مروج النهضة الراقية
جمل لي مجلسي بفنيات الراحة الفكرية، حينما تداعب أناملي قلمي؛ لأني في اشتياق وتلهف لأكتب حديثًا عن النهضة، لست من دعاة الكلام، وإنما أميل إلى ما طاب وجاد من الحديث المنظم، في بداية لي بتعريف مختصر للنهضة.
يرى الدكتور محمد العبدة أن جذور النهضة تمتد في تاريخ المسلمين الحديث إلى دعوة الشيخ محمد عبدالوهاب (1115-1206ه/ 1703-1791م)، على أنها تنطلق من قلب الجزيرة العربية لتلبي مطلب التغيير والإصلاح، وهو الرجوع إلى صفاء الإسلام والأخذ به على أوله وأصله، والبعد عن البدع والشِّرك الذي يشل التفكير، ويجعل الإنسان خاضعًا ذليلاً لإنسان مثله، بل خاضعًا حتى للأشياء مثل الحجر والشجر[1].
جميل أن يكون جذور الشيء الذي سأكتب فيه يمتد للمسلمين، ما يدفعني للشعور بنشوة الافتخار أن الانطلاقة كانت من هناك، ولا يمنع هذا أن أستقي معنى النهضة من قاموس اللغة العربية الممتازة، فجمع الكلمة نهضات، والنهضة هي الطاقة أو الوثبة لأجل التقدم الاجتماعي وغيره، وأن نقول باعث النهضة بمعنى أول الدعاة إليها، ومجمل الكلمة تعني الانبعاث، التجدد، التقدم بعد التأخر.
ولكن ما هي أسباب التأخير؟ أو ما هو الدافع للتجديد لتكون هناك ضرورة للنهضة؟ وهل لسلوك البشر سبب مباشرة في الركود؟!
عن علي رضي الله عنه قال: قد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلا إدبارًا، والشر إلا إقبالاً، والشيطان في هلاك الناس إلا طمعًا، فهذا أوان قويت عدته، وعمَّت مكيدته، وأمكنت فريسته، أضرب بطرفك حيث شئت، فهل تنظر إلا فقيرًا يكابد فقرًا؟ أو غنيًّا بدل نعمة الله كفرًا؟ أو بخيلاً اتخذ البخل بحق الله وفرًا، أو متمردًا كأن بسمعه عن سمع الواعظين وقرًا؟
أين خياركم وصلحاؤكم؟ وأين أحراركم وسمحاؤكم، وأين المتورعون في مكاسبهم، والمتنزهون في مذاهبهم؟ أليس قد ظعنوا[2] جميعًا عن هذه الدنيا الدنية، والعاجلة المنغصة، وهل خلفتم إلا في حثالة[3]، لا تلتقي بذِمهم الشفتان؛ استصغارًا لقدرهم، وذهابًا عن ذكرهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ظهر الفساد فلا منكر مغير، ولا زاجر مزدجر، أفبهذا تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه، وتكونوا أعز أوليائه عنده، هيهات لا يخدع الله عن جنته، ولا تنال مرضاته إلا بطاعته[4].
يبدو من قول علي رضي الله عنه بعض الجواب الشافي عن أسئلتي السابقة، في أن الفساد هو أعم العوامل الدافعة بالأمم إلى الركود والعودة للوراء، والإنسان هو المسؤول عن الفساد مصداقا لقوله تعالى: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41].
