سلطان الجعيد
أكثرُ أنواعِ الإدانةِ انصافاً ، هي تلك التي يطلقها الشخصُ على نفسه ، وقد يكونُ ذلك بطريقةٍ غير ِمباشرٍة ، لكنها تحتاج إلى قدر من الربط بين المواقف ، وإذا بك أمامَ شخصٍ يتهمُ نفسَه و يُدينُها .
كان الكتاب الليبراليون يستفتحون على البقية من التيارات الأخرى - وعلى رأسها التيار الإسلامي - بمعاني الحرية والديمقراطية والتعايش والتعددية ، إلى آخر هذه القائمة ، فلما جاء الربيعُ العربيُ بكلِّ ذلك ، تنكروا لتلك المعاني التي بشّروا بها ، ولم يتوقف الأمر عند هذا بل أصبحوا خصوماً لها وأعداء .
تذكرني هذه الصورة الفجة ، بما أخبرنا عنه القرآن من خبر بني أسرائيل ، عندما كانوا يحدثون مشركي العرب من أهل يثرب عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي أوشك أوانه ، وأنهم سيكونون من أتباعه ، ويظهرون على العرب وغيرهم ، فلما جاء كانوا من أشد الناس له عدواةً وخصومة (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) .
هذا التشابه حد التطابق ليس بمستغرب ، بسبب تشابه العقلية ، الذي يؤدي أحياناً ليس فقط لتشابه المواقف ، بل إلى تشابه الأقوال ، ولو تباعدت الأزمان ، ولم يسمع بعضُهم من بعض ( كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ۘ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ۗ ) .
الذهنية المتعصبة لها خصائصها الموحدة ، كغيرها من أنماط التفكير الأخرى ، فهي وإن تعاطت مع مواقف مختلفة ، إلا أنك تلاحظ تطابقاً وتشابهاً في النتائج .
ومن تلك الخصائص ، أن المتعصب لا يؤمن بالحق إلا إذا صدر عنه أو عن الطائفة التي ينتمي إليها ، وفي مثالنا المضروب - بني إسرائيل - يحدثنا ابن عباس - كما رواه الطبراني عنه - عن هذا السبب أو الخاصية ، فيقول : ( كانوا يستنصرون بخروج محمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب ، فلما بعث الله محمدًا- صلى الله عليه وسلم - ورأوه من غيرهم، كفروا به وحسدوه ) .
ربما تتباين المواقف والتفسيرات إزاء ظاهرة هؤلاء الكتاب ،جنح البعض في تفسيرها بعمق فكري - تشك أن كثيراً منهم على معرفة به أصلاً - فذهب يربط مواقفهم بجذور فكرية ومعرفية ، فكان - وبدون شعور - تبريراً أكثر منه تقريراً ، وإشادةً أكثر منه إدانة .
التعصب تلك النزعة القابعة في النفس البشرية ، هي أقرب التفسيرات ، المتعصب ليست مشكلته مع أفكار من يختلف معهم ، بل مشكلته مع وجودهم أصلاً . كنت أقرأ لبعضهم قبل الربيع العربي ، فأجد رفضاً حاداً ومطلقاً لكل التيارات التي يختلف معها اسلامية كانت أو قومية أو يسارية ، فكنت أتساءل: إذا كان هؤلاء جميعاً يمثلون كافة التيارات الأخرى المتبقية ، فالانفتاح والتعددية التي يتحدثون عنها ، سيمارسونها مع من يا تُرى ؟!
هذا كله قبل أن تأتي الديمقراطية ، فيخشون من الأكثرية عليها !
التعصب الذي أعماهم - وهو كذلك يفعل - جعلهم وبوعي كامل منهم ، أدوات بأيدي المستبد يحركها كيف يشاء ، فبأصواتهم الرخيصة وأقلامهم المأجورة ، يسفك الدماء ويكمم الأفواه ويسجن الأبرياء ، فكل جسد عربي حر اخترقته رصاصة آثمة ، فكن على ثقة بأن معها بل وأسبق منها إلى جسده كانت أقلامهم القذرة وأصواتهم النشاز ، ثم على أشلاء هؤلاء الأبرياء لا يستحي الواحد منهم أن يقوم خطيباً ليواصل حديثه عن الحرية والتعايش وقبول الآخرين وشجبه واستنكاره للإرهاب !
هذا هو قدرهم ومبلغهم من الفكر ، أن يستعيروا أخلاق خصومهم ليتحدثوا عنها ويتمسحوا بها ، ويمارسوا بعد ذلك كل النقائص والعيوب التي وزعوها قبل على كل من يختلف معهم !
ومع كل هذا فالحق عند الشرفاء من كل فئة وطائفة أنفس وأغلى من كل شي ، فلابد وأن فيهم أمثال عبدالله بن سلام - رضي الله عنه - فنحن بانتظار أمثاله يخرج ليعترف بالحق وأهله ويشهد على قومه بأنهم قومٌ بهت !
