للكاتبة :مها المحمدي-خاص بالوفاق
(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ )آل عمران159
خصمان في وجه ابن آدم هما منه في نقطة الأكيد الذي لا شك فيه ولابد منه على أن أمرهما مختلف جداً ، فكما أن للطبيعة في ألقها خطاباً فإن لابن آدم في انفعالات وجهه خطاباً يبلغ بلاغة الطبيعة حين تُفصح عن رفاهة المعنى ويفوق اللسان في حاسته البيانية حين يبلغ أرفع درجاتها .
نقطة الالتقاء والفرقة هذه مركز صدارتها طلاقة الوجه بابتسامة فارهة المعنى أو تجهم في شدة الخصم الألد .
ومن كفاف الشعور إلى فُحش غِناه تنطلق الابتسامة لتخلق لغة هي البطل الخيالي في أسطورة الحقيقة ، فتارة نراها في وشاح المغضب والمتعجب ، او هي زينة ومتاع وزخرف المتفائل المبشر المرحب ، أو هي المقبلة في ثوب فتنة الملاعب الملاطف وقد تسلك نفق النفاق وتمتطي صهوة الساخر المستهزئ !وسبحان من هيئ لجنته وجوها مسفرة ضاحكة مستبشرة ، ولناره – عياذاً به – وجوها عليها غبرة ترهقها قترة
بسماتنا أرض تغذوها انفعالاتنا على مرايا وجوهنا، تلك حقيقة بصفات الفصول الأربعة تُوقظ الجمال وتُنيمه بين شفتين وأشعة انقباض وانبساط فتقسم الأشياء إلى صنفين لا ثالث لهما: قبيح وجميل .
في وجه محمد – صلى الله عليه وسلم – صفاء السماء تسلكها أنهار الرضا بوحي الروح ، فهو نبي الدمعة والحزن والألم ، وهو نبي البسمة خفيفها وتلك التي تبُدي نواجذه ، نبي الفرحة تلهو في قلبه العظيم فيمج ملح الحياة ومرها ، لا يسأل الوقت عن زمن مجيئها وإنما يتلقاها برد الجواب ! حتى قيل فيه ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
يكفيه من ضحكه التبسم، ويفرغ في قلوب البشرية طلاقة الوجه ، فيروي روح (جرير بن عبد الله البجلي ) - رضي الله عنه – بتلك الطلاقة حتى قال ’’ ما رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ أسلمت إلا تبسم في وجهي ’’ !
ولما سُئل جابر بن سمرة : أكنتَ تجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
قال : ’’ نعم كثيراً ، كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلى فيه الصبح حتى تطلع الشمس فإذا طلعت قام ، وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويبتسم ’’ ، لحظاتهم معه – صلى الله عليه وسلم – يافعة شابة ؛ لا تهرم ولا تشيب ولا تموت ، تغذوها كنوز حواسه في ضوء ياقوتة صقلتها يد الدهر في صفاء السماء.
ولئن كان – عليه الصلاة والسلام – رجل كرجالنا إلا أنه كان أكرم الناس ، وألين الناس ضحّاكا بسّاما ! لا يختلق البسمة إلا أنه القادر على خلقها في نفوس الناس ، حتى يجعلها على صهوات الوجوه رضا وعبادة ، يقول مرغباً :
’’ تبسمك في وجه أخيك لك صدقة ’’ ويزيد ولا ينقص من الخليقة في ابن آدم بقوله :
’’ إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق ’’
ويكسب قلوب ويفوز بودها يقول فضالة بن عمير الليثي : قدمت على النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح وهو يطوف بالكعبة ، وكنت أريد قتله ، فلما اقتربت من الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال لي : أفضالة ؟ قلت : نعم، فضالة يا رسول الله ، قال : ماذا كنت تحدث نفسك ؟ قلت : لا شيء ، كنت أذكر الله ، قال : فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال لي : استغفر الله ، ثم وضع يده على صدري ، فوالله ما رفعها حتى ما من خلق الله شيء أحب إليّ منه ’’
لو تراه تلقاه بسؤال : أقتلي تريد ؟ وهو مقبل عليه لهرب فضالة إلى الأمام بدلاً من الخلف يحمل سوء صورة فكريه أراد لها الخلود وأعجزته ابتسامة !
