مقتطفات من مكنونات صدري (2)
إن مكنونات الصدر والعقل ليست تنتهي معًا ما دام الإنسان يتفاعل يوميًّا مع المجتمع، مع أحداث تفرض نفسها على المخيلة لتستنتج الحلول وتقترح الفرائض والاحتمالات، إلا أن مكنونات الصدر فيها من الصدق ما يجعل الإنسان لا يبيح بها، ويحتفظ بها لنفسه، وخاصة إن كانت طينة هذا الإنسان مؤمنة، هنا يمتزج الروح والصفاء والنقاء ليخلق من ذاك الكيان ناطقًا صريحًا ومحاورًا هادئًا ولو لم يسمعه الآخرون، وحينما ينتمي الضمير إلى هذا الحوار يكون للحديث شجون وسعة نقاش تفرض على المؤمن أن يحاور ويحاور حتى يصل إلى الحل وإلى الفهم الصحيح، فيدرك أخطاءه ويبادر بتصحيحها، ويتفاعل مع نواميس الكون، ويلبِّي نداء الله في صلاة تمنحه سعة خاطر أكثر، فيثق مجدَّدًا، ويستمر في العطاء برغم ما يلاقيه من صعوبات.
ومن المكنونات الأخرى التي جالت في صدري ما نلاحظه جميعًا من استبدال للخلقة ولمظاهر الرجولة والأنوثة، فترى عينة من الرجال يطيلون شعورهم ويرتدون زيًّا هو زي النساء، فتضيع الرجولة، وتضيع القوامة، ولسنا نفهم أي منظر يريد هؤلاء الرجال؟ فإن كان تقليدًا وفقط فهو بكل صراحة تقليد أعمى، وإن كان رفضًا ومللًا من الكيان نفسه في كونه خلق مذكرًا، فهذا اعتراض صارخ على قضاء الله، وإن كان خدمة مجانية في نقل حضارة غربية ماجنة، فهي خدمة لا تليق أبدًا بالبشر.. إذ ما الداعي لهذا التملص من الجنس؟
لست أجيب؛ لأني أصلًا لم أفهم بعد دواعي هذا السلوك، لأنتقل إلى تخيلات أخرى تجعلني أضطرب في احتساء فنجان القهوة الذي خصصته لي عن زيادة حال كل قلق وحال كل استياء فأزيد في الجرعة؛ علني أركز جيدًا، وحتى إن لم أركز أختار لنفسي متنفسًا في هدوء مقابلة طيوري وهي تغني أمامي، فلربما تنسيني قلقي.. لأتكلم عن منظر فتاة جامعية أو مراهقة في مؤسسة تعليمية وهي تلاعب سيجارة بين أناملها أمام رفقائها، سواء أكانوا بنات أم ذكورًا، فتنطلق مكنونات صدري لتلح علي في السؤال التالي: هل هذه الفتاة تأخذ السيجارة أمام والديها في البيت؟ إن كان الجواب نعم، فهل لهذين الوالدين بُعد أخلاقي ومعرفة بأصول التربية الحسنة؟! إن الجواب بنعم يجعلني أصاب بالإحباط؛ لأن من يضرب على الدف هو صاحب البيت، فلا حرج في أن ترقص البنت على نغماته المضللة، لا يهم في مشهد كهذا، لكن الأهم هو ما دوافع هذا السلوك؟ وهل في أصله متنفس لضيق الصدر أم هو تعبير عن تقدم وحضارة حينما تجمعها جلسة مصطنعة أمام مجموع الحاضرين في ساحة الجامعة أو الثانوية؟ وهل للتنظيم الداخلي لأي جامعة أو مؤسسة تربوية يحظر بالمنع مثل هذا السلوك؛ لأن محاربة السلوكات المنحرفة لا تتوقف على نقد صاحب السلوك وفقط، بل الكل في سلسلة مترابطة يقوي ويدعم الشخص المنحرف لأن يقوم بذلك.. بل ويدفعه إلى إتيان ذلك الأمر تحت ذريعة الضغوطات والمشاكل..
دعوني أفضفض عن سلوك آخر، وهو تمادي شباب اليوم في نقل التكنولوجيا الصارخة في الشارع وفي البيت باللهو واللعب وسماع الأغاني.. أتساءل في نفسي: هل هذا هو المُفرَز من العولمة فقط؟! وهذا ما قدر هؤلاء الشباب على إتيانه بعد تعلمه؟ ألم يؤثر صوت الأذان المتعالي من المآذن على ضمائر هذه الفئة النشطة ليتذكروا أن هناك فواصل في الحياة تقطعها الصلاة؟ وأن هناك مصاحف مرتبة على الرفوف تنتظر حاملها وقارئها، وأن هذا الاهتمام هو الأصح وهو المربي والمهتدى به إلى حقيقة الإيمان بالله تعالى، ثم لماذا الآباء في هذا العصر متخلُّون تمامًا عن واجبهم في التربية والتوجيه، وإذا ما سألتهم عن التقصير يجيبونك أنهم فشلوا ولم يستطيعوا التحكم في سرعة التكنولوجيا المضللة..
لننتقل إلى فاصل آخر من المكنونات التي باتت تؤرقني وتخنقني؛ لكثرة ظهورها في هذا العصر، وهي ما أعتبرها أحد مثبطات الانبعاث الحضاري، وهي انحراف النخبة المثقفة، لن أسترسل في هذه المكنونة؛ لأني سأخصص لها مقالًا منفردًا؛ نظرا لأهمية هذا الموضوع، ونظرا لأنه المعضلة الحقيقية لتدني الحضارة في الدول العربية، بل السبب المباشر في وأدها، فابقوا معي...