موقفه من الفكر الهاشمي السلالي 2
مما يجدر الإشارة إليه ابتداء أن اليمن من أكثر البلدان العربية والإسلامية التي عانت من الفكر العنصري السلالي الهاشمي ، والمتمثل في الإنتساب للرسول عليه الصلاة والسلام وأهل بيته ، هذه المعاناة استمرت على مدار قرون من الزمن وإلى اليوم ، والبلية الكبرى أن ذلك الفكر لم يقف عند حد التقليد والتعصب للمذهب الزيدي الهادوي فقط ، بل تحول من مجرد فكرة يمكن نقاشها والرد عليها بمثلها ، إلى مشروع سياسي في كثير من فترات التاريخ اليمني ، وأصبح له دول تحكم باسمه وتنشره وتحميه ، وترفع السيف على كل معارض وتحكم عليه بالكفر ، وتسفك الدماء وتنهب المال من أجل نصرته ورفع رايته، وهذا هو أصل الضلال المبين في هذا الفكر حيث يزعم أنه يتحدث باسم الله ورسوله ، ويزين ثوبه البغيض والمقيت بالدين والشريعة ، ويدعي أن منصب القيادة والولاية العلمية والسياسية في اليمن له دون غيره ، وأن ذلك حق إلاهي أعطاه الله ورسوله إياه ، ومن عارضه فقد عارض الله ورسوله ، ولسان حال أتباعه ومقالهم :
" نحن أبناء الرسول وأحباؤه " !!
متشبهين بمن قال : نحن أبناء الله وأحباؤه !!
ولله درُّ أحد أحرار اليمن ورموزه الذي وقف في وجه هذا الفكر البغيض وهو العالم الأديب المفكر نشوان الحميري المتوفي سنة 573 ه حين نسف نظرية ادعاء الحق الالهي بقوله :
حصرَ الولاية في قريشٍ معشرٌ
هم باليهود أحقُّ بالإلحاقِ
جهلاً كما حصر اليهود ضلالةً
أمر النبوةِ في بني إسحاقِ
وكم جر ذلك على اليمن من ويلات وصراعات ؟!
وكم ثارت من أجله حروب ومعارك ؟!
وكم سفكت دماء ونهبت أموال المناوئين له بحجة أنهم كفار وأعداء للرسول وذريته ؟!
ومن صور ذلك الكهنوت العنصري في الزمن القريب دولة المملكة المتوكلية الإمامية ، والتي قامت ضدها ثورة 26 سبتمبر عام 62 م وقضت عليه وأسست الجمهورية اليمنية ، ثم كانت آخر صورة لها اليوم الحركة الحوثية المتمردة على إرادة الشعب ، والمنقلبة على الدولة ومؤسساتها حاملة السلاح عليها منذ عام 2014 م والتي يعاني منها اليمن إلى هذه اللحظة .
موقف أهل اليمن من الفكر الهاشمي السلالي
على مدار التاريخ :
لم يرضخ رجال اليمن وأحراره من علماء وقادة وعامة بطبيعتهم التي تتميز بالعزة والكرامة والأنفة ، وأعلنوا دائما الثورة والجهاد والمقاومة كل في موقعه وزمانه ، على تلك الأفكار الطائفية المنحرفة ، والوحشية السلالية الكهنوتية ، التي تستعبد الناس لشخص أو عائلة أو طائفة ، أو تميز بعضهم على بعض ، وترفع عشيرة وتهين أخرى ، ولِمَ يقبلون بها وهم يعلمون علم اليقين أنها تخالف أصل الإنسانية ؟!
وتناقض جوهر الإسلام وروحه ، ومبادئه وحقائقه ، ومفاهيمه العادلة المستقيمة ، ومقاصده الجميلة السامية العالية ،المتمثلة في العدل والمساواة بين عباد الله جميعهم إلا بالتقوى والتي تظافرت النصوص من القرآن والسنة على بيانها والتأكيد عليها ومن ذلك على سبيل المثال قوله تعالى : " إنَّ أكرمكُم عندَ اللهِ أتقاكُم " الحجرات/13.
وكما في الحديث في مسند أحمد وغيره أنه عليه الصلاة والسلام قال : "يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى"
وكذلك في صحيح مسلم أنه عليه الصلاة والسلام قال :،" ومن بطَّأ به عمله ، لم يسرع به نسبه "
واشتهر في ذلك مقولة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟!
ولقد كان علماء اليمن دائما وأبدًا في الصدارة والريادة في هذا الجهاد ، وفي مقدمة الصفوف في هذه المواجهة ، مع هذه الأفكار السلالية على مدار التاريخ ، وكانت مواقفهم البطولية مشرفة ومشرقة ، وجهادهم وجهودهم في ميدان الكلمة والبيان ، والقلم واللسان ، بدون ضعف ولا لين ولا استكانة ، قياما بالواجب وأداء للأمانة ، وتحملا للمسؤلية وتبرأة للذمة أمام الله ثم الأمة وأجيالها والتاريخ .