ابتسامته – عليه السلام - قالت للعدو الكاشح : تعال إلى اللاحدود ، فيا لسعادة أهل العداء بنبي يضرب للولاء والحب في جذور العداوة بسهم الربح الأكبر !
ويا نعيماً ناله أصحابه – صلى الله عليه وسلم – والوافدون عليه حين يُسفر ثغره الطاهر كما يُسفر البرق عن هتان المطر يُصيب غصنًا مال بأوراقه على آخر يجذبه العشق ويغشاه برد اللقاء .
في ابتسامة سليمان – عليه السلام – المتعجبة من قول نملة ؟(حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ )[النمل:18]
شئ من الإنسانية في السلوك والتخاطب ؟ أم هي الإنسانية في كليتها ؟ !
نبي – عليه السلام – يقف لقول نملة لا يراها الطفل الصغير من الكون الواسع فيتعقبها بطرف أنمله ويسحقها ، يبسم النبي سليمان – عليه السلام – من قولها متعجباً متنبهاً ومنبهاً لجنوده رأفة بقرية النمل ونزول إشفاق على مخافتها ، لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون !
أخوه محمد – صلى الله عليه وسلم – يبتسم متعجباً من ابن آدم
عن أنس رضي الله عنه قال : أصاب أهل المدينة قحط على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبينما هو يخطبنا يوم جمعة إذ قام رجل فقال يا رسول الله ، هلك الكراع هلك الشاء، فادع الله أن يسقينا فمد يديه ودعا ، قال أنس : وإن السماء لمثل الزجاجة فهاجت ريح ثم أنشأت سحابة ثم اجتمعت ثم أرسلت السماء عزاليها فخرجنا نخوض الماء حتى أتينا منازلنا فلم يزل المطر إلى الجمعة الأخرى فقام إليه ذلك الرجل أو غيره فقال: يا رسول الله تهدمت البيوت ، فادع الله أن يحبسه، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: حوالينا ولا علينا ، فنظرت إلى السحاب يتصدع حول المدينة كأنه إكليل .
كل خلق الله يريد ويطلب السلامة ، طلبتها نملة سليمان حكيمة قريتها ، وطلبها ابن آدم بين دعوتين ، يخاف أن يُقصف من السماء ، إن فيها نجاته وهلاكه ، ورسول الرحمة بين أظهرهم فلم لا يقوموا إلى ضميره المسكون بالرحمة وهو نبيها ، إن هي إلا نيته قبل عينه وكفه وربنا الأعلى يستجيب .
دار في نفسه – صلى الله عليه وسلم – ما دار في نفس أخيه سليمان – عليه السلام – من طباع الخَلق فتعجب الاثنان – عليهما السلام – في إنسانية الكمال .
بشّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في وجه الجميع بتبسم الرفق وطلاقة الوجه وبروق السن ، وتبسم مغضباً معاتباً لمن يُحب ويرحم ، يقول كعب بن مالك - رضي الله عنه - في قصة تخلفه عن غزوة تبوك وما كان من شأنه: فجئته ـ أي النبي - صلى الله عليه وسلم ـ فلما سلمت عليه تبسم تبسُّم المغضب ’’
روح لا تعرف جدب المعاني وإنما تُوقعها في مكانها ومكانتها، الحرص على منفعة كعب ومن معه من السقوط في هوة النفاق وما هم بالمنافقين ولكنه الطبع البشري يضاد التكلف وما كل نفس تملك المغالبة في كل أحوالها ، كان – صلى الله عليه وسلم – يريد لأصحابه وهم البشر أن يكونوا فوق البشر وإن سقطوا فإلى فوق ! فقوة الفرد في قوة المجموع ؛ والتخلص من نزعات النفس ووسوساتها أمر نغلبه ويغلبنا تارات وتارات لذا ساق عتابه في بسمة المغضب .
