عبد العزيز كحيل
يغلب التوتّر الشديد على العلاقات بين العرب والمسلمين بالغرب على أكثر من صعيد، بدأ ذلك بالحروب الصليبية وتفاقم مع احتلال كبرى الدول الغربية لمعظم بلادنا ثمّ استمرّ بعد موجة الاستقلال بتنصيبه حكّامًا مؤتمرين بأمره، ليبلغ مداه مع العولمة، ويُخشى أن يمتدّ خطّ سوء العلاقة أفقيًّا وعموديًّا لأنّ أسباب التوتّر والتدهور ما زالت قائمة، وعلى رأسها قراءته لنا التي ما تبقى رهينة الارتباط بالآلة الاستعمارية، فهل من إمكانية في الانفراج والتفاهم والتعايش بعد أحقاب الصدام المتعدّد الأشكال؟ وماذا جنى المسلمون من حالة العداء هذه؟ هل نتحمّل جزءا من المسؤولية في هذا الوضع على بعض الأصعدة أم أنّنا بُرَءَاءُ من الأخطاء والآخر هو الجحيم؟ ولعلّ السؤال الأهمّ في هذا السياق هو: هل يتّبع الغرب هجمة ممنهجة ضدّ الإسلام والمسلمين بقصد الإساءة إليهم واستئصالهم، أم أنّ الأمر يقتصر على أعمال فردية يتولّاها متطرّفون؟ قسٌّ هنا ومجلة هناك وجماعة صغيرة هامشية هنالك؟؟ ثمّ هل يعتمد موقفنا من هذا الغرب على دراسات علمية وحقائق ميدانية أم هو ردّ فعل عاطفي متسرّع على إساءات و مواقف لا تستحقّ في الحقيقة كلّ هذا الفزع والثورة لأنها تشكّل دعاية مجانية لأطراف تافهة خدمناها هي بردّ فعلنا أكثر ممّا خدمنا قضيتنا؟ وفي هذه الحال ألسنا في حاجة إلى إعادة نظر جذرية من القضية كلّها حتى نضع أقدامنا على الطريق الصحيح ونجنّب ذواتنا مزيدا من إهدار الطاقات وتضييع فرص كسب ساحات جديدة في العالم؟
هناك أسئلة أخرى دقيقة ومحرجة لا بدّ من طرحها والإجابة عنها وفق تفكير علمي وبأعصاب باردة أي بعيدا عن الدروب المعبّدة التي ألفناها والإجابات الجاهزة التي آمنت بها أجيال منّا ربما قبل أن تدقّق النظر فيها : هل القيم الإسلامية متناقضة تمامًا مع القيم الغربية؟ وهل قيمُنا جزء من القيم الإنسانية أم هي متميّزة عنها قليلا أو كثيرا أم أنها مناقضة لها كلّيّا؟ ماذا يغني تميّز المسلمين الثقافي والحضاري؟ أهو تميّز الشخصية والأخلاق والسمت العام المستمدّ من الانتماء الديني أم أنه يعني المفاصلة الكاملة عن كلّ ما ليس إسلاميًا؟
ثمّ، هل ظلمَنَا الغرب أم ظلمناه؟ أم أنّ هناك قدرا من المسؤولية نتحمّله منه بشكل من الأشكال يبرّر الموقف الغربي تجاهنا؟ هل يعود سبب التوتّر أو الخصومة أو العداء بيننا وبينهم إلى العامل الديني أو التاريخي أو الحضاري؟ أم هو مزيج من كلّ هذا وزيادة؟ ثمّ إذا كان الغرب أطرافا متعدّدة وليس كتلة واحدة فهل موقفنا منه موحّد؟ عندهم من يعتبر الإسلام شرًّا، وبجانبهم مثقّفون وسياسيون وفنانون وعمّال وشباب وشيوخ يُقبلون على الإسلام بشغَف وبأعداد متزايدة حتى أصبح ذلك ظاهرة تتناولها الدراسات الأكاديمية فضلا عن الصحافية، وعندنا نحن من يعتبر الحضارة الغربية نهاية التاريخ ويدعو إلى تبنّي فلسفتها وآلياتها كاملة غير منقوصة إذا أردنا التقدم والرقيّ، في حين يعدّها آخرون هي الشرّ المحض والعدوّ الألدّ للدين والأخلاق والبشرية، ومهما كان الموقف فهل بإمكان عاقل إنكار عقدة التكبّر الحضاري التي تتّسم بها الحضارة الغربية والتي هي مصدر غرورها ومنبع معاناتنا منها؟
· عن أسباب التوتّر: عندما نتحدّث عن الغرب فإنه يمثّل عندنا نحن العرب والمسلمين كتلة واحدة تكره ديننا وتاريخنا وتميّزنا الثقافي والحضاري، تتحكّم فيها أحقاد وأطماع تدفعها إلى التآمر علينا كأمّة وشعوب ودول وسياسات، لا تنتهي سلسلة اعتداءاتها علينا كلّ حين وفي أكثر من بلد، وهي التي زرعت الكيان الصهيوني في أرضنا كسرطان مُهلك وشرّدت أبناء البلاد...وما نَنقمُه على الغرب صحيح لا مراء فيه لكن من صالحنا أن نحتكم إلى النسبية في تحديد المقصود بهذا الغرب، فالنظم الحاكمة وبعض النُخب الجاهلة أو المتحاملة هي التي تدفع السياسات نحو العدوان والتأزيم، أمّا الشعوب فمنها جماهير أبدت أكثر من مرّة رفضها للتوجّهات الرسمية ضدّ العرب والمسلمين، وحتى بعض النُخب التقدمية تقف ضد الحكومات هناك وتناصر قضايانا، إلى درجة أن استطلاعات الرأي الأخيرة رصدت تحوّلا ملحوظا في موقف الغربيّين من اليهود، يتميّز بعدم الرضا بل بالاتهام والامتعاض، وهنا يُطرح سؤال له أهمية كبرى هو: ما الذي جنيناه من موقفنا المتصلّب من الغرب وتعميم الاتهام له ؟ هل أفادنا هذا الموقف ( المستساغ عاطفيًّا) أم أفاد خصومنا والمتربّصين بنا ؟ لقد تأرجح موقفنا بين الخُطب والكتابات النارية المُفعَمة بالانتقاص من الغرب وأفكاره ومراجعه وسلوكياته الحياتية ، وبين تطوّع بعضنا بمهاجمة أفراده ومصالحه عسكريا في عمليات فردية منعزلة، كان ضحاياها في الغالب الأعمّ مدنيّين لا علاقة لهم بقضايانا ولا معاداتنا إطلاقًا، وبدل الدعاء لؤلئك بالهداية دأب كثير من خطباء مساجدنا على تذييل دروسهم بأدعية حارّة بالويل والثبور على اليهود والنصارى جملة وتفصيلا، وأن ييتّم الله أبناءهم ويرمّل نساءهم ويهلكهم هلاكا مبينا لا يبقي ولا يذر!!!
