عبد الباسط الشيخ إبراهيم
حتلُّ الإمامة في الصلاة مكانة رفيعة في الدين الإسلامي، لأنها وظيفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وأول وأفضل إمام في المسلمين هو الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ، ولم يتأخر عن إمامة المصلين في مسجده الشريف منذ الهجرة المباركة إلى انتقاله إلى الرفيق الأعلى يوما واحدا إلا إذا كان مسافرا ، أو ألمَّ به عارض صحي أعاقه عن الإمامة كما حصل له صلى الله عليه وسلم في مرض موته ، وكان ينوب عنه أحد الصحابة في فترة غيابه عن المدينة ، ولأهمية إمامة الصلاة أمر النبي (ص) أبابكر الصديق بإمامة الناس في أيامه الأخيرة .
ويمثل الإمام القائد، والقاضي، والمصلح والموجِّه الاجتماعي، والواعظ ، والمعلم ، وغير ذلك من الأعمال التي يعود نفعها على المجتمع دينا ودنيا .
والملاحظ عبر التاريخ الإسلامي الطويل يرى أن الدور الريادي للإمام قد تقلص كثيرا منذ انقضاء الخلافة الراشدة إلى يومنا هذا ، وخاصة بعد تأسيس الدولة المدنية التي استحوذت على كثير من الأعمال التي كان يقوم بها إمام المسجد سابقا ، حتي أصبح عمل الإمام في كثير من البلدان الإسلامية مجرد وظيفة يشبه كثيرا بالإنسان الألي ( روبوت ) الذي يتحرك حسب صانعه وسيدِّه ، ويكون تحت الطلب عند الحاجة، فإن استغني عنه فلا مكان له في دنيا الناس .
وليس معنى ذلك بأن كل الأئمة يندرجون تحت هذا البند ، بل هناك أئمة فضلاء يؤدون دورهم القيادي والعلمي والاجتماعي في مقر عملهم ومساجدهم ومحيطهم ، ويلقون العنت والتشويه من بعض من يحبون أن تشيع الفاحشة في الدين آمنوا ، ويكرهون نشر الخير بين الأمة .
وأما حالة إمام المسجد في بلاد المهجر التي يمثل المسلمون فيها أقلية لا تتوفر لهم كثير من الخدمات الموجودة في بلادهم الأصلية، تصبح مسؤولية الإمام عظيمة وكبيرة ومتنوعة في ذات الأمر ، حيث لا تنحصر هذه المسؤولية في إمامة الصلاة فقط ، بل هو الخطيب ، والمعلم ، والشيخ ، والمفتي ، والمأذون الشرعي ، وولي من لا ولي لها ، والمصلح الشرعي ، والقاضي الداخلي في فضِّ المنازعات بين المسلمين ، والمصلح الاجتماعي في قضايا الزوجية من الطلاق والفسخ والخلع ، وغير ذلك من احتياجات الجالية الشرعية ، كما يمثل الوجه المشرف للجالية المسلمة في الغرب ، وكذا الممثل والناطق الرسمي لدى الجهات الرسمية ، وكلامه وتوجيهاته وتحذيراته تلقى آذانا صاغية للجميع .
ولكن المتتبع لأحوال المساجد ودور الأئمة في هذا الصرح العظيم يجد أن دور الإمام لا يرقى في كثير من الأحيان الحدَّ الأدني للمهمة المناطة إليه، وتحولت الإمامة إلى وظيفة عند كثير من الأئمة إلا من رحم ربك ، ولم يعد الإمام يستطيع القيام بواجبه الشرعي والاجتماعي بالصورة الصحيحة من أجل أسباب وأمور راجعة إليه أو بالوضع الإداري للمسجد أو المركز الديني .
ومن هذا الأسباب التي تقف دون أداء هذا الواجب العظيم :
-
تدني التحصيل العلمي لكثير من الأئمة ، حيث ظنَّ الكثير منهم بأنه تجاوز القنطرة ، وأن جلوسه في حلق العلم يُضعف مكانته الدينية والاجتماعية ، كما لا يقومون بتطوير وتوسيع مستواهم المعرفي، مما جعل معلوماتهم العلمية تتوقف عند حدها .
-
عدم إجادة الغالبية العظمي من أئمة المساجد في بلاد المهجر اللغات الأوروبية ، وعدم سعيهم في تعلمها ، والاكتفاء بلغة الجالية التي ينتمون إليها، مما باعد الهوة بينهم وبين الجيل الناشىء في هذه البيئة الذي لا يفهم دينه إلا باللغات العصرية ، وهذا الحاجز اللغوي حال دونه أداء مهمته الشرعية والتربوية .
-
قضاء عدد من الأئمة أوقاتهم في أمور إدارية، أو التطواف في بلدان الخارج والداخل بغية جمع التبرعات للمسجد ، أو المشاركة في ملتقيات دعوية خارج مناطق سكناهم لإجل إفادة الآخرين ، مع تعطل أو توقف الأنشطة الدعوية في داخل مراكزهم ، مما جعل الناس يزهدون عن حلقات العلم .
-
بعض الأئمة لا يقبلون في مساجدهم ولا ينوِّبون عند غيبتهم، ولا يحبذون ولايستعينون في مناشطهم الدعوية والعلمية إلا من يتقاطع مع المصالح الشخصية أو الحزبية ، مما جعل من يتولى الإمامة والخطابة والتدريس في كثير من الأحيان منْ ليس مؤهلا ومدربا في مجال الدعوة .
-
تُمارس بعض الإدارات في المساجد نوعا من الدكتاتورية تجاه الإمام ، حيث يحدد دوره في المسجد بالإمامة أو الخطبة فقط، ولا يسمح له بأداء دور أكثر من ذلك ، مما ينتج عن تحجيم مهام الإمام .
-
يجعل بعض الأئمة طبعهم الشخصي ( من الإنطواء وعدم الاختلاط، أو الغلظة والحدة ، أو المزح المفرط ، أو الوسوسة المفرطة عن كل شيء ، أو غير ذلك مما له علاقة بظروف الشخص القابلة للتغير ) مقياسا للتعامل الشرعي مع مرتادي المساجد أو المجتمع كله ، فكل من لم يقبله في طبعه وخلقه الشخصي يصنفه من خصوم الدين والشرع ، ولذا أوجد هذا الفهم المغلوط في تحجيم مهمة الإمام وأداء رسالته على الوجه الأكمل .
وقد يتناسى هذا الإمام الكريم بأن طبعه وخلقه الشخصي ليس حكما على الشرع، بل العكس هو الصحيح ، وكان الواجب عليه أن يضع جانبا بما في مكنونه الداخلي ، ويتعامل مع المدعوين بالتي هي أحسن حتي تثمر دعوته، ويتقبل الناس توجيهاته وتصويباته .
-
عدم تواصل الأئمة وتبادل الخبرات فيما بينهم حتى ولو كانوا في حي واحد ، لأسباب كثيرة لا يمكن حصرها ، منها العرقية أو المذهبية أو الفكرية أو الحزبية أو غير ذلك من التقسيمات التي تنتشر بين الجالية المسلمة في المجهر ، مما أعاق دور الأئمة في التعاون والتعاضد في نشر الخير وتكثيره ، وبدل ذلك أصبح الإمام يتمحور في محيط جاليته، كأن الآخرين لا يشاركونه في همِّ الدعوة .