مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
مطـالعات في الأفكار الحائرة ( 1 )
محمد بن علي بنان
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد :

سألني أحدهم ذات مرة: ما الذي يحار فيه كاتب المقالة ؟ فقلت لا يحار في أمر منها مثل حيرته في عنوانها من قبل أن يكتبها ومن بعد، ولعله أجرى فيه القلم تعديلا أكثر من مرةلأن العنوان هو باب الدخول إليها ، فإن صح الباب كان أدعى للدخول إليها وقراءتها كما أجمع على ذلك ثلة من الكتاب قديما وحديثا .

ولحيرة الكاتب أمثال كثيرة ، فالتاجر يحار في نشاط مؤسسته ، والمزارع في بذر حديقته ، والطباخ في نكهة طعامه ، والمهندس في تصميم منشأته . والطالب في ميوله الدراسي ، وهكذا هي ( الحيرة ) تلازم الإنسان في شؤون حياته اليومية وغائب مستقبله حتى لا تكاد أن تنفك عنه في غالب أحواله .

والكلمة الأولى منهذا العنوان أخذتها من ( مطالعات في الكتب والحياة ) وهو عنوان كتاب لمؤلفه عباس العقاد ، والجزء الثاني منه ( الأفكار الحائرة ) فقد اشتققتها من ذات العقاد الحائرة ،وهو مع ما يمتلكه من عمق مع قدرة فنية إلا أنه يصدق فيه وصف الأديب حسن الهويمل عنه بأنه ( كاتب مطلسم ) ، وكتاباته لم تسلم من الأخطاء الفادحة في كثير من مسائل التاريخ والشريعة ، بل ولديه تصورات خاطئة نقلها من غيره أو ووضعها بنفسه.

تصورات!! لا تجد للمتعلم البسيط فيها عذرا فكيف لكاتب مقتدر أن يقع فيها ؟

حينما أقرأ للعقاد أشعر وكأنما الحيرةتنبعث من أعماق نفسه في كثير من المواضيع التي يطرقهافتنساب إلى القارئ وإن جاءت أفكاره بصيغة الجزم والتأكيد ، ولعل حيرة العقاد في كتاباته تعود إلى أمور ، منها أنه لم يكمل تعليمه بعد المرحلة الابتدائية ، فقد أخذت الحياة ذلك الشاب إلى ميادين العمل والوظائف ، وهو مع انهماكه الوظيفي لم ينس ما لديه من مكنون فكري واستعداد نحو الكتابة ، ولا يزال يتذكر ثناء الشيخ محمد عبده عليه حينما زار مدرسته ورأى دفتر إنشاءه فقال ( ما أجدر هذا كاتبا بعدُ ) ، لقد كانت كلمات الشيخ تتردد في أصداء نفسه إلا أن الظروف لم تسعف تلك الموهبة بشيء من تأصيل العلم إما بمجالسة العلماء الراسخين ، أو يحملنفسه على قراءة المسائل أصولا وفروعا بل شرع في قراءة عشوائية بل شرط ولا قيد ، وأخذ يلبي نداء الموهبة فشرع في الكتابة.
وأمر آخر ؛ أن العقاد في قراءته قد تأثر كما هو شأن الكثيرينمن الكتاب والمفكرين في زمنهبالفكر الغربي الوافد ، فحينما تقرأ بعض مقالات العقاد يخيلك إليك وكأنك بين يدي مقالة مترجمة لكاتب انجليزي أو فرنسي ، فقد كان معنيا بالحركة الأدبية في الغرب ومولعا بسير الأدباء والمفكرين من السابقين واللاحقين هناك، فالعقاد يصدق فيه أنه كاتب مصري بقلم غربي ، وهكذا هو واقع الحال والظروف دون الحديث في التماس العذر له من عدمه .

ومما تعجب له مع ندرة وسائل الاتصال في ذلك الوقت إلا أن الحدث الفكري الذي لا يُعنى به عامة الناس لا تسري أصداءه في المشهد الفرنسي أو الألماني إلا ويصبح في متناول قلم العقاد بعد مدة وجيزة ، ومن ذلك أن المفكر اليهودي الألماني ( ماكس نوردو )توفي في يناير من عام ( 1923 م ) فلم يلبث إلا أن نعاه العقاد في مقالة من صحيفة البلاغ الصادرة في آخر الشهر . ثم أتبع ذلك بمقالتين يتحدث فيهما عن مواهبه وعاداته ويستعرض شيئا من كتبه .وهكذا سافر العقاد بقلمه إلى أوروبا وهو لم يبرح مصر يوما ما إلى غيرها من البلدان .

ولا ريب في هذا

التأثر فقد كانت حياة العقاد ( 1989 – 1964م ) متزامنة مع الاحتلال البريطاني لمصر ( 1882 – 1953م ) والغالب يفرض ثقافته، ’’والمغلوبمولعأبداًبالاقتداءبالغالب’’كما عند ابن خلدون ، وكيف لا يتأثر العقاد وهو مسبوق بمن هم أعمق منه فكرا ودراسة من علماء الشريعة وأساطين الثقافة.

رسمت عنوان مقالتي ( مطالعات في الأفكار الحائرة ) ، لأني وجدت أن الحيرة تلزم الإنسان في كثير من الشؤون وفي آنه ومستقبله ، وهي تزيده ضعفا وعجزا على ضعفه وعجزه الذي يسايره سواء كان فردا أوجماعة في طريق الحياة ، ويحدثنا القرآن الكريم عن الحيران في

قوله تعالى :
قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ ۖ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿٧١﴾
وللحديث بقية !
www.facebook.com/bannan5
أضافة تعليق