هذه حقائق طالما صدّ عنها أكثرنا صدودًا واعتبروها عوامل تثبيط ، لكنّها تبقى حقائق عنيدةً صلبةً نحن في حاجة إلى الانتقال بها إلى بدائل تتجاوز الانفعالات إلى خطط علمية محكَمة تعيد للإسلام التمكين الفكري من خلال الدعوة الواعية البصيرة إلى الله وتتيح لنا اكتساب الأصدقاء بدل تكثير الأعداء.
· إحكام التشخيص: إن قول الله تعالى ’’ قل هو من عند أنفسكم ’’ ينطبق علينا ويحمّلنا مسؤولية تحامل الغرب علينا، فنحن فريسة وهدف سهل بسبب ثالوث متلازم:
- تخلّف الشعوب الإسلامية المادي وضعفها المُزمن في العلم والاقتصاد والتسيير السياسي لشؤونها.
- الأعمال المسلّحة غير المنضبطة بشرع ولا قانون التي تستهدف هيئات وأفرادًا من الغرب رغم حكم البراءة الأصلية، فقط لأنهم من بلاد أروبية أو أمريكية.
- أدبيات كثير من الحركات الإسلامية التي لا تجاهر بتعيين الغرب كلّه كعدوّ فحسب وإنما تركّز على كونه مصدر جميع مصائبنا ولا علاقة معه إلا من خلال إزالة حضارته.
ولنا أن نسأل أنفسنا: هل هذا تشخيص موضوعي؟ ألسنا نسعى إلى تبرير عجزنا وتزكية أنفسنا بإلقاء المسؤولية على الطرف الآخر؟ ألم يعلّم القرآن الكريم الصحابة رضي الله عنهم توجيه أصابع الاتهام إلى ذواتهم بدل توجيهها إلى جيش قريش بعد هزيمة أُحُد؟ ألَسنا أولى من الصحابة باللوم؟
إن جزءا كبيرًا من مأساتنا يكمن في النظرة السطحية التي نتناول بها القضايا المصيرية والأحداث الجسام التي تعصف بنا منذ قرنين من الزمن على الأقلّ، ولو اعتمدنا النظر الإيماني لوضعنا أيدينا حقيقة على مكامن الداء ولالتمسنا العلاج المناسب مع اقتصاد في الوقت والجهد والمال والأنفس، ولنقارن بين تناول كلّ من نوح عليه السلام وابنه لنفس الظاهرة التي كانت ماثلة أمامهما، وهي الطوفان الوشيك، فالابن نظر إليه باعتباره مجرّد ظاهرة طبيعية يمكن الاحتراس منها باعتماد إجراء معروف هو الصعود إلى مكان عال لا تبلغه الأمواج العاتية : ’’ قال سآوي إلى جبل يعصني من الماء’’ ، أمّا النبي فرأى أنّه ليس ظاهرة طبيعية بل هو ’’ أمر الله’’ :’’قال لا عاصم اليوم من أمر الله’’، فكانت النتيجة أن هلك صاحب النظرة السطحية بسبب سوء التقدير والتشخيص ، ونجا من اعتمد على التشخيص الصحيح والنظرة العميقة الثاقبة، ولعلّ هذا حالنا مع الغرب، نرى ما يصيبنا منه – وحتى ما يأتينا منه – مؤامرات ودسائس ومخطّطات جهنمية فنواجه ذلك بمزيد من مظاهر الاحتقان كالبغض والعدوانية والرفض المطلق، وهذا يضرّ بنا أكثر من تأثيره في الغرب، وهذا الموقف مفهوم إذا صدر من بشر عاديّين أمّا المسلمون فقد علّمهم دينُهم أن يروا في المصائب يدَ الله قبل أيدي الأعداء فينتقلوا من التفسير التآمري للأحداث والوقائع إلى الفهم الإيماني ويؤمنوا أنّ ما يصيبهم تنبيهات ربانية على انحرافهم كأمّة وصدّهم عن سنن الله في كونه وخلقه وغفلتهم عن قوانين التمكين ، والفرق بين التفسيرين مسافة هائلة، لا يبرح الأولُ ساحة الحالات النفسية المتوتّرة وما ينتج عنها من انكفاء على الشجب والعنف اللفظي والمادي الأهوج، في حين يقودنا الثاني إلى الحلول العلمية المضمونة النتائج بدءا بالمراجعة الدقيقة الموضوعية لمسارنا وأدواتنا وأساليبنا من أجل التصحيح ومعالجة مواطن الخلل بدَل الاستمرار في تحميل المسؤولية للآخرين، وهذا يُسلمنا إلى إحياء الفريضة الغائبة في مجتمعاتنا المعاصرة ألا وهي الدعوة إلى الله تعالى.