وأمام ابتسامة المغضب هذه تتوارى ابتسامتان: إحداهما مع أعرابي أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه رداء نجراني غليظ الحاشية فجذبه جذبة شديدة ، قال أنس بن مالك وكان يمشي معه : فنظرت إلى صفحة عاتق النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته ، ثم قال : مر لي من مال الله الذي عندك ، فالتفت، فضحك، ثم أمر له بعطاء !
الجبارون إن هادنهم الناس أهانوهم، وإن سألوهم بانكسار أذلوهم، والرحمة المهداة يُجذب من ردائه ويؤمر بالعطاء ! روح من العذوبة تلتفت فتمطر بسمة وتمطر عطاء !! كأنه سَرّب إلى الأعرابي مع بسمته أدب الطلب في أدب العطاء .
زاد فضل الله في بسمة قفزت تمازح صهيبًا الرومي – رضي الله عنه – أغمض لها عينًا رمدت، وفتح لها عينًا صحيحة ، وفتحت تلك البسمة بوابة المزاح مع الأكرم – عليه السلام - قال : قدمت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين يديه خبز وتمر فقال النبي : - صلى الله عليه وسلم- : ادن فكل ، فأخذت آكل من التمر فقال : تأكل تمرا وبك رمد ؟ ! قال : فقلت : إني أمضغ من ناحية أخرى، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سِرب من الطير مال على قلب نبي وصاحبه يتمازحان فحلقت الدِعة بألف جناح .
هنا رجلان ، روح من الأول هناك في المستقبل البعيد الغائم بين السحب القادم بأحوال وأحوال ، وروح من ذات الرجل بين الناس على الأرض وبين الحالين ابتسامة رجل كالرجال إلا أنه ألينهم وأكرمهم ضحاكاً بساماً ، أقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عند أم حرام بنت ملحان - رضي الله عنها – وهي خالة له من جهة أبيه وجده من بني النجار قالت :نام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً قريباً مني، ثم استيقظ يتبسم فقلت : ما أضحكك ، قال : أناسٌ من أمتي عرضوا عليّ يركبون هذا البحر الأخضر كالملوك على الأسرة قالت : فادعوا الله أن يجعلني منهم فدعا لها .
تكررت عليه الرؤيا – عليه السلام – وكرر بسماته فطفت على الماء تستقبل المجاهدين على أرض صلبة تستنقذهم من وهدة تجربة ركوب البحر الجديدة في أول معرفتهم بها ، بسمة بِشر وتفاؤل من نبي بوابة الغيب لفتح القلوب والبلاد .
تتسكع ابتسامة النفاق على شفاه باردة تسند تسكعها قلوب بالبغض ملأى وبالشحناء مشحونة ، وعلى كره من أمامها معقودة ، وتتقافز ابتسامة السخرية والشماتة على وجوه أسخنها الاستهزاء ونيل الأمنيات في المستهزأ منه ، هاتان الابتسامتان ما عرفهما رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولا ساقتها له نفس أدبها ربها الأعلى فأحسن تأديبها ، دخل مكة فاتحاً منتصراً مُغَشى بجلال التواضع والانحناء لرب الأرباب حتى لامست لحيته الشريفة ظهر راحلته على قوم كانت له معهم في السخرية والاستهزاء والتعنت والتجبر صفحات سوداء ! وأردف كرم الهيئة في الدخول بحسن القول فقال : اذهبوا فأنتم الطلقاء !!
وإذا رأيت ثَم رأيت ما بين أضلاع هند بنت عتبة – رضي الله عنها – حين جاءت إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مع نساء قريش مبايعة تحمل من ارتباك وجع السنين مفجوعة في أقرب وأعظم ما للمرأة العربية من أحباب ، أب وابن وعم يوم بدر ، تجمح بها ذكريات حاضرة تجتلب الماضي الذي أطفأته الأقدار ، متنقبة ؛ تخاف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لما كان منها يوم أحد .