ومن أشهر أولئك العلماء والمصلحين نشوان الحميري وابن الوزير والمقبلي والصنعاني والشوكاني والزبيري وغيرهم من الرجال الأحرار رحمهم الله، وقد صبروا وصابروا أمام ما تعرضوا له من الإيذاء والبلاء من قبل حملة ذلك الفكر وسدنته ، مثل التضليل وتأليب العامة والغوغاء من المقلدين و المتعصبين للمذهب الزيدي والفكر السلالي ، حتى بلغ الحقد والنقمة ببعضهم للقيام بمحاولات الاغتيال والقتل لبعض هؤلاء العلماء المجاهدين بالكلمة والبيان والفكر ، وبعضهم اضطر أمام ذلك للهجرة مع أهله خارج اليمن ولم يرجع لها حتى وافته منيته !!
وعلى سبيل المثال علامة اليمن في عصره صالح بن مهدي المقبلي رحمه الله والمتوفي سنة 1108 ه ، وقد أشار إلى معاناته بسبب هؤلاء المقلدين الناقمين في مقدمة كتابه القيِّم الذي دبجه قلمه البديع في هذا الجانب وهو بعنوان : " العلم الشامخ في إيثار الحق على الآباء والمشايخ " .
وأنقل هنا منه عبارات قوية ومعبرة عن شدة تلك المعاناة التي يشعر القارئ أن قلم المقبلي وهو يكتب يقطر دما بحبر من دموع ويحبر صورة ملحمة من المأساة الواقعية لذلك الكفاح ، كما يلاحظ مدى الصبر والثبات لذلك الرمز اليماني ، وهذه الكلمات تعد بمثابة إعلان وصرخة وصدع بالحق أمام ذلك الإضطهاد الكهنوتي الوحشي في ذلك العصر ،، وبكل إيمان وشجاعة نادرين ، فمن ذلك أنه رحمه الله تمثل قول خليل الله إبراهيم حين قال لقومه:
" إني ذاهب إلى ربي سيهدين " ، ولعلها إشارة منه إلى هجرته التي وقعت إلى مكة شرفها الله حتى وافته منيته هناك رحمه الله ،
و قال أيضا بكل إصرار : "فإن مزقوا أديمي ، وأكلوا لحمي ، وبالغوا في الأذا ، واستحلوا البذا ، قلت : سلام عليكم لانبتغي الجاهلين ، لاضير إنا إلى ربنا منقلبون " .
ثم ذهب يجأر إلى الله داعيا و قائلا : " وأجعلك اللهم في نحورهم ، وأعوذ بك من شرورهم ، رب نجني مما فعله المفرقون لدينك ، وألحقني بخير القرون من حزب أمينك صلى الله عليه وآله وسلم " .
مقارعة الديلمي لهذا الفكر السلالي :
وشيخنا العلامة الديلمي رغم أنه نشأ في بيئة التشيع المتعصب والتقليد الأعمى لكن الله نجاه بفضله أولا ، ثم بفضل والده الذي كان عالما عاقلا متزنا وقافا عند الحق ، فتربى وتعلم على يده علوم الشريعة ، ورضع حب الصحابة رضي الله عنهم ، وهاجر إلى مصر وأرض الحرمين فازداد علما وفهما ، وأصبحت له مكانة خاصة عند العلماء وطلاب العلم وحملة الشريعة والدعاة في اليمن ، وحضيت شخصيته بالتقدير والتوافق بين كل مكونات التوجه السني اليمني ، وصار يعد من أولئك الأعلام الأحرار والرواد الأفذاذ والرموز اليمانيين ، الذين ساروا على نفس منهج المقبلي والصنعاني والشوكاني ، الذين تطهروا من أدران التعصب والتقليد ، وتدرجوا في مراتب العلم والاجتهاد ، وأحيوا سنة الجهاد والثبات في مقارعة العصبية والسلالية منذ وقت مبكر ، بمواقفه العلمية والعملية ، فلم تلن له قناة ولم يكسر له قلم ، كيف لا ؟! وهو المعروف بالشخصية الصلبة ، والصرامة في الحق ، من قبل ومن بعد ظهور الحركة الحوثية كجماعة سياسية وسيطرتها على الحكم في صنعاء .
وقد ناله أيضا منهم مانال السابقين من إخوانه العلماء الأحرار ، الكثير من الأذى والتشويه والتضليل من أقربائه منهم قبل غيرهم ، وألفوا فيه الكتب كما فعل أخوه أحمد الديلمي وسنذكر ذلك لاحقا إن شاء الله تعالى ، وحكموا عليه بالزيغ والكفر ، وأخرجوه من شجرة العائلة الهاشمية ، وأشاعوا عليه الشائعات ونشروا الأكاذيب والإفتراءات ، ومن ذلك فرية فتوى تكفيره لأهل الجنوب في حرب 94 م ، وقد نفى ذلك مرات ومرات ودعاهم إلى المباهلة في ذلك ، فجبنوا وفروا وتخفوا كخفافيش الظلام ، وأخيرا وبعد سيطرة ميليشياتهم البربرية المغولية المتوحشة على صنعاء كان العلامة الديلمي من أهم أهدافهم ، وكان اسمه في أعلى قائمتهم السوداء ، وقاموا باقتحام منزله من بين الاماكن المهمة التي اقتحموا وسيطروا عليها ، كما كان من أكبر أهدافهم اقتحام الجامعة التي ساهم في تأسيسها وإدارتها وتطويرها وهي جامعة الإيمان ، فخرج مهاجرا إلى ربه ،سائحا في أرضه ،حتى توفاه الله في أرض الفاتح اسطانبول ، سائرا على طريق العلامة المقبلي ، محييا ذكراه ، مذكرا به وبمسيرته الجهادية العلمية، ثابتا إلى آخر رمق ، ونعم الحياة والممات ، والبداية والنهاية ، والاستهلال والخاتمة ، ونرجو لهما أن يصدق عليهما معا قوله تعالى : (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما ) سورة النساء 100 .
