحديث في هذا العصر .
3_الصورة الثالثة : الإحالة على من يرى فيه الأهلية للفتوى : وهذا كثير لايعد ولايحصى ، وهي عجيبة من عجائب الإنصاف ، ومن ذلك مانقله الكثير من طلابه المقربين منه ، حيث يحيل بعض المستفتين إليهم ، خاصة في بعض المسائل التي يرى أنه متخصص فيها وأهل للفتوى فيها ، ومن ذلك أيضا الإحالة في المسائل المعاصرة على خريجي الجامعات والدكاترة الباحثين ، وقد اشتهرت عنه دعابة لطيفة وهي قوله : أنا خريج من الجامع وأنتم من الجامعة ، وليس الذكر كالأنثى ! كما سمعناه أكثر من مرة في قاعة الدرس يقول مداعبا : أنا صاحب عمامة وليس كرفتة - يشير إلى حاملي درجات الدكتوراة - فاذهبوا إلى أصحاب الكرفتات ! وكل ذلك ليس تنقيصا وإنما من ظرافته المعهودة ، وليس أيضا عجزا منه عن الجواب ، ولكن حذرا وتواضعا بل هضما للنفس ، وله مواقف كثيرة في هذا الباب ، تستحق التتبع والإستقراء .
ومما يستحق الإشارة إليه قبل الختام أن تلك الصفة وغيرها مما له علاقة بها من عفة اللسان عن القدح والتجريح للعلماء ، والتواضع وهضم النفس ، هي من الصفات التي أحسب أنها تدل على ثلاثة أمور مهمة في سيرة الشيخ وهي :
الأول : المدى الواسع في تأثر شيخنا العمراني بشيخه الإمام الشوكاني خاصة وكبار علماء اليمن الآخرين من نفس المدرسة ، ممن تشابهت مناهجهم وخرجوا من مشكاة واحدة كابن الأمير الصنعاني وغيره ممن ذكروا سابقا ، ممن أحيا العمراني مدرستهم وصار رمزا وعلما وامتدادا لهم في عصرنا ، ليس في العلم والفقه فقط بل في السلوك والسمات الفريدة ، ومن يتتبع منهج الشوكاني كمثال سواء في كتبه الفقهية كنيل الأوطار وغيره من كتب تراجم العلماء كالبدر الطالع ، يلاحظ بجلاء مدى ترسخ منهجية الإنصاف التي سلكها رحمه الله .
الثاني : أن ذلك من الأسباب التي جعلت الشيخ محبوبا لدي أكثر العلماء ، وسائر مكونات العمل الإسلامي في اليمن ، ورزقه الله القبول وعلو المكانة في القلوب ، مع بركة في العلم وسعة انتشار ، وإقبال الطلاب عليه من كل مكان ، كل ذلك لما رأوا فيه من حب للإنصاف وتقدير للعلماء الآخرين ونبذ وبغض للتعصب والتقليد .
الثالث : كما تدل على أمر آخر مهم جدا ، وهو مدى اهتمام الشيخ العمراني بتزكية نفسه ومجاهدتها ، حيث أن مثل هذه الصفات لا يتحلى بها إلا من انتصر على حظوظ نفسه وأهوائها .
ونحسب أنه تحقق فيه واقعا دعاء الصالحين : اللهم اجعلني في عين نفسي صغيرا وفي أعين الناس كبيرا ، وكأن الشيخ كان يستحضر ذلك ويدعو به .
يقول ابن حزم الأندلسي:
زمام أصول جميع الفضائل ...عدل وفهم وجود وبأسُ
فمن هذه ركبت غيرها فمن ....حازها فهو في الناس رأسُ
كذا الرأس فيه الأمور التي ....بإحساسها يكشف الالتباسُ
وهذا - والله - باب واسع جدير بالبحث ولا يقل أهمية في دراسة شخصية الشيخ العمراني ومنهجه العلمي وسلوكه العملي على السواء ، ولعل من بين طلابه المقربين من ينبري ليكتب حول ذلك في قابل الأيام ،،لتظهر الصورة الكاملة لشخصيته الفريدة والمتميزة للأجيال اليوم وغدا ،وأخذ الدروس منها ، والاقتداء بها .
