إلى كل من ابتلي بالسحر
سميرة بيطام
قبل أن أخوض في تفاصيل هذا الموضوع، وهو: كارثة السِّحر؛ لأنه بالنسبة لي مأساة حقيقية، بودي أن أُحيي كل مبتلًى وكل مُبتلاة تجرَّع أو تجرَّعت من كأس السحر جرعات سامَّة، وإني أعتبر السعي للتخلص من آثار هذه الجريمة جهادًا كبيرًا، خاصة حين يكون السحر قديمًا.
إن جريمة السحر لم تكيفها القوانين الوضعية، لكن الشريعة السمحاء خصت لها وافرًا من الاهتمام والتفصيل، وصنَّفت هذا الفعل الحرام بأنه من الكبائر.
فهنيئًا لكل من ابتلي بالسحر، فالأجر كبير والمغفرة أكبر من عند الله تعالى.
لقد وردت نصوص في القرآن الكريم تناولت هذه الظاهرة في سور قرآنية عديدة، منها قوله تعالى: ﴿ وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ﴾ [طه: 69].
يكفينا من هذه الآية الكريمة أن الساحر لا فلاح له في الدنيا والآخرة، ولو أتى مشارق الأرض ومغاربها، إنه غضبُ الله وسخطه على السحرة الكفَرة الفجَرة.
وفي آية أخرى قوله تعالى: ﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 102].
والمواضع كثيرة في القرآن الكريم تكلمَت عن السحر، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على إقرارية هذا الأذى، والذي هو في حقيقته ابتلاء من الله - عز وجل - لحِكَم عديدة؛ منها اختبار صبر المسحور في كيفية تعاطيه مع هذا الابتلاء، واختبار صبره في طريقة تَقرُّبه من الله - عز وجل - طلبًا للشفاء، لا أخفي حقيقة أن هذا الابتلاء عظيم؛ لما يُحدثه من آفات اجتماعية وصحية ونفسية؛ لذلك أهنِّئ كل من ابتُلي بهذا الابتلاء وصبر واحتسب لله.
فالسحر على اختلاف أنواعه - سواء كان مأكولاً أو مشروبًا أو مشمومًا أو مدفونًا - فيه من الخطر الكبير والمؤثر على صحة المسحور، خاصة المأكول؛ لأنه يؤثر على صحة الإنسان بشكل خطير وملحوظ، فكم من طالبة نجيبة ومتفوقة في دراستها فقَدت وعي عقلها الذكي بسبب السحر وأصبحت لا تعي ما تقول! وكم من معافًى في بدنه أصبح يشكو مرَضًا مُزمِنًا ومُستديمًا في جسمه كمرض السرطان والأخص سرطان الدم والثدي عافانا الله! وكم من زوجة تحوَّلت حياتها إلى جحيم لتنقلب مسيرتها رأسًا على عقب! وكم من مدللة في بيت الدلال أصبحت منبوذة بمعنى الكلمة ليكرهها الأهل والأصدقاء والأوفياء ممَّن عرفوها قبل أن تُصاب بالسحر! صدقًا هو جحيم لا يوصف في مظهره، ولكن في لُبِّه هو ابتلاء بمشيئة من الله - عز وجل - ويجب أن تؤخذ الأمور في الابتلاء بالتقبُّل والصبر والرضا بقدر الله دونما سخط أو رفض، ويجب المسارعة للأخذ بأسباب العلاج والشفاء بيد الله؛ كالعلاج بالرقية الشرعية، وزيارة بيت الله الحرام لشرب ماء زمزم بنية طلب الشفاء بكل يقين من أن الله هو الشافي ليَبقى رفع الأذى والضرر بميقات من الله وبسبب من الأسباب، ولا داعي لاستعجال الشفاء؛ فكل ذلك عند الله في أوانه، وليس على العبد إلا الصبر والاحتساب.
لكن ما يلاحظ عند بعض المبتلَين بهذا الابتلاء علامة اليأس من الشفاء أو في فك السحر، خاصة عندما يطول زمن العلاج، فلِمَ العجَلة ما دام الأمر مُقدرًا من الله - عز وجل؟
ألم يُبتلَ حبيبنا محمد - صلى الله عليه وسلم - بالسِّحر وهو أفضل الخَلق؟! حيث روى البخاري في صحيحه عن عائشة - رضي الله عنها - أن رجلاً من بني زريق يقال له: لبيد بن الأعصم، سحَر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى كان الرسول يُخيَّل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله.
صحيح أن ضرر السِّحر من أعظم المصائب؛ لما له من تأثير على عقل وسلوك المسحور، ولكن إن صبر فالأجر عظيم من عند الله - عز وجل - ومَن منا لا يرضى بأمر الله وثوابه في جنات النعيم؟!
وقد وردت هذه البشرى في قوله تعالى: ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155 - 157]، فالبشارة فيها صلوات من الله، وتأكيد على أن الصابرين على البلاء هم المهتدون، ألا يكفي هذا الثواب للصبر والتصبر؟ ثم العبد وماله وما يَملك هو في حقيقة الأمر ملك لله - عز وجل - قبل أن يكون مِلكًا للعبد، وهل لنا سؤال أو اعتراض لملك الله؟
ثم مآل العبد في النهاية هو الموت، فالعبد حين يرحل عن الدنيا يُخلف وراءه أهله وماله وصحبه، ويأتي إلى قبره دونما أنيس من البشر، ليبقى عمله الصالح هو أنيسه، فكيف للعبد أن يأسى على ما فقد؟ وبالمرة ألا يحب المؤمن أن يَبتليه الله بعد أن يختاره ليخوض غمار الابتلاء بحِكمة متناهية فيها من البطولة والمغامرة في التحمل والصبر ما قد لا يقدر عليه غيره؟
فعن صُهيب الرومي - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((عجبًا لأمر المؤمن؛ إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابتْه سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له))؛ رواه مسلم.
والمؤمن يُبتلى على قدر إيمانه، وليس على المؤمن أن يَكره ما يصيبه من ابتلاء، صحيح في بداية الابتلاء العبدُ المبتلى لا يُدرك أنه في امتحان واختبار، فتَصدُر منه سلوكات مُنافية للخلُق السويِّ؛ كالعصبية الزائدة، وهجَر الأحباب وقطيعتهم، والتسبُّب لهم في الأذى سواء اللفظي أو المعنوي دون قصد منه ودونما أي تبرير واضح لسلوكه، خاصة وأنه قبل الابتلاء لم يأتِ بمثل هذه الأفعال، ولكن بعد أن يسارع في العلاج بالطرق المشروعة والمنصوص عليها شرعًا كالرقية والحجامة ومُداوَمة قراءة القرآن الكريم والأذكار الشرعية، تظهَر عليه علامات التحسُّن في جسمه وسلوكه، والاستِحسان من مقربيه، فيستعيد علاقاته، ويُشفى من أسقامه، ويتعافى في جسده وفي عقله، ليَصحو من غفلة أو سبات عميق من الأوهام والوساوس والهواجِس، فيُدرك بنفسه أنه كان مغلوبًا على أمره.
وأرى أن على من يتعامل مع المسحور ضرورة التفهُّم والعفو والصفح، وإن كان الله - سبحانه وتعالى - هو من يُحوِّل المحنة إلى منحة؛ ليظهر أثر نعمته جليًّا واضحًا، فلله الحمد دائمًا وأبدًا.
ومن جهة أخرى، لا داعي للاستهزاء أو السخرية من ضعف المبتلى بالسحر، فمن يدري فقد يبتلى هؤلاء بنفس الضرر ليغدو بلاءً لهم؛ لأنه في يوم من الأيام بدر منهم سلوك التعالي والتكبر والضحك على المبتلى بالسحر، وهذا خلُق غير محمود مصداقًا لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ ﴾ [المطففين: 29 - 31].
هنيئًا للمبتلَين، هنيئًا للصابرين، هنيئًا للمُحتسبين، مع كل هذا هنيئًا للعائدين إلى الله وقت الابتلاء، ثم هنيئًا للمُنتصرين بفرج من الله ويسْر كبيرَين، فالله فوق كل شيء ويعلم خائنة الأعيُن وما تُكنه الصدور، فلا داعي للقلق أو الحزن على ماضٍ ولَّى، فيكفي أنه أصبح ماضيًا، ومباركًا للمُبتلَين بغدٍ مُشرِق بالأمل والتفاؤل.
فلكلِّ مبتلى ولكل مبتلاة بالسحر مع جموع المبتلَين: طوبى لكم، والله هو الناصر.