عبد العزيز كحيل
لا ينقضي العجب من هؤلاء ’’ المسلمين’’ الذين يرفضون أي حديث أو مناداة بتطبيق الشريعة والاحتكام إليها ولا يُثيرهم شيء ولا يستفزّهم موقف مثل المطالبة بالمرجعية الإسلامية، تراهم في كثير من الدول الإسلامية في ثورة عارمة كلّما أثير هذا الموضوع، وتفاقم الأمر بعد ثورات الربيع العربي وتأكّد ميل الجماهير إلى دينها وأحكامه ، فلم يعُد هناك اشتغال ذو بال بالتنمية الاقتصادية ولا الحريات والحقوق ولا بناء حياة سياسية ودستورية جديدة على أنقاض أنظمة الاستبداد المنهارة،وإنما كلّ همّ النخبة العلمانية الوقوف في وجه ’’أسلمة’’ المجتمع والحيلولة دون التوجّه نحو تحكيم الشريعة... هؤلاء يرفضون جهرةً أحكام الدين وما يسمونه ’’ الدولة الدينية ’’، يسيّرون المظاهرات ويكتبون المقالات ويؤلفون الكتب ويملئون الدنيا صراخًا ويطلقون التحذيرات المتواصلة خشية أن يحكمهم الإسلاميون فيطبّقوا أحكام القرآن والسنة ، أليس هذا غريبا؟ كانوا قبل اليوم يغلّفون مواقفهم بذرائع شتّى، ويتوارون خلف التحذير من الإخوان المسلمين أو السلفيين أو الجهاديين، لأن هؤلاء – في زعمهم – هم المتّهَمون بالمتاجرة بالدين وبسوء فهمه، أما الآن فقد تجاوزا الذرائع والتورية وأصبحوا يصطفّون صراحة ضدّ المرجعية الإسلامية ذاتها ويتبرّمون حتى من إدراج البند القديم ’’ الإسلام دين الدولة’’ في الدساتير لأنه – حسبهم – مقدمة لما يسمونه ’’ أسلمة ’’ الدولة والمجتمع، أما النصّ في الدستور على مرجعية أحكام الشريعة فهو عندهم خطّ أحمر يقاومونه بأرواحهم !!! وهم – مع ذلك - مسلمون، بل هم وحدهم المسلمون، أما التيارات الإسلامية فلا يجتمع فيها سوى الدهماء وأصحاب المصالح المتاجرون بالدين !!!
لماذا؟ لأنّ صنفا من العلمانيين يقبلون العقيدة الإسلامية، أي التصديق النظري، ويرفضون الشريعة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم رغم أن الله عز وجل: يقول: ’’ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا’’- سورة النساء: 65 ، وكان ينبغي لهم بحكم الإقرار بالعقيدة أن يذعنوا لشريعة الله وحكمه، مع حقهم في الاعتراض على بعض الفهوم البشرية في الشروح والتفاسير، من غير الوصول إلى ردّ أصل الشريعة.