كانت تقف بأدبها وعقلها قبل لسانها على بنود البيعة متعجبة بأنفة الخُلق المستقيم وهي المشركة إلى ما قبل أيام من نهيه – صلى الله عليه وسلم – المسلمات عن الزنا
فتقول : أوتزني الحرة ؟ !
معترفة بوضع ألفته مع أبي سفيان لما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ولا يسرقن ، قالت : إن أبا سفيان رجل شحيح وإني أصيب من ماله قُوتنا .
فقال أبو سفيان : هو لك حلال ، فضحك النبي – عليه السلام - وعرفها وقال :
أنتِ هند ؟ فقالت : عفا الله عما سلف .
وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُن’’ أي لا يَئِدْنَ الموءودات ولا يسقطن الأجِنَّة’’
فقالت هند: ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا يوم بدر، فأنتم وهم أبصر ’’ وتقصد بكرها حنظلة بن أبي سفيان ’’ .
في رأس المرأة – رضي الله عنها – عقل جرئ زاد على عقول ، يعترف ويستنكر ويحلق ثم يستند إلى جدار ، ماسبق كانت بعض من بنود المبايعة وبعض من ردودها اخترنا منه مع تقديم وتأخير ؛ لتتوهج الرؤيا في أعطاف الشخصية وهي جزء من مجتمعها العربي الأصيل، ولنقف على بسمتين ، أظهرت الرواية واحدة وأخفت أخرى بخفائها في نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم – أو بانفتاقها بألم شعر به النبي الرحيم -عليه أفضل الصلاة والتسليم - في نفس ثكلى فدارها تحت عطف الأقدار على مواجع كلهم عاشوها .
أما الظاهرة فضحكة التعارف حين قال : أنتِ هند ؟
بكل مواقفك الصارمة في جبين الآخر أنتِ علامة .
وأما البسمة الخفية فتوارت تحت ضحكة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - المجلجلة ؛ حين ردت على ولا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُن ،قالت : ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا يوم بدر، فأنتم وهم أبصر .
تراءت لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – آهة مكسورة لأم استرجعت، وما كان لها أن تنسى ليالي وأيامًا في تربية صغير كبر، وأسلمته الحرب، ومواقف عمياء إلى مصير تكرهه له ، وتراءت لقارئ الأنفس هذه البسمة حتى وإن أخفتها الرواية .
بسماته – صلى الله عليه وسلم – التي رّوح بها عن نفسه ومن حوله أكثر من أن تُحصى، وأجل من أن تُفسر، وهي القائمة بذاتها، ولكنها خطرات ألهمتنا بعضاَ من كل نختمه ببسمة الوداع، هكذا أسميتها مع أن المودع للأحبة يُطوى بين غصة ترميها إلى الأعلى شهقة تُلبسها دمعة تدقها الحسرة جحيماً للأضلاع .
عن أنس بن مالك رضي الله عنه : أن المسلمين بينا هم في صلاة الفجر من يوم الاثنين وأبو بكر يصلي لهم لم يفجأهم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كشف ستر حجرة عائشة فنظر إليهم وهم في صفوف الصلاة ثم تبسم يضحك !’’
نفسه – صلى الله عليه وسلم – مكدودة تعالج سكرات الموت ، مقبل على الآخرة، ولا يزال قادرًا على الابتسام !
صفوف المصلين يؤمهم أبوبكر والزمن فجر ، ولكل زمان فجره وأصيله ، جمعت دموع السماء الأصيل يُغيب الشمس والقمر ! فخالفت قانون الطبيعة - محمد صلى الله عليه وسلم - وجمع – عليه السلام في بسمته روحًا من المعاني ، سعادته بصفوفهم يؤمهم صاحب الغار ولا تحزن إن الله معنا ، وسعادته بالإقبال على الرفيق الأعلى في نعيم لايزول ولا يحول .
بادئ الحياة من حياته وموته عليه أفضل الصلاة والسلام .
وبعد فالجميع في انتظار بسمته على الحوض يستقبلنا بها إن شاء الله .