وفي هذا رسالة لمن يضع كل المنتسبين للهاشمية في سلة واحدة ، بحجة مجرد الإشتراك في النسب مع الإمامية الكهنوتية ، فيعلن العداء على كل هاشمي في اليمن وغيرها ، الصالح منهم والطالح ، وفي هذا مجافاة للحقيقة ، وغلو مقيت ، ووقوع في الظلم ومنافاة للعدل ، وعدم إنصاف واتزان وتعقل ، وهو من ردات الفعل الخاطئة على التطرف بتطرف مثله من الجهة المقابلة ، ظنا من أولئك أن في سلوكهم حماية للمجتمع من هذا الفكر المنحرف ، ونسوا في غمرة التعصب البيان القرآني في شأن كل المعتقدات والأفكار حيث قال : "ليسوا سواء ..." ، وكذلك التفريق القرآني في هذا الشأن بقوله في كثيرا من المواضع : ومنهم .. ومنهم ..، .
ولا أدل على ذلك اليوم في اليمن من الحركة التي انتشرت على مواقع التواصل الإجتماعي والتي تسمى بحركة " الأقيال " ، والتي نتفق معها في الهدف النبيل ، وهو مقاومة فكر الهاشمية السياسية المتطرفة ، لكننا نختلف معها في أمور أخرى عديدة ، ويلاحظ عليها الكثير من الانحرافات الخطيرة ، والتي ينبغي أن تصفي فكرها وكيانها منها قبل فوات الآوان ، ويجب أن يتنبه العقلاء منهم لذلك ويسعوا للإصلاح الداخلي ، وأن لايدعو المجال للمتهورين والجهلاء والمندسين في الصفوف لتشويه صورتهم ، وأن يعوا أن اليمن يكفيه ماعاناه ويعانيه اليوم من المآسي جراء العصبيات والسلاليات ، وفي هذه الإشارة المختصرة هنا مايغني عن كثير العبارة ، هدى الله الجميع وردهم إلى الصواب والطريق المستقيم ، والله المستعان .
مظاهر محاربة العلامة الديلمي للمشروع السلالي
في اليمن :
سوف أشير بإيجاز إلى ثلاث نقاط تعتبر من أهم مظاهر مقارعة شيخنا لهذا الفكر الكهنوتي الخبيث وهي :
الأولى : بث الوعي بخطورة تلك السلالية العنصرية وعصبياتها : من خلال مؤلفاته ومحاضراته وغيرها، ومن أظهر الأدلة على ذلك ومما يعد خلاصة ونتيجة لذلك الجهد التوعوي الفكري الشرعي كتابه المشهور "جناية أدعياء الزيدية على الزيدية " والذي صدر في عام 1432هـ للرد على كتاب أخيه الهاشمي المتعصب / أحمد بن لطف الديلمي والذي بعنوان (الزيدية بين محب غالٍ ومبغضٍ قالٍ)، وصنيع شيخنا الدكتور عبدالوهاب الديلمي بقدر ماهو من جهة بيان للحق ورد على الباطل في قضية فكرية خطيرة وعقدية مهمة تمس واقع المجتمع اليمني ، وترسيخ للوعي الصحيح بها ، وتوضيح للمنهج المتعلق بها شرعا وواقعا ، وحماية لعقول أبناء اليمن ، فهو من جهة أخرى ولاء وتجرد للحق في مقابل أخيه من الدم وبدون أي مجاملة ولا محاباة ولا استحياء ، وهو بهذا يذكرنا بمواقف الجيل الفريد الأول من الصحابة رضي الله عنهم ، الذين سطروا الصفحات الرائعة وكانوا قدوة للأجيال في هذا المجال ، والذين أثنى عليهم القرآن في مثل قوله تعالى : ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون ) سورة المجادلة 22 ، والمقام لايتسع للحديث حول كتاب شيخنا ومايتضمنه من الردود المتينة، والحجج القوية ، والتفنيدات القيمة ، والفوائد العلمية النفيسة ، وتكفي هذه الإشارة الموجزة التي تفي بالغرض، ولعل فيها التحفيز لمن أراد العودة إلى الكتاب لينهل منه ويستفيد .