· خطر على عامة المسلمين: لو اقتصر موقف النخبة العلمانية على التحرك في نواديها الضيّقة ومحافلها المغلقة لهَانَ الأمر لكنّها تتحرّك في الساحة الشعبية بفضل مراكزها المتنفّذة في أنظمة الحكم كالإعلام والمال، وبفضل ودعم الغرب لها سياسيا وماليا، فلها أحزاب سياسية وتنظيمات مختلفة تسميها ’’ المجتمع المدني ’’ تؤثّر من خلالها على الرأي العام وتُشيع ثقافة التغريب مع التركيز على ما تطلق عليه ’’ التراث الإنساني ’’ أي المعنى السلبي للحرية وحقوق الإنسان المتعلّق بالانفلات من الضوابط الدينية والأخلاقية ، وهي تستعين – بطرق شتّى – بمجموعة من ’’ المفكّرين ’’ يحملون أسماء عربية وإسلامية، لديهم في الغالب تخصّص في الدراسات الإسلامية، وتُطلَق عليهم صفات التنوير والتفكير الحرّ والمستقلّ، يتلخّص عملهم الفكري - الذي تروّج له الأوساط العلمانية ترويجًا كبيراً كلّه إطراء وثناء وتبجيل - في ’’ علمنة ’’ الإسلام من خلال إعادة قراءة مراجعه ونصوصه قراءة ’’ محايدة ’’ أي لا علاقة لها بأصول التفسير والفقه التي أنتجها العقل المسلم منذ القرن الأول واستقرّ عليها المسلمون جميعًا، إنما هي قراءة من خارج المنظومة الإسلامية الأصيلة، تعتمد على المناهج الغربية الحديثة في البحث التي تقتضي تناول الفكر الديني بمقاربة عقلية بحتة لا تؤمن بمقدَّس ولا ثوابت ولا ’’ميتافيزيقيا’’، ولا تخرج عن المجال الفكري الغربي المحكوم بالإلحاد أو – على الأقلّ – العلمانية التي تبيح لأيّ كان أن يشكّك في الدين تشكيكا ’’ علميًا ’’ يستبعد معاني الإيمان والغيب والروح ونحوها من الأصول الدينية لينتهي الأمر في الختام إلى أن الإسلام إنتاج بشري يقبل الأخذ والردّ والتصرّف بما يُلائم المفكر والباحث أيًّا كان، وهذا ما دأبت عليه قامات فكرية علمانية عربية من أمثال محمد أركون ومحمد سعيد العشماوي وسيد القمني ومحمد شحرور ونصر حامد أبو زيد... فهؤلاء أفنوا أعمارهم في رفض الشريعة الإسلامية باسم حقهم في التجديد والاجتهاد، واجتمعت كلمتهم على ’’ أنسنة ’’ الدين ليكون مجرّد تراث إنساني صرف لا قداسة له، يفقد بالتالي أية أهلية لتوجيه الإنسان والمجتمع والتدخل في الحياة العامة، بذلك تجاوزوا بمراحل ما دعا إليه علي عبد الرازق في ’’ الإسلام وأصول الحكم ’’ ، فهو نظّر لإبعاد الإسلام عن ممارسة السياسة أما هؤلاء فقد نظّروا لإزاحته نهائيا من الحياة وقطع صلته حتى بالسماء !!! وذلك لتسويته بالنصرانية في عهدها الأخير أو البوذية والكنفوشيوسية ، والغريب في الأمر أنّ هؤلاء – إلا قليلا منهم – يصرّون رغم منهجهم المخالف للإجماع المنعقد منذ 15 قرنا وسعيهم لإفراغ الإسلام من محتواه السماوي وصبغته المقدّسة أنهم مسلمون بل هم مجددون ومجتهدون بل يؤكدون بلسان الحال أنهم وحدهم المسلمون، بخلاف الدهماء – أي جموع المسلمين – الذين ألغوا عقولهم ففقدوا كلّ صلة بالدين الحقّ !!!