(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ )آل عمران159
خصمان في وجه ابن آدم هما منه في نقطة الأكيد الذي لا شك فيه ولابد منه على أن أمرهما مختلف جداً ، فكما أن للطبيعة في ألقها خطاباً فإن لابن آدم في انفعالات وجهه خطاباً يبلغ بلاغة الطبيعة حين تُفصح عن رفاهة المعنى ويفوق اللسان في حاسته البيانية حين يبلغ أرفع درجاتها .
نقطة الالتقاء والفرقة هذه مركز صدارتها طلاقة الوجه بابتسامة فارهة المعنى أو تجهم في شدة الخصم الألد .
ومن كفاف الشعور إلى فُحش غِناه تنطلق الابتسامة لتخلق لغة هي البطل الخيالي في أسطورة الحقيقة ، فتارة نراها في وشاح المغضب والمتعجب ، او هي زينة ومتاع وزخرف المتفائل المبشر المرحب ، أو هي المقبلة في ثوب فتنة الملاعب الملاطف وقد تسلك نفق النفاق وتمتطي صهوة الساخر المستهزئ !وسبحان من هيئ لجنته وجوها مسفرة ضاحكة مستبشرة ، ولناره – عياذاً به – وجوها عليها غبرة ترهقها قترة
بسماتنا أرض تغذوها انفعالاتنا على مرايا وجوهنا، تلك حقيقة بصفات الفصول الأربعة تُوقظ الجمال وتُنيمه بين شفتين وأشعة انقباض وانبساط فتقسم الأشياء إلى صنفين لا ثالث لهما: قبيح وجميل .
في وجه محمد – صلى الله عليه وسلم – صفاء السماء تسلكها أنهار الرضا بوحي الروح ، فهو نبي الدمعة والحزن والألم ، وهو نبي البسمة خفيفها وتلك التي تبُدي نواجذه ، نبي الفرحة تلهو في قلبه العظيم فيمج ملح الحياة ومرها ، لا يسأل الوقت عن زمن مجيئها وإنما يتلقاها برد الجواب ! حتى قيل فيه ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
يكفيه من ضحكه التبسم، ويفرغ في قلوب البشرية طلاقة الوجه ، فيروي روح (جرير بن عبد الله البجلي ) - رضي الله عنه – بتلك الطلاقة حتى قال ’’ ما رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ أسلمت إلا تبسم في وجهي ’’ !
ولما سُئل جابر بن سمرة : أكنتَ تجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
قال : ’’ نعم كثيراً ، كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلى فيه الصبح حتى تطلع الشمس فإذا طلعت قام ، وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويبتسم ’’ ، لحظاتهم معه – صلى الله عليه وسلم – يافعة شابة ؛ لا تهرم ولا تشيب ولا تموت ، تغذوها كنوز حواسه في ضوء ياقوتة صقلتها يد الدهر في صفاء السماء.
ولئن كان – عليه الصلاة والسلام – رجل كرجالنا إلا أنه كان أكرم الناس ، وألين الناس ضحّاكا بسّاما ! لا يختلق البسمة إلا أنه القادر على خلقها في نفوس الناس ، حتى يجعلها على صهوات الوجوه رضا وعبادة ، يقول مرغباً :
’’ تبسمك في وجه أخيك لك صدقة ’’ ويزيد ولا ينقص من الخليقة في ابن آدم بقوله :
’’ إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق ’’
ويكسب قلوب ويفوز بودها يقول فضالة بن عمير الليثي : قدمت على النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح وهو يطوف بالكعبة ، وكنت أريد قتله ، فلما اقتربت من الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال لي : أفضالة ؟ قلت : نعم، فضالة يا رسول الله ، قال : ماذا كنت تحدث نفسك ؟ قلت : لا شيء ، كنت أذكر الله ، قال : فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال لي : استغفر الله ، ثم وضع يده على صدري ، فوالله ما رفعها حتى ما من خلق الله شيء أحب إليّ منه ’’
لو تراه تلقاه بسؤال : أقتلي تريد ؟ وهو مقبل عليه لهرب فضالة إلى الأمام بدلاً من الخلف يحمل سوء صورة فكريه أراد لها الخلود وأعجزته ابتسامة !
