عندما طالعت كتاب الخبير الإقتصادي الأمريكي السيد جيرمي ريفكين بعنوان "نهاية العمل"[1]، تبينت حقائق عدة منها ظهور عصر جديد مع نهاية مفهوم العمل كما خبرناه منذ آلاف السنين و تعاظم دور العلم في حياة الفرد و الجماعة علي السواء و بروز أكثر فأكثر مجتمع محدود يمتلك أفراده العلم و التقنية و المعارف التي تخوله العيش في بحبوحة مادية كبيرة جدا و بنهج العزلة عن بقية الشرائح الإجتماعية ذات المستوي العلمي المتدني!
مع مقدم شهر رمضان الكريم، لا بد لنا من وقفة تدبر في أحوال العالم المتغيرة بوتيرة فاقت كل التصورات. نحن في منظورنا كمسلمين العمل عبادة، مثل الصوم و مصيرنا يتوقف علي جهد العمل الذهني و العضلي هذا و كمسلمين لم ندخل عولمة الذكاء من موضع الإقتدار بل لازلنا نرزح تحت ركام كبير من الجهل و التخلف إذا ما رأينا نسب الرسوب في مدارسنا و جامعاتنا و إذا ما تفحصنا مناهجنا التعليمية. فهي لا تعلم الطفل إستغلال ذكاءه لأكثر من مائة في المائة، إقتني العقل العربي مظاهر التقدم العلمي لكنه لم يشارك كمجموعة بشرية و حضارية في نهضة العالم و أبراج الدوحة أو دبي ليست علامات تطور تقني و علمي بقدر ما هي ملهاة لناس مترفين يستهلكون بشراهة ما تنتجه عقول البشر في سليكون فالي اليابانية و الألمانية و الهولاندية و الأمريكية، لا أكثر و لا أقل و الأموال في منطقة الخليج تدار من منطلق لا يعبر بضرورة عن حاجة ماسة إلي وضع معالم عالم عربي موحد و متطور علميا.
لهذا يبدو لنا مهما، غاية الأهمية أن ننكب علي دراسة الدراسة الجادة لم سيكون عليه حاضرنا و لن أقول غدنا الذي هو اليوم في حقيقة الأمر!
نحن نشعر في تعاملاتنا اليومية أننا نتعامل في المجتمع الإنساني الكوكبي مع صنفان من المجتمعات، واحد عدد أفراده قليلون و هم يسبحون في فضاء المعرفة، لا يعبأون بوجودك بقدر ما يهمهم ما سوف يتحصلون منك من معرفة و معلومات ليوظفوها لصالح تصورهم العالي التقنية و مجتمع ثاني يعيش خارج حدود المعرفة وضعه مثل وضع قصة للكاتب الفرنسي "فيليب إبلي" لعلم الخيال لفئة المراهقين!
"غابة ضخمة تعزل سكانها المتخلفين خلف أسوار طاقة عجيبة، تردهم كل ما يتجرأ أحدهم علي تجاوز حدودها لينتقل إلي مدن الضوء و المعرفة!"
المشكلة الأساسية في سكان الغابة، عددهم كبير لأنهم لم يحصلوا علي حظوة الأقلية التي حازت علي فرص تعليم و تربية عالية جدا، فمكنتهم من التحكم في مفاصل العالم بأكمله و طبعا هذه الأقلية تعتبر نفسها فوق الجميع بالنظر إلي معارفها و علمها و ذكاءها الخارق!
نحن نعيش اليوم، الثروة الحقيقية فيه، تكمن بين أيدي الأذكياء ذو الإمكانات المتطورة جدا، فلا النفط و لا المال و لا اللوبي الصهيوني من سيحدد مصير كوكبنا بل هذه الأقلية التي تتكلم لغة رقمية و التي إختزلت الدين في مدي تجاوبه مع خلاياها الرمادية و بأي قدر تشاء!
الدين الجديد لدي هذه الأقلية هو العلم الذي تفتقت عليه عقولها، متحررة من ذلك البعد القاهر لسنن الكون، اليوم ينسخ جين الجنين و معه الحيوان و النبات و كل شيء قابل للنسخ وفق متطلبات الأذكياء الذي يزعجهم تسطح الأغلبية!
فلنتصور مواطن يعيش في هونغ كونغ عندما يلتقي بأحد مواطنينا الذي رسب في مرحلة المتوسط، سيشعر حتما بأن مواطننا الجزائري هبط من كوكب مجهول، سكانه لا يزالون في بدايات الإنسانية علي الطريقة الأنتربولوجية لبعض المولعين بديناصورات "جوراسيك بارك" ل"ستيفين سبيلبرغ"!!!!!!!!!