· الانتساب لأحزابهم: يحزّ في النفس أنّ كثيرا من المسلمين التَبَسَت عليهم الأمور فتهاونوا في مسالة الولاء والبراء وأصبحوا لا يرون بأسا من الانخراط في الأحزاب والجمعيات العلمانية والنشاط فيها على المستوى السياسي وغيره رغم تمسّكم العاطفي وحتى السلوكي بالدين، وكأنهم لا يشعرون أنهم وقود دعوة تناصب الشريعة العداء وتفضّل عليها المرجعية الغربية والقوانين الوضعية، فموالاة هؤلاء كأنه براءة من المسلمين الذين يتفانون بحكم انتمائهم الديني وبمقتضاه في نصرة الإسلام ويُقدمون شرع الله على كل مأرب وينصرونه بأموالهم وأنفسهم ويخدمونه بأوقاتهم ويبذلون من أجله كل جهودهم، بينما يتبع العلمانيون أهواءهم ويسخرون من أحكام الدين ويطلقون عليها أقبح الأوصاف، فهي عندهم – على أقلّ تقدير – لا تصلح لهذا الزمان ، في حين يعتقد المسلم أن إيمانه لا يكتمل إلا بالإذعان الكامل لدين الله بجميع تفاصيله باعتباره مشتملا على كلّ المحاسن لأنه من لدن حكيم خبير، وهو أفضل نظام وشرعة ومنهاج للبشر في حياتهم الفردية والأسرية والعامّة على مختلف الأصعدة...فكيف يستقيم أن ينضوي هؤلاء المسلمون في تنظيمات ترفض الشريعة وتنحيها جانبا لصالح اجتهادات بشرية فيها أهواء البشر ونقصهم وضعفهم؟
إنّه لمن الضروري تمحيص معنى الولاء والبراء في قلوب المسلمين وتربيتهم عليه، حتى ينشؤوا على حبّ من يحبّ الله ورسوله وشرعه ويتبرّأ من الظالمين والفاسقين والمنحرفين فكريًّا ، ويدركوا خطورة المواظبة على الصلاة والزكاة وقراءة القرآن من جهة، والانضمام إلى حزب علماني أو التصويت عليه في الانتخابات والانتصار له، والتبعية لزعيم يزدري شرع الله ويحادّ الله ورسوله ، من جهة أخرى، فهذا تناقض يصيب العقيدة ذاتها لأنه خلل فكري قبل أن يكون انحرافا سلوكيا، ذلك أن الانخراط مع العلمانيين والولاء لمرجعيتهم يؤدّي إلى تمكينهم من الوصول إلى السلطة ليُحادُّوا الله وينشروا الفساد في الأرض، والمطلوب شرعا وعقلا أن يكون ولاء المسلمين للإسلام ودعاته وأحزابه وتنظيماته ليصل أهل الإيمان إلى المجالس التشريعية والحكومة و وظائف الدولة الكبرى لخدمة الدين والأخلاق والتنمية ومحاربة الفساد بكلّ أشكاله وأنواعه، وقبل ذلك ومعه، إلى النقابات ومنظمات المجتمع المدني لتقوية شوكة العُصبة المؤمنة وتهيئة الظروف المناسبة لبسط سلطان الشريعة.
· أمر الصوفية :وإن تعجب فعجب موقف المنتسبين للتصوّف من شرع الله، فقد أثبتوا أكثر من مرّة – آخرها في مصر – انحيازهم للعلمانيين واصطفافهم معهم في الدعاية ضدّ الفصائل والتيارات الإسلامية العاملة في مجالات الدعوة والسياسة والسعي لاستئناف الحياة الإسلامية، مع زعمهم التواصل مع الله عبر الذكر الدائم، وكم مكّنوا لأعداء الإسلام حتى من المسيحيين على حساب الإسلاميين، يؤيّدون الباطل الصريح على الحقّ الذي يُفترض انتماؤهم إليه، كأنهم يقولون عن العلمانيين ’’ هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ’’ – سورة النساء 51، فهؤلاء في أمسّ الحاجة إلى تصحيح الفكر وتجديد الانتماء لدين الله من الناحية العملية لأنهم اليوم قرّة عين الرافضين لتحكيم الشريعة، لا لشيء إلا لحصرهم الدين في رسوم وشطحات أكثرها من البدع المتيقّنة، يتظاهرون بالزهد وهم أكثر الناس إكبابًا على الدنيا وجمعًا للأموال وأخذًا بأسباب الترف، بعيدا عن البذل والتضحية من أجل القيم والحقوق وخدمة البلاد والعباد.
· التوعية الضرورية: كلّ هذا يحتاج إلى وضع خطّة علمية محكمة لتعميم ثقافة الولاء للمؤمنين والبراءة من رافضي الشريعة، و هذه الخطة تستهدف إحياء المعاني الإيمانية التي تقتضي أن يسلّم المسلم بجميع أحكام القرآن والسنة ويبذل وسعه للعمل بها على كلّ المستويات المتاحة، لا يردّ منها شيئا ولا يعترض على حكم ثابت، لأنّ الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم يقتضي هذا التسليم والإذعان والمسارعة إلى التطبيق، تجتمع على ذلك كلّ قوى المسلم العاطفية والعقلية والسلوكية، ذلك أن قراءة المؤمنين للقرآن والسنة قراءاتٌ اعتقادية بينما هي عند العلمانيين انتقادية، وربما تخلّى المتخندق مع التصوّر العلماني عن جزء من عقيدته من حيث لا يدري، ويكفيه خسارة أن يُكثّر سواد المعادين للشريعة ، والمرء – في الآخرة – مع من أحبّ.