ابتسامته – عليه السلام - قالت للعدو الكاشح : تعال إلى اللاحدود ، فيا لسعادة أهل العداء بنبي يضرب للولاء والحب في جذور العداوة بسهم الربح الأكبر !
ويا نعيماً ناله أصحابه – صلى الله عليه وسلم – والوافدون عليه حين يُسفر ثغره الطاهر كما يُسفر البرق عن هتان المطر يُصيب غصنًا مال بأوراقه على آخر يجذبه العشق ويغشاه برد اللقاء .
في ابتسامة سليمان – عليه السلام – المتعجبة من قول نملة ؟(حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ )[النمل:18]
شئ من الإنسانية في السلوك والتخاطب ؟ أم هي الإنسانية في كليتها ؟ !
نبي – عليه السلام – يقف لقول نملة لا يراها الطفل الصغير من الكون الواسع فيتعقبها بطرف أنمله ويسحقها ، يبسم النبي سليمان – عليه السلام – من قولها متعجباً متنبهاً ومنبهاً لجنوده رأفة بقرية النمل ونزول إشفاق على مخافتها ، لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون !
أخوه محمد – صلى الله عليه وسلم – يبتسم متعجباً من ابن آدم
عن أنس رضي الله عنه قال : أصاب أهل المدينة قحط على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبينما هو يخطبنا يوم جمعة إذ قام رجل فقال يا رسول الله ، هلك الكراع هلك الشاء، فادع الله أن يسقينا فمد يديه ودعا ، قال أنس : وإن السماء لمثل الزجاجة فهاجت ريح ثم أنشأت سحابة ثم اجتمعت ثم أرسلت السماء عزاليها فخرجنا نخوض الماء حتى أتينا منازلنا فلم يزل المطر إلى الجمعة الأخرى فقام إليه ذلك الرجل أو غيره فقال: يا رسول الله تهدمت البيوت ، فادع الله أن يحبسه، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: حوالينا ولا علينا ، فنظرت إلى السحاب يتصدع حول المدينة كأنه إكليل .
كل خلق الله يريد ويطلب السلامة ، طلبتها نملة سليمان حكيمة قريتها ، وطلبها ابن آدم بين دعوتين ، يخاف أن يُقصف من السماء ، إن فيها نجاته وهلاكه ، ورسول الرحمة بين أظهرهم فلم لا يقوموا إلى ضميره المسكون بالرحمة وهو نبيها ، إن هي إلا نيته قبل عينه وكفه وربنا الأعلى يستجيب .
دار في نفسه – صلى الله عليه وسلم – ما دار في نفس أخيه سليمان – عليه السلام – من طباع الخَلق فتعجب الاثنان – عليهما السلام – في إنسانية الكمال .
بشّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في وجه الجميع بتبسم الرفق وطلاقة الوجه وبروق السن ، وتبسم مغضباً معاتباً لمن يُحب ويرحم ، يقول كعب بن مالك - رضي الله عنه - في قصة تخلفه عن غزوة تبوك وما كان من شأنه: فجئته ـ أي النبي - صلى الله عليه وسلم ـ فلما سلمت عليه تبسم تبسُّم المغضب ’’
روح لا تعرف جدب المعاني وإنما تُوقعها في مكانها ومكانتها، الحرص على منفعة كعب ومن معه من السقوط في هوة النفاق وما هم بالمنافقين ولكنه الطبع البشري يضاد التكلف وما كل نفس تملك المغالبة في كل أحوالها ، كان – صلى الله عليه وسلم – يريد لأصحابه وهم البشر أن يكونوا فوق البشر وإن سقطوا فإلى فوق ! فقوة الفرد في قوة المجموع ؛ والتخلص من نزعات النفس ووسوساتها أمر نغلبه ويغلبنا تارات وتارات لذا ساق عتابه في بسمة المغضب .
