عبد الله بن مرزوق القرشي
كنتُ أنظر إلى واقع المسلمين وما عندهم من خلاف وافتراق، وأتوجّع لهذا الواقع المؤلم، في الوقت الذي نرى فيه الأمم الأخرى تجتمع بعد افتراق، وتتجاوز خلافاتها الدينية، واللغوية، وصراعاتها التاريخية، والعِرْقية، حتى أضحوا أمة واحدة، يهابهم القريب والبعيد، ونحن هنا لا تحدث انتخابات جديدة إلا صنعت انقسامًا واحترابًا جديدًا، ولا يستجدُّ أمر إلا افترقنا وتنازعنا من جرّائه، حتى أصبح اجتماع الكلمة أشبه بالوهم الذي لا يمكن تحقيقه، لولا ما نراه هناك رأي العين! وربما قيل: هذا بسبب البعد عن الدين، وهذا حق؛ فإن ديننا يأمر بالاجتماع وينهى عن التنازع، ولكن ما بال الكفار اجتمعت كلمتهم، والمسلمون وفي مقدمتهم المتدينون، كل حزب بما لديهم فرحون؟! ومما لاحظته أن المتدين مع قلة الفقه أبعد عن الاجتماع من غير المتدين! فإن المتدين ينازعك ويفارقك ويحاربك باسم الدين، فإذا دعوته للاجتماع، كأنما تراوده عن دينه، وهو يكرر في نفسه: «وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ» [ القلم: 9]. ومن المؤلم جدا حين ترى دعاةَ اتباع الدليل سببًا في التنازع والافتراق، فترى الجالية المسلمة الصغيرة في بعض البلدان، لهم أكثر من عيد، ولا يستطيعون أن يجتمعوا على عيدٍ واحد بحجة الراجح والمرجوح.
لا يمكن أن تكون المشكلة في اتباع الدليل، بل هو الشفاء والعافية.. ولكن أين المشكلة إذن ؟! إن من عايش المشكلة، وتوجع منها، يستشعر عظمة القرآن حين قرن بين عبادة الاتباع، وعبادة الاجتماع: «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ » [الأنفال: 46].
ما أعظم القرآن، حين قرن بينهما في آيةٍ واحدة. مشكلتنا إذن أننا بذلنا جهودًا كبيرة في بيان الطريقة (لعبادة الاتباع)؛ كيف تبحث عن الدليل، وكيف تتحقق من صحته، وكيف ترجح، وكيف تصحح. بينما لم نبذل جهودا مماثلة في بيان الطريقة (لعبادة الاجتماع)؛ كيف تصنع حين تلتقي بقوم آخرين يرجحون ما لا ترجحه، ويصححون ما لا تصححه، ومتى تترك ترجيحك الخاص رعاية لحق الاجتماع، ومتى تترك الاجتماع رعاية لحق الاتباع.
فالتنازع إذن ليس بسبب الاتباع، بل لتقصيرنا في فقه الاجتماع. إن غاية ما صنعوه وقالوه هو الحث على الاجتماع، دون أن يكون ذلك وفق منهج وآليات واضحة، كما لو اكتفوا بالمواعظ باتباع الدليل دون تخريج العلماء القادرين على معرفة الدليل والتحقق من ثبوته. ليتنا نتعلم من صلاة الجماعة، ونحن نمارس فيها (فقه الاتباع) مقرونا (بفقه الاجتماع)، ثم ما نلبث أن نغادر هذا الفقه حين نُسلِّم من صلاتنا! ألا يأتي المسبوق في صلاته، فيلحق بالإمام، ويزيد في صلاته وينقص منها بسبب متابعته للجماعة= ما لو فعله منفردا لبطلت صلاته بإجماع العلماء ؟!
مثال ذلك: لو أدرك المسبوقُ الجماعةَ في الركعة الثانية، فإن الإمام مع جماعته سيجلسون للتشهد الأول بعد ركعتهم الثانية، ويجلس معهم هذا المسبوق مع أنه لم يصلّ إلا ركعة واحدة، ولا يسوغ له غير ذلك. لو فعلها (المصلي المنفرد) ذاكرا عالما، فجلس للتشهد بعد ركعته الأولى؛ بطلت صلاته باتفاق الفقهاء، ومع هذا فإنه يفعل حال الجماعة ما لا يجوز له فعله حال الانفراد، رعايةً لحق الاجتماع. حينما ضعف هذا الفقه (فقه الاتباع وفقه الاجتماع) في العصور المتأخرة، وصل بهم الحال إلى افتراقهم في الجماعات، وأصبح في المسجد الحرام مقام ومحراب لكل مذهب!
ثم صُححت والحمد لله هذه الفُرقة والتفرق في صلاة الجماعة، وبقيت في مناحي الحياة لم تُصحَّح. إن هذا الموضوع يمثل عقدة مركزية في حياتنا الإسلامية، ويستحق مزيدا من البحوث العلمية، التي تتجاوز الوعظ إلى تتبع الأسئلة المشكلة، وبناء النظرية والمنهج في فقه الاجتماع. وبسبب غياب الرؤية الواضحة التي تنطلق من الكتاب والسنة أصبحنا نرى من يتعبد لله بالتنازع وهو عند نفسه يستمسك بالدليل ويصر على الراجح.
هل أصبح التنازع دينًا نتقرب به إلى ربنا؟! نعم، هو كذلك في مفاهيمنا الخاطئة، ونُسمِّي ذلك بغير اسمه.
