أساس قناعة قاضي التحقيق(4)
سميرة بيطام
ثالثا: الانتقادات الموجهة لمبدأ القناعة الوجدانية
يتمتع قاضي التحقيق بالحرية المطلقة بأن يقوم بالإجراءات المتعلقة بالدعوى المعروضة عليه .
فهو مستقل عن النيابة العامة على الرغم من تلقيه الطلب الافتتاحي من وكيل الجمهورية لأن هذا الطلب يعتبر مجرد وسيلة قانونية لتحريك الدعوى العمومية و ليس تكليفا أو أمرا صادرا من النيابة العامة.
و بمجرد ان يباشر القاضي إجراءات التحقيق فانه يصبح غير تابع لأي جهة ، و لقد نصت المادة 69 من قانون الإجراءات الجزائية على أنه ( يجوز لوكيل الجمهورية سواء في طلبه الافتتاحي لإجراء التحقيق أن يطلب من القاضي المحقق كل إجراء يراه مناسبا لإظهار الحقيقة).
و لقد كان لإجراء الاختبارات الطبية في مجال الإثبات الجنائي دعم لمبدأ القناعة الوجدانية لقاضي التحقيق لما لها من نتائج مؤكدة أو نافية لإقامة الدليل ، و نظرا لما لهذا الموضوع من أهمية فقد نوقشت مسائل عدة سواء على المستوى الوطني أو الدولي.
من ذلك كان شرط قبول الدليل البيولوجي كصنف من الأدلة العلمية لا يتأتى إلا بإجراء تحاليل و اختبار للأثر المتحصل عليه ، فلا يمكن تكييف السياقة في حالة سكر إلا بثبوت تعاطي الكحول و هذا باستعمال طريقتين هما :
*الكشف بواسطة Ethylotest،أين تم النفخ في جهاز صغير و هو استعمال فردي و لا يجوز لأكثر من شخص.
*الكشف بواسطة Ethylometre ، و هو جهاز يعطي نسبة الكحول في الدم بعد 15 دقيقة من الاختبار.
غير ان هناك جرائم أخرى لا يمكن الإثبات فيها أو قبول الدليل إلا بعد إجراء اختبارات مغايرة للتحاليل مثل جريمة تناول المخدرات أو الأدوية المهلوسة و التي يكون لها الأثر الكبير في ارتكاب الجرائم ،إذ لا بد من القيام بفحوصات و اختبارات و إلا سيكون الحصول على الدليل مستحيلا و من ثم يتعذر قبوله ، مثل اختبار غسيل المعدة .
فقد ذهب جانب من الفقه إلى عدم مشروعية إجراء غسيل المعدة على اعتبار أن ما يتحصل منه يكون ضد إرادة المتهم لحصوله عن طريق الإكراه المادي ، فهو من قبيل الأعمال القاسية التي تحتوي على اعتداء على الكيان المادي للمرء ، غير أن البعض الآخر من الفقه يجيز هذا الإجراء لأن القول بغير ذلك يلحق ضررا بالمصلحة العامة ، و إفلات المجرمين من العقاب .
صحيح أن قانون الإجراءات الجزائية الجزائري لم يرد فيه نص صريح في هذا المجال ، ماعدا النصوص التي تخول للقاضي حرية في الإثبات مثل نص المادة 68 من نفس القانون و التي فتحت مجالا واسعا للقاضي بأن يقوم بإجراءات التحقيق و اتخاذ جميع الإجراءات التي يراها مناسبة للكشف عن الحقيقة و هذا بالتحري عن أدلة الإثبات و النهي ، لكن حبذا لو كان فيه توضيح أكثر من القانون و هذا بما يحفظ الكرامة الإنسانية و في نسف الوقت بما يدفع للتحقيق الدقيق لأجل استخلاص الدليل وفق المعايير المعمول بها حتى يصبح أهلا للقبول على مستوى جلسات المحاكم .
يقول الأستاذ "جيوفاني ليوني ": مبدأ حرية القاضي في الاقتناع يتعلق بسلطة القاضي في أن يخضع طرق الإثبات المطروحة تحت نظره لأقصى درجات الحرية في النقد دون إفلات مع ذلك من قيود معينة.
و مع الأخذ بعين الاعتبار أن سلطة القاضي في قبول الدليل تتسع و تضيق باختلاف الأنظمة و التشريعات القانونية.
فمبدأ حرية الإثبات في القانون الفرنسي نصت عليها المادة 427 من قانون الإجراءات الجزائية بنصها " تثبت الجرائم بجميع طرق الإثبات ما لم ينص القانون على خلاف ذلك"
حتى أن التشريع المصري نهج نفس المنهج و هذا في نص المادة 291 من قانون الإجراءات الجنائية بنصها " للمحكمة أن تأمر و لو من تلقاء نفسها أثناء نظر الدعوى بتقديم أي دليل تراه لازما لظهور الحقيقة".
أما القوانين الأنجلوساكسونية فإنها تحدد أدلة الإثبات المقبولة في مرحلة الفصل في مسألة الإدانة آو البراءة ، أما في مرحلة تحديد العقاب فإنها تأخذ بمبدأ حرية الإثبات بشكل مطلق لدرجة أنها تسمح بقبول الدليل العلمي و البيولوجي منه خاصة ، لأنه بدون هذه الفحوصات لأي يمكن الإثبات بوسائل أخرى ،فكيف يمكن إثبات جريمة تناول المخدرات ان لم يتم فحص لعاب المجرم؟ ، أو كيف يمكن إثبات جريمة الاغتصاب إن لم يتم تحليل السائل المنوي لمعرفة الجاني الحقيقي من خلال الحمض النووي؟.
و في هذا الشأن أصدرت محكمة النقض الفرنسية العديد من القرارات التي توجه العمل القضائي في هذا الباب و نتناولها في الفقرات التالية حتى نزيل بعض الغموض الذي يكتنف مسألة مشروعية و نزاهة الحصول على أدلة الإثبات الجزائي ، و في البداية يمكن الاسترشاد في هذا المجال بمبادئ و معالم على الطريق يتعين مراعاتها و أهمها:
*احترام كرامة الإنسان و احترام حياته الخاصة.
*التقيد باحترام القواعد الإجرائية من طرف المصالح العمومية
*منع كل تصرف يشكل تشجيعا أو تحريضا على ارتكاب الجرم ثم استغلال الأدلة المحصلة من خلاله.
*السماح لمن يكون ضحية جرم أو يحضر ما يراه من أدلة في إطار حقه في الدفاع
*قانون الإجراءات الجزائية يشترط فقط طرح الأدلة على بساط البحث و مناقشتها بصفة وجاهية * ، و لم يشترط نزاهتها أو مشروعيتها (1).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الوجاهية أو مبدأ المواجهة : يعرفها الأستاذ Fisselier على أنها الخصم بالعناصر المقدمة من الخصم الآخر، و احترام هذا المبدأ واجب الخصوم ، و هذا ما قرره المشرع الفرنسي في المادة 15 من تقنين المرافعات التي توجب على الخصوم أن يتبادلوا العلم في وقت مفيد بأوجه الواقع التي يؤسسون عليها ادعاءاتهم و عناصر الإثبات التي يقدمونها.
(1)أنظر: التزام القاضي باحترام مبدأ المواجهة للدكتور عيد محمد القصاص ، القاهرة ،دار النهضة العربية ، 1994، ص 10،11،54.