فهذه الفجوة التي يلتمسها الرجل السوبر العلمي، لن تجعل منه إنسان متحفز لمد الجسور مع الآخر المتخلف بشكل مخيف في نظره علي الأقل بل ستكون ردة فعله علي طريقة هولاكو الزمن القديم و سيتساءل بفضول عجيب:
-هل أنا في حاجة إلي وجود هذا النموذج البائس و الباهت لبني البشر؟ طبعا لا، لهذا لن أري غضاضة في التخلص منه بأحدث الأسلحة التي أبدعها عقلي الخارق الذكاء!
و هكذا سنعيش حلقة جديدة من الوحشية لكنها وحشية يسميها أصحابها المتعالين بعملية تطهير كوكب الأرض من الحشرات الآدمية الضارة، فهل سيقدر لنا أن نحيا "يوم بعد..." موضوع فيلم أمريكي شهير يحكي فيه مخرجه ما سوف يلي تفجير نووي ضخم في بقعة ما من الأرض، اللهم لن تكون أرضنا مسرح هذا التفجير المريع، يا رب آمين!
لا يجب أن نخرج عن نطاق موضوعنا الأساسي ألا و هو ما حيلتنا أمام تعاظم الهاوية بين بسطاء الناس و أذكياءهم الذين هم الآن يمثلون كيانات مغلقة، لها عالمها الخاص بها و نسق حياتها المختلف تماما عن تلك الوتيرة البطيئة لمهمشي كوكبنا؟
كيف ستتحول تلك الهاوية إلي سبب من أسباب التنافر العميق الذي يكنه كل طرف للآخر ؟ و هل ستغدو هذه الهاوية مع تسارع عجلة النمو التقني إلي وسيلة تغييب الآخرين، فيعيش الأذكياء في كرتهم الشفافة، يستمتعون و هم يتسلون بشقاء التعساء الذين هم الأغلبية المكسورة الخاطر؟؟؟؟؟
الشعور الذي ينتابني حينما أتعامل مع بعض هؤلاء الأذكياء علي المستوي الدولي، هو شعور بالشفقة علي أنفسنا، نحن من فرطنا في أسباب عزتنا و القرآن الكريم مملوء بأوامر إلهية مثل إعمال العقل و تدبر آياته المبثوثة في الكون من حولنا و فينا و ها أن سلالة بشرية تطلع علينا، تعتقد أنها تجاوزت نهاية التاريخ لتبدأ بكتابة تاريخ آخر، كله إستعلاء و إحتقار لأضعف منها و ستبدو لنا قسوة كائنات الديناصورات رحمة بالمقارنة لم سيسومننا من سوء العذاب!!!!!!
لا أريد نبرة التشاؤم في طرحي و لا أرغب في بث اليأس في قلوب و عقول القراء الكرام، نعم للعلم الذي يذكرنا بأننا إنس و أن للكون خالق سبحانه، و آن الآوان أن نفكر جديا في إضفاء صفة التوحيد علي العلم لنستطيع أن نواجه القوم المتعالين، فنعرض عليهم علما يحفظ آدميتهم و صلتهم برب الكون بعيدا عن تصورهم المؤله للعقل.
آن الآوان، إن لم يفت الآوان و لئلا نقع فريسة علمهم المتعالي، إذا ما هم بنوا أبراجا عالية ينظرون إلينا منها، نحن بمقدورنا أن نبتكر علاج لغرور الإنس، فليس أفضل من لا إله إلا الله محمد رسول الله ليرسم لنا بدايتنا و نهايتنا، فكلنا كبار و صغار و أوائل و مهمشي الكرة الأرضية سنقابل ملك الموت، كلنا بدون إستثناء سنسلم الروح لبارءها، و لنا أن ندخر علما و معرفة و عدل و عمل و إيمان توحيدي لتلك اللحظة الفارقة و التي ينفخ فيها الصور لنبعث فنكون في حضرة العلي القدير، العليم العزيز، الرحيم، الرحمان..................
1) كتاب نهاية العمل تضاؤل القوي العاملة العالمية و بزوغ فجر حقبة ما وراء السوق للخبير الإقتصادي الأمريكي جيرمي ريفكين، منشورات دار الفارابي و مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، الطبعة الأولي 2009.