نقلًا عن صحيفة مكة
كنتُ أنظر إلى واقع المسلمين وما عندهم من خلاف وافتراق، وأتوجّع لهذا الواقع المؤلم، في الوقت الذي نرى فيه الأمم الأخرى تجتمع بعد افتراق، وتتجاوز خلافاتها الدينية، واللغوية، وصراعاتها التاريخية، والعِرْقية، حتى أضحوا أمة واحدة، يهابهم القريب والبعيد، ونحن هنا لا تحدث انتخابات جديدة إلا صنعت انقسامًا واحترابًا جديدًا، ولا يستجدُّ أمر إلا افترقنا وتنازعنا من جرّائه، حتى أصبح اجتماع الكلمة أشبه بالوهم الذي لا يمكن تحقيقه، لولا ما نراه هناك رأي العين! وربما قيل: هذا بسبب البعد عن الدين، وهذا حق؛ فإن ديننا يأمر بالاجتماع وينهى عن التنازع، ولكن ما بال الكفار اجتمعت كلمتهم، والمسلمون وفي مقدمتهم المتدينون، كل حزب بما لديهم فرحون؟! ومما لاحظته أن المتدين مع قلة الفقه أبعد عن الاجتماع من غير المتدين! فإن المتدين ينازعك ويفارقك ويحاربك باسم الدين، فإذا دعوته للاجتماع، كأنما تراوده عن دينه، وهو يكرر في نفسه: «وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ» [ القلم: 9]. ومن المؤلم جدا حين ترى دعاةَ اتباع الدليل سببًا في التنازع والافتراق، فترى الجالية المسلمة الصغيرة في بعض البلدان، لهم أكثر من عيد، ولا يستطيعون أن يجتمعوا على عيدٍ واحد بحجة الراجح والمرجوح.
لا يمكن أن تكون المشكلة في اتباع الدليل، بل هو الشفاء والعافية.. ولكن أين المشكلة إذن ؟! إن من عايش المشكلة، وتوجع منها، يستشعر عظمة القرآن حين قرن بين عبادة الاتباع، وعبادة الاجتماع: «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ » [الأنفال: 46].
ما أعظم القرآن، حين قرن بينهما في آيةٍ واحدة. مشكلتنا إذن أننا بذلنا جهودًا كبيرة في بيان الطريقة (لعبادة الاتباع)؛ كيف تبحث عن الدليل، وكيف تتحقق من صحته، وكيف ترجح، وكيف تصحح. بينما لم نبذل جهودا مماثلة في بيان الطريقة (لعبادة الاجتماع)؛ كيف تصنع حين تلتقي بقوم آخرين يرجحون ما لا ترجحه، ويصححون ما لا تصححه، ومتى تترك ترجيحك الخاص رعاية لحق الاجتماع، ومتى تترك الاجتماع رعاية لحق الاتباع.
فالتنازع إذن ليس بسبب الاتباع، بل لتقصيرنا في فقه الاجتماع. إن غاية ما صنعوه وقالوه هو الحث على الاجتماع، دون أن يكون ذلك وفق منهج وآليات واضحة، كما لو اكتفوا بالمواعظ باتباع الدليل دون تخريج العلماء القادرين على معرفة الدليل والتحقق من ثبوته. ليتنا نتعلم من صلاة الجماعة، ونحن نمارس فيها (فقه الاتباع) مقرونا (بفقه الاجتماع)، ثم ما نلبث أن نغادر هذا الفقه حين نُسلِّم من صلاتنا! ألا يأتي المسبوق في صلاته، فيلحق بالإمام، ويزيد في صلاته وينقص منها بسبب متابعته للجماعة= ما لو فعله منفردا لبطلت صلاته بإجماع العلماء ؟!
مثال ذلك: لو أدرك المسبوقُ الجماعةَ في الركعة الثانية، فإن الإمام مع جماعته سيجلسون للتشهد الأول بعد ركعتهم الثانية، ويجلس معهم هذا المسبوق مع أنه لم يصلّ إلا ركعة واحدة، ولا يسوغ له غير ذلك. لو فعلها (المصلي المنفرد) ذاكرا عالما، فجلس للتشهد بعد ركعته الأولى؛ بطلت صلاته باتفاق الفقهاء، ومع هذا فإنه يفعل حال الجماعة ما لا يجوز له فعله حال الانفراد، رعايةً لحق الاجتماع. حينما ضعف هذا الفقه (فقه الاتباع وفقه الاجتماع) في العصور المتأخرة، وصل بهم الحال إلى افتراقهم في الجماعات، وأصبح في المسجد الحرام مقام ومحراب لكل مذهب!
ثم صُححت والحمد لله هذه الفُرقة والتفرق في صلاة الجماعة، وبقيت في مناحي الحياة لم تُصحَّح. إن هذا الموضوع يمثل عقدة مركزية في حياتنا الإسلامية، ويستحق مزيدا من البحوث العلمية، التي تتجاوز الوعظ إلى تتبع الأسئلة المشكلة، وبناء النظرية والمنهج في فقه الاجتماع. وبسبب غياب الرؤية الواضحة التي تنطلق من الكتاب والسنة أصبحنا نرى من يتعبد لله بالتنازع وهو عند نفسه يستمسك بالدليل ويصر على الراجح.
هل أصبح التنازع دينًا نتقرب به إلى ربنا؟! نعم، هو كذلك في مفاهيمنا الخاطئة، ونُسمِّي ذلك بغير اسمه.
نقلًا عن صحيفة مكة