*الإسلام اليوم
أكثرُ أنواعِ الإدانةِ انصافاً ، هي تلك التي يطلقها الشخصُ على نفسه ، وقد يكونُ ذلك بطريقةٍ غير ِمباشرٍة ، لكنها تحتاج إلى قدر من الربط بين المواقف ، وإذا بك أمامَ شخصٍ يتهمُ نفسَه و يُدينُها .
كان الكتاب الليبراليون يستفتحون على البقية من التيارات الأخرى - وعلى رأسها التيار الإسلامي - بمعاني الحرية والديمقراطية والتعايش والتعددية ، إلى آخر هذه القائمة ، فلما جاء الربيعُ العربيُ بكلِّ ذلك ، تنكروا لتلك المعاني التي بشّروا بها ، ولم يتوقف الأمر عند هذا بل أصبحوا خصوماً لها وأعداء .
تذكرني هذه الصورة الفجة ، بما أخبرنا عنه القرآن من خبر بني أسرائيل ، عندما كانوا يحدثون مشركي العرب من أهل يثرب عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي أوشك أوانه ، وأنهم سيكونون من أتباعه ، ويظهرون على العرب وغيرهم ، فلما جاء كانوا من أشد الناس له عدواةً وخصومة (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) .
هذا التشابه حد التطابق ليس بمستغرب ، بسبب تشابه العقلية ، الذي يؤدي أحياناً ليس فقط لتشابه المواقف ، بل إلى تشابه الأقوال ، ولو تباعدت الأزمان ، ولم يسمع بعضُهم من بعض ( كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ۘ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ۗ ) .
الذهنية المتعصبة لها خصائصها الموحدة ، كغيرها من أنماط التفكير الأخرى ، فهي وإن تعاطت مع مواقف مختلفة ، إلا أنك تلاحظ تطابقاً وتشابهاً في النتائج .
ومن تلك الخصائص ، أن المتعصب لا يؤمن بالحق إلا إذا صدر عنه أو عن الطائفة التي ينتمي إليها ، وفي مثالنا المضروب - بني إسرائيل - يحدثنا ابن عباس - كما رواه الطبراني عنه - عن هذا السبب أو الخاصية ، فيقول : ( كانوا يستنصرون بخروج محمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب ، فلما بعث الله محمدًا- صلى الله عليه وسلم - ورأوه من غيرهم، كفروا به وحسدوه ) .
ربما تتباين المواقف والتفسيرات إزاء ظاهرة هؤلاء الكتاب ،جنح البعض في تفسيرها بعمق فكري - تشك أن كثيراً منهم على معرفة به أصلاً - فذهب يربط مواقفهم بجذور فكرية ومعرفية ، فكان - وبدون شعور - تبريراً أكثر منه تقريراً ، وإشادةً أكثر منه إدانة .
التعصب تلك النزعة القابعة في النفس البشرية ، هي أقرب التفسيرات ، المتعصب ليست مشكلته مع أفكار من يختلف معهم ، بل مشكلته مع وجودهم أصلاً . كنت أقرأ لبعضهم قبل الربيع العربي ، فأجد رفضاً حاداً ومطلقاً لكل التيارات التي يختلف معها اسلامية كانت أو قومية أو يسارية ، فكنت أتساءل: إذا كان هؤلاء جميعاً يمثلون كافة التيارات الأخرى المتبقية ، فالانفتاح والتعددية التي يتحدثون عنها ، سيمارسونها مع من يا تُرى ؟!
هذا كله قبل أن تأتي الديمقراطية ، فيخشون من الأكثرية عليها !
التعصب الذي أعماهم - وهو كذلك يفعل - جعلهم وبوعي كامل منهم ، أدوات بأيدي المستبد يحركها كيف يشاء ، فبأصواتهم الرخيصة وأقلامهم المأجورة ، يسفك الدماء ويكمم الأفواه ويسجن الأبرياء ، فكل جسد عربي حر اخترقته رصاصة آثمة ، فكن على ثقة بأن معها بل وأسبق منها إلى جسده كانت أقلامهم القذرة وأصواتهم النشاز ، ثم على أشلاء هؤلاء الأبرياء لا يستحي الواحد منهم أن يقوم خطيباً ليواصل حديثه عن الحرية والتعايش وقبول الآخرين وشجبه واستنكاره للإرهاب !
هذا هو قدرهم ومبلغهم من الفكر ، أن يستعيروا أخلاق خصومهم ليتحدثوا عنها ويتمسحوا بها ، ويمارسوا بعد ذلك كل النقائص والعيوب التي وزعوها قبل على كل من يختلف معهم !
ومع كل هذا فالحق عند الشرفاء من كل فئة وطائفة أنفس وأغلى من كل شي ، فلابد وأن فيهم أمثال عبدالله بن سلام - رضي الله عنه - فنحن بانتظار أمثاله يخرج ليعترف بالحق وأهله ويشهد على قومه بأنهم قومٌ بهت !
*الإسلام اليوم