وأمام ابتسامة المغضب هذه تتوارى ابتسامتان: إحداهما مع أعرابي أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه رداء نجراني غليظ الحاشية فجذبه جذبة شديدة ، قال أنس بن مالك وكان يمشي معه : فنظرت إلى صفحة عاتق النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته ، ثم قال : مر لي من مال الله الذي عندك ، فالتفت، فضحك، ثم أمر له بعطاء !
الجبارون إن هادنهم الناس أهانوهم، وإن سألوهم بانكسار أذلوهم، والرحمة المهداة يُجذب من ردائه ويؤمر بالعطاء ! روح من العذوبة تلتفت فتمطر بسمة وتمطر عطاء !! كأنه سَرّب إلى الأعرابي مع بسمته أدب الطلب في أدب العطاء .
زاد فضل الله في بسمة قفزت تمازح صهيبًا الرومي – رضي الله عنه – أغمض لها عينًا رمدت، وفتح لها عينًا صحيحة ، وفتحت تلك البسمة بوابة المزاح مع الأكرم – عليه السلام - قال : قدمت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين يديه خبز وتمر فقال النبي : - صلى الله عليه وسلم- : ادن فكل ، فأخذت آكل من التمر فقال : تأكل تمرا وبك رمد ؟ ! قال : فقلت : إني أمضغ من ناحية أخرى، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سِرب من الطير مال على قلب نبي وصاحبه يتمازحان فحلقت الدِعة بألف جناح .
هنا رجلان ، روح من الأول هناك في المستقبل البعيد الغائم بين السحب القادم بأحوال وأحوال ، وروح من ذات الرجل بين الناس على الأرض وبين الحالين ابتسامة رجل كالرجال إلا أنه ألينهم وأكرمهم ضحاكاً بساماً ، أقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عند أم حرام بنت ملحان - رضي الله عنها – وهي خالة له من جهة أبيه وجده من بني النجار قالت :نام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً قريباً مني، ثم استيقظ يتبسم فقلت : ما أضحكك ، قال : أناسٌ من أمتي عرضوا عليّ يركبون هذا البحر الأخضر كالملوك على الأسرة قالت : فادعوا الله أن يجعلني منهم فدعا لها .
تكررت عليه الرؤيا – عليه السلام – وكرر بسماته فطفت على الماء تستقبل المجاهدين على أرض صلبة تستنقذهم من وهدة تجربة ركوب البحر الجديدة في أول معرفتهم بها ، بسمة بِشر وتفاؤل من نبي بوابة الغيب لفتح القلوب والبلاد .
تتسكع ابتسامة النفاق على شفاه باردة تسند تسكعها قلوب بالبغض ملأى وبالشحناء مشحونة ، وعلى كره من أمامها معقودة ، وتتقافز ابتسامة السخرية والشماتة على وجوه أسخنها الاستهزاء ونيل الأمنيات في المستهزأ منه ، هاتان الابتسامتان ما عرفهما رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولا ساقتها له نفس أدبها ربها الأعلى فأحسن تأديبها ، دخل مكة فاتحاً منتصراً مُغَشى بجلال التواضع والانحناء لرب الأرباب حتى لامست لحيته الشريفة ظهر راحلته على قوم كانت له معهم في السخرية والاستهزاء والتعنت والتجبر صفحات سوداء ! وأردف كرم الهيئة في الدخول بحسن القول فقال : اذهبوا فأنتم الطلقاء !!
وإذا رأيت ثَم رأيت ما بين أضلاع هند بنت عتبة – رضي الله عنها – حين جاءت إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مع نساء قريش مبايعة تحمل من ارتباك وجع السنين مفجوعة في أقرب وأعظم ما للمرأة العربية من أحباب ، أب وابن وعم يوم بدر ، تجمح بها ذكريات حاضرة تجتلب الماضي الذي أطفأته الأقدار ، متنقبة ؛ تخاف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لما كان منها يوم أحد .