إنّها ليست مسألة تكفير ولا تشنيع إنما هي ضرورة إحياء المعاني الحية للعقيدة لإزاحة الخلل الفكري الذي أصاب عقول كثير من الناس بسبب الغزو الثقافي الذي امتدّ منذ عقود ليبسط نفوذه على المدارس والبيوت وساحات السياسة والإعلام وأصبح يتهدّد حتى المساجد وصروح العلم الشرعي، إلى درجة موت الغيرة على الدين في قلوب هؤلاء الناس واندراس معالم الحبّ في الله والبغض في الله رغم أنّها أوثق عرى الإيمان، وهذا مصاب أكبر من انحراف النخبة التغريبية لأنه نازلٌ على عامة الناس الذين من المفروض أنهم هم من يحتضنون الشريعة ويشكّلون وعاء المشروع الإسلامي بتديّنهم الفطري حتى ولو غلبت عليه العاطفة.
إن التوعية المرجوّة مطلب ملحّ لحماية حصون الإسلام المهدّدة من داخلها من طرف العلمانية اللادينية التي تستدرج بعض المسلمين بطرق شتّى ليكونوا خصوما لشريعة الله وهم يزعمون أنهم مسلمون لا يرفضون الإسلام وإنما يريدون حمايته من دعاة الإسلام السياسي، لأن مكانه في دور العبادة لا في معترك الحياة. .. هذه الذريعة الواهية المتهاوية التي ما زال العلمانيون يلوكونها رغم إفلاسها الفكري والواقعي.
لا ينقضي العجب من هؤلاء ’’ المسلمين’’ الذين يرفضون أي حديث أو مناداة بتطبيق الشريعة والاحتكام إليها ولا يُثيرهم شيء ولا يستفزّهم موقف مثل المطالبة بالمرجعية الإسلامية، تراهم في كثير من الدول الإسلامية في ثورة عارمة كلّما أثير هذا الموضوع، وتفاقم الأمر بعد ثورات الربيع العربي وتأكّد ميل الجماهير إلى دينها وأحكامه ، فلم يعُد هناك اشتغال ذو بال بالتنمية الاقتصادية ولا الحريات والحقوق ولا بناء حياة سياسية ودستورية جديدة على أنقاض أنظمة الاستبداد المنهارة،وإنما كلّ همّ النخبة العلمانية الوقوف في وجه ’’أسلمة’’ المجتمع والحيلولة دون التوجّه نحو تحكيم الشريعة... هؤلاء يرفضون جهرةً أحكام الدين وما يسمونه ’’ الدولة الدينية ’’، يسيّرون المظاهرات ويكتبون المقالات ويؤلفون الكتب ويملئون الدنيا صراخًا ويطلقون التحذيرات المتواصلة خشية أن يحكمهم الإسلاميون فيطبّقوا أحكام القرآن والسنة ، أليس هذا غريبا؟ كانوا قبل اليوم يغلّفون مواقفهم بذرائع شتّى، ويتوارون خلف التحذير من الإخوان المسلمين أو السلفيين أو الجهاديين، لأن هؤلاء – في زعمهم – هم المتّهَمون بالمتاجرة بالدين وبسوء فهمه، أما الآن فقد تجاوزا الذرائع والتورية وأصبحوا يصطفّون صراحة ضدّ المرجعية الإسلامية ذاتها ويتبرّمون حتى من إدراج البند القديم ’’ الإسلام دين الدولة’’ في الدساتير لأنه – حسبهم – مقدمة لما يسمونه ’’ أسلمة ’’ الدولة والمجتمع، أما النصّ في الدستور على مرجعية أحكام الشريعة فهو عندهم خطّ أحمر يقاومونه بأرواحهم !!! وهم – مع ذلك - مسلمون، بل هم وحدهم المسلمون، أما التيارات الإسلامية فلا يجتمع فيها سوى الدهماء وأصحاب المصالح المتاجرون بالدين !!!
