مشكلات في الجريمة
سميرة بيطام
لقد اختلف الفقه في تحديد الأركان العامة للجريمة بين اتجاهين : الاتجاه الأول تقليدي ،يرى أن الجريمة مكونها هو ركنين ، الركن المادي و الركن المعنوي ، و فيه ركن ثالث يضاف الى الركنين السابقين و هو الركن الشرعي .سميرة بيطام
و الحكمة في استبعاد الركن الشرعي من الأركان هو أن نص التجريم الواجب التطبيق هو الفعل و من الصعب اعتبار نص التجريم ركنا في الجريمة لأنه هو مصدر وجودها أصلا و بالتالي لا يمكن اعتبار منشئ الفعل و مصدره هو ركن فيه، كما يضيف هذا الرأي أن الركن الشرعي لا يعدو الا أن يكون صفة للفعل الاجرامي و الذي يعتبر الركن المادي للجريمة.
فالركن الشرعي للجريمة هو الصفة الغير مشروعة للفعل ، و هذه الصفة تتحقق بشرطين و هما :
*اذا كان خضوعه لنص من نصوص التجريم يقرر فيه القانون عقابا على من يرتكبه.
*عدم خضوعه لسبب من أسباب الاباحة فتنتفي الصفة الأولى عنه.
فالأركان المذكورة سابقا هي التي يجب أن تتوفر في أي نوع من أنواع الجريمة و ان تخلف ركن واحد فلا تقوم الجريمة ، و هناك أركان خاصة تشتق من الأركان العامة و تختلف باختلاف نوع الجريمة المرتكبة .
أما بالنسبة للقالب القانوني الذي يحتوي الجناية مهما كان نوعها فهو ذاك الاطار الذي يحدد الجريمة و صفة الجاني و درجة تضرر المجني عليه ، و لكن فيه مشكلة تطرح على المشرع و على رجال القانون و لكل المهتمين بالشأن الاجرامي و هي :
حال ظهور جرائم جديدة ،لماذا يكون فيه تأخير عن احتواء الصنف الجديد للإجرام بقانون جديد و بوتيرة السرعة المطلوبة لمحاصرة الجريمة و الجاني في آن لكي لا تتوسع و لا تنتشر خاصة ان وجدت لها ثغرة قانونية تتسلل منها ، مثال على ذلك الجريمة الالكترونية ، ظهرت لدى مستعملي الأجهزة الالكترونية و كان فيه تباطؤ ملاحظ لتقييدها بقانون يضع لها تعريف محدد وواضح و شامل كما يرفق التعريف بالعقوبة المقررة لها وفق نوعها ، لأن الجريمة الالكترونية في حد ذاتها تتنوع بحسب الفاعل و سنه و الفعل المرتكب ، فجريمة اختلاس مال من حساب شخص آخر عن طريق التزوير أو استعمال البطاقة المصرفية الشخصية ليس كجريمة تحريض قاصر على القيام بفعل غير مشروع ، و بالتالي هذا اشكال يطرح نفسه بنفسه، هذا من جهة .
من جهة أخرى ،جريمة القتل عن طريق التسميم يقوم فيها اشكال في حالة وضع شخص لكمية من السم في مشروب و يسلم الكوب لشخص آخر ليقدمه للضحية المقصود قتله بالتسميم ، فالشخص الثاني لا يعلم بوجود السم و هو من سلم المجني الكوب ليشربه و هنا جريمة شروع للقتل ، فان ما تم الفعل بموت المجني عليه تعتبر الجريمة تامة و ان لم يمت كان الفعل شروعا ، و لكن الاشكال المطروح هنا هو تمويه الفاعل الحقيقي ،فقد يذهب الشخص الثاني ضحية فعل الشخص الأول و حتى طريقة تسليم الكوب ، ربما في مطعم أو ملهى مثلا و يوضع على طاولة التوزيع فيأتي الشخص الثاني و يأخذ الكوب المقدم على الطاولة و ينقله مباشرة للمعني و هو لا يعلم بوجود مادة سامة..و كمية السم المقدمة هي من يقرر الفعل في تكييفه ، فقد تكون كمية السم المقدمة بجرعة خفيفة جدا ما يبطئ فعل الموت و قد لا يتم فتبقى الجريمة مكيفة على أنها شروع لأن المادة الضارة وضعت بفعل فاعل حتى لو كان مجهولا و نقل المشروب الى الضحية قد تم و شرب المادة قد تم ، يبقى تأثير المادة السامة على الجسم هي من تقرر تمام الجريمة من تكييفها مجرد شروع في الفعل. فقد طالعت عن حادثة تسميم في الأكل في قرار محكمة النقض و الابرام المصرية بتاريخ 22 مايو 1928 الطعن 909/45 ق ،أنه ليس من الضروري لصحة الحكم مقدار "الزرنيخ" و هي مادة سامة و التي وضعت في الطعام و تسبب عنه الموت اذ قد يتفق أن يتعذر معرفة مقداره و ان كان يزيد عن الجرعة القاتلة.
كذلك ارتكاب جريمة الشروع في القتل بإطلاق أعيرة نارية على المجني عليه فأصابته ، و في نفس الوقت قام الجاني بعملية سطو على منزل الضحية ، فهنا لا ينكر أن الفعل المرتكب هو فعل واحد متمثل في شيئين هو جريمة سرقة بالإكراه من خلال اطلاق أعيرة نارية ، فقد يقع خلط في تكييف الجناية ، هل هي جريمة قتل أولا ثم جريمة سرقة ، أم هي جريمة سرقة عن طريق الشروع في القتل ، فالتكييف يختلف وفيه صعوبة لفهم الحدثين مع توافر عامل زمني ( الليل ) و هو ظرف مشدد ما يزيد من عبء التكييف القانوني الصحيح و لذلك يأخذ محققوا الاجرام وقتا كافيا لفرز وقائع أي جريمة ، و بالمثل بالنسبة لجريمة اغتصاب ، هل كانت الضحية المعتدى عليها تحت ضغط الاكراه لإضعاف ارادة المقاومة لديها أم ان الفعل تم برضى منها ، و هنا تقرير خبرة الخبير( الطبيب الشرعي)هو من يحدد نسبة الفعل ان كانت الضحية حية من خلال الفحص الدقيق على الأماكن التي وقع فيها الاغتصاب، و هل صاحب الفعل كسور أو خدوش أو تمثيل للضحية باستعمال آداة حادة على مناطق من جسمها ، أما ان وجدت الضحية ميتة فعملية التشريح توضح المستور بفحص المعدة ، ربما تناولت مسكر كخمر أو مخدر أو سم...
كذلك ، هناك مشكل مهم للطرح و هو تغيير مسرح الجريمة من الآثار البيولوجية المتواجدة فيه من جسم الضحية أو المجني عليه كوضع قطرات دم لشخص لا يمت بصلة لمسرح الجريمة وتلطيخ مسرح الجريمة به حتى عندما تنقل العينات للمخبر لتحليل مادة DNA تتسب النتيجة لشخص لم يكن أصلا متواجدا بمسرح الجريمة و هذا الاشكال يطرح بكثرة نظرا لذكاء الجاني و محاولته لطمس الادلة الحقيقية الخاصة به ، و لكن نظرية لوكارد تلغي هذا الاحتمال بنسبة أكيدة و هذه النظرية مضمونها أن أي تلامس بين جسمين الا و يترك أثر ، يعني أن الجاني يستحيل جدا أن لا يترك أثره في مسرح الجريمة ، فقط يبقى العلم يفتح آفاق جديدة للتزييف و التزوير و هو ما أصبح مطلوبا من المشرع أن يواكب هذا التطور في الاجرام و في طريقة ارتكاب الجريمة و اعادة تمثيل مسرح جريمة آخر لصرف نظر المحققين عن الأدلة الحقيقية.. فالوعي و الحذر و الذكاء مؤهلات مطلوبة بدقة في عملية التحري الجنائي و لا بد من متابعات تكوينية في هذا المجال لتقديم المعلومات والتقنيات الجديدة و لا بد للحضور أن يشمل الخبراء( التخصص السيرولوجي و الميكروسكوبي و تشريح الجثث) و المحققين و كذا رجال القانون لفهم الجريمة الحديثة فهما جيدا ، و بالتالي تكون فيه نوع من المواكبة لأي ظهور جديد لطرق الإجرام ووضع النصوص القانونية التي تكافح الظاهرة الاجرامية مهما كان نوعها و درجتها و صفة مرتبكيها منذ البداية حتى لا تتفاقم ..
لذلك كان لابد من الانتباه و التركيز في تحليل المضبوطات في القضايا الجنائية ،من تحليل للمواد السامة بأنواعها و فحص عينات الأحشاء أو القيء أو البول أو نحوها من أثر الضحية و كذا جثث القتلى في الحوادث الجنائية لتحليلها بحثا عن مبيدات الحشرات و السموم الأخرى ، بما فيها مادة البارود و الرصاص و المفرقعات و الذخائر في جرائم القتل التي تمت بسلاح ناري ، فبقدر تحليل المواد تحليلا كيميائيا دقيقا بقدر ضمان نجاح التحقيق الجنائي و بالتالي الوصول الى الجاني الحقيقي و تسليط العقوبة المقررة لذلك.. و يكون القضاة في اصدار أحكامهم على قدر عال جدا من الاتزان و الاقتناع ، فيا ما في السجن من مظاليم و كثيرة جدا قضايا حكم فيها على أبرياء تم سجنهم لسنوات طويلة و بعد اعادة فحص مادة DNA تمت تبرئتهم ، و من الأمثلة الشهيرة قضية الدكتور "سام شبرد" الذي اتهم بقتل زوجته عن طريق الضرب حتى الموت في عام 1955 أمام محكمي أوهايو في الولايات المتحدة الأمريكية ،و هذه القضية كانت فكرة لفيلم شهير بعنوان "الهارب" The Fugitive -- في سنة 1984، لكن في فترة وجيزة تحولت القضية الى قضية رأي عام ، و أذيعت المحاكمة عبر الراديو و سمح لجميع وكالات الأنباء بالحضور ، و لم يكن بيت في هذه الولاية الا وطالب بالقصاص ،ووسط هذا الضغط الاعلامي أغلق ملف قضية كان يذكر احتمالية وجود شخص ثالث وجدت دمائه على سرير الضحية ، قضى بذلك الدكتور شبرد عشر سنوات في السجن و لكن بعد سنوات أعيد فتح ملف القضية في سنة 1965 و حصل على برائته التي لم يقتنع بها الكثيرون حتى سنة 1993 حيث طالب ابن شبرد بإعادة فحص البصمة الوراثية ،فطالب القضاء بإعادة فحص البصمة الوراثية لشبرد و كذا الدماء المتواجدة على سرير الضحية فتبين أنها لصديق العائلة بعد أن أدانته البصمة الوراثية و طويت القضية سنة 2000 حينما تركت البصمة الوراثية الدليل الحقيقي...و الكثير الكثير من القضايا الشبيهة بهذه .