كانت تقف بأدبها وعقلها قبل لسانها على بنود البيعة متعجبة بأنفة الخُلق المستقيم وهي المشركة إلى ما قبل أيام من نهيه – صلى الله عليه وسلم – المسلمات عن الزنا
فتقول : أوتزني الحرة ؟ !
معترفة بوضع ألفته مع أبي سفيان لما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ولا يسرقن ، قالت : إن أبا سفيان رجل شحيح وإني أصيب من ماله قُوتنا .
فقال أبو سفيان : هو لك حلال ، فضحك النبي – عليه السلام - وعرفها وقال :
أنتِ هند ؟ فقالت : عفا الله عما سلف .
وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُن’’ أي لا يَئِدْنَ الموءودات ولا يسقطن الأجِنَّة’’
فقالت هند: ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا يوم بدر، فأنتم وهم أبصر ’’ وتقصد بكرها حنظلة بن أبي سفيان ’’ .
في رأس المرأة – رضي الله عنها – عقل جرئ زاد على عقول ، يعترف ويستنكر ويحلق ثم يستند إلى جدار ، ماسبق كانت بعض من بنود المبايعة وبعض من ردودها اخترنا منه مع تقديم وتأخير ؛ لتتوهج الرؤيا في أعطاف الشخصية وهي جزء من مجتمعها العربي الأصيل، ولنقف على بسمتين ، أظهرت الرواية واحدة وأخفت أخرى بخفائها في نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم – أو بانفتاقها بألم شعر به النبي الرحيم -عليه أفضل الصلاة والتسليم - في نفس ثكلى فدارها تحت عطف الأقدار على مواجع كلهم عاشوها .
أما الظاهرة فضحكة التعارف حين قال : أنتِ هند ؟
بكل مواقفك الصارمة في جبين الآخر أنتِ علامة .
وأما البسمة الخفية فتوارت تحت ضحكة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - المجلجلة ؛ حين ردت على ولا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُن ،قالت : ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا يوم بدر، فأنتم وهم أبصر .
تراءت لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – آهة مكسورة لأم استرجعت، وما كان لها أن تنسى ليالي وأيامًا في تربية صغير كبر، وأسلمته الحرب، ومواقف عمياء إلى مصير تكرهه له ، وتراءت لقارئ الأنفس هذه البسمة حتى وإن أخفتها الرواية .
بسماته – صلى الله عليه وسلم – التي رّوح بها عن نفسه ومن حوله أكثر من أن تُحصى، وأجل من أن تُفسر، وهي القائمة بذاتها، ولكنها خطرات ألهمتنا بعضاَ من كل نختمه ببسمة الوداع، هكذا أسميتها مع أن المودع للأحبة يُطوى بين غصة ترميها إلى الأعلى شهقة تُلبسها دمعة تدقها الحسرة جحيماً للأضلاع .
عن أنس بن مالك رضي الله عنه : أن المسلمين بينا هم في صلاة الفجر من يوم الاثنين وأبو بكر يصلي لهم لم يفجأهم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كشف ستر حجرة عائشة فنظر إليهم وهم في صفوف الصلاة ثم تبسم يضحك !’’
نفسه – صلى الله عليه وسلم – مكدودة تعالج سكرات الموت ، مقبل على الآخرة، ولا يزال قادرًا على الابتسام !
صفوف المصلين يؤمهم أبوبكر والزمن فجر ، ولكل زمان فجره وأصيله ، جمعت دموع السماء الأصيل يُغيب الشمس والقمر ! فخالفت قانون الطبيعة - محمد صلى الله عليه وسلم - وجمع – عليه السلام في بسمته روحًا من المعاني ، سعادته بصفوفهم يؤمهم صاحب الغار ولا تحزن إن الله معنا ، وسعادته بالإقبال على الرفيق الأعلى في نعيم لايزول ولا يحول .
بادئ الحياة من حياته وموته عليه أفضل الصلاة والسلام .
وبعد فالجميع في انتظار بسمته على الحوض يستقبلنا بها إن شاء الله .