الثانية : القضاء على احتكار معهد القضاء بعد توليه وزارة العدل : كنا نلاحظ نحن أهل تهامة أن القضاة الذين يعينون في مناطقنا قادمون من صنعاء وما حولها ، اللهجة الصنعانية واضحة في ألسنتهم ، صورهم التي يظهر عليها النعيم ، ثيابهم وعمائمهم ، على سبيل المثال لم نر في ما أتذكر في بيت الفقيه قاضيا تهاميا تعين في المديرية حسب علمي أيام شبابي ! وكنا نسمع ذلك من أبناء سائر مناطق تهامة ! لكن حين تولى منصب وزارة العدل أحدث تغييرا هائلا في عملية قبول الطلاب فقد كانت السيطرة الإمامية على المعهد واضحة ومشهورة ، وكان من الصعوبة بمكان قبول الطلاب المحسوبين على المناطق السنية الشافعية وغيرها ، كان الطالب يحذر من البداية من القريبين منه ممن يعرف أنه ينوي التسجيل للدراسة ، وكانت عبارات اليأس والإحباط هي أول مايواجهه الطالب من خارج المعهد وداخله ، وأتذكر حالة أحد الطلاب من تهامة الذي تقدم للمعهد ورُفِض ، وكان بعد ذلك يحذر كل طالب من تهامة ينوي ذلك ، ويروي له تجربته المؤلمة ، ناصحا إياه باختصار الطريق وعدم إتعاب نفسه بلا طائل . لقد أحدث مايمكن أن يطلق عليه ثورة في معهد القضاء حيث سعى لقبول أكثر من 700 طالب من كل مناطق اليمن المختلفة ، لم يخف من العزل عن الوزارة أو تقييد صلاحياته ، ولم يبال برجالات الإمامية التي كانت منتشرة في مفاصل الدولة من أعلاها إلى أسفلها ، والذين كانوا ينخرون في جسد الدولة ويعبثون فيها بلا خوف من حسيب ولا رقيب ، ولذلك لا غرابة أن يحقد عليه السلاليون وأتباعهم .
الثالثة : موقفه من ظاهرة العنصرية في الزواج في اليمن : لايخفى على أحد في اليمن مدى انتشار ظاهرة العنصرية في الزواج ، والبحث عن أصل الشاب الذي يخطب البنت ، وطرح أسئلة متكررة مثل من هي عشيرته وقبيلته ؟!
هل هو قبيلي أو هاشمي ؟!
وماهي وظيفته هل هو حلاق أو جزار مثلا ؟ وغير ذلك من المهن التي تعتبر مؤثرة في مكانة الرجل عند الكثير للأسف !!!
ولازلت أذكر أنه وأثناء دراستنا في جامعة الإيمان الشرعية انتشر في الجامعة خبر تزويج الشيخ الديلمي لإحدى بناته من أحد طلابه ، والذي كان لايعود نسبه لنفس النسب الهاشمي للشيخ ! غير أنه كان طالبا محبوبا لدى الشيخ لدينه و لذكائه وهمته في طلب العلم ، وثار جدل كبير حول ذلك بين الناس ، وسببت الحادثة ضجة واسعة بين المقربين ومن له علاقة بالشيخ الديلمي ! وانقسم الناس لقسمين :
- قسم استغرب ذلك بشدة وأنكرها على الشيخ خاصة ممن هم من أقاربه والمنتسبين للمذهب الزيدي والفكر العنصري والبعض من المتعصبين لمثل هذه الآراء من السنة الذين يرون أن من أهم شروط النكاح التكافؤ في النسب والاشتراك في العرق الهاشمي ...
- وقسم آخر زاد حبا وإجلالا وتقديرا للشيخ وهم أغلب طلاب الشيخ وإخوانه من العلماء من أهل السنة في اليمن ، وذلك لكون الشيخ لايبالي إلا للشروط الجوهرية التي وردت في النصوص وهي الدين والخلق كما ورد في الحديث الذي رواه الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قال : إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه ، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض "
- أخيرا بمثل تلك المواقف ظهر العلامة الديلمي رحمه الله كعالم يفقه الإسلام على حقيقته وبمبادئه الإنسانية السامية ، لاعنصرية فيه ولا محاباة لشخص ولا لأسرة ولا عشيرة ، والكل فيه سواسية لا رفعة ولامكانة فيه لأحد إلا بتقواه مصداقا لقول علي بن ابي طالب رضي الله عنه :
لعمرك ما الإنسان إلا بدينه
فلا تترك التقوى اتكالاً على النسب
فقد رفع الاسلامُ سلمانَ فارسٍ
وقد وضعَ الشِّركُ الشَّريفَ أَبَا لَهَب
وهكذا تتبين لنا شخصية هذا العلم الإمام المجدد المجتهد ، الذي لم يكن علما في العلم والفقه فقط بل كان كذلك علما في ميادين الجهاد والتجديد والتغيير والإصلاح والوعي .
وماتلك المواقف الجليلة المذكورة إلا مجرد أمثلة فقط لما اطلعت عليه ولست مطلعا على الكثير ، وهي نموذج لريادة شيخنا وجهاده في القضاء على كل فكرة سلالية طائفية ، وتحطيم كل أصنام الإمامية الكهنوتية ، وطمس كل ظلمات الجهل والعصبية ، وفي ذلك بعض الدروس والاعتبار لأولي الألباب والأبصار .
علما أن الشيخ كان رجل سلم وسلام ، وتسامح وتعايش وحوار ، ولم يحمل سلاحا ، سوى سلاح القلم والكلمة ، وجهاده جهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلسانه ، وبالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن ، ومن يطلع على حواراته وردوده على المخالف يجد الرد العقلاني الهادئ ، والأسلوب الرصين ، والكلمة الجميلة ، والنصيحة المشفقة ، والأدب الجم ، والخلق الحسن .
جزى الله شيخنا على جهوده الكبيرة في هذا الجانب وحفظ اليمن وأبناءه من شرور هذه الجماعات السلالية الكهنوتية والأفكار العنصرية المتطرفة اليوم وغدا وإلى قيام الساعة .