لماذا؟ لأنّ صنفا من العلمانيين يقبلون العقيدة الإسلامية، أي التصديق النظري، ويرفضون الشريعة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم رغم أن الله عز وجل: يقول: ’’ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا’’- سورة النساء: 65 ، وكان ينبغي لهم بحكم الإقرار بالعقيدة أن يذعنوا لشريعة الله وحكمه، مع حقهم في الاعتراض على بعض الفهوم البشرية في الشروح والتفاسير، من غير الوصول إلى ردّ أصل الشريعة.
· خطر على عامة المسلمين: لو اقتصر موقف النخبة العلمانية على التحرك في نواديها الضيّقة ومحافلها المغلقة لهَانَ الأمر لكنّها تتحرّك في الساحة الشعبية بفضل مراكزها المتنفّذة في أنظمة الحكم كالإعلام والمال، وبفضل ودعم الغرب لها سياسيا وماليا، فلها أحزاب سياسية وتنظيمات مختلفة تسميها ’’ المجتمع المدني ’’ تؤثّر من خلالها على الرأي العام وتُشيع ثقافة التغريب مع التركيز على ما تطلق عليه ’’ التراث الإنساني ’’ أي المعنى السلبي للحرية وحقوق الإنسان المتعلّق بالانفلات من الضوابط الدينية والأخلاقية ، وهي تستعين – بطرق شتّى – بمجموعة من ’’ المفكّرين ’’ يحملون أسماء عربية وإسلامية، لديهم في الغالب تخصّص في الدراسات الإسلامية، وتُطلَق عليهم صفات التنوير والتفكير الحرّ والمستقلّ، يتلخّص عملهم الفكري - الذي تروّج له الأوساط العلمانية ترويجًا كبيراً كلّه إطراء وثناء وتبجيل - في ’’ علمنة ’’ الإسلام من خلال إعادة قراءة مراجعه ونصوصه قراءة ’’ محايدة ’’ أي لا علاقة لها بأصول التفسير والفقه التي أنتجها العقل المسلم منذ القرن الأول واستقرّ عليها المسلمون جميعًا، إنما هي قراءة من خارج المنظومة الإسلامية الأصيلة، تعتمد على المناهج الغربية الحديثة في البحث التي تقتضي تناول الفكر الديني بمقاربة عقلية بحتة لا تؤمن بمقدَّس ولا ثوابت ولا ’’ميتافيزيقيا’’، ولا تخرج عن المجال الفكري الغربي المحكوم بالإلحاد أو – على الأقلّ – العلمانية التي تبيح لأيّ كان أن يشكّك في الدين تشكيكا ’’ علميًا ’’ يستبعد معاني الإيمان والغيب والروح ونحوها من الأصول الدينية لينتهي الأمر في الختام إلى أن الإسلام إنتاج بشري يقبل الأخذ والردّ والتصرّف بما يُلائم المفكر والباحث أيًّا كان، وهذا ما دأبت عليه قامات فكرية علمانية عربية من أمثال محمد أركون ومحمد سعيد العشماوي وسيد القمني ومحمد شحرور ونصر حامد أبو زيد... فهؤلاء أفنوا أعمارهم في رفض الشريعة الإسلامية باسم حقهم في التجديد والاجتهاد، واجتمعت كلمتهم على ’’ أنسنة ’’ الدين ليكون مجرّد تراث إنساني صرف لا قداسة له، يفقد بالتالي أية أهلية لتوجيه الإنسان والمجتمع والتدخل في الحياة العامة، بذلك تجاوزوا بمراحل ما دعا إليه علي عبد الرازق في ’’ الإسلام وأصول الحكم ’’ ، فهو نظّر لإبعاد الإسلام عن ممارسة السياسة أما هؤلاء فقد نظّروا لإزاحته نهائيا من الحياة وقطع صلته حتى بالسماء !!! وذلك لتسويته بالنصرانية في عهدها الأخير أو البوذية والكنفوشيوسية ، والغريب في الأمر أنّ هؤلاء – إلا قليلا منهم – يصرّون رغم منهجهم المخالف للإجماع المنعقد منذ 15 قرنا وسعيهم لإفراغ الإسلام من محتواه السماوي وصبغته المقدّسة أنهم مسلمون بل هم مجددون ومجتهدون بل يؤكدون بلسان الحال أنهم وحدهم المسلمون، بخلاف الدهماء – أي جموع المسلمين – الذين ألغوا عقولهم ففقدوا كلّ صلة بالدين الحقّ !!!
