مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
آفاق تربوية(8) الحُجاج بين نقاء الحج والثبات عليه
بقلم: د. فؤاد بكرين الصوفي*
يخوض المرء في لُجج المعاصي ساعاتٍ فيناديه نداءُ الحق في اليوم خمس مرات يذكِّره بكبرياء الله وعلوه بقول المؤذن الله أكبر الله أكبر؛ يناديه إلى أفضل العمل حي على الصلاة حي على الفلاح، ،فيستجيب للنداء ويبادر الى المسجد ليتطهر من أدرانه التي تلوّث بها في تلك الساعات .
فالصلوات الخمس مساحيق تطهيرٍ يتعرض فيها المسلم لنفحات ربه ورحماته، فيعود مغتسلا من كثير من الذنوب التي اقترفها بين الصلاتين ففي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يقول:(أرأيت لو أن رجلا كان له معتمل ، وبين منزله ومعتمله خمسة أنهار فإذا انطلق إلى معتمله عمل ما شاء الله فأصابه وسخ أو عرق ، فكلما مر بنهر اغتسل منه) أخرجه البزار والطبراني بإسناد لا بأس به من طريق عطاء بن يسار.
ثم تأتي الجمعة محطة التصفية الأسبوعية لتقوم بشيء من التنقية أيضا، فقد جاء في الحديث:(الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن ما لم تُغش الكبائر) [رواه مسلم].
ثم يأتي بعد ذلك الصيامٍ كصيام يوم التاسع من ذي الحجة والعاشر من محرم فقد ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:( صيام يوم عرفه أحتسب على الله أنه يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده) [ رواه مسلم].
وورد في صيام العاشر من محرم ما رواه مسلم من حديث أبي قتادة رضي اللَّه عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صيام يوم عاشوراء، أحتسب على اللَّه أن يكفر السنة التي قبله) [أخرجه مسلم].
ومالم تمحه تلك المحطات اليومية والأسبوعية والدورية تمحه محطات أخرى كصيام رمضان فهو محطة تنقية سنوية ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه) رواه البخاري.
فرمضان دورةُ تصفيةٍ وتنقيةٍ سنويةٍ شاملةٍ روحيا وصحيا واجتماعيا.. وفيه ليلة القدر التي ترفع معدل الأجر لمن أقامها الى ثلاثة وثمانين سنة .
ثم تأتي شعيرة الحج كمحطة للعمر كله فيبذل فيها المسلم عدة عبادات في أيام معدودات ليخرج منها كيوم ولدته أمه.
ومن كان من الميسورين فحج مرة أو كرر الحج أو العمرة كان ذلك كفارة له فقد ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(العمرة إلى العمرة كفارةٌ لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة)[متفق عليه].
فمهما كان ركام المعاصي وغشاء الخطايا وصدأ الفجور فإنه بعد الحج المبرور كل ذلك مغفور، فيعود كيوم ولدته أمه ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)[رواه مسلم]
فالحج يُصفِّر عداد المعاصي وأوزارها التي اقترفها المسلم عقودا من الزمن مهما كان حجمها مادام قد تاب إلى الله توبة نصوحا فيصير كيوم ولدته أمه، هكذا عبر النبي صلى الله عليه وسلم عن نقاء الحاج بعد حجه وتعرضه لرحمات الله ونفحاته وعطفه على المذنبين من عباده ، تعبيرٌ يجعل الصادق في حجه والمخلص في أدائه أمام عهدٍ جديدٍ مع ربه. عهد يثبته على النقاء والطهر ويبغِّض له العودة الى ما قبل الحج من السلوك المظلم.
والحج تجديد لنقاء الفطرة وفرصة عظيمة للسائرين إلى الله وبشارة لهم أن ظلمات الأوزار قد محتها محطات الأنوار والوقوف على المشاعر والقيم بالشعائر في الرحاب المقدسة، فتتضح طريق السائرين أكثر وتتبدد ظلمات المعاصي لتسهل للمسلم السعي الحثيث نحو باب الله المفتوح وعفوه الممنوح وجنة عرضها السموات والأرض أعدت لمن عاد كيوم ولدته أمه، وبقي كيوم ولدته أمه واستقام على ذلك إلى أن وافته المنية وهو كيوم ولدته أمه، فدخل الدنيا على الفطرة وخرج منها بعد الحج كيوم ولدته أمه وبينهما أخطاء وأوزار تجاوز عنها الرحيم الغفار ومحاها للحجاج الأبرار.
فكم من حاج غير الحجُّ حياته ؛ ذهب مذنبا عاصيا منحرفاً وعاد تقيا نقيا صالحا.
ولكن هنالك نوع من الحجاج أيضا بعد أن شعر أن الله قد حذف عنه الأوزار وصفى صحيفته من سلوك الأشرار ؛ تعطش ليرتوي مرة أخرى من مر المعصية ويعيد العداد من جديد وكأنه لم يطف بالبيت العتيق ولم يقف بعرفة ونسي لذة العبادة في تلك البقاع فأحبط حجه!. بعد أن خسر المال وفارق الأهل وتعب وكد وبذل وصار ليس بينه وبين الجنة إلا أن يموت هناك فيموت وهو كيوم ولدته أمه.
فإلى من عاد بعد الحج ليحبط حجه ويستأنف اقتراف المعاصي من جديد نقول ألا تتذكر تلك اللحظات والإحساس بالتجليات ولذة الأعمال الصالحات ألا تتذكر يوم عيدك عند إعادتك كيوم ولدتك أمك؟ فتستقيم على طاعة الله والحرص على رضوانه وتتذكر لذة النقاء فتشكر الله بالثبات ؟
اللهم ثبتنا على الاستقامة على طاعتك يا أكرم الأكرمين والحمد لله رب العالمين.
*المشرف العام على موقع الوفاق الإنمائي للدراسات والبحوث و التدريب
*بالتزامن مع ينابيع تربوية
أضافة تعليق