مما يجدر الإشارة إليه ابتداء أن اليمن من أكثر البلدان العربية والإسلامية التي عانت من الفكر العنصري السلالي الهاشمي ، والمتمثل في الإنتساب للرسول عليه الصلاة والسلام وأهل بيته ، هذه المعاناة استمرت على مدار قرون من الزمن وإلى اليوم ، والبلية الكبرى أن ذلك الفكر لم يقف عند حد التقليد والتعصب للمذهب الزيدي الهادوي فقط ، بل تحول من مجرد فكرة يمكن نقاشها والرد عليها بمثلها ، إلى مشروع سياسي في كثير من فترات التاريخ اليمني ، وأصبح له دول تحكم باسمه وتنشره وتحميه ، وترفع السيف على كل معارض وتحكم عليه بالكفر ، وتسفك الدماء وتنهب المال من أجل نصرته ورفع رايته، وهذا هو أصل الضلال المبين في هذا الفكر حيث يزعم أنه يتحدث باسم الله ورسوله ، ويزين ثوبه البغيض والمقيت بالدين والشريعة ، ويدعي أن منصب القيادة والولاية العلمية والسياسية في اليمن له دون غيره ، وأن ذلك حق إلاهي أعطاه الله ورسوله إياه ، ومن عارضه فقد عارض الله ورسوله ، ولسان حال أتباعه ومقالهم :
" نحن أبناء الرسول وأحباؤه " !!
متشبهين بمن قال : نحن أبناء الله وأحباؤه !!
ولله درُّ أحد أحرار اليمن ورموزه الذي وقف في وجه هذا الفكر البغيض وهو العالم الأديب المفكر نشوان الحميري المتوفي سنة 573 ه حين نسف نظرية ادعاء الحق الالهي بقوله :
حصرَ الولاية في قريشٍ معشرٌ
هم باليهود أحقُّ بالإلحاقِ
جهلاً كما حصر اليهود ضلالةً
أمر النبوةِ في بني إسحاقِ
وكم جر ذلك على اليمن من ويلات وصراعات ؟!
وكم ثارت من أجله حروب ومعارك ؟!
وكم سفكت دماء ونهبت أموال المناوئين له بحجة أنهم كفار وأعداء للرسول وذريته ؟!
ومن صور ذلك الكهنوت العنصري في الزمن القريب دولة المملكة المتوكلية الإمامية ، والتي قامت ضدها ثورة 26 سبتمبر عام 62 م وقضت عليه وأسست الجمهورية اليمنية ، ثم كانت آخر صورة لها اليوم الحركة الحوثية المتمردة على إرادة الشعب ، والمنقلبة على الدولة ومؤسساتها حاملة السلاح عليها منذ عام 2014 م والتي يعاني منها اليمن إلى هذه اللحظة .
موقف أهل اليمن من الفكر الهاشمي السلالي
على مدار التاريخ :
لم يرضخ رجال اليمن وأحراره من علماء وقادة وعامة بطبيعتهم التي تتميز بالعزة والكرامة والأنفة ، وأعلنوا دائما الثورة والجهاد والمقاومة كل في موقعه وزمانه ، على تلك الأفكار الطائفية المنحرفة ، والوحشية السلالية الكهنوتية ، التي تستعبد الناس لشخص أو عائلة أو طائفة ، أو تميز بعضهم على بعض ، وترفع عشيرة وتهين أخرى ، ولِمَ يقبلون بها وهم يعلمون علم اليقين أنها تخالف أصل الإنسانية ؟!
وتناقض جوهر الإسلام وروحه ، ومبادئه وحقائقه ، ومفاهيمه العادلة المستقيمة ، ومقاصده الجميلة السامية العالية ،المتمثلة في العدل والمساواة بين عباد الله جميعهم إلا بالتقوى والتي تظافرت النصوص من القرآن والسنة على بيانها والتأكيد عليها ومن ذلك على سبيل المثال قوله تعالى : " إنَّ أكرمكُم عندَ اللهِ أتقاكُم " الحجرات/13.
وكما في الحديث في مسند أحمد وغيره أنه عليه الصلاة والسلام قال : "يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى"
وكذلك في صحيح مسلم أنه عليه الصلاة والسلام قال :،" ومن بطَّأ به عمله ، لم يسرع به نسبه "
واشتهر في ذلك مقولة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟!
ولقد كان علماء اليمن دائما وأبدًا في الصدارة والريادة في هذا الجهاد ، وفي مقدمة الصفوف في هذه المواجهة ، مع هذه الأفكار السلالية على مدار التاريخ ، وكانت مواقفهم البطولية مشرفة ومشرقة ، وجهادهم وجهودهم في ميدان الكلمة والبيان ، والقلم واللسان ، بدون ضعف ولا لين ولا استكانة ، قياما بالواجب وأداء للأمانة ، وتحملا للمسؤلية وتبرأة للذمة أمام الله ثم الأمة وأجيالها والتاريخ .