· إحياء واجب الدعوة: نحن المسلمين أمّة الدعوة التي تتحمّل مسؤولية هداية الخلق ، ولن تُشرَع أمامنا أبواب الجنة حتى نعمل على إغلاق أبواب النار أمام البشرية فلا يدخلها إلاّ مصرٌّ على الكفر رفَضَ الإيمان والهداية على بصيرة وعن قناعة، وانشرح صدره للضلال وهو على بيّنة من أمره، لكنّنا انخرطنا منذ زمن بعيد – في إطار دائرة ردّ الفعل التي أشرنا إليها – في دائرة الشبهات المثارة حول الإسلام إلى درجة إهمال واجب الدعوة، وكان ينبغي أن يكون حيّز دحض الافتراءات أضيقَ ممّا نحن عليه لتنصبّ الجهود على التعريف بالدين وبيان محاسنه وتحبيبه للشعوب والتركيز على البديل الروحي الذي يتيحه للغربيّين الذين يئنّون تحت وطأة المادية والإلحاد، فالتعبئة من أجل تجلية الحقائق حول الرسول صلى الله عليه وسلم والمرأة والعنف وتخلّف المسلمين والرقّ وتعدّد الزوجات وحقوق الإنسان ووضع الأقليات والشهوانية ...واجبٌ علينا، لكن مع مراعاة الأولويات في إطار خطّة متكاملة تكون الدعوة في مقدمتها، وإنما نهدف من ورائها إلى مساعدة الغرب على إجراء عملية تطهير داخلية ومراجعة ذاتية لتصحيح نظرته إلى الآخر- من جهة – وتصحيح مساره الحضاري – من جهة أخرى – بحيث يعود إلى التزام القيم ويتصالح مع الانتماء الديني، ولنا أن نتصوّر حاله لو استطاع أن يجمع – على الأقلّ – بين القوة التي امتلكها بعلمه وعمله وبين المسيحية التي ينتمي إلى فضائها لكنه لم يتمثّلها في قليل ولا كثير، وإذا استطعنا دعوة أهله إلى التحرّر المنهجي والمعرفي فقد قطعنا شوطاً كبيرًا في مهمّتنا، ولا بدّ من الإشارة هنا إلى ضرورة استثمار النزعة الإنسانية في الرؤية الغربية لبلوغ أهدافنا، فلا أحد ينكر وجود هذه النزعة لديهم ومكانتها في فلسفتهم ، وهي تشير إلى الفطرة السليمة التي فُطرَ عليها البشر، وهي أكبر قاسم يجمعهم.
وستُؤتي الدعوة الإسلامية في الغرب نتائج حاسمة إذا حدّدنا بدقّة الرؤية التي نعرض بها رسالتنا عليه، وهذه الرؤية هي التي تكتب للدعوة النجاح أو الإخفاق، وينبغي أن تركّز أساسا على المشترك الإنساني واحتواء الإسلام له وإسهام المسلمين فيه عبر العصور سواء في مجال العلوم الإنسانية أو التقنية، مع بيان اللمسة الإيمانية الخاصّة التي تجمع بين الجلال والجمال وتغذي الروح وتطلق طاقات الإنسان وتحب الرقي المادي والسموّ الأخلاقي، وتحرّر البشرية من نظريات الوجودية والعبثية التي تنذر بإفنائها ، على أن يتمّ تبليغ هذه الحقائق بذكاء، بعيدا عن النظرة الفوقية ، ونستطيع أن نمرّر الحق الذي معنا من غير تعيير الغرب بالباطل الذي هو فيه، والعزة بالإثم تتربّص بالناس، والشيطان لا يفتر عن السعي في الدعوة المضادّة، وأسوأ أسلوب لدعوة الغرب هو الغلوّ في الدين والتزام المواقف الحدّية .
ولن تكتمل الرؤية ولن تؤتي ثمارها إلا إذا لازمها التيسير في الأحكام بدل التعسير، والتبشير في الدعوة بدل التنفير، فمن معوّقات العلاقة بين المسلمين والغربيين ’’ الإنسان الغربي الخارق للعادة’’ - من جهة - و ’’ المسلم المتديّن فوق العادة’’ – من جهة أخرى - ، فلا بدّ من العودة بالاثنين إلى الحجم الحقيقي للإنسان ، وإنما تكون الخطوة الأولى من المسلم الذي يدعو الناس لأنه يحبهم، ولأنه لا يزكي نفسه ولا يُدلّ باستقامته، والتواضع من شروط الداعية الناجح الذي يوظّف سلوكه قبل أقواله، وكبرياء الغرب من مقتضيات امتلاكه لناصية القوة من غير ضوابط أخلاقية، لكن اشتراط تخلّيه عن ذلك قبل محاورته ودعوته أسلوب غير موفق، وصبرنا عليه هو البديل المثمر .
· ظلال الاستقطاب الثنائي: الاستقطاب شرق-غرب بدأ في القرون الوسطى، وحدّد العلاقة ب’’ الآخر’’ وامتدّ عبر الزمان في مسارات كانت في غير صالحنا لأن الطرفين سلكا منحيَين حضاريين على طرفي نقيض، تصاعدي هناك وتراجعي هنا، وتمكّن الغرب من اجتياح العالم كلّه بنظريّتين اثنتين تلخّصان فلسفته النهائية هما العلمانية ومفهوم الدولة القومية، وقد انخرط فيهما أغلبية البشرية طوعًا أو كرهًا، وواجهتهما الأدبيات الإسلامية الأصيلة بالرفض لتمسّكها بالنظرية السياسية الإسلامية التي تعتبر الدين والدنيا وجهين لعملة واحدة، وتؤمن بمفهوم ’’ الأمة ’’ المستند إلى العقيدة لا إلى الحدود الجغرافية أو المكوّنات العرقية ونحوها، ولا يمكن مناقشة الغرب في المسألتين إلا بناءً على ظروف نشأتهما في دياره، فهما عنده نتيجة كفاح فكري وشعبي طويل للإنعتاق من قبضة الكنيسة التي كانت تتحكّم في حياة الناس بالإرهاب الفكري والمادّي، وهم ما زالوا لا يفرّقون بين الإسلام والكنيسة، فيسحبون عليه مفاسدها خاصة إبّان القرون الوسطى، وتتمثّل مهمّتنا إذًا في مزيد من الشرح والتفسير والمناقشة والبيان لإقناعهم بالفروق الهائلة ونفي العدوانية بسبب الموقف من اختيارهم لنظامهم الفكري والسياسي، وتجلية موقفنا هذا بالطرق العلمية الواقعية لن يكون إلا في صالح الإسلام ، وهو جهاد ثقافي طويل لأن فريقا من المسلمين – الموصوفين بالمتنوّرين - تصبّ أعمالهم في تأييد العلمانية والدولة القومية وتقوّض جهود الأعمال الإسلامية الأصيلة وتؤسّس لاستمرار الفكر التصادمي عند الطرفين، مع كلّ أسف، لانحيازها إلى الأطروحات الغربية بسب مواقف انفعالية نابعة من الشعور بالدونية والارتماء غير البصير في أحضان الفلسفة الغربية .
· حقيقة الغرب :إن الغرب صاحب حضارة عريقة تحكمها النسبية كما هو حال جميع الحضارات، ولو التزم بتعاليم المسيحية لكان ذلك أفيَد له وللبشرية، لكنّه لا يعرف من دين المسيح عليه السلام سوى الانتماء الثقافي و البُعد الكنسي، وعلينا نحن أن نحدّد محطّات الالتقاء والتصادم معه وأن نتجنّب الرؤى الاختزالية التي تتجاوز الحقائق والوقائع سواء في جانبنا أو في جانبه، ونؤسّس لرؤية معمّقة له من حيث كينونته وإسهاماته، فهذا أقرب إلى بناء الثقة بين الطرفين المحكوم عليهما بالتعايش، وعلينا أن نحاكم الغربيّين إلى المنهج والمعرفة، وقد أبدعوا فيهما عبر العصور ونالوا قصب السبق، وندعوهم بالضبط إلى التحرّر المنهجي والمعرفي لتصحيح نظرتهم إلينا والتحرّر من الصورة النمطية التي رسمها ثالوث الإستشراق والاستعمار والتنصير، لنلتقي في ساحة الإنسانية التي تسعُنا جميعًا، فهم لم يُخلَقوا متمّدنين ، ولا نحن بدائيّون بالطبع ، بل نحن جميعًا بشر، ولا شكّ في خطأ نظرية تفوّق ’’ الإنسان الأبيض ’’ ولا نظيرتها التي ترسم للتاريخ نهايته بمرحلة الليبرالية والديمقراطية، لأنّ لمختلف الأمم – ومنها المسلمون – فرصا لدخول دورات التاريخ بإسهاماتها المتنوّعة في وقت من الأوقات، وليس من المعقول أن ينتهي تاريخ المرجعيات بالفكر اليوناني-الروماني ولا الديانة اليهودية-المسيحية كما صيغ الغرب منذ قرون، ونحن أصحاب رسالة تخاطب البشر لتضيف إلى الموروث الإنساني الطابع السماوي الخالص، وهذا من أوسع أبواب مخاطبة الغرب، وسيستجيب له حين يلمس منّا حبّ الخير له ويقتنع أننا قوم تسوقنا الرحمة بالخلق لا كراهيتُهم.
· رصيد كبير بين أيدينا: إنّ العلاقة الجديدة مع الغرب التي نتبنّاها خالية من مركّب النقص ومركّب التفوّق، وهي ليست نتاج تسوّل ولا انبهار بمستواه المادي، ذلك أن تسليمنا بقدراته الاقتصادية والعلمية واستقراره السياسي المستند إلى العمل المؤسّسي واحتفائه بالعلم والنظام والنظافة والمنهجية يصاحبه شعور بفقره الروحي المدقع الذي نملك علاجه، فعند الغربيين شرك واستكبار وفحش، وأخلاقهم يغلب عليها الطابع التجاري، ومسيحيتهم أفسدها التحريف حتى فقدت الأبعاد الدينية وغدت شبَحًا، ليس فيها عقيدة واضحة ولا مسحة ربانية فضلا عن الأحكام والضوابط، أمّا نحن فنملك كلّ هذا وما يقتضيه من أخلاق إيمانية ومحافظة على الأسرة وابتعاد عن المنحى البهيمي في علاقة الرجل بالمرأة، وإنما يُغري الأمريكان والأوربيين وغيرهم بالدخول في الإسلام ما يجدون فيه من صلاة وتلاوة وذكر يُشبع نهمهم الروحي وخواءهم النفسي ويُخلّصهم من طغيان المادة الذي يصاحب ما هم فيه من رفاهية ورقيّ، ولا غرو أن العصر يشهد زحف الإسلام على الغرب وليس العكس، ونأمل أن يكون الفتح المعاصر فتحا فكريا روحيا يمهّد له المسلمون بالتواصل مع الشعوب ليتولّى هذه المهمة في النهاية الداخل الغربي ذاتُه، وسيتمّ ذلك إذا أحسنّا مخاطبة جميع الفئات هناك ونوّعنا الأساليب الدعوية لتلامس الجاهلين بالإسلام والمحايدين والمغرورين والمنصفين والعقلاء، وما أكثرهم.
إنّ هذا – في تقديرنا – أفضل وأفيد للطرفين من الإصرار على التقاطع ومزيد من الجفاء – من جهة – ومن حوار الأديان الذي لا يعني في الحقيقة شيئا، لأنه حوار طرشان أو إنفاق للأوقات والأموال في المجاملات .
يغلب التوتّر الشديد على العلاقات بين العرب والمسلمين بالغرب على أكثر من صعيد، بدأ ذلك بالحروب الصليبية وتفاقم مع احتلال كبرى الدول الغربية لمعظم بلادنا ثمّ استمرّ بعد موجة الاستقلال بتنصيبه حكّامًا مؤتمرين بأمره، ليبلغ مداه مع العولمة، ويُخشى أن يمتدّ خطّ سوء العلاقة أفقيًّا وعموديًّا لأنّ أسباب التوتّر والتدهور ما زالت قائمة، وعلى رأسها قراءته لنا التي ما تبقى رهينة الارتباط بالآلة الاستعمارية، فهل من إمكانية في الانفراج والتفاهم والتعايش بعد أحقاب الصدام المتعدّد الأشكال؟ وماذا جنى المسلمون من حالة العداء هذه؟ هل نتحمّل جزءا من المسؤولية في هذا الوضع على بعض الأصعدة أم أنّنا بُرَءَاءُ من الأخطاء والآخر هو الجحيم؟ ولعلّ السؤال الأهمّ في هذا السياق هو: هل يتّبع الغرب هجمة ممنهجة ضدّ الإسلام والمسلمين بقصد الإساءة إليهم واستئصالهم، أم أنّ الأمر يقتصر على أعمال فردية يتولّاها متطرّفون؟ قسٌّ هنا ومجلة هناك وجماعة صغيرة هامشية هنالك؟؟ ثمّ هل يعتمد موقفنا من هذا الغرب على دراسات علمية وحقائق ميدانية أم هو ردّ فعل عاطفي متسرّع على إساءات و مواقف لا تستحقّ في الحقيقة كلّ هذا الفزع والثورة لأنها تشكّل دعاية مجانية لأطراف تافهة خدمناها هي بردّ فعلنا أكثر ممّا خدمنا قضيتنا؟ وفي هذه الحال ألسنا في حاجة إلى إعادة نظر جذرية من القضية كلّها حتى نضع أقدامنا على الطريق الصحيح ونجنّب ذواتنا مزيدا من إهدار الطاقات وتضييع فرص كسب ساحات جديدة في العالم؟
هناك أسئلة أخرى دقيقة ومحرجة لا بدّ من طرحها والإجابة عنها وفق تفكير علمي وبأعصاب باردة أي بعيدا عن الدروب المعبّدة التي ألفناها والإجابات الجاهزة التي آمنت بها أجيال منّا ربما قبل أن تدقّق النظر فيها : هل القيم الإسلامية متناقضة تمامًا مع القيم الغربية؟ وهل قيمُنا جزء من القيم الإنسانية أم هي متميّزة عنها قليلا أو كثيرا أم أنها مناقضة لها كلّيّا؟ ماذا يغني تميّز المسلمين الثقافي والحضاري؟ أهو تميّز الشخصية والأخلاق والسمت العام المستمدّ من الانتماء الديني أم أنه يعني المفاصلة الكاملة عن كلّ ما ليس إسلاميًا؟
ثمّ، هل ظلمَنَا الغرب أم ظلمناه؟ أم أنّ هناك قدرا من المسؤولية نتحمّله منه بشكل من الأشكال يبرّر الموقف الغربي تجاهنا؟ هل يعود سبب التوتّر أو الخصومة أو العداء بيننا وبينهم إلى العامل الديني أو التاريخي أو الحضاري؟ أم هو مزيج من كلّ هذا وزيادة؟ ثمّ إذا كان الغرب أطرافا متعدّدة وليس كتلة واحدة فهل موقفنا منه موحّد؟ عندهم من يعتبر الإسلام شرًّا، وبجانبهم مثقّفون وسياسيون وفنانون وعمّال وشباب وشيوخ يُقبلون على الإسلام بشغَف وبأعداد متزايدة حتى أصبح ذلك ظاهرة تتناولها الدراسات الأكاديمية فضلا عن الصحافية، وعندنا نحن من يعتبر الحضارة الغربية نهاية التاريخ ويدعو إلى تبنّي فلسفتها وآلياتها كاملة غير منقوصة إذا أردنا التقدم والرقيّ، في حين يعدّها آخرون هي الشرّ المحض والعدوّ الألدّ للدين والأخلاق والبشرية، ومهما كان الموقف فهل بإمكان عاقل إنكار عقدة التكبّر الحضاري التي تتّسم بها الحضارة الغربية والتي هي مصدر غرورها ومنبع معاناتنا منها؟
· عن أسباب التوتّر: عندما نتحدّث عن الغرب فإنه يمثّل عندنا نحن العرب والمسلمين كتلة واحدة تكره ديننا وتاريخنا وتميّزنا الثقافي والحضاري، تتحكّم فيها أحقاد وأطماع تدفعها إلى التآمر علينا كأمّة وشعوب ودول وسياسات، لا تنتهي سلسلة اعتداءاتها علينا كلّ حين وفي أكثر من بلد، وهي التي زرعت الكيان الصهيوني في أرضنا كسرطان مُهلك وشرّدت أبناء البلاد...وما نَنقمُه على الغرب صحيح لا مراء فيه لكن من صالحنا أن نحتكم إلى النسبية في تحديد المقصود بهذا الغرب، فالنظم الحاكمة وبعض النُخب الجاهلة أو المتحاملة هي التي تدفع السياسات نحو العدوان والتأزيم، أمّا الشعوب فمنها جماهير أبدت أكثر من مرّة رفضها للتوجّهات الرسمية ضدّ العرب والمسلمين، وحتى بعض النُخب التقدمية تقف ضد الحكومات هناك وتناصر قضايانا، إلى درجة أن استطلاعات الرأي الأخيرة رصدت تحوّلا ملحوظا في موقف الغربيّين من اليهود، يتميّز بعدم الرضا بل بالاتهام والامتعاض، وهنا يُطرح سؤال له أهمية كبرى هو: ما الذي جنيناه من موقفنا المتصلّب من الغرب وتعميم الاتهام له ؟ هل أفادنا هذا الموقف ( المستساغ عاطفيًّا) أم أفاد خصومنا والمتربّصين بنا ؟ لقد تأرجح موقفنا بين الخُطب والكتابات النارية المُفعَمة بالانتقاص من الغرب وأفكاره ومراجعه وسلوكياته الحياتية ، وبين تطوّع بعضنا بمهاجمة أفراده ومصالحه عسكريا في عمليات فردية منعزلة، كان ضحاياها في الغالب الأعمّ مدنيّين لا علاقة لهم بقضايانا ولا معاداتنا إطلاقًا، وبدل الدعاء لؤلئك بالهداية دأب كثير من خطباء مساجدنا على تذييل دروسهم بأدعية حارّة بالويل والثبور على اليهود والنصارى جملة وتفصيلا، وأن ييتّم الله أبناءهم ويرمّل نساءهم ويهلكهم هلاكا مبينا لا يبقي ولا يذر!!!
هذه حقائق طالما صدّ عنها أكثرنا صدودًا واعتبروها عوامل تثبيط ، لكنّها تبقى حقائق عنيدةً صلبةً نحن في حاجة إلى الانتقال بها إلى بدائل تتجاوز الانفعالات إلى خطط علمية محكَمة تعيد للإسلام التمكين الفكري من خلال الدعوة الواعية البصيرة إلى الله وتتيح لنا اكتساب الأصدقاء بدل تكثير الأعداء.
· إحكام التشخيص: إن قول الله تعالى ’’ قل هو من عند أنفسكم ’’ ينطبق علينا ويحمّلنا مسؤولية تحامل الغرب علينا، فنحن فريسة وهدف سهل بسبب ثالوث متلازم:
- تخلّف الشعوب الإسلامية المادي وضعفها المُزمن في العلم والاقتصاد والتسيير السياسي لشؤونها.
- الأعمال المسلّحة غير المنضبطة بشرع ولا قانون التي تستهدف هيئات وأفرادًا من الغرب رغم حكم البراءة الأصلية، فقط لأنهم من بلاد أروبية أو أمريكية.
- أدبيات كثير من الحركات الإسلامية التي لا تجاهر بتعيين الغرب كلّه كعدوّ فحسب وإنما تركّز على كونه مصدر جميع مصائبنا ولا علاقة معه إلا من خلال إزالة حضارته.
ولنا أن نسأل أنفسنا: هل هذا تشخيص موضوعي؟ ألسنا نسعى إلى تبرير عجزنا وتزكية أنفسنا بإلقاء المسؤولية على الطرف الآخر؟ ألم يعلّم القرآن الكريم الصحابة رضي الله عنهم توجيه أصابع الاتهام إلى ذواتهم بدل توجيهها إلى جيش قريش بعد هزيمة أُحُد؟ ألَسنا أولى من الصحابة باللوم؟
إن جزءا كبيرًا من مأساتنا يكمن في النظرة السطحية التي نتناول بها القضايا المصيرية والأحداث الجسام التي تعصف بنا منذ قرنين من الزمن على الأقلّ، ولو اعتمدنا النظر الإيماني لوضعنا أيدينا حقيقة على مكامن الداء ولالتمسنا العلاج المناسب مع اقتصاد في الوقت والجهد والمال والأنفس، ولنقارن بين تناول كلّ من نوح عليه السلام وابنه لنفس الظاهرة التي كانت ماثلة أمامهما، وهي الطوفان الوشيك، فالابن نظر إليه باعتباره مجرّد ظاهرة طبيعية يمكن الاحتراس منها باعتماد إجراء معروف هو الصعود إلى مكان عال لا تبلغه الأمواج العاتية : ’’ قال سآوي إلى جبل يعصني من الماء’’ ، أمّا النبي فرأى أنّه ليس ظاهرة طبيعية بل هو ’’ أمر الله’’ :’’قال لا عاصم اليوم من أمر الله’’، فكانت النتيجة أن هلك صاحب النظرة السطحية بسبب سوء التقدير والتشخيص ، ونجا من اعتمد على التشخيص الصحيح والنظرة العميقة الثاقبة، ولعلّ هذا حالنا مع الغرب، نرى ما يصيبنا منه – وحتى ما يأتينا منه – مؤامرات ودسائس ومخطّطات جهنمية فنواجه ذلك بمزيد من مظاهر الاحتقان كالبغض والعدوانية والرفض المطلق، وهذا يضرّ بنا أكثر من تأثيره في الغرب، وهذا الموقف مفهوم إذا صدر من بشر عاديّين أمّا المسلمون فقد علّمهم دينُهم أن يروا في المصائب يدَ الله قبل أيدي الأعداء فينتقلوا من التفسير التآمري للأحداث والوقائع إلى الفهم الإيماني ويؤمنوا أنّ ما يصيبهم تنبيهات ربانية على انحرافهم كأمّة وصدّهم عن سنن الله في كونه وخلقه وغفلتهم عن قوانين التمكين ، والفرق بين التفسيرين مسافة هائلة، لا يبرح الأولُ ساحة الحالات النفسية المتوتّرة وما ينتج عنها من انكفاء على الشجب والعنف اللفظي والمادي الأهوج، في حين يقودنا الثاني إلى الحلول العلمية المضمونة النتائج بدءا بالمراجعة الدقيقة الموضوعية لمسارنا وأدواتنا وأساليبنا من أجل التصحيح ومعالجة مواطن الخلل بدَل الاستمرار في تحميل المسؤولية للآخرين، وهذا يُسلمنا إلى إحياء الفريضة الغائبة في مجتمعاتنا المعاصرة ألا وهي الدعوة إلى الله تعالى.
· إحياء واجب الدعوة: نحن المسلمين أمّة الدعوة التي تتحمّل مسؤولية هداية الخلق ، ولن تُشرَع أمامنا أبواب الجنة حتى نعمل على إغلاق أبواب النار أمام البشرية فلا يدخلها إلاّ مصرٌّ على الكفر رفَضَ الإيمان والهداية على بصيرة وعن قناعة، وانشرح صدره للضلال وهو على بيّنة من أمره، لكنّنا انخرطنا منذ زمن بعيد – في إطار دائرة ردّ الفعل التي أشرنا إليها – في دائرة الشبهات المثارة حول الإسلام إلى درجة إهمال واجب الدعوة، وكان ينبغي أن يكون حيّز دحض الافتراءات أضيقَ ممّا نحن عليه لتنصبّ الجهود على التعريف بالدين وبيان محاسنه وتحبيبه للشعوب والتركيز على البديل الروحي الذي يتيحه للغربيّين الذين يئنّون تحت وطأة المادية والإلحاد، فالتعبئة من أجل تجلية الحقائق حول الرسول صلى الله عليه وسلم والمرأة والعنف وتخلّف المسلمين والرقّ وتعدّد الزوجات وحقوق الإنسان ووضع الأقليات والشهوانية ...واجبٌ علينا، لكن مع مراعاة الأولويات في إطار خطّة متكاملة تكون الدعوة في مقدمتها، وإنما نهدف من ورائها إلى مساعدة الغرب على إجراء عملية تطهير داخلية ومراجعة ذاتية لتصحيح نظرته إلى الآخر- من جهة – وتصحيح مساره الحضاري – من جهة أخرى – بحيث يعود إلى التزام القيم ويتصالح مع الانتماء الديني، ولنا أن نتصوّر حاله لو استطاع أن يجمع – على الأقلّ – بين القوة التي امتلكها بعلمه وعمله وبين المسيحية التي ينتمي إلى فضائها لكنه لم يتمثّلها في قليل ولا كثير، وإذا استطعنا دعوة أهله إلى التحرّر المنهجي والمعرفي فقد قطعنا شوطاً كبيرًا في مهمّتنا، ولا بدّ من الإشارة هنا إلى ضرورة استثمار النزعة الإنسانية في الرؤية الغربية لبلوغ أهدافنا، فلا أحد ينكر وجود هذه النزعة لديهم ومكانتها في فلسفتهم ، وهي تشير إلى الفطرة السليمة التي فُطرَ عليها البشر، وهي أكبر قاسم يجمعهم.
وستُؤتي الدعوة الإسلامية في الغرب نتائج حاسمة إذا حدّدنا بدقّة الرؤية التي نعرض بها رسالتنا عليه، وهذه الرؤية هي التي تكتب للدعوة النجاح أو الإخفاق، وينبغي أن تركّز أساسا على المشترك الإنساني واحتواء الإسلام له وإسهام المسلمين فيه عبر العصور سواء في مجال العلوم الإنسانية أو التقنية، مع بيان اللمسة الإيمانية الخاصّة التي تجمع بين الجلال والجمال وتغذي الروح وتطلق طاقات الإنسان وتحب الرقي المادي والسموّ الأخلاقي، وتحرّر البشرية من نظريات الوجودية والعبثية التي تنذر بإفنائها ، على أن يتمّ تبليغ هذه الحقائق بذكاء، بعيدا عن النظرة الفوقية ، ونستطيع أن نمرّر الحق الذي معنا من غير تعيير الغرب بالباطل الذي هو فيه، والعزة بالإثم تتربّص بالناس، والشيطان لا يفتر عن السعي في الدعوة المضادّة، وأسوأ أسلوب لدعوة الغرب هو الغلوّ في الدين والتزام المواقف الحدّية .
ولن تكتمل الرؤية ولن تؤتي ثمارها إلا إذا لازمها التيسير في الأحكام بدل التعسير، والتبشير في الدعوة بدل التنفير، فمن معوّقات العلاقة بين المسلمين والغربيين ’’ الإنسان الغربي الخارق للعادة’’ - من جهة - و ’’ المسلم المتديّن فوق العادة’’ – من جهة أخرى - ، فلا بدّ من العودة بالاثنين إلى الحجم الحقيقي للإنسان ، وإنما تكون الخطوة الأولى من المسلم الذي يدعو الناس لأنه يحبهم، ولأنه لا يزكي نفسه ولا يُدلّ باستقامته، والتواضع من شروط الداعية الناجح الذي يوظّف سلوكه قبل أقواله، وكبرياء الغرب من مقتضيات امتلاكه لناصية القوة من غير ضوابط أخلاقية، لكن اشتراط تخلّيه عن ذلك قبل محاورته ودعوته أسلوب غير موفق، وصبرنا عليه هو البديل المثمر .
· ظلال الاستقطاب الثنائي: الاستقطاب شرق-غرب بدأ في القرون الوسطى، وحدّد العلاقة ب’’ الآخر’’ وامتدّ عبر الزمان في مسارات كانت في غير صالحنا لأن الطرفين سلكا منحيَين حضاريين على طرفي نقيض، تصاعدي هناك وتراجعي هنا، وتمكّن الغرب من اجتياح العالم كلّه بنظريّتين اثنتين تلخّصان فلسفته النهائية هما العلمانية ومفهوم الدولة القومية، وقد انخرط فيهما أغلبية البشرية طوعًا أو كرهًا، وواجهتهما الأدبيات الإسلامية الأصيلة بالرفض لتمسّكها بالنظرية السياسية الإسلامية التي تعتبر الدين والدنيا وجهين لعملة واحدة، وتؤمن بمفهوم ’’ الأمة ’’ المستند إلى العقيدة لا إلى الحدود الجغرافية أو المكوّنات العرقية ونحوها، ولا يمكن مناقشة الغرب في المسألتين إلا بناءً على ظروف نشأتهما في دياره، فهما عنده نتيجة كفاح فكري وشعبي طويل للإنعتاق من قبضة الكنيسة التي كانت تتحكّم في حياة الناس بالإرهاب الفكري والمادّي، وهم ما زالوا لا يفرّقون بين الإسلام والكنيسة، فيسحبون عليه مفاسدها خاصة إبّان القرون الوسطى، وتتمثّل مهمّتنا إذًا في مزيد من الشرح والتفسير والمناقشة والبيان لإقناعهم بالفروق الهائلة ونفي العدوانية بسبب الموقف من اختيارهم لنظامهم الفكري والسياسي، وتجلية موقفنا هذا بالطرق العلمية الواقعية لن يكون إلا في صالح الإسلام ، وهو جهاد ثقافي طويل لأن فريقا من المسلمين – الموصوفين بالمتنوّرين - تصبّ أعمالهم في تأييد العلمانية والدولة القومية وتقوّض جهود الأعمال الإسلامية الأصيلة وتؤسّس لاستمرار الفكر التصادمي عند الطرفين، مع كلّ أسف، لانحيازها إلى الأطروحات الغربية بسب مواقف انفعالية نابعة من الشعور بالدونية والارتماء غير البصير في أحضان الفلسفة الغربية .
· حقيقة الغرب :إن الغرب صاحب حضارة عريقة تحكمها النسبية كما هو حال جميع الحضارات، ولو التزم بتعاليم المسيحية لكان ذلك أفيَد له وللبشرية، لكنّه لا يعرف من دين المسيح عليه السلام سوى الانتماء الثقافي و البُعد الكنسي، وعلينا نحن أن نحدّد محطّات الالتقاء والتصادم معه وأن نتجنّب الرؤى الاختزالية التي تتجاوز الحقائق والوقائع سواء في جانبنا أو في جانبه، ونؤسّس لرؤية معمّقة له من حيث كينونته وإسهاماته، فهذا أقرب إلى بناء الثقة بين الطرفين المحكوم عليهما بالتعايش، وعلينا أن نحاكم الغربيّين إلى المنهج والمعرفة، وقد أبدعوا فيهما عبر العصور ونالوا قصب السبق، وندعوهم بالضبط إلى التحرّر المنهجي والمعرفي لتصحيح نظرتهم إلينا والتحرّر من الصورة النمطية التي رسمها ثالوث الإستشراق والاستعمار والتنصير، لنلتقي في ساحة الإنسانية التي تسعُنا جميعًا، فهم لم يُخلَقوا متمّدنين ، ولا نحن بدائيّون بالطبع ، بل نحن جميعًا بشر، ولا شكّ في خطأ نظرية تفوّق ’’ الإنسان الأبيض ’’ ولا نظيرتها التي ترسم للتاريخ نهايته بمرحلة الليبرالية والديمقراطية، لأنّ لمختلف الأمم – ومنها المسلمون – فرصا لدخول دورات التاريخ بإسهاماتها المتنوّعة في وقت من الأوقات، وليس من المعقول أن ينتهي تاريخ المرجعيات بالفكر اليوناني-الروماني ولا الديانة اليهودية-المسيحية كما صيغ الغرب منذ قرون، ونحن أصحاب رسالة تخاطب البشر لتضيف إلى الموروث الإنساني الطابع السماوي الخالص، وهذا من أوسع أبواب مخاطبة الغرب، وسيستجيب له حين يلمس منّا حبّ الخير له ويقتنع أننا قوم تسوقنا الرحمة بالخلق لا كراهيتُهم.
· رصيد كبير بين أيدينا: إنّ العلاقة الجديدة مع الغرب التي نتبنّاها خالية من مركّب النقص ومركّب التفوّق، وهي ليست نتاج تسوّل ولا انبهار بمستواه المادي، ذلك أن تسليمنا بقدراته الاقتصادية والعلمية واستقراره السياسي المستند إلى العمل المؤسّسي واحتفائه بالعلم والنظام والنظافة والمنهجية يصاحبه شعور بفقره الروحي المدقع الذي نملك علاجه، فعند الغربيين شرك واستكبار وفحش، وأخلاقهم يغلب عليها الطابع التجاري، ومسيحيتهم أفسدها التحريف حتى فقدت الأبعاد الدينية وغدت شبَحًا، ليس فيها عقيدة واضحة ولا مسحة ربانية فضلا عن الأحكام والضوابط، أمّا نحن فنملك كلّ هذا وما يقتضيه من أخلاق إيمانية ومحافظة على الأسرة وابتعاد عن المنحى البهيمي في علاقة الرجل بالمرأة، وإنما يُغري الأمريكان والأوربيين وغيرهم بالدخول في الإسلام ما يجدون فيه من صلاة وتلاوة وذكر يُشبع نهمهم الروحي وخواءهم النفسي ويُخلّصهم من طغيان المادة الذي يصاحب ما هم فيه من رفاهية ورقيّ، ولا غرو أن العصر يشهد زحف الإسلام على الغرب وليس العكس، ونأمل أن يكون الفتح المعاصر فتحا فكريا روحيا يمهّد له المسلمون بالتواصل مع الشعوب ليتولّى هذه المهمة في النهاية الداخل الغربي ذاتُه، وسيتمّ ذلك إذا أحسنّا مخاطبة جميع الفئات هناك ونوّعنا الأساليب الدعوية لتلامس الجاهلين بالإسلام والمحايدين والمغرورين والمنصفين والعقلاء، وما أكثرهم.
إنّ هذا – في تقديرنا – أفضل وأفيد للطرفين من الإصرار على التقاطع ومزيد من الجفاء – من جهة – ومن حوار الأديان الذي لا يعني في الحقيقة شيئا، لأنه حوار طرشان أو إنفاق للأوقات والأموال في المجاملات .