نسأل الله أن يجعلنا ممن يقتدون بشيخنا في إنصافه وسائر محاسنه ومناقبه ، وينتصرون في معركة جهاد النفس ونزغات الشيطان .
كما نسأله سبحانه أن يرحمه ويجزيه خير ماجزى عالما عن طلابه وأمته وأن يرفع درجته في الفردوس الأعلى من الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .
فجعت اليمن - بأعظم فجيعة في حاضرها - بوفاة فقيهها ومفتيها، وكبير علمائها ، ومفخرة فقهائها ، وزينة صالحيها ، وقرة عينها ، الحبر البحر الإمام ، الحجة شيخ الإسلام، العالم النحرير ، المشهور بالتأصيل والتحرير ، الجهبذ المجتهد ، المحقق المجدد ، المحدث المسند ، العالم المفرد ، إمام أهل السنة سماحة الوالد العلامة القاضي محمد بن إسماعيل العمراني رحمه الله تعالى .
رحل بعد عمر جاوز المائة سنة هجرية ، طال عمره وبارك الله له فيه ، وحسُن فيه عمله ،، وبلغت الأفاق بالعلم شهرته ، وذاع في الناس صيته ، وسار بأحاديثه الركبان ، وفاح عطره في كل مكان ، ووفد إليه طلاب العلم من كل البلدان والأوطان ، والذي يعد من القلة الباقية من كبار العلماء المجتهدين، والمراجع المجددين ، على مستوى الأمة الإسلامية في هذا العصر ,نعم -ويالوجع القلب - لقد رحل نجم سهيل اليماني ، والعالم الراسخ الرباني ، وارث مدرسة الإمام الشوكاني ، ومجدد منهج ابن الوزير والمقبلي و الصنعاني ، المتحرر من التقليد والجمود ، المستقل من كل أشكال العصبيات والحدود ، العالم الموسوعي العالمي .
ويصدق عليه حقا قول الإمام الشافعي في الإمام أبي حنيفة رحمهما الله :
لقد زان البلاد ومن عليها ....إمام المسلمين أبو حنيفة
بأحكام وآثار وفقه ....كآيات الزبور على الصحيفة
فما بالمشرقين له نظير ....ولا بالمغربين ولا بكوفة
فرحمة ربنا أبــدا عليه....مدى الأيــام ما قرئـت صحيفة
ولذلك لا غرابة إذا حزنت على فراقه قلوب أهل اليمن جميعا ، وبكاه الكبار والصغار ، والرجال والنساء ، والقريب والبعيد، وتخرج صنعاء عن بكرة أبيها تشيعه في جنازة مهيبة يندر مثلها ، وإنا لفراقك ياشيخنا وحبيب قلوبنا لمحزونون ولا نقول إلا مايرضي ربنا تعالى ، ونسأله تعالى أن يأجرنا في مصيبتنا ، وأن يخلف على اليمن خيرا .
عجبا من نعشه تحملهُ....فتيةٌ وهو على الكون اشتملْ
جمع العالم في حيزومهِ....أترى العالم في القبر نزلْ
ألا وإن من منة الله علي أن أكرمني بالدراسة على يد فقيدنا وشيخنا العمراني في جامعة الإيمان في صنعاء ، وياله من شرف وفخر أعتز به ، وأشكر الله كثيرا على تلك المنحة .
ومن باب الوفاء لشيخي هذه مشاركة متواضعة وهو جهد المقل ، مقارنةً بما كتب وسيكتب عنه رحمه الله .