ومن أشهر أولئك العلماء والمصلحين نشوان الحميري وابن الوزير والمقبلي والصنعاني والشوكاني والزبيري وغيرهم من الرجال الأحرار رحمهم الله، وقد صبروا وصابروا أمام ما تعرضوا له من الإيذاء والبلاء من قبل حملة ذلك الفكر وسدنته ، مثل التضليل وتأليب العامة والغوغاء من المقلدين و المتعصبين للمذهب الزيدي والفكر السلالي ، حتى بلغ الحقد والنقمة ببعضهم للقيام بمحاولات الاغتيال والقتل لبعض هؤلاء العلماء المجاهدين بالكلمة والبيان والفكر ، وبعضهم اضطر أمام ذلك للهجرة مع أهله خارج اليمن ولم يرجع لها حتى وافته منيته !!
وعلى سبيل المثال علامة اليمن في عصره صالح بن مهدي المقبلي رحمه الله والمتوفي سنة 1108 ه ، وقد أشار إلى معاناته بسبب هؤلاء المقلدين الناقمين في مقدمة كتابه القيِّم الذي دبجه قلمه البديع في هذا الجانب وهو بعنوان : " العلم الشامخ في إيثار الحق على الآباء والمشايخ " .
وأنقل هنا منه عبارات قوية ومعبرة عن شدة تلك المعاناة التي يشعر القارئ أن قلم المقبلي وهو يكتب يقطر دما بحبر من دموع ويحبر صورة ملحمة من المأساة الواقعية لذلك الكفاح ، كما يلاحظ مدى الصبر والثبات لذلك الرمز اليماني ، وهذه الكلمات تعد بمثابة إعلان وصرخة وصدع بالحق أمام ذلك الإضطهاد الكهنوتي الوحشي في ذلك العصر ،، وبكل إيمان وشجاعة نادرين ، فمن ذلك أنه رحمه الله تمثل قول خليل الله إبراهيم حين قال لقومه:
" إني ذاهب إلى ربي سيهدين " ، ولعلها إشارة منه إلى هجرته التي وقعت إلى مكة شرفها الله حتى وافته منيته هناك رحمه الله ،
و قال أيضا بكل إصرار : "فإن مزقوا أديمي ، وأكلوا لحمي ، وبالغوا في الأذا ، واستحلوا البذا ، قلت : سلام عليكم لانبتغي الجاهلين ، لاضير إنا إلى ربنا منقلبون " .
ثم ذهب يجأر إلى الله داعيا و قائلا : " وأجعلك اللهم في نحورهم ، وأعوذ بك من شرورهم ، رب نجني مما فعله المفرقون لدينك ، وألحقني بخير القرون من حزب أمينك صلى الله عليه وآله وسلم " .
مقارعة الديلمي لهذا الفكر السلالي :
وشيخنا العلامة الديلمي رغم أنه نشأ في بيئة التشيع المتعصب والتقليد الأعمى لكن الله نجاه بفضله أولا ، ثم بفضل والده الذي كان عالما عاقلا متزنا وقافا عند الحق ، فتربى وتعلم على يده علوم الشريعة ، ورضع حب الصحابة رضي الله عنهم ، وهاجر إلى مصر وأرض الحرمين فازداد علما وفهما ، وأصبحت له مكانة خاصة عند العلماء وطلاب العلم وحملة الشريعة والدعاة في اليمن ، وحضيت شخصيته بالتقدير والتوافق بين كل مكونات التوجه السني اليمني ، وصار يعد من أولئك الأعلام الأحرار والرواد الأفذاذ والرموز اليمانيين ، الذين ساروا على نفس منهج المقبلي والصنعاني والشوكاني ، الذين تطهروا من أدران التعصب والتقليد ، وتدرجوا في مراتب العلم والاجتهاد ، وأحيوا سنة الجهاد والثبات في مقارعة العصبية والسلالية منذ وقت مبكر ، بمواقفه العلمية والعملية ، فلم تلن له قناة ولم يكسر له قلم ، كيف لا ؟! وهو المعروف بالشخصية الصلبة ، والصرامة في الحق ، من قبل ومن بعد ظهور الحركة الحوثية كجماعة سياسية وسيطرتها على الحكم في صنعاء .
وقد ناله أيضا منهم مانال السابقين من إخوانه العلماء الأحرار ، الكثير من الأذى والتشويه والتضليل من أقربائه منهم قبل غيرهم ، وألفوا فيه الكتب كما فعل أخوه أحمد الديلمي وسنذكر ذلك لاحقا إن شاء الله تعالى ، وحكموا عليه بالزيغ والكفر ، وأخرجوه من شجرة العائلة الهاشمية ، وأشاعوا عليه الشائعات ونشروا الأكاذيب والإفتراءات ، ومن ذلك فرية فتوى تكفيره لأهل الجنوب في حرب 94 م ، وقد نفى ذلك مرات ومرات ودعاهم إلى المباهلة في ذلك ، فجبنوا وفروا وتخفوا كخفافيش الظلام ، وأخيرا وبعد سيطرة ميليشياتهم البربرية المغولية المتوحشة على صنعاء كان العلامة الديلمي من أهم أهدافهم ، وكان اسمه في أعلى قائمتهم السوداء ، وقاموا باقتحام منزله من بين الاماكن المهمة التي اقتحموا وسيطروا عليها ، كما كان من أكبر أهدافهم اقتحام الجامعة التي ساهم في تأسيسها وإدارتها وتطويرها وهي جامعة الإيمان ، فخرج مهاجرا إلى ربه ،سائحا في أرضه ،حتى توفاه الله في أرض الفاتح اسطانبول ، سائرا على طريق العلامة المقبلي ، محييا ذكراه ، مذكرا به وبمسيرته الجهادية العلمية، ثابتا إلى آخر رمق ، ونعم الحياة والممات ، والبداية والنهاية ، والاستهلال والخاتمة ، ونرجو لهما أن يصدق عليهما معا قوله تعالى : (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما ) سورة النساء 100 .