وبما أن الفساد هو مدعاة لسخط الله وغضبه، فحتمًا ستؤول الأمور إلى نواقضها، فان كان فيه تقدم وازدهار، سيؤول الأمر حتمًا إلى تدهور وانحطاط، وإن ساد الأمن والسلم بلادًا ما، ثم تغلغل فيها الفساد حتمًا ستسود الفوضى والحروب، وشتات الضمائر وتيه العقول، في مراد مكمن الخلاص أين هو؟ ولن يكون فيه خلاص ونجاة إلا بالعودة إلى الله، وهذه العودة تتطلب تغييرًا نابعًا من ذات كل فرد بدرء للمفاسد من خلال اتباع أوامر الله والابتعاد عن نواهيه، ويكتمل نصاب التفقه في إرسالية الرغبة في التحضر من جديد إلى ضرورة إحداث نهضة واضحة الأبعاد ومدروسة المنهج، ولا يتأتى ذلك إلا بالرغبة الأكيدة والقاطعة في توحُّد الكلمة وتمازج النوايا في النهوض من جديد بصرح البلاد وبناء قواعد متينة وجديدة، تكفل للبناء ارتفاعا أكيدًا في الثوابت والدوافع، فلا نهضة ناجحة إن لم يتوفر عنصر التغيير الأكيد في بواطن الفساد؛ ليعم الخير والرزق والنجاح، والتشييد للصرح المتين بحضارة تكفلها سواعد مؤمنة بأن ما كان منطلقه الوضوح والمباشرة أقرب لإحداث نهضة حقيقية لا يشوبها لا تخبط فكري ولا تذبذب حضاري؛ لأن متانة الرأي من جادة الصواب في القرار، وفي مجيء الإسلام هو الصورة الرسالية المثلى بمحتوى إحداث نهضة صريحة لكسر تماثيل التعبد التي لا تسمع ولا تتكلم ولا تغني من جوع لدعوة الناس إلى الله الواحد الأحد؛ بفكر متوازن، وأسلوب مهذب، وسماحة سلسة في العقل والروح، وهي مقومات الشخصية الناجحة، والتي توفرت في شخص الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
يبقى أن الرسوخ في معرفة أن التوفيق بيد الله أمر حتمي لا غبار عليه؛ لنفهم جيدًا عوامل نجاح النهضة، فالإستراتيجة المدروسة جيدًا والموارد البشرية المفعمة بالطاقة والحيوية، والآليات الفاعلة لا تكفي، بل ليست هي وحدها مَن يحقق النهضة بمفهومها الحقيقي والجذري، فهي أسباب يجري تعطيلها أحيانًا بإرادة من الله؛ ليعرف الإنسان أن نجاح أموره بيد الله، ﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [الإنسان: 30]، وإذا عوَّل الإنسان على هذه الأسباب في أنها ستؤدي للنجاح بعيدًا عن مشيئة الله، فهنا نوع من الشرك، والأصل في ذلك هو اتخاذ الأسباب مع التوكل على الله، وهذا أمر جامع متكرر عبر قرون خلَت؛ ﴿ اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ﴾ [فاطر: 43].
يبدو أن معالم النهضة أصبحت أكثر وضوحًا عبر مروج من صفاء وطهر ونقاء، فالتفكير السليم والمرجعية الصحيحة من الكتاب والسنة، هي التي تأتي بالنتائج السليمة والمرجوة، وَفْق برنامج ومخطط النهضة، وبقدر توفر الإرادة الفولاذية في إحداث التغيير يتحقق المراد والهدف المطلوب، وقد ورد ذكر كلمة الإرادة في القرآن الكريم على نحو 140 موضعًا مترجمة في شكل الفعل والعمل، وهذا ما يزيدنا يقينًا أن نجاح عملية النهضة مرهون بمثابرة في العمل والجد والكد في تحصيل المرغوب فيه بصيغة الحلال، بما تضبطه الضوابط الشرعية التي تؤطِّر مجال النهضة؛ لتصنع منها آلية منتجة ومحققة للآمال والطموحات، واستحضر قول حسان بن ثابت:
وما الدين إلا أن تُقامَ شرائعُ
وتؤمن سُبل بيننا وهِضابُ
|
فأساس الالتزام بالدين هو اللبنة الأساسية للنهضة، ومن غير هذه اللبنة لا تصلح باقي اللبنات في أن تتراص بعضها فوق بعض؛ لأن قوامة الدين هي ما يجمع ويؤلف بين اللبنات الأخرى؛ كالاجتهاد والعمل على مراجعة نقاط الخلل والضَّعف، أن ما طرأ إشكال في منهجية النهضة، أو في سلوك من سلوك أفرادها، قد لا يحقق المطلب الشرعي منها، وهو إحداث تغيير جذري في الأساس والهياكل المجتمعية والاقتصادية والسياسية، وإعادة التشييد على وتيرة ونسق جديد، فيه التجديد والحداثة لمواكبة مستلزمات التحضر دون الإخلال بمبادئ الشريعة الإسلامية.
كانت توضيحات وشروحات عبر مروج النهضة، ويا حبذا لو تتحقق بحذافيرها لتصبح راقية على الشكل الذي يجذب الإعجاب، ويحقق الرضا في نفوس من حملوا على أكتافهم آفاق النهضة وحققوها؛ بدءًا بأنفسهم، وانتهاءً في مجتمعهم، بل في كل من ناشد النهضة وحققها وعاش في كنَفها، وهو مُنَى كل شعوب العالم لترتقي وتسمو فوق منغصات العيش وأسباب التخلف والجهل، بما يكفل نعيمًا في العيش وطمأنينة في الحياة.