· الانتساب لأحزابهم: يحزّ في النفس أنّ كثيرا من المسلمين التَبَسَت عليهم الأمور فتهاونوا في مسالة الولاء والبراء وأصبحوا لا يرون بأسا من الانخراط في الأحزاب والجمعيات العلمانية والنشاط فيها على المستوى السياسي وغيره رغم تمسّكم العاطفي وحتى السلوكي بالدين، وكأنهم لا يشعرون أنهم وقود دعوة تناصب الشريعة العداء وتفضّل عليها المرجعية الغربية والقوانين الوضعية، فموالاة هؤلاء كأنه براءة من المسلمين الذين يتفانون بحكم انتمائهم الديني وبمقتضاه في نصرة الإسلام ويُقدمون شرع الله على كل مأرب وينصرونه بأموالهم وأنفسهم ويخدمونه بأوقاتهم ويبذلون من أجله كل جهودهم، بينما يتبع العلمانيون أهواءهم ويسخرون من أحكام الدين ويطلقون عليها أقبح الأوصاف، فهي عندهم – على أقلّ تقدير – لا تصلح لهذا الزمان ، في حين يعتقد المسلم أن إيمانه لا يكتمل إلا بالإذعان الكامل لدين الله بجميع تفاصيله باعتباره مشتملا على كلّ المحاسن لأنه من لدن حكيم خبير، وهو أفضل نظام وشرعة ومنهاج للبشر في حياتهم الفردية والأسرية والعامّة على مختلف الأصعدة...فكيف يستقيم أن ينضوي هؤلاء المسلمون في تنظيمات ترفض الشريعة وتنحيها جانبا لصالح اجتهادات بشرية فيها أهواء البشر ونقصهم وضعفهم؟
إنّه لمن الضروري تمحيص معنى الولاء والبراء في قلوب المسلمين وتربيتهم عليه، حتى ينشؤوا على حبّ من يحبّ الله ورسوله وشرعه ويتبرّأ من الظالمين والفاسقين والمنحرفين فكريًّا ، ويدركوا خطورة المواظبة على الصلاة والزكاة وقراءة القرآن من جهة، والانضمام إلى حزب علماني أو التصويت عليه في الانتخابات والانتصار له، والتبعية لزعيم يزدري شرع الله ويحادّ الله ورسوله ، من جهة أخرى، فهذا تناقض يصيب العقيدة ذاتها لأنه خلل فكري قبل أن يكون انحرافا سلوكيا، ذلك أن الانخراط مع العلمانيين والولاء لمرجعيتهم يؤدّي إلى تمكينهم من الوصول إلى السلطة ليُحادُّوا الله وينشروا الفساد في الأرض، والمطلوب شرعا وعقلا أن يكون ولاء المسلمين للإسلام ودعاته وأحزابه وتنظيماته ليصل أهل الإيمان إلى المجالس التشريعية والحكومة و وظائف الدولة الكبرى لخدمة الدين والأخلاق والتنمية ومحاربة الفساد بكلّ أشكاله وأنواعه، وقبل ذلك ومعه، إلى النقابات ومنظمات المجتمع المدني لتقوية شوكة العُصبة المؤمنة وتهيئة الظروف المناسبة لبسط سلطان الشريعة.
· أمر الصوفية :وإن تعجب فعجب موقف المنتسبين للتصوّف من شرع الله، فقد أثبتوا أكثر من مرّة – آخرها في مصر – انحيازهم للعلمانيين واصطفافهم معهم في الدعاية ضدّ الفصائل والتيارات الإسلامية العاملة في مجالات الدعوة والسياسة والسعي لاستئناف الحياة الإسلامية، مع زعمهم التواصل مع الله عبر الذكر الدائم، وكم مكّنوا لأعداء الإسلام حتى من المسيحيين على حساب الإسلاميين، يؤيّدون الباطل الصريح على الحقّ الذي يُفترض انتماؤهم إليه، كأنهم يقولون عن العلمانيين ’’ هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ’’ – سورة النساء 51، فهؤلاء في أمسّ الحاجة إلى تصحيح الفكر وتجديد الانتماء لدين الله من الناحية العملية لأنهم اليوم قرّة عين الرافضين لتحكيم الشريعة، لا لشيء إلا لحصرهم الدين في رسوم وشطحات أكثرها من البدع المتيقّنة، يتظاهرون بالزهد وهم أكثر الناس إكبابًا على الدنيا وجمعًا للأموال وأخذًا بأسباب الترف، بعيدا عن البذل والتضحية من أجل القيم والحقوق وخدمة البلاد والعباد.
· التوعية الضرورية: كلّ هذا يحتاج إلى وضع خطّة علمية محكمة لتعميم ثقافة الولاء للمؤمنين والبراءة من رافضي الشريعة، و هذه الخطة تستهدف إحياء المعاني الإيمانية التي تقتضي أن يسلّم المسلم بجميع أحكام القرآن والسنة ويبذل وسعه للعمل بها على كلّ المستويات المتاحة، لا يردّ منها شيئا ولا يعترض على حكم ثابت، لأنّ الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم يقتضي هذا التسليم والإذعان والمسارعة إلى التطبيق، تجتمع على ذلك كلّ قوى المسلم العاطفية والعقلية والسلوكية، ذلك أن قراءة المؤمنين للقرآن والسنة قراءاتٌ اعتقادية بينما هي عند العلمانيين انتقادية، وربما تخلّى المتخندق مع التصوّر العلماني عن جزء من عقيدته من حيث لا يدري، ويكفيه خسارة أن يُكثّر سواد المعادين للشريعة ، والمرء – في الآخرة – مع من أحبّ.
إنّها ليست مسألة تكفير ولا تشنيع إنما هي ضرورة إحياء المعاني الحية للعقيدة لإزاحة الخلل الفكري الذي أصاب عقول كثير من الناس بسبب الغزو الثقافي الذي امتدّ منذ عقود ليبسط نفوذه على المدارس والبيوت وساحات السياسة والإعلام وأصبح يتهدّد حتى المساجد وصروح العلم الشرعي، إلى درجة موت الغيرة على الدين في قلوب هؤلاء الناس واندراس معالم الحبّ في الله والبغض في الله رغم أنّها أوثق عرى الإيمان، وهذا مصاب أكبر من انحراف النخبة التغريبية لأنه نازلٌ على عامة الناس الذين من المفروض أنهم هم من يحتضنون الشريعة ويشكّلون وعاء المشروع الإسلامي بتديّنهم الفطري حتى ولو غلبت عليه العاطفة.
إن التوعية المرجوّة مطلب ملحّ لحماية حصون الإسلام المهدّدة من داخلها من طرف العلمانية اللادينية التي تستدرج بعض المسلمين بطرق شتّى ليكونوا خصوما لشريعة الله وهم يزعمون أنهم مسلمون لا يرفضون الإسلام وإنما يريدون حمايته من دعاة الإسلام السياسي، لأن مكانه في دور العبادة لا في معترك الحياة. .. هذه الذريعة الواهية المتهاوية التي ما زال العلمانيون يلوكونها رغم إفلاسها الفكري والواقعي.