وسوف يكون حديثي مركزا على منقبة واحدة من مناقب الشيخ وهي مهمة وفريدة ، وميزة رائعة من ميزاته ، وأدبًا راقيا من آداب العلماء ، وهديا حسنا من هدي الفقهاء ، كان - والله - تاثيرها علي كبيرا ، وكانت من أسباب إعجابي الشديد بشخصيته العظيمة ، وتستحق وبكل جدارة أن نفرد الحديث عنها وننشر أريجها ، استلهاما لدروسها وعبرها ، واتخاذ الشيخ قدوة فيها ، ألا وهي منقبة الإنصاف .
وقد روي عن أبي حنيفة أنه قال : الحكايات عن العلماء ومحاسنهم أحب إلى من كثير من الفقه لأنها آداب القوم وأخلاقهم وشاهده من كتاب الله قوله تعالى : (( لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ).
إني لتطربني الخلال كريمة ....طرب الغريب بأوبة وتلاقِ
ويهزني ذكر المروءة والندى ....بين الشمائل هزة المشتاقِ
فإذا رزقت خليقة محمودة ....فقد اصطفاك مقسم الأرزاقِ
_منقبة الإنصاف
إشتهرت العبارة الذهبية "الإنصاف عزيز "، فهي صفة غالية نادرة ، أغلى من الذهب الإبريز ، وأندر من الكبريت الأحمر كما يقال ، وكما قيل في الحكم القديمة :"الإنصاف أحسن الأوصاف " .
والمقصود بهذه الصفة هنا هو : الإقتصار على الإنصاف العلمي مع من يقع الاختلاف معهم من العلماء ، والعدل مع المخالف وعدم بخسه وغمط فضله ومكانته ، وما أدراك ما هذه الصفة ؟! ومامدى قيمتها ؟!
تلك الخصلة العزيزة التي اشتكى من غيابها وندرتها أهل الزمن الأول ، والعصر الأفضل ، فكيف بمن بعدهم ؟! وكيف بنا نحن في هذا العصر المتأخر ؟! .
ومن نصوص تلك الشكوى الأليمة ماذكره الإمام ابن عبدالبر رحمه الله في جامع بيان العلم وفضله أن ابن وهب سمع الإمام مالك رحمهما الله يقول : «ما في زماننا شيئ أَقَلُّ مِنَ الْإِنْصَافِ»
وهذا ابن القيِّم رحمه الله يقول في كتابه إعلام الموقعين معظما هذه الصفة : "والله تعالى يحبُّ الإنصاف، بل هو أفضل حِلْيَة تحلَّى بها الرجل، خصوصًا مَن نصَّب نفسه حَكَمًا بين الأقوال والمذاهب، وقد قال الله تعالى لرسوله: ﴿ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ﴾ [الشورى: 15]
لا تمش في الناس إلا رحمة لهم ...ولا تعاملهم إلا بإنصافِ
واقطع قوى كل حقد أنت مضمره ....إن زل ذو زلة أو إن هفا هافِ
_صور الإنصاف من سيرة العمراني :
أشرت آنفا أني لاحظت وغيري ممن تتلمذ على يد الشيخ ولقيه أو استمع له ، أنه فريد في التحلي بميزة الإنصاف للموافق والمخالف ، وإن شأنه في ذلك لعجاب ، ومثير للدهشة والاستغراب ، يأسر بها قلوب الجميع ، وكأنه وضع نصب عينيه : فضيلة " أنزلوا الناس منازلهم " فتحقق بها ، "ورذيلة الكبر :بطر الحق وغمط الناس " فخافها وجاهد نفسه في البعد عنها ، فكان لديه إجلال عظيم لأهل العلم ، رغم أنه قد يختلف معهم في بعض الأصول والفروع .
وعلى عجل وحسب علمي بالشيخ ، وعلمي به قليل متواضع ، أذكر ثلاث صور لهذه المنقبة الفريدة من مناقب شيخنا :
1_الصورة الأولى : ذكره أقوال العلماء والمذاهب رغم اختلافه معهم وعلى سبيل المثال الزيدية و علماء السلفية المعاصرة ، وهذه عادته في دروس الفقه حيث لديه حافظة عجيبة في سرد أقوال المتقدمين والمتأخرين ، ومن تحصيل الحاصل أن أشير إلى ذكره لأقوال المذهب الزيدي ، وليس ذلك غريبا عليه فهو ابن البيئة الزيدية ، المتضلع في مذهبهم ، وهو تلميذ لكثير من علمائهم ، على أنه يختلف معهم في الأصول ، وينتقدهم في منهجية التعصب والتقليد ، وهذا من المشهور الذي لايحتاج إلى بيان .
لكن الذي قد يكون غريبا عند البعض خاصة المتعصبين المقلدين أن الشيخ كان يذكر أقوال العلماء المحسوبين على الجانب الآخر ، وهم رموز السلفية المعاصرة ، أو مايسمى "بالوهابية " عند بعضهم ، ولذلك كان بعض المتعصبين ينكرون على الشيخ ذلك ، بل كانوا يتهمونه بأنه " وهابي " كما سمعنا منه في بعض الدروس ، وشاهد بعض طلابه والمقربين منه بعضا من مواقف المتعصبين التي تأذى منها .
فمثلا : كثيرا ماسمعناه يذكر أقوال العلامتين ابن باز وابن عثيمين وغيرهما ، وقد سئل مرة عن فتوى للشيخين ابن باز والعثيمين ما قولك فيهم وفي رأيهم فقال :
أولئك آبائي فجئني بمثلهم...إذا جمعتنا ياجرير المجامع
وقد ذكر هو نفسه لقاءه مع الشيخ ابن باز في الحج وذكر بعض طلابه أنه كان له صداقة خاصة معه وملاطفة ومداعبة بينهما ، وشيئ من الاختلاف أثناء بعض النقاشات العلمية ، مع تقدير وإجلال من الطرفين لبعضهما رحمهما الله وجمعنا بهما في جنات النعيم .
- وأيضا من المعروف عنه ذكر أقوال الإمام الألباني رحمه الله وحفظه لكثير من أحكامه على الأحاديث من حيث التصحيح والتضعيف ، وسوف أذكر له موقفا في الثناء عليه والدفاع عنه في الصورة التالية .
2_الصورة الثانية : ثناؤه على العلماء ودفاعه عنهم : اشتهر عنه عفة لسانه وتقديره لأهل العلم ورده على من يذكرهم بسوء ويتعرض لهم بجرح وثلب ، بل يصل أحيانا إلى درجة الغضب كما رأينا في الفيديو الذي يقدم فيه أحدهم سؤالا عن طائفة من الشباب تزهد في العلماء وتنتقصهم ومنهم الألباني وأنهم يرونه ليس محدثا ولاعالما ولا فقيها ؟!
فيجيب الشيخ العمراني بطريقة غاضبة ويقول :
من هذا الذي يقول ذلك ؟! ثكلته أمه ، وعدمته عشيرته !هذا الرجل مغفل أو متعصب !!
ثم قال أكثر من مرة : الألباني أمير المؤمنين في الحديث في هذا العصر .
3_الصورة الثالثة : الإحالة على من يرى فيه الأهلية للفتوى : وهذا كثير لايعد ولايحصى ، وهي عجيبة من عجائب الإنصاف ، ومن ذلك مانقله الكثير من طلابه المقربين منه ، حيث يحيل بعض المستفتين إليهم ، خاصة في بعض المسائل التي يرى أنه متخصص فيها وأهل للفتوى فيها ، ومن ذلك أيضا الإحالة في المسائل المعاصرة على خريجي الجامعات والدكاترة الباحثين ، وقد اشتهرت عنه دعابة لطيفة وهي قوله : أنا خريج من الجامع وأنتم من الجامعة ، وليس الذكر كالأنثى ! كما سمعناه أكثر من مرة في قاعة الدرس يقول مداعبا : أنا صاحب عمامة وليس كرفتة - يشير إلى حاملي درجات الدكتوراة - فاذهبوا إلى أصحاب الكرفتات ! وكل ذلك ليس تنقيصا وإنما من ظرافته المعهودة ، وليس أيضا عجزا منه عن الجواب ، ولكن حذرا وتواضعا بل هضما للنفس ، وله مواقف كثيرة في هذا الباب ، تستحق التتبع والإستقراء .
ومما يستحق الإشارة إليه قبل الختام أن تلك الصفة وغيرها مما له علاقة بها من عفة اللسان عن القدح والتجريح للعلماء ، والتواضع وهضم النفس ، هي من الصفات التي أحسب أنها تدل على ثلاثة أمور مهمة في سيرة الشيخ وهي :
الأول : المدى الواسع في تأثر شيخنا العمراني بشيخه الإمام الشوكاني خاصة وكبار علماء اليمن الآخرين من نفس المدرسة ، ممن تشابهت مناهجهم وخرجوا من مشكاة واحدة كابن الأمير الصنعاني وغيره ممن ذكروا سابقا ، ممن أحيا العمراني مدرستهم وصار رمزا وعلما وامتدادا لهم في عصرنا ، ليس في العلم والفقه فقط بل في السلوك والسمات الفريدة ، ومن يتتبع منهج الشوكاني كمثال سواء في كتبه الفقهية كنيل الأوطار وغيره من كتب تراجم العلماء كالبدر الطالع ، يلاحظ بجلاء مدى ترسخ منهجية الإنصاف التي سلكها رحمه الله .
الثاني : أن ذلك من الأسباب التي جعلت الشيخ محبوبا لدي أكثر العلماء ، وسائر مكونات العمل الإسلامي في اليمن ، ورزقه الله القبول وعلو المكانة في القلوب ، مع بركة في العلم وسعة انتشار ، وإقبال الطلاب عليه من كل مكان ، كل ذلك لما رأوا فيه من حب للإنصاف وتقدير للعلماء الآخرين ونبذ وبغض للتعصب والتقليد .
الثالث : كما تدل على أمر آخر مهم جدا ، وهو مدى اهتمام الشيخ العمراني بتزكية نفسه ومجاهدتها ، حيث أن مثل هذه الصفات لا يتحلى بها إلا من انتصر على حظوظ نفسه وأهوائها .
ونحسب أنه تحقق فيه واقعا دعاء الصالحين : اللهم اجعلني في عين نفسي صغيرا وفي أعين الناس كبيرا ، وكأن الشيخ كان يستحضر ذلك ويدعو به .
يقول ابن حزم الأندلسي:
زمام أصول جميع الفضائل ...عدل وفهم وجود وبأسُ
فمن هذه ركبت غيرها فمن ....حازها فهو في الناس رأسُ
كذا الرأس فيه الأمور التي ....بإحساسها يكشف الالتباسُ
وهذا - والله - باب واسع جدير بالبحث ولا يقل أهمية في دراسة شخصية الشيخ العمراني ومنهجه العلمي وسلوكه العملي على السواء ، ولعل من بين طلابه المقربين من ينبري ليكتب حول ذلك في قابل الأيام ،،لتظهر الصورة الكاملة لشخصيته الفريدة والمتميزة للأجيال اليوم وغدا ،وأخذ الدروس منها ، والاقتداء بها .
نسأل الله أن يجعلنا ممن يقتدون بشيخنا في إنصافه وسائر محاسنه ومناقبه ، وينتصرون في معركة جهاد النفس ونزغات الشيطان .
كما نسأله سبحانه أن يرحمه ويجزيه خير ماجزى عالما عن طلابه وأمته وأن يرفع درجته في الفردوس الأعلى من الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .