من أدب المحدثين مع سيد المرسلين في مصنفاتهم!
د.محمد إبراهيم العشماوي
الأستاذ في جامعة الأزهر
المحدثون هم أولى الناس بتوقير رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم أعرف الناس بقدره، وأكثرهم محبة له، وصلاة وسلاما عليه؛ لتكرر ذكره في كلامهم نطقا وكتابة!
ومن بالغ توقيرهم له صلى الله عليه وسلم؛ أنهم خالفوا الترتيب الهجائي للحروف، بل خالفوا المنهج الذي اشترطوه على أنفسهم في التصنيف؛ مراعاة للأدب معه صلى الله عليه وسلم، فيقدمون ذكر اسمه الشريف على سائر الأسماء، حتى الأسماء التي تبدأ بالهمزة التي هي أول الحروف، ثم يذكرون بقية الأسامي المبدوءة بالميم في موضعها من حرف الميم، فها هو إمام المحدثين وشيخهم محمد بن إسماعيل البخاري - رضي الله عنه - يقول في (تاريخه الكبير): ((هذه الأسامي وضعت على(ا،ب،ت،ث)، وإنما بدئ بمحمد من بين حروف (ا،ب،ت،ث)؛ لحال النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن اسمه محمد صلى الله عليه.
فإذا فرغ من المحمدين ابتدئ في الألف ثم الباء ثم التاء ثم الثاء، ثم ينتهى بها إلى آخر حروف (ا،ب،ت،ث)، وهي (ي)، والميم تجيئك في موضعها!)).
وقال الإمام أبو نعيم الأصبهاني - رضي الله عنه - في (معرفة الصحابة) وقد ابتدأ بذكر المحمدين: ((قدمنا ذكرهم لموافقة أساميهم اسم المصطفى صلى الله عليه وسلم، تعظيما له وتشريفا!)).
ومن لم يبدأ به منهم، وذكره في موضعه من حرف الميم؛ ابتدأ به حرف الميم، مخالفا أيضا الترتيب داخل الحرف، إذ الأصل أن يبدأ بالميم بعدها همزة فباء فتاء وهكذا، لكنه بدأ بالميم بعدها حاء، كما فعل ابن أبي حاتم وابن حبان وابن عدي والعجلي وغيرهم!
وكيف لا يقدم المحدثون ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم على سائر الأسماء وقد قدمه ربه على سائر الأنبياء، بل على أولي العزم منهم، مع أنه آخرهم بعثا، فقال تعالى:((وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا!)).
وروى الإمام أحمد بسند جيد من حديث العرباض بن سارية مرفوعا: ((إني عبد الله لخاتم النبيين، وإن آدم عليه السلام لمنجدل في طينته، وسأنبئك بأول ذلك: دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات النبيين ترين)).
وربما التمس المحدثون لصنيعهم هذا من دلائل الأدب العالي، مما رواه لهم البخاري في صحيحه من قول الصديق رضي الله عنه، وقد أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقى في مكانه إماما، وكان قد استخلفه على الصلاة، ثم حضر والصلاة قائمة: (( ما كان ينبغي لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم!)).
فإذا لم يكن لابن أبي قحافة الذي هو أفضل الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، بشهادة القرآن له (ثاني اثنين إذ هما في الغار) أن يتقدم بين يدي رسول الله؛ فكيف لحروف الهجاء أن تتقدم على حروف اسمه الشريف صلوات الله وسلامه عليه؟!