وفي هذا رسالة لمن يضع كل المنتسبين للهاشمية في سلة واحدة ، بحجة مجرد الإشتراك في النسب مع الإمامية الكهنوتية ، فيعلن العداء على كل هاشمي في اليمن وغيرها ، الصالح منهم والطالح ، وفي هذا مجافاة للحقيقة ، وغلو مقيت ، ووقوع في الظلم ومنافاة للعدل ، وعدم إنصاف واتزان وتعقل ، وهو من ردات الفعل الخاطئة على التطرف بتطرف مثله من الجهة المقابلة ، ظنا من أولئك أن في سلوكهم حماية للمجتمع من هذا الفكر المنحرف ، ونسوا في غمرة التعصب البيان القرآني في شأن كل المعتقدات والأفكار حيث قال : "ليسوا سواء ..." ، وكذلك التفريق القرآني في هذا الشأن بقوله في كثيرا من المواضع : ومنهم .. ومنهم ..، .
ولا أدل على ذلك اليوم في اليمن من الحركة التي انتشرت على مواقع التواصل الإجتماعي والتي تسمى بحركة " الأقيال " ، والتي نتفق معها في الهدف النبيل ، وهو مقاومة فكر الهاشمية السياسية المتطرفة ، لكننا نختلف معها في أمور أخرى عديدة ، ويلاحظ عليها الكثير من الانحرافات الخطيرة ، والتي ينبغي أن تصفي فكرها وكيانها منها قبل فوات الآوان ، ويجب أن يتنبه العقلاء منهم لذلك ويسعوا للإصلاح الداخلي ، وأن لايدعو المجال للمتهورين والجهلاء والمندسين في الصفوف لتشويه صورتهم ، وأن يعوا أن اليمن يكفيه ماعاناه ويعانيه اليوم من المآسي جراء العصبيات والسلاليات ، وفي هذه الإشارة المختصرة هنا مايغني عن كثير العبارة ، هدى الله الجميع وردهم إلى الصواب والطريق المستقيم ، والله المستعان .
مظاهر محاربة العلامة الديلمي للمشروع السلالي
في اليمن :
سوف أشير بإيجاز إلى ثلاث نقاط تعتبر من أهم مظاهر مقارعة شيخنا لهذا الفكر الكهنوتي الخبيث وهي :
الأولى : بث الوعي بخطورة تلك السلالية العنصرية وعصبياتها : من خلال مؤلفاته ومحاضراته وغيرها، ومن أظهر الأدلة على ذلك ومما يعد خلاصة ونتيجة لذلك الجهد التوعوي الفكري الشرعي كتابه المشهور "جناية أدعياء الزيدية على الزيدية " والذي صدر في عام 1432هـ للرد على كتاب أخيه الهاشمي المتعصب / أحمد بن لطف الديلمي والذي بعنوان (الزيدية بين محب غالٍ ومبغضٍ قالٍ)، وصنيع شيخنا الدكتور عبدالوهاب الديلمي بقدر ماهو من جهة بيان للحق ورد على الباطل في قضية فكرية خطيرة وعقدية مهمة تمس واقع المجتمع اليمني ، وترسيخ للوعي الصحيح بها ، وتوضيح للمنهج المتعلق بها شرعا وواقعا ، وحماية لعقول أبناء اليمن ، فهو من جهة أخرى ولاء وتجرد للحق في مقابل أخيه من الدم وبدون أي مجاملة ولا محاباة ولا استحياء ، وهو بهذا يذكرنا بمواقف الجيل الفريد الأول من الصحابة رضي الله عنهم ، الذين سطروا الصفحات الرائعة وكانوا قدوة للأجيال في هذا المجال ، والذين أثنى عليهم القرآن في مثل قوله تعالى : ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون ) سورة المجادلة 22 ، والمقام لايتسع للحديث حول كتاب شيخنا ومايتضمنه من الردود المتينة، والحجج القوية ، والتفنيدات القيمة ، والفوائد العلمية النفيسة ، وتكفي هذه الإشارة الموجزة التي تفي بالغرض، ولعل فيها التحفيز لمن أراد العودة إلى الكتاب لينهل منه ويستفيد .
الثانية : القضاء على احتكار معهد القضاء بعد توليه وزارة العدل : كنا نلاحظ نحن أهل تهامة أن القضاة الذين يعينون في مناطقنا قادمون من صنعاء وما حولها ، اللهجة الصنعانية واضحة في ألسنتهم ، صورهم التي يظهر عليها النعيم ، ثيابهم وعمائمهم ، على سبيل المثال لم نر في ما أتذكر في بيت الفقيه قاضيا تهاميا تعين في المديرية حسب علمي أيام شبابي ! وكنا نسمع ذلك من أبناء سائر مناطق تهامة ! لكن حين تولى منصب وزارة العدل أحدث تغييرا هائلا في عملية قبول الطلاب فقد كانت السيطرة الإمامية على المعهد واضحة ومشهورة ، وكان من الصعوبة بمكان قبول الطلاب المحسوبين على المناطق السنية الشافعية وغيرها ، كان الطالب يحذر من البداية من القريبين منه ممن يعرف أنه ينوي التسجيل للدراسة ، وكانت عبارات اليأس والإحباط هي أول مايواجهه الطالب من خارج المعهد وداخله ، وأتذكر حالة أحد الطلاب من تهامة الذي تقدم للمعهد ورُفِض ، وكان بعد ذلك يحذر كل طالب من تهامة ينوي ذلك ، ويروي له تجربته المؤلمة ، ناصحا إياه باختصار الطريق وعدم إتعاب نفسه بلا طائل . لقد أحدث مايمكن أن يطلق عليه ثورة في معهد القضاء حيث سعى لقبول أكثر من 700 طالب من كل مناطق اليمن المختلفة ، لم يخف من العزل عن الوزارة أو تقييد صلاحياته ، ولم يبال برجالات الإمامية التي كانت منتشرة في مفاصل الدولة من أعلاها إلى أسفلها ، والذين كانوا ينخرون في جسد الدولة ويعبثون فيها بلا خوف من حسيب ولا رقيب ، ولذلك لا غرابة أن يحقد عليه السلاليون وأتباعهم .
الثالثة : موقفه من ظاهرة العنصرية في الزواج في اليمن : لايخفى على أحد في اليمن مدى انتشار ظاهرة العنصرية في الزواج ، والبحث عن أصل الشاب الذي يخطب البنت ، وطرح أسئلة متكررة مثل من هي عشيرته وقبيلته ؟!
هل هو قبيلي أو هاشمي ؟!
وماهي وظيفته هل هو حلاق أو جزار مثلا ؟ وغير ذلك من المهن التي تعتبر مؤثرة في مكانة الرجل عند الكثير للأسف !!!
ولازلت أذكر أنه وأثناء دراستنا في جامعة الإيمان الشرعية انتشر في الجامعة خبر تزويج الشيخ الديلمي لإحدى بناته من أحد طلابه ، والذي كان لايعود نسبه لنفس النسب الهاشمي للشيخ ! غير أنه كان طالبا محبوبا لدى الشيخ لدينه و لذكائه وهمته في طلب العلم ، وثار جدل كبير حول ذلك بين الناس ، وسببت الحادثة ضجة واسعة بين المقربين ومن له علاقة بالشيخ الديلمي ! وانقسم الناس لقسمين :
- قسم استغرب ذلك بشدة وأنكرها على الشيخ خاصة ممن هم من أقاربه والمنتسبين للمذهب الزيدي والفكر العنصري والبعض من المتعصبين لمثل هذه الآراء من السنة الذين يرون أن من أهم شروط النكاح التكافؤ في النسب والاشتراك في العرق الهاشمي ...
- وقسم آخر زاد حبا وإجلالا وتقديرا للشيخ وهم أغلب طلاب الشيخ وإخوانه من العلماء من أهل السنة في اليمن ، وذلك لكون الشيخ لايبالي إلا للشروط الجوهرية التي وردت في النصوص وهي الدين والخلق كما ورد في الحديث الذي رواه الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قال : إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه ، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض "
- أخيرا بمثل تلك المواقف ظهر العلامة الديلمي رحمه الله كعالم يفقه الإسلام على حقيقته وبمبادئه الإنسانية السامية ، لاعنصرية فيه ولا محاباة لشخص ولا لأسرة ولا عشيرة ، والكل فيه سواسية لا رفعة ولامكانة فيه لأحد إلا بتقواه مصداقا لقول علي بن ابي طالب رضي الله عنه :
لعمرك ما الإنسان إلا بدينه
فلا تترك التقوى اتكالاً على النسب
فقد رفع الاسلامُ سلمانَ فارسٍ
وقد وضعَ الشِّركُ الشَّريفَ أَبَا لَهَب
وهكذا تتبين لنا شخصية هذا العلم الإمام المجدد المجتهد ، الذي لم يكن علما في العلم والفقه فقط بل كان كذلك علما في ميادين الجهاد والتجديد والتغيير والإصلاح والوعي .
وماتلك المواقف الجليلة المذكورة إلا مجرد أمثلة فقط لما اطلعت عليه ولست مطلعا على الكثير ، وهي نموذج لريادة شيخنا وجهاده في القضاء على كل فكرة سلالية طائفية ، وتحطيم كل أصنام الإمامية الكهنوتية ، وطمس كل ظلمات الجهل والعصبية ، وفي ذلك بعض الدروس والاعتبار لأولي الألباب والأبصار .
علما أن الشيخ كان رجل سلم وسلام ، وتسامح وتعايش وحوار ، ولم يحمل سلاحا ، سوى سلاح القلم والكلمة ، وجهاده جهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلسانه ، وبالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن ، ومن يطلع على حواراته وردوده على المخالف يجد الرد العقلاني الهادئ ، والأسلوب الرصين ، والكلمة الجميلة ، والنصيحة المشفقة ، والأدب الجم ، والخلق الحسن .
جزى الله شيخنا على جهوده الكبيرة في هذا الجانب وحفظ اليمن وأبناءه من شرور هذه الجماعات السلالية الكهنوتية والأفكار العنصرية المتطرفة اليوم وغدا